الجمعة، 30 نوفمبر 2012

افغانستان.الأسلحة في المعركة مختلفة كل بحسب مبادئه التي يدافع عنها.سأقتل كل ملالا تظهر



                                           ملالا يوسفزادي في المستشفى
كتبت على صفحتها على الـ “فيس بوك”: أفكر في ذلك كثيراً، وأتخيل مشهد قتلي بشكل واضح، وأنا أقول لهم إن ما تحاولون القيام به خطأ، إن التعليم حقنا الأساسي في الحياة ‘’.  لم يتأخر الرد كثيراً، إذ فاجأتها طلقات الغدر من ملثم خائف لم يجد ما يخفي به رعشة يديه إلا رفع صوته مهدداً الجميع: سأقتل كل ملالا تظهر.  إنها ملالا يوسفزادي، الفتاة الباكستانية، التي تعرضت لإصابة بليغة بعد محاولة اغتيالها في منطقة وادي سوات، لتتحول إلى رمز يخيف حركة “طالبان” وأتباعها الأصوليين.
المواجهة لم تكن عادلة، والأسلحة في المعركة مختلفة كل بحسب مبادئه التي يدافع عنها. هي فتاة تسلحت بإيمانها العميق وبحقها في التعليم، ودافعت عنه، وعبرت عن ذلك بشجاعة مستخدمة وسائل الاتصال الاجتماعي التي كانت نافذتها على العالم، بينما تخفّى القتلة وراء أسلحتهم التي لا تعكس إلا ضعفهم وقلة حيلتهم التي دفعتهم للنيل من فتاة في عمر الزهور، فهبوا مذعورين يوزعون تهديداتهم، ونيرانهم الطائشة على حافلة مدرسية تقل الفتيات الطامحات إلى العلم.
بداية الشهر الماضي ارتسمت ملامح مشهد مأساوي لم يكن يتخيله أحد، ولا يقبله سوى العقول المتطرفة التي رتبت له، عندما أقدم مسلحون من حركة “طالبان” على إطلاق النار على حافلة مدرسية في بلدة مينغورا في وادي سوات شمال غرب باكستان، بقصد اغتيال ملالا يوسفزادي التي أصيبت بطلقات نارية نافذة بالرقبة والرأس. وعلى الرغم من تلقيها رعاية طبية عاجلة بأحد المستشفيات العسكرية بمدينة روالبندي، ومن بعدها حملتها طائرة إسعاف إماراتية مجهزة إلى أحد مستشفيات لندن، إلا إنها لازالت ترقد بحالة مستقرة  بحسب تقارير الأطباء المشرفين على علاجها، يدعو لها الملايين حول العالم بالشفاء .
لم تعد يوسفزادي فتاة عادية، بل انتقلت إلى مراتب البطولة الأولى التي تستحقها، والتي ربما تدفع حياتها ثمناً لها، والأهم من ذلك أنها لم تسع لشهرة، بل عملت بإخلاص وجد للدفاع عن حقها ونظيراتها في التعليم مقاومة قوى الظلام التي تعي جيداً أن تعليم الفتاة اليوم يعني صوتاً عالياً يعرف حقوقه ويدافع عنها في الغد .
وبينما تخضع يوسفزادي لمتابعة طبية أفضل في بريطانيا يأمل الأطباء في نجاح علاج الجمجمة التي اخترقتها إحدى الرصاصات، والتي تحتاج إلى إعادة تأهيل على المدى الطويل للمراكز العصبية المركزية .
ويبدو إن للفتاة من اسمها نصيباً، إذ تعني ملالا في اللغة الأردية “المنكوبة بالأحزان”، وهي طالبة بالصف التاسع بمدرسة خوشال العامة، التي تحمل اسم شاعر البشتون الكبير خوشال خان. وتنتمي إلى عائلة عريقة تعلم جل أبنائها، وتحلم بأن تصبح طبيبة تخدم الفقراء بالمناطق النائية المحرومة من الخدمات الطبية. وهي أول من يحصد جائزة السلام الوطنية الباكستانية تقديراً لدورها في الدفاع عن حق الفتيات والمرأة في التعليم، وكانت ضمن المرشحين لنيل جائزة السلام الدولية للأطفال التي تمنحها سنوياً منظمة “كيدز رايتس” الهولندية .
استحقت يوسفزادي لقب “ناشطة سلام” منذ كانت في العاشرة من عمرها لجرأتها في إعلان رفضها مغادرة المدرسة والعودة إلى المنزل بعد سيطرة عناصر من طالبان على إقليم سوات، وإغلاقهم المدارس، وإعلان قانونهم الخاص بمنع مشاهدة التلفاز، أو سماع الموسيقى، وحظر خروج الفتيات للمدارس، والنساء للأسواق.
كانت ملالا يوسفزادي على الرغم من صغرها الوحيدة التي تجرأت على ارتداء زيها المدرسي كل صباح والتوجه إلى مدرستها المغلقة كل يوم على أمل أن تحذو حذوها أخريات ويعدن إلى قاعات الدرس، وهو ما لم يحدث، بل لفتت انتباه المتشددين إليها الذين حذروا والدها ضياء الدين من عواقب تصرفها، وأكدوا ضرورة منعها عن التوجه إلى المدرسة، والالتزام بالتعليمات، والبقاء رهينة بالمنزل .
هنا كان الدور التنويري الرائع للأب كما يجب أن يكون.  فضياء الدين المدرس والشاعر المقاوم لقوى الظلام، درب صغيرته على وسائل أخرى لإدارة المعركة، مفضلاً التخلي عن المواجهة المباشرة والتحول إلى أسلوب آخر، ثبتت نجاعته، وتأثيره القوي على المدى الطويل .
أقنع الأب طفلته بالبقاء في المنزل، ليس خوفاً من بطش حفنة من الجهلة، الذين لم يتلقوا تعليماً أبداً، لكن إيماناً منه بأن للمقاومة طرقاً مختلفة ومتعددة. وبالفعل كانت وجهته صائبة عندما اختار التحول نحو الفضاء العالمي الواسع عبر شبكة الانترنت، واقترح على ابنته استغلال وقتها في متابعة دروسها منزلياً بمساعدة منه، إلى جانب العمل على تدوين يوميات خاصة على موقع قناة BBC التي كانت افتتحت خدمة جديدة للتدوين باللغة الأردية .
وبالفعل بدأت الصغيرة مطلع العام 2009 وهي بصفها السابع وعلى عتبة عامها الحادي عشر كتابة يوميات صادقة من واقع أليم تعيشه آلاف الأسر، وسلطت الضوء على المعاناة الاجتماعية اليومية للحياة تحت حكم طالبان في الوقت الذي كان المراسلون والصحفيون مهتمين بالنواحي السياسية والعسكرية فقط . ونظراً للمخاطر الحقيقية على حياتهم، لم يتمكن أي منهم من الحضور وسط ميدان المعركة الحقيقي، واكتفى الكثيرون بمراسلة القنوات العالمية من مكاتبهم بالعاصمة إسلام أباد .
لفتت شجاعة ملالا يوسفزادي الانتباه إليها، ليس فقط لجرأتها في عرض شكل الحياة اليومية البائسة لعائلتها والآلاف غيرها، بل لدقة كتاباتها، وكانت أقرب إلى التقارير الصحفية الموثقة منها إلى المدونات العادية، وساعدها في ذلك كثيراً والدها الذي كان عينها التي ترصد الأحداث بالخارج وتنقلها إليها لتخطها أناملها الصغيرة بحرفية تشبعت بالصدق والبحث عن النجاة والخلاص .
كان أكثر التدوينات المؤثرة التي كتبتها ذات مرة عن شقيقها الصغير الذي لم يتجاوز عامه السادس، ووجدته يلهو بساحة المنزل حاملاً معولاً يحفر به الأرض، وعندما سألته عما يفعل أجابها بأنه يحفر قبره، لأنه خائف من المروحيات التي لا يهدأ تحليقها فوق المنزل .
وحرصاً من إدارة موقعBBC  على حياة الفتاة وعائلتها، عرض ميرزا وحيد رئيس التحرير السابق لهيئة الإذاعة البريطانية باللغة الأردية على مراسل القناة في إسلام أباد عبدالحي كاكار أن تستمر مدونات يوسفزادي تحت اسم مستعار، وبالفعل استمرت في الكتابة تحت اسم “جول ماكاي”  وتعنى بالعربية “زهرة الذرة».
تطور أداء يوسفزادي كثيراً، وأصبحت تدويناتها مصدراً مهماً للمعلومات عن المعارك العسكرية الدائرة في سوات، وهو ما شكل خطراً حقيقاً على سلامة عائلتها، التي اضطرت لمغادرة منزلها والبقاء لدى أقاربهم فترة بمدينة إسلام أباد، خاصة بعد تعمد عناصر من طالبان قطع الكهرباء عن المنازل لأيام طويلة، وبالتالي فقدت الفتاة مصدرها في التواصل مع العالم الخارجي .
كان أول ماكتبت يوسفزادي عن العاصمة بعد وصولها إليها “إنها زيارتي الأولى للمدينة، إنها جميلة، طرقها واسعة، ولكنها بالمقارنة مع بلدي سوات تفتقر إلى الجمال الطبيعي».
لم تتأقلم عائلة ضياء الدين يوسفزادي مع حياة المدن، لذا انتقلت مجدداً إلى بيشاور التي لم تكن أحسن حالاً من قريتهم بوادي سوات، إلا أن قبضة طالبان على المدارس كانت أقل بعدما هدمت أكثر من 5 مدارس، وتركت عدداً قليلاً خصص للتعليم الابتدائي للفتيان، وكانت المدرسة التي التحق بها شقيقا الفتاة يقصدها 70 تلميذاً فقط من أصل 700 كانوا مسجلين بها في السابق .
وظل الحظر قائماً على مدارس الفتيات، وهنا كان على ملالا يوسفزادي مواجهة تحد آخر من نوع مختلف، إذ رفضت الامتثال لأوامر طالبان بارتداء “الباشتو”، وهو الغطاء الأزرق الطويل الذي فرضته على النساء هناك، ولم تجده مناسباً لها .
وبعد أشهر عدة أعلن عن عملية عسكرية كبرى قام بها الجيش الباكستاني لتحرير إقليم سوات من سيطرة عناصر طالبان، تبعتها مفاوضات سلام بين الجانبين، وبعد أسابيع أعلنت الحكومة إن الإقليم بات آمناً ويمكن لكل من غادره العودة بسلام .
وبالفعل عادت أسرة ضياء الدين يوسفزادي إلى بلدة مينغورا، وكانت أولى تدوينات الفتاة بعدها “يا الله أحلل السلام في سوات، الناس خائفة من أن السلام قد لا يدوم فترة طويلة، أخي يخشى الذهاب إلى المدرسة ويخاف من الاختطاف».
وفي نهاية 2009 كشفت ملالا يوسفزادي عن شخصيتها الحقيقية، وعادت إلى التدوين باسمها، ما دفع مراسل صحيفة “نيويورك تايمز” في العاصمة إسلام أباد آدام بي أيليك إلى مقابلتها وإجراء حوار مطول معها، مع عرض فكرة ظهورها في فيلم وثائقي تحت الإعداد عن الأوضاع الاجتماعية في سوات إبان حكم طالبان، وهو ما رفضه والدها خوفاً عليها .
بعد نشر الحوار بالصحيفة، استضافت قناةAVT   يوسفزادي، وبدت أكبر من سنها كثيراً، واثقة من قدرتها وعدالة القضية التي تدافع عنها .
وكان هذا بداية المواجهة العلنية بينها وبين طالبان، خاصة بعدما قالت عنها في البرنامج “كانت أفظع وأحلك الأيام في تاريخنا، هدفي هو خدمة الإنسانية، دعونا نتعلم في أمان”.  قالت الفتاة بشجاعة وعلنية ما كان كثيرون يرددونه سراً، ويخافون من أن يصل لمسامع عناصر طالبان التي ما زالت نافذة في الإقليم. وبعد بث البرنامج بدأت التهديدات المباشرة تصل للفتاة، حيث كان ينتظرها يومياً بعد مغادرتها منزلها في طريقها إلى المدرسة ملثمون يصيحون فيها “سنقتلك”.
لم يتهاون ضياء الدين يوسفزادي في التعامل بجدية مع التهديدات، خاصة مع إنشاء الفتاة لصفحتها الخاصة على موقع الـ“فيسبوك”، وزيادة انتشارها عالمياً، لذا عمل على إبلاغ الشرطة التي كانت تعرف جيداً المخاطر التي تتهدد الفتاة وعائلتها، لذا قامت بتخصيص حراسة على منزلهم .
وبعد حصولها العام الماضي على جائزة السلام الوطنية في نسختها الأولى، ارتفعت حدة التهديدات ضدها، بعدما أحست طالبان بأن شوكة الفتاة تكبر يوماً بعد الآخر، لذا عملت على رفع وتيرة التهديدات ضدها، ما دفع والدها إلى اللجوء مجدداً للشرطة لحماية ابنته أثناء وجودها في المدرسة، ومن عجب أن الشرطة استجابت لطلب الأب، بتخصيص “حارس” لمتابعتها لكنه غير مسلح .
لم ترهن الفتاة نفسها أسيرة لمخاوفها، وانطلقت سعيدة بعودتها إلى مقاعد الدرس مجدداً، وانضمت لعدة أنشطة وفعاليات نظمتها مؤسسات غير حكومية داعمة لحق الفتيات في التعلم، ومن أهمها مبادرات خاصة لليونيسيف في وادي سوات .
في تشرين الأول (أكتوبر) 2011، جذبت أنشطة الفتاة انتباهاً دولياً متزايداً، ورشحها القس ديزموند توتو الحائز على جائزة نوبل للسلام لجائزة السلام الدولية للأطفال، في المقابل زاد غضب طالبان عليها، وبدأت بشن حرب الكترونية عليها عبر سيل من التهديدات، والسباب وجهتها لصفحتها على الـ”فيسبوك”. وعندما لم تنجح كل هذه المحاولات في إخافتها، وإثنائها عن قناعاتها، لجأت إلى أسهل الطرق لإسكاتها وهي إطلاق النيران عليها .
وأثار الهجوم عليها حالة من السخط في باكستان، وقال نشطاء إن الهجوم يجب أن يكون بمثابة جرس إنذار للساعين إلى إرضاء طالبان، إلا أن محللين يشكون في أن يحدث الهجوم تحولاً كبيراً في البلاد التي رعت الإسلام المتشدد لعقود .
لقد تحوّلت ملالا إلى رمز للشجاعة المطلقة في وجه الشر، ولم توقف إصاباتها الأليمة مدوناتها على شبكة التواصل الاجتماعي من تحريك الصغار والكبار من مختلف الجنسيات والأعراق حول العالم، تضامناً مع قضيتها.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق