الخميس، 6 ديسمبر 2012

مصر المنقسمة على نفسها على شفير ثورة جديدة


محمد مرسي نصّب نفسه فرعوناً جديداً ووضع مصر على شفير ثورة أخرى
قراراته قوبلت بردّ عنيف في الشارع


ما كاد الرئيس المصري محمد مرسي ينجز «انتصاره» في معركة غزّة، عقب موافقة الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي على الهدنة، حتى سارع الى استثماره في داخل مصر بإصداره إعلاناً دستورياً ينصّب نفسه بموجبه فرعوناً جديداً بصلاحيّات مطلقة، مهدّداً بخسارة كلّ المكاسب التي حقّقها هو و«الإخوان المسلمين» حتى الآن.
> إذا كانت القرارات الأخيرة لمرسي لاقت الترحاب مثل قراره بإعادة محاكمة قتلة الثوّار وإقالة النائب العام عبد المجيد محمود وتقديم تعويضات لأسر الضحايا، فإن قراراته الأخرى، مثل توسيع سلطاته وإلغاء سيادة القانون في مصر، قد قوبلت بردّ فعل عنيف في الشارع المصري والمحافل السياسية المحلّيّة والدولية. فقد تضمّنت هذه القرارات الكثير من التناقض، فكيف سيكون في إمكان مرسي، الذي وضع في قبضة يديه السلطات الثلاث التنفيذية والاشتراعية والقضائية، أن يقود مصر إلى الديمقراطية واحترام سيادة القانون، وأن يفصل بين السلطات الثلاث، وهو الذي ما كان ليصل الى سدّة الرئاسة لولا الانتخابات الديمقراطية ونزاهة القضاء؟ وإذا كان صحيحاً أن القضاء غير مستقلّ، وأنه نظر في العديد من قضايا قتل الثوّار وإصابتهم وقدّم البراءة لمرتكبيها، وأن الدستور الجديد سيكبح من سلطات مرسي، فهل يمكن أن ينجز التحوّل الديمقراطي في مصر، في حال ظلّت مصر مستقطبة في أيدي جماعة واحدة، على حساب مصالح بقيّة شرائح الشعب المصري؟
وفي أي حال، فإن محمد مرسي منذ تولّيه مقاليد السلطة في 30 حزيران (يونيو) من العام 2012، كان واضحاً أن الرئيس المنتخب بغالبيّة لا تتجاوز 51 في المئة من الأصوات، يواجه معضلة في التعامل مع مؤسّستي الجيش والقضاء، وهو ما كان واضحاً منذ البداية مع القسم الدستوري بعد انتخابه، واستمرّ في المغالبة لا المشاركة ضد هاتين المؤسّستين، وعلى رغم اختلافهما البنيوي، كان مرسي يتمتّع بتأييد التيار الإسلامي بكل أطيافه، إلى قسم من القوى المدنيّة التي تحالفت معه انتخابيّاً، في مقابل تيار مدني واسع وقف على الحياد موقّتاً ترقّباً لمواقف الرئيس «الإخواني». في المقابل، كانت مؤسّسة الجيش بقيادتها الثنائية محمد حسين طنطاوي، رئيس المجلس العسكري، ورئيس الأركان سامي عنان يمثّلان التهديد الأكبر لسلطة الرئيس الجديد ومعهما المحكمة الدستورية العليا، ولكن اتّضح منذ البداية أن إصرار مرسي على السلطة الكاملة ثم المطلقة، هو الأوضح في سياساته وقراراته حتى الآن، وما سوى ذلك فقابل للازاحة.

معارك مرسي الأربع

وخلال خمسة أشهر من رئاسة مرسي، تغيّرت التحالفات المؤيّدة والمعارضة للسلطة «الإخوانية»، وكان خيار مرسي و«الإخوان» هو البدء بالصدام مع القضاء، عبر قراره في 8 تموز (يوليو) الماضي بإعادة مجلس الشعب الذي يهيمن عليه تيار الإسلام السياسي، وهو القرار الذي جعله في مواجهة مباشرة مع المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة والمعارضة المدنيّة، متمثّـلة في أقطابها الرئيسية: محمد البرادعي وحمدين صباحي وعمرو موسى ونادي القضاء.
في المقابل، حافظ مرسي على تأييد الإسلاميين، بما فيهم المرشّح الرئاسي السابق عبد المنعم أبو الفتوح، وارتفعت قوّة الدعم القادم من التيار السلفي الذي كان متلهّفاً للعودة الى البرلمان، كما ظلّ قسم من التيار المدني على تأييده للرئيس الجديد. وانتهت المعركة الأولى بتراجع محمد مرسي عن قراره بعد أربعة أيام في 12 تموز (يوليو) الفائت، في رضوخ واضح لضغوط المجلس العسكري والقضاء. ومن هنا كان قرار «الإخوان» للتحضير لمواجهة مع القسم الأقوى متمثّلاً في قيادة الجيش، وجاء موعد إخراج المجلس العسكري في 12 آب (أغسطس) الماضي، عقب عملية قتل جنود مصريين على الحدود مع إسرائيل على أيدي «جهاديين» متشدّدين.
وجاء قرار الرئيس المصري بإقالة كلّ من طنطاوي وعنان وأعضاء المجلس العسكري، وإلغاء الاعلان الدستوري المكمّل وتعيين نائب للرئيس، ليمثّـل حزمة من القرارات التي أطاحت الغريم الرئيسي للسلطة الجديدة، وهو رأس هرم المؤسّسة العسكرية التي تولّت مقاليد الأمور منذ 11 شباط (فبراير) من العام 2011، بعد تنحية الرئيس السابق حسني مبارك.
ونجح هذا القرار في حشد دعم تيارات مدنيّة بارزة إلى جانب القوى الإسلامية، فيما وقف القسم الأكبر من الشارع المصري على الحياد، في انتظار ما ستستفر عنه صراعات السلطة الجديدة، والتي انتهت بنجاح مرسي عبر تصعيد القيادات الجديدة في المؤسّسة العسكرية، والاعتماد على مهارة وزير الدفاع الجديد عبد الفتاح السيسي، وعزوف القادة المعزولين عن دخول صراع مفتوح.
برز عقب النجاح في الصراع الثاني لمرسي، أن الأمور بدأت تميل لمصلحته، مع تراجع الأصوات المعارضة ومرور «عاصفة 12 أغسطس» بسلام، إلى جانب بدء عملية «الشدّ والجذب» في الجمعية التأسيسية للدستور، بين القوى الإسلامية والقوى المدنيّة والليبيرالية. وفي خضمّ استمرار التباين، حاول مرسي كسب تأييد المعسكر المدني الذي أيّده في الانتخابات الرئاسية عبر تعيينات مستشاري الرئيس. وجاءت معركة مرسي الثالثة مع القضاء مجدّداً، حيث عزل النائب العام عبد المجيد محمود في 11 تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2012، مستغلاً الاحتجاجات على الأحكام الخاصة بقتلة الثوّار، في ما يعرف إعلاميّاً بـ«موقعة الجمل» في بداية شباط (فبراير) من العام 2011. وفي هذه المعركة كان القضاء وفي مقدّمه «نادي القضاة» رأس الحربة ضد القرار. وكسب القضاء معركته الثانية مع مرسي في وقت قياسي لم يتجاوز 24 ساعة، حيث ظهر للرأي العام المصري أن الرئيس أساء استخدام سلطاته وكون الاقالة غير شرعية أو قانونية. وجاء تراجع مرسي للمرة الثانية أمام القضاء وإعادته للنائب العام، ليدلّل على أن الصراع الرئيسي للرئيس المصري وجماعة «الإخوان»، سيكون مع السلطة القضائية التي تبدو في قمّتها، تأخذ مواقف تعاكس توجّهات السلطة الجديدة.
كان واضحاً خلال المعارك الثلاث السابقة غياب الشارع بشكل واضح عن المشهد، حيث حسمت في أغلبها في سياق المؤسّسات بين الرئاسة والجيش والقضاء. ومن اللافت أيضاً أن التأييد النخبوي لقرارات مرسي كان بدأ يتراجع نسبيّاً، في ظلّ خشية قسم أكبر من القوى المـدنيّة لمحاولة الرئيس «الإخواني» الانفراد بالسلطة. وخلال خمسين يوماً، منذ محاولة إقالة النائب العام، مرّت مياه كثيرة تحت الجسر، حيث بدا أن التأييد السياسي النخبوي لمرسي بدأ يتآكل سريعاً. فخلال خمسين يوماً، شهدت الجمعية التأسيسية للدستور احتداماً للخلافات بين القوى المدنيّة والتيار الإسلامي، مع سعي الأخير إلى فرض تصوّراته على الدستور الجديد، ومحاولة إرضاء التيار السلفي المتشدّد عبر المادة التفسيرية للمادة الثانية المتعلّقة بكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.
وجاءت نقطة الذروة بإعلان الكنيسة المصرية انسحابها من الجمعية التأسيسية ومعها كلّ ممثّـلي التيار المدني، ليصبح التيار الإسلامي وحيداً في جمعية كتابة الدستور.
وهو الوضع الذي يهدّد بوضوح شرعية الدستور الجديد حتى ولو حصل على غالبية بسيطة في الاستفتاء. وهنا كان «الإخوان» يرون أن ضيق الوقت أمام الجمعية التأسيسية، التي ينتهي عملها الفعلي، بحسب الاعلان الدستوري، في منتصف كانون الأول (ديسمبر) الحالي، يهدّد بفشلها، وتالياً فشلت الجماعة في قيادة أول عملية سياسية كبرى تتطلّب توافقاً وطنياً. وكان البديل أمام عدد من قادة «الإخوان»، هو إفساح في الوقت أمام التأسيسية والضغط على القوى المدنيّة عبر تحصين الجمعية لإعادتهم إلى اجتماعات كتابة الدستور الجديد.
في المقابل، برز أمام «الإخوان»، مع الفشل في صوغ الدستور، خطر حكم المحكمة الدستورية في الأسبوع الأول من كانون الأول (ديسمبر) الحالي، بحلّ الجمعية التأسيسية وإعادة تشكيلها، بالاضافة إلى حلّ مجلس الشورى الذي يمثّـل الواجهة النيابية لإبراز غالبيّتهم. وبدا أن الرئيس المصري «الثوري» بهذه القرارات التي لم يجرؤ سلفه المخلوع حسني مبارك على اتّخاذها، أعلن نفسه فرعوناً جديداً لمصر، حيث حصّـن بإعلانه الدستوري قراراته من أيّة رقابة قضائية، ومنع بموجبها أي حلّ قضائي لمجلس الشورى والجمعية التأسيسية للدستور، في ما اعتبر «انقلاباً» على المطالب الديمقراطية لـ«ثورة 25 يناير»، وتحدّيّاً للمعارضة عبر رفض ما تطالب به من مشاركة في اتّخاذ القرارات المصيرية في البلاد، وانتهاكاً لاستقلالية السلطة القضائية، ليس بسبب تحصين القرارات التنفيذية من رقابتها فقط، وإنما أيضاً لأن القرارات شملت إقالة النائب العام.
لكنّ الأخطر في قرارات الرئيس «الإخواني» التي هزّت الطبقة السياسية والشارع المصري، وأتت بعد أقلّ من 24 ساعة على الزيارة التي قامت بها وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون للقاهرة، تمثّـلت في أنه منح نفسه الحق في اتّخاذ ما يلزم من إجراءات لحماية «ثورة 25 يناير»، في ما وصفته المعارضة بأنه «نسخة معدّلة من قانون الطوارئ» الذي حكم به مبارك مصر طوال ثلاثين عاماً.
في هذا السياق المعقّد، فإن ثمّة معركة مفتوحة مع القوى المدنيّة والفشل في صوغ الدستور. وفي هذه المعركة، يقف مرسي في مواجهة كلّ القوى المدنيّة التي اتّـحدت عبر تفاعلات الأشهر الخمسة الأخيرة، ومعها الطبقة الوسطى التي تخشى على مكتسباتها الاجتماعية من «دستور الإخوان»، إلى جانب القوى الثورية التي وجدت نفسها على هامش الحياة السياسية، رغم الوعد المتكرّر للرئيس.
وفي هذا السياق، جاء انسحاب عدد من ممثّـلي القوى المدنيّة من مؤسّسة الرئاسة مثل: نائب الرئيس، مساعد الرئيس القبطي سمير مرقص، وعدد من مستشاريه المنتمين للتيار المدني، في أول شرخ صريح لمؤسّسة الرئاسة التي لم تتجاوز بعد شهرها الخامس. في الوقت نفسه، انضمّ القضاء للمعركة بقوّة عبر الاضراب عن العمل، وهو سلاح نادراً ما يشهره القضاء المصري في وجه السلطة، ومن شأنه أن يعطّـل أهمّ السلطات العاملة والفاعلة اليوم في مصر.  وفي المقابل، مع استمرار تأييد تيار الإسلام السياسي لقرارات الرئيس، برزت انشقاقات لافتة برفض عبد المنعم أبو الفتوح مجمل الاعلان الدستوري الجديد، ووقوف التيار السلفي في موقف الداعم لفظيّاً، وعدم خروجه في مسيرات التأييد للقرارات، وهو ما يجعلنا نرى مرسي، ومعه «الإخوان» المنهكين من كثرة المعارك وضد كلّ التيارات المدنيّة والكنيسة والقضاء، ويقف السلفيين والشرطة والجيش على الحياد بشكل واضح.
ولعل ذلك سيضعه في معركة مزدوجة مع القوى المدنيّة والقضاء. وربما، ما لم يحسب له الرئيس المصري الإخواني، أنه نقل أول معاركه للشارع السياسي، وهو ما ظهر جليّاً في التظاهرات الحاشدة في ميدان التحرير احتجاجاً على قراراته الأخيرة. وهكذا، فإما يتراجع مرسي عن قراراته وإما يضع مصر المنقسمة على نفسها على شفير ثورة جديدة >

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق