الثلاثاء، 6 نوفمبر 2012

القدس.. الاغتيال الصهيوني لمدينة الأنبياء أحمد محمود أبو زيد

• التهويد الذي تمارسه إسرائيل في المدينة المقدسة يصل إلى كل المستويات السياسية والقانونية والعمرانية والسكانية والتعليمية والثقافية.
• القدس لم تكن أبداً مدينة عبرية يهودية إلا بالغزو والاحتلال، الذي لم يدم في المدينة إلا سنوات معدودة.
• عاشت القدس وأهلها في ظل الإسلام حياة آمنة مطمئنة، يشملها العدل والأمن والرحمة والتسامح الديني والحفاظ على حقوق الإنسان أيا كانت ديانته.
• جميع الحضارات التي غزت القدس وسيطرت عليها قبل الإسلام وبعده - سواء كانت عبرية أو آشورية أو بابلية أو رومانية أو صليبية أو يهودية - سامت أهل المدينة سوء العذاب وأشبعتهم قتلاً وتنكيلاً، وصادرت حرياتهم وعقائدهم.
• حكام القدس المسلمون هم الذين سمحوا لليهود بالعودة إلى المدينة والسكن فيها، بعد أن حرمها عليهم الرومان والصليبيون.
*    *    *
تتعرض مدينة القدس العربية اليوم، وعلى مدى أكثر من خمسين عاماً منذ وقوعها تحت سيطرة الاحتلال اليهودي - بشطريها الغربي عام 1948م، والشرقي عام 1967م - لمخطط صهيوني رهيب، يسعى لتهويد المدينة المقدسة بأكملها، وتغير طابعها العربي والإسلامي، الذي عاشت به قروناً طويلة، وتطويقها بسلسلة متصلة من المستوطنات اليهودية.

وهذا المخطط الرهيب يأتي في إطار ما تمارسه إسرائيل - منذ احتلت فلسطين - من حملات منظَّمة لتزييف تاريخ مدينة القدس، والزعم بأنها مدينة يهودية النشأة، والتاريخ يُكذِّب هذه المزاعم الصهيونية؛ فإنشاء القدس سبق الوجود اليهودي بآلاف السنين، ودخول اليهود المدينة المقدسة لم يكن إلا بعد وجودها بعشرين قرناً، وبعد أن تحضرت على يد أصحابها العرب اليبوسيين الذي نشؤوا في الجزيرة العربية.

والذي يقرأ التاريخ قراءة صحيحة يدرك كذب هذه الادعاءات الصهيونية، التي تستند عليها إسرائيل لاغتصاب الحقوق العربية والإسلامية في القدس، فوجود اليهود بمدينة القدس حدث واستمر كغزاة، تقوم العلاقة بينهم وبين أصحاب الأرض الأصليين على هذا الأساس، كما أن كيانهم السياسي لم يقم بهذه الأرض إلا في فترة متأخرة جدّاً، ولبضع سنوات لا تكاد تتجاوز خمسة وسبعين عاماً من بين خمسين قرناً عاش فيها العرب والمسلمون على هذه الأرض وهي مأهولة متحضرة.

تهويد على كل المستويات:
وما يجري اليوم وعلى مدى أكثر من خمسين عاماً، داخل القدس وحولها يمثل أعلى مراحل تهويد المدينة المقدسة، هذا التهويد الذي يصل إلى كل المستويات السياسية والقانونية والعمرانية والسكانية والتعليمية والثقافية، وخاصة بعد إن أعلنت إسرائيل عزمها على أقامة "القدس العظمى" التي تبتلع معظم أراضي الضفة الغربية، والتأكيد على جعلها عاصمة أبدية موحدة للدولة اليهودية.

وبرغم اعتراض المجتمع الدولي على الممارسات الإسرائيلية في القدس المحتلة، وصدور عشرات القرارات الدولية التي تدين إسرائيل، وتعتبر كل الإجراءات التي اتخذتها وتتخذها بشأن القدس باطلة وملغاة، إلا أن إسرائيل تمضي في مخطط التهويد على قدم وساق، مما يعرض المدينة وما بها من مقدسات إسلامية ومسيحية لأكبر الأخطار، خاصة وأن اليهود قد دنسوا المقدسات، واستولوا على العقارات والآثار الإسلامية، وبدؤوا حفرياتهم في الحرم القدسي منذ سنوات طويلة، ومازالت مستمرة الى اليوم، وغيروا الطابع الديموغرافي والسكاني للمدينة.

القدس عربية النشأة:
والقدس مدينة عربية النشأة بناها العرب الكنعانيون حوالي 3000 قبل الميلاد، وعمروها وأطلقوا عليها أسماء متعددة منها "سالم" و"أورسالم" و "يبوس"، وقد استمرت عربية إلى إن جاءها الغزو العبراني على يد داود - عليه السلام- عام 1000 قبل الميلاد وقامت فيها دولة عبرية انتهت بالغزو الأشوري في القرن الثامن قبل الميلاد، ثم بالغزو البابلي في القرن السادس قبل الميلاد، فيما عرف باسم "السبي الأول " و"السبي الثاني" على يد الآشوريين والبابليين.

وعندما عاد اليهود إلى القدس في عهد الفرس عام 538 ق.م وخضعت المدينة لحكم الفرس، جاء الغزو الروماني للقدس عام 63 ق.م، واتخذ الرومان اليهود عبيداً لهم وحرَّموا عليهم دخول القدس أو السكن فيها، واستمر الحكم الروماني في القدس حتى جاء الفتح الإسلامي على يد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عام 637م، لتعود إلى أصلها العربي والإسلامي، ولتظل تحت حكم المسلمين وسيطرتهم أكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمان، وحتى بداية الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1917 م.

التسامح الإسلامي:
فالقدس لم تكن مدينة عبرية يهودية قط إلا بالغزو والاحتلال الذي لم يدم في المدينة إلا سنوات معدودة، والتاريخ يشهد أن القدس وأهلها لم ينعموا بالأمن والأمان والاستقرار والتسامح الديني إلا في ظل الإسلام؛ فجميع الحضارات التي غزت القدس وسيطرت عليها قبل الإسلام وبعده - سواء كانت عبرية أو آشورية أو بابلية أو رومانية أو صليبية أو يهودية - قد سامت أهل المدينة سوء العذاب وأشبعتهم قتلاً وتنكيلاً، وصادرت حرياتهم وعقائدهم، وأهدرت حقوقهم سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، وأقامت دولها في المدينة على القهر والعنف والإرهاب.

فالآشوريون والبابليون عندما غزوا القدس في القرنين الثامن والسادس قبل الميلاد دمروا المدينة وقتلوا سكانها من العبرانيين وأخرجوهم منها وسبوهم فيما عرف "بالسبي الأول" و"السبي الثاني"، وحطموا الهيكل اليهودي واعتبروا الأسرى اليهود عبيدا لهم واستغلوهم في الخدمة والسخرة وأسوأ الأعمال وأحطها.

وكذلك فعل الرومان الذين غزوا القدس عام 63 ق. م، فاكتسحوا المدينة وهدموا أسوارها واستمر اضطهادهم لليهود حتى عام 70 م، وعندما وقف "تيطس" الروماني أمام أسوار القدس على رأس جيشه، وأخذ سكانها من اليهود يعانون أهوال الحصار، وسرت فيهم المجاعات، أُرغِموا على التسليم والخروج يزحفون على أيديهم وأرجلهم كالأشباح، وقام الجنود الرومان ببقر بطون الآلاف منهم بحثاً عن الذهب الذي قيل أنهم قد ابتلعوه في بطونهم، وساقوا الآلاف منهم مُكَبَّلِين لبناء المعابد الرومانية، وأصبحوا عبيداً للرومان يسخرونهم في أشق الأعمال وحرموا عليهم دخول القدس أو السكن فيها.
ولم يكتفِ الرومان بذلك، بل حوَّلوا القدس إلى مستعمرة رومانية وسموها "إيلياء"، واستمرت على هذا الوضع، واستمر الحظر المفروض على اليهود بعدم دخولها أو الإقامة فيها حتى الفتح الإسلامي لها عام 637م.

البطش الصليبي:
ونفس أسلوب البطش والتنكيل بالقدس وأهلها، اتبعه الصليبيون عندما غزوا القدس في العصر الفاطمي عام 1099م، فقد حاصروا المدينة أربعين يوماً، وعندما سقطت في أيديهم ساموا أهلها - من المسلمين وغيرهم - سوء العذاب، وأعملوا فيهم القتل والتنكيل، ولم يسلم من حقدهم وبطشهم رجل ولا امرأة ولا شيخ ولا طفل، وكانوا يمزقون بسيوفهم أجساد النساء، ويقطعون الأطفال حتى امتلأت الطرقات والساحات بجثث القتلى وأشلائهم.

وقد استمرت المذبحة الرهيبة لأهل القدس طوال يوم الدخول وليلته، واقتحموا المسجد الأقصى في صباح اليوم التالي، وأجهزوا على من احتموا به، حتى قال المؤرخون إن الصليبين قتلوا نحو سبعين ألفاً، وكان النظر لا يقع إلا على أكوام من الرؤوس والأيادي والأقدام المقطوعة في الطرقات والساحات، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل دَنَّسُوا المقدسات الإسلامية، وحولوا قبة الصخرة إلى كنيس مسيحي، واستعملوا المسجد الأقصى مرابط لخيولهم ومخازن لمعداتهم.

ولأن الكفر ملة واحدة، اتبع اليهود في احتلالهم للقدس عام 1948م و1967م نفس أسلوب من سبقهم من الآشوريين والبابليين والرومان والصليبيين؛ حيث قتلوا آلاف المسلمين العزل من أهل القدس، ووجهوا مدافعهم تجاه الأقصى ومن احتموا به من المسلمين، ومنذ ذلك الحين وهم يخربون في القدس، ويدنسون مقدساتها، ويقتلون أهلها لإرغامهم على الخروج منها.

أما العهود الإسلامية في القدس فقد اتسمت بروح الإسلام دين الرحمة والتسامح والأمن والأمان لجميع البشر، فعلى مدى أكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمان عاشت القدس وأهلها في ظل الإسلام حياة أمنة مطمئنة يشملها العدل والرحمة والتسامح الديني والحفاظ على حقوق الإنسان أياً كانت ديانته.

فقد فتح المسلمون القدس مرتين الأولى: فتحاً دون إراقة دماء في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والذي منح أهل المدينة من الرومان المسيحيين عهد أمان عرف باسم "العهدة العمرية"، التي أمنتهم على حياتهم ودينهم وأموالهم وشعائرهم.

والثانية كانت جهاداً وتحريراً من الصليبيين المغتصبين الغزاة على يد صلاح الدين الأيوبي، ولم يقتل جيش صلاح الدين فرداً واحداً من أهل القدس، بل أمّنهم على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ورفض هدم كنيسة القيامة، وسمح لليهود بدخول المدينة والسكن فيها، بعد أن كانت مُحَرَّمة عليهم في عهد الرومان المسيحيين.

القدس ميراث إسلامي:
وهذا كله يؤكد أن القدس ما عاشت طوال عصورها السابقة في أمن وأمان واستقرار كمدينة مقدسة احتضنت الرسل والأنبياء إلا في ظل الإسلام, والإسلام هو الحضارة الوحيدة الصالحة لرعاية هذه المدينة، والحفاظ على ما بها من مقدسات إسلامية وغير إسلامية.

وتاريخ القدس في الفترة الإسلامية يضم صفحات ناصعة من التسامح الإسلامي تجاه اليهود أنفسهم؛ فحكام القدس المسلمون هم الذين سمحوا لليهود بالعودة إلى المدينة والسكن فيها، بعد أن حرمها عليهم الرومان والصليبيون وهم الذين سمحوا لهم بالعودة إليها في العصور الحديثة بعد اضطهادهم في أوربا.

 وفى ذلك يقول المؤرخ الإسرائيلي "زئيف فلنائي" في موسوعته المسماة "موسوعة أرض إسرائيل": "في كل مرة كانت القدس تخضع لحكم المسيحيين وسلطتهم لم يكن يسمح لليهود بالإقامة أو السكن فيها، ومن وجد منهم في أثناء حكمهم لها كان إما أن يُقْتَل أو يُطْرَد، في حين أنه عندما كان المسلمون يحكمون القدس، كان اليهود يستدعون إلى المدينة ويسمح لهم بالعيش فيها؛ فعاشوا فيها بسلام ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق