الثلاثاء، 13 نوفمبر 2012

فرنسا/الجزائر.جيرار لونغي.اشار بساعده ..هدا يدخل فيكم ان اعتدرنا


كنت وقتها بباريس وهالني ما رأيت وأنا أشاهد تلك اللقطة المشينة والباعثة على التقزز والاشمئزاز التي بُثت على القناة البرلمانية الفرنسية من طرف وزي ر جيرار لونغي  دفاع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في العام الأخير من عهدته الرئاسية، وهي اللقطة التي تم نشرها لاحقا على نطاق واسع عبر أكثر من موقع وفي أكثر من صحيفة وقوبلت باستهجان كبير سواء في الجزائر أو لدى الطبقة السياسية الفرنسية نفسها.
و في أمسية اليوم الموالي لنشر تلك اللقطة التافهة خرجت للفسحة صحبة حفيدي وابنتي، وفجأة وجدنا أنفسنا قبالة مرفأ نهر السان ـ quay de seine، وهناك رحت أستحضر شريطا من الأحداث المأساوية التي وقعت في ذلك النهر في السابع عشر من شهر تشرين الاول/أكتوبر 1961 حيث رمى البوليس الفرنسي بأمر مباشر من السفاح موريس بابون رئيس شرطة باريس في تلك الفترة بمئات المواطنين الجزائريين في قاع ذلك النهر في محاولة منه للانتقام من أولئك المواطنين الجزائريين الأبرياء والعزل وفي عملية يائسة لردع جبهة التحرير الوطني عن الكفاح المسلح الذي كانت قد نقلته إلى قلب العاصمة الفرنسية باريس ردا على المجازر المرتكبة في حق الشعب الجزائري في مختلف مناطق الوطن.
وعلى حافة ذلك المرفأ كان هناك مواطن فرنسي يبدو أنه تجاوز عقده السابع، ومع ذلك كان يبدو في صحة جيدة وكأنه رياضي أو غواص عاشق للصيد في الأنهار وفي أعماق البحر.
وبالرغم من أن ذلك الرجل كان يتأهب لمغادرة النهر في تلك الأمسية الباردة بعد يوم قضاه في صيد الأسماك، إلا أنني وجدته كمن يستأنس للحديث معي بعد أن عرف أنني جزائري، إذ سألته إن كان لا يجد حرجا في التعليق على لقطة لونغي إن هو شاهدها على شاشة التلفزيون. وراح الرجل يرسل تنهيدة من الأعماق، ويقول لي بأن بعض ساسة هذا الزمن التعيس لم يعودوا مثل سياسيي الأمس، لقد استهواهم الكلام المبتذل وتعدوه إلى الحركات السخيفة حتى ابتُذلت السياسة في عهدهم ونزلت إلى الحضيض، إذ لم يعودوا يفكرون حتى فيما يصدر عنهم من حركات وأفعال غير محسوبة تنبئ عن نفسيات مريضة.
ثم قال لي متسائلا: ولكن هل تعتقد أن تلك اللقطة المخلة بالحياء من طرف أمثال لونغي تعبر عن الشعب الفرنسي؟
ليضيف: قد تكون بين بلدينا مشاكل عالقة، ولكن أن يصل الإسفاف بسياسي تولى مسؤوليات عديدة إلى ذلك الحد فهذا ما يعبر عن الإفلاس الحقيقي لبعض هؤلاء الساسة في بلدي.
و تركت الرجل يمضي لحاله بعد أن أفرغ ما كان يدور في ذهنه ومعبرا بذلك عن رد فعل العديد من الفرنسيين على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم السياسية والفكرية والثقافية.
كانت تلك اللقطة المستهجنة قد صدرت من لونغي وهو واحد من رجالات اليمين المتطرف بعد الانتهاء من برنامج تلفزيوني حول زواج المثليين بثته القناة العمومية التابعة لمجلس الشيوخ الفرنسي الذي يعد لونغي عضوا فيه.
و الراجح أن لونغي الذي له سوابق في معاداة تلك الفئة قام بتلك اللقطة تجاه تلك الفئة كما تكهن البعض بذلك، لكنه لما علم لاحقا أنها بثت على الجمهور مباشرة حاول لفت الرأي العام الفرنسي بالزعم أن إشارته تلك موجهة للجزائر، وهذا بعد أن علم للتو أن وزير المجاهدين الجزائريين السيد محمد الشريف عباس وجه من جديد دعوة لفرنسا للاعتراف بالجرائم البشعة التي ارتكبتها في حق الشعب الجزائري أثناء احتلالها للجزائر، ولذلك راح لونغي يبرر لقطته المشينة تلك بأنها رد فعل على الوزير الجزائري، متصورا أن تلك الإشارة التافهة ستجعل من لونغي بطلا في أعين الفرنسيين انطلاقا من حقد دفين ما يزال يخبئه تجاه الثورة الجزائرية.
والحقيقة أن لقطة سخيفة مثل تلك يتم بثها على المباشر وقد شاهدتها الملايين من الناس في مختلف جهات العالم لا تصدر إلا عن شخص أقل ما يوصف به بعد هذه السنوات التي قضاها في ممارسة السياسة أنه مجرد مراهق سياسي مسن أصيب بالخرف بعد أن بلغ سن السبعين عاما، ومع ذلك يصدر منه ذلك الفعل المشين الذي كان بالأمس يُستخدم بعفوية وتعبيرا عن النصر من طرف الجنود الانجليز البسطاء بعد انتصارهم في حرب المائة عام على الفرنسيين منذ أكثر من ثمانية قرون مضت بعد أن ظل الفرنسيون يتوعدون كل جندي إنجليزي يقبضون عليه بقطع أصبعه.
و مع ذلك لا أدري كيف يصطلح الفرنسيون على مصطلح ـ brat dhonneur في وصف مثل تلك اللقطة التي هي أبعد ما تكون عن الشرف والأخلاق، بل إنه يجب في اعتقادي أن يتحول مصطلحها إلى ذراع للعار لأنها فعل مستقبح ومستهجن وخاصة عندما تصدر من طرف شخص تولى عدة حقائب وزارية هامة ومازال ممثلا للشعب الفرنسي في مجلس الشيوخ.
لقد تابعتُ ردود الفعل لدى الطبقة الفرنسية وبالأخص مناضلي حزب الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الذين اعتبروا أن مثل ذلك التصرف الطائش من قبل جيرار لونغي لا يعبر إلا عن موقف صاحبه بل وأنه محاولة للتشويش من اليمين الفرنسي المتطرف على الزيارة التي يعتزم الرئيس الاشتراكي الفرنسي القيام بها للجزائر في شهر ديسمبر القادم للبحث مع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في سبل تطور العلاقات الجزائرية الفرنسية التي عرفت على امتداد الخمسين عاما الماضية من استعادة استقلال الجزائر مدا وجزرا كبيرين، بل ووصلت إلى حد التوتر والقطيعة وخاصة عندما قامت الجزائر في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين عام 1971 بتأميم المحروقات الجزائرية، حيث حاولت فرنسا الرسمية آنذاك الزعم بأن البترول الجزائري هو بترول أحمر في محاولة للإساءة لنوعيته والسعي إلى محاولة كساده في السوق العالمية.
و قد كان رد الرئيس بومدين وقتها قويا وصارما، إذ صرح في خطابه الشهير في فبراير من ذلك العام أمام مئات العمال الجزائريين بمناسبة احتفالهم بميلاد نقابتهم الوطنية الاتحاد العام للعمال الجزائريين بأن بترولنا أحمر فعلا لأنه سُقي بدماء شهداء الجزائر. مضى الآن خمسون عاما على استقلال الجزائر ومع ذلك مازال بعض السياسيين الفرنسيين الذين يسكنهم الحنين إلى الماضي الاستعماري، بمن فيهم بعض الذين لم يشاركوا في الحرب على شعبنا يعيشون عقدة التاريخ مع الجزائر وهي عقدة مستعصية ورثهم إياها آباؤهم وأجدادهم خصوصا منهم ذوو النزعة الاستعمارية المقيتة. فهل أن الخمسينية الثانية من عمر استقلال الجزائر التي بدأ العد الجديد لها منذ أربعة أشهر فقط ستعمل على إزالة بعض الترسبات وتنهي عُقد الساسة الفرنسيين الجدد من التاريخ الأسود لآبائهم وأجدادهم بالجزائر؟
وهل أن ذلك سيزيل بعض العقبات التي لطالما لبَدت سماء البلدين الجزائر وفرنسا على امتداد الخمسين عاما الماضية؟
بعض العارفين بما يدور في قصر الإليزيه من خبايا وأسرار يرون أن المشكلة المالية على حدود الجزائر الجنوبية يمكن أن تُلبد سماء العلاقات بين البلدين من جديد وخاصة إذا ما استطاعت فرنسا توريط الجزائر في حرب الناتو المحتملة ضد الجماعات الإرهابية بمالي.
لكن الأكيد أنه إذا كانت الدبلوماسية الجزائرية لم تحسن لحد الآن التصرف في هذا الملف الخطير وبات البعض وخصوصا فرنسا يلعب على حدودها وفي مجالها الحيوي ويفرض عملاءه وبيادقه هناك، فإن التطورات الأخيرة قد جعلت الجزائر تنظر لهذا الملف بجد وبمنظار آخر، بل وتراجع فيه جميع الحسابات السابقة وتؤسس فيه لمرحلة جديدة قد تعيد للدبلوماسية الجزائرية زمن مجدها القديم عندما كانت الجزائر تؤثر في مختلف أمهات القضايا الدولية الشائكة، فما بالك بالقضايا الإقليمية وخصوصا منها تلك التي تقع على حدودها والتي تسيل الثروات الباطنية لبلدانها اليوم لعاب الكثير من القوى والطامعين الجدد في هذه الثروة.
تبقى هناك ملاحظة لابد من الإشارة لها فيما يتعلق ببعض ردود الفعل الجزائرية التي صاحبت لقطة العار التي استخدمها لونغي، ففي اعتقادي أن الرد على هذا الشخص الذي يتطلب عرضه على طبيب مختص في علم الأمراض العقلية والنفسية للكشف عن حالته الصحية لا يجب أن يُقابل برد من نفس الفعل، وإلا فإننا نكون قد خسرنا تاريخنا وأسأنا لأنفسنا كشعب متحضر ينأى بنفسه عن استعمال تلك الأساليب اللاأخلاقية التي تتنافى مع حضارة وقيم شعبنا ومع تاريخه ودينه ومع رجالاته العظام الذين لن يكونوا أبدا من فصيلة من توهم أن لقطة ذراع العار المكسورة تلك ستجعل منه بطلا مشهورا كبيرا على حساب بلد اسمه الجزائر، كبير بجغرافيته وبماضيه البطولي وبشهدائه وتاريخه وأخلاق ناسه وشعبه ولن يصغر أبدا اليوم مع صغير من أمثال هذا المدعو لونغي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق