الاثنين، 31 ديسمبر 2012

التجربة الشعرية عند الأمير عبد القادر الجزائري -02-

ثانياً:الغزل:
         كما هو معروف فإن غزل الأمير عبد القادر المعروف برصانته، وأخلاقه الفاضلة، ونسبه الشريف، هو ليس ذلك الغزل المادي الفاحش الذي نلفيه لدى الكثير من الشعراء، بل هو غزل «من نوع الغزل الروحي يتحدث فيه عن صبابته إلى زوجته أم البنين، وتغزله بها صادق جياش بالعواطف النبيلة، فكان إذا غاب عنها شكا، وإذا ذكرها تحسر، وإذا أجنه الليل وهي بعيدة عنه صاح من أعماقه بشعر عليه لفحات الحب،وظلال اللوعة والحرقة:
ألا قل للتي سلبت فؤادي   وأبقتني أهيم بكل واد
تركت الصب ملتهبا حشاه   حليف شجى يذوب بكل ناد
ومالي في اللذائذ من نصيب   تودع منه مسلوب الفؤاد
وحينما يشتد هيامه، وتستأثره أشواقه يعتريه قلق ويحفزه تمرد فيعاتب نفسه قائلاً:
إلام فؤادي بالحبيب هتورُ؟   ونار الجوى بين الضلوع تثورُ
وحزني مع الساعات يرنو مجدداً   وليلي طويل والمنام نفورُ
 وحتى متى أرعى النجوم مسامراً   لها دموع العين ثم تفورُ
   وإذا تتبعنا غزل الأمير عبد القادر وجدناه يستهدف منه بث شكواه، وتصوير لواعجه المحرقة إزاء بعض نسائه، وهذا النمط من الغزل هو المحمود لدى من يميلون إلى الجانب الروحي في المرأة، ولعل الذي طبع الأمير على ذلك هو دراساته الأدبية المتصوفة، ونجد للأمير مقطوعة جيدة أنشأها سنة: 1272هـ، وفيها يصف أشواقه إلى زوجته في بروسة، وهي تتسم بعاطفة صادقة ملتهبة، وشكوى صارخة، لبعده عنها، وحرمانه من رؤيتها، وفيها تودد الفارس وذلة العاشق، وأنة المحروم في أسلوب خفيف سهل، ونبرات روحية حزينة، حيث يقول فيها:
أقول لمحبوب تخلف من بعدي  عليلاً بأوجاع الفراق وبالبعدِ
أما أنت حقاً لو رأيت صبابتي    لهان عليك الأمر من شدة الوجدِ
وقلت أرى المسكين عذبه الهوى   وأنحله حقاً إلى منتهى الحدِ
وساءك ما قد نلت من شدة الجوى   فقلت وما للشوق يرميك بالجدِّ
وإني وحق الله دائم لوعة      ونار الجوى بين الجوانح في وقدِ
غريق أسير السقم من كلم الحشى   حريق بنار الهجر والوجد والصدِّ
 ويتعجب الأمير من سطوة الحب وانهزام شجاعته القوية أمامها، حيث يقول:
ومن عجب صبري لكل كريهة   وحملي أثقالاً تجل عن الحدِّ
ولست أهاب البيض كلا ولا القنا    بيوم تصير الهام للبيض كالغمدِ
وقد هالني بل أفاض مدامعي     وأفنى فؤادي بل تعدى عن الحدِّ
فراق الذي أهواه كهلاً ويافعاً      وقلبي خلا من سعاد ومن دعدِ»(9).
     ويجدر بنا قبل التعمق أكثر في عوالم الغزل عند الأمير عبد القادر، أن ننتقل إلى سؤال مهم طرحه الباحث فؤاد صالح السيد، إذ تساءل عن سبب خضوع الأمير عبد القادر للمرأة؟، وكأن الباحث من خلال هذا السؤال يريد أن يشير ضمنياً إلى أن ذلك الفارس المغوار الذي أذل كبراء جنرالات الجيش الفرنسي، وألحق بهم الهزائم تلو الأخرى، لا يبدو أنه سيضعف، ويخضع للمرأة..
    إن الإجابة عن هذا السؤال تبدو سهلة، «ولكنها في حقيقة الأمر صعبة، لأن الأمير نفسه في بداية الأمر، لم يجد تعليلاً لهذه الحال الغريبة التي اعترته، فهو يتعجب من سطوة الحب على قلبه ونفسه، فأدى ذلك إلى انهزام شجاعته القوية، ويمكن حصر هذه الأسباب في سببين أساسيين هما: الأمومة، والجمال.
    إذ إن السر في هذا الخضوع للمرأة كامن وراء إعجابه الشديد بأمه، وحبِّه إياها، وشدة تعلقه بها، فقد كان الأمير شديد الاحترام لها، يأخذ برأيها، ويستشيرها في الملمّات الصعبة، والأمور العسيرة، حتى اتهم بأنه يخضع لما تصدره من: مكاتبات، وتحارير، ومراسلات موقعة باسمه...
    وكان الأمير شديد التعلق بوالدته، يصطحبها في أسفاره، وكأنه يتلمس من عقلها الراجح، ومن روحها العضد والطمأنينة، والعزاء لروحه المضطرم، فقد رافقته إلى الأسر، وحملها معه إلى استانبول، وبروسة، ودمشق.
    ويبدو تأثير الوالدة على ولدها بعد حادثة وفاتها، فقد عظم على الأمير مصابه، وحزن عليها حزناً شديداً، وبعد رجوعه من دفنها بمقبرة «الدحداح» إلى منزله في حي«العمارة» بدمشق، توقف عدة مرات في الطريق من هول المصيبة، فقال له بعض من كانوا معه: «ارفق بنفسك»! فقال لهم: «كيف ذلك وأنا فقدتُ أعظم من كان يحبني على وجه الأرض؟.» فربما كان لهذه المحبة العميقة، والخضوع الكلي، والإعجاب الشديد الذي كان يُبديه الأمير لوالدته الأثر الفعال في تحويل محبته، وخضوعه، وإعجابه إلى المرأة بشكل عامٍ وأساسي.
      وأما بالنسبة لسلطان الجمال؛ فالأمير نفسه يعجب من واقعه الغريب، ثم إنه يستدرك هذا الأمر، ويُذكر بأنه فارس، والجدير بالفارس أن يخضع لسلطان واحد لا غير، هو سلطان الجمال الذي يمتلك مهج الفرسان، ويخضعهم لسلطانه، إذ يقول في هذا الشأن:
ومِنْ عَجَبٍ تَهَابُ الأُسْدُ بَطَشِي  ويَمَنْعُنِي غَزَالٌ عَنْ مُرَادِي!
ومَاذَا؟ غَيرَ أَنَّ لَهُ جَمَالا    تَمَلَّك مهجتِي مُلْكَ السَّوَادِ
فسُلْطَانُ الجَمَالِ لَهُ اعْتِزَازٌ  عَلَى الخَيْلِ والرَّجلِ الجَوَادِ»(10).
       إن الأمير عبد القادر ذلك المجاهد البطل المغوار، الذي «دوّخ جنرالات فرنسا بصلابته السياسية، وشجاعته العسكرية إقداماً وبأساً، من دون أن تلين له عريكة لا تخدم وطنه في مفاوضات سياسية، ولا مواجهات عسكرية، لكن التي دوخته هي زوجه(أم البنين) الأثيرة لديه دائماً، التي تزوجها في وهران نحو عام:1822م، وهو في الخامسة عشرة من عمره، أي قبل رحلته مع والده للحج عام(1825م)، فسرعان ما ملكت عليه أمره، فكان يحنّ إليها في حربه وفي سلمه، شاكياً صدودها  وبرودتها، حتى بدا الأمير عبد القادر الأسد الذي يزأر في المعارك، ويقارع الجنرالات، حملاً وديعاً ساذجاً أمام (أم البنين)، يثغو فيرتد إليه صدى ثغائه كئيباً بارداً، يئن شكوى وعتاباً في القرب منها مثل البعد عنها في المعارك، وهذا قدر النفوس الكبيرة حيث تجتمع الأضداد، فالأمير عبد القادر الذي يجذّ رؤوس الأعداء بسيفه جذّا، فيخوض في دمائهم مبتهجاً بالنصر، يملك عليه الفزع أمره في الجمال نفسه من وجنة حسناء تتعرض للوشم فتخدش، فتكون الصورة أمامه مثيرة للفزع، كما عبّر عن ذلك في أحد نماذجه بالديوان عندما ورد أن حديثاً جرى عن الموضوع في مجلس بمدينة الطائف كان الأمير حاضراً فيه-أرجح أن يكون هذا في حجته الثالثة بعد إقامته في دمشق-فقال:
فباللحظ لا المُوسى تخدش وجنة   فيا ويلتا منه! ويا طول حسرتي!
   وهنا قيمة جمالية في النظر إلى المرأة، فهو لم يُشر إلى أن الوشم حرام، ولا الزينة بالصيغة الطبيعية الشرعية غير ممنوعة، بقدر ما هيمن على فكره الصورة الجمالية المعنوية التي تعكس زاوية من قيمه في المرأة، وهي الحياء. فالمرأة العفيفة ذات الحياء تحمر وجنتاها حياءً وخجلاً من موقف أو نظرة، فتزداد بذلك جمالاً على جمال من دون تشويه تلحقه (الموسى) بوجنة واحدة باحثة عن زينة سبيلها تشويه ما خلقها الله عليه، فتعيث فساداً في الطبيعة.
   هذه السمة مما توافرت في (أم البنين) فيما يبدو، فهي ذات حياء حتى من مبادلة الزوج مشاعر المودة والرحمة التي جعلها الله بين الزوجين، كما استقرت في وجدانها-ربما- تقاليد المحيط التي ترى صميم العلاقة الزوجية هي الغريزة البشرية والحيوانية ليس غير.
     في هذه الخلفية شيء من عزاء للشاعر في هيامه وتضرعه وتفهمه في الوقت نفسه، وإن أودى به في نماذج إلى السقوط في مباشرة لا تخلو من إسفاف وسطحية ترسم صورة مادية لا فن فيها ولا خيال، بل رغبات مادية مباشرة معلنة، تتركز في حرمان وصدود، مصدرهما الأساسي طبيعة الحياة، وقيم المجتمع:
أُقاسي الحُبّ من قاسِي الفُؤاد   وأرعاه ولا يرعى ودادي
وأبكيها فتضحكُ ملء فيها    وأسهرُ وهي في طِيبِ الرُقادِ
وأبذُلُ مُهجتي في لثمِ فيها   فتمنعُني و أرجعُ جدَّ صادِ
فما تنفكُ عني ذات عزّ   وما أنفك في ذُلّي أُنادي»(11).

      ويعود الأساس الأول لعدم خوض الأمير في الغزل المادي الماجن إلى تربيته الدينية، في طفولته، وتركيز أسرته، على الجوانب الخُلُقية والروحية، وابتعادها عن النواحي المادية، فنشأ الأمير على حب الطهارة، والعفة، بالإضافة إلى« تأثر الأمير بالتصوف في مراحل حياته كلها في الجزائر، وفرنسة، وبروسة، ودمشق.
ومن المعروف أن التصوف ينمي الجوانب الروحية والخُلُقية في الإنسان، ويبعده عن الجوانب المادية الضيقة المغلقة. ولا يخفى أن الحب والغزل الإلهيان عنصران أساسيان من عناصر الشعر الصوفي في الإسلام.
   فإن التآلف بين التصوف ونفسية الأمير، ورغباته، وميوله الفطرية، قد أدى إلى بروز الجوانب الروحية الخُلُقية بروزاً واضحاً في سلوكه اليومي، وتصرفاته الحيوية. فانعكست هذه الناحية الروحية الخُلُقية في أشعاره الغزلية، فكان هذا الاتجاه العذري في الغزل عند الأمير، غزل الحنين والأنين، غزل الأسى واللوعة والحرمان»(12)
        ومن أبرز الخصائص التي تظهر للمتأمل في غزل الأمير، بروز شخصيته، وظهور معاناته، ومن ذلك قوله:
حنيني أنيني زمرتي ومضرتي   دموعي خضوعي قد أبان الذي عندي
   وكذلك يظهر على غزله تأكيده على عفة الحبيبة، والسيطرة التامة لذلك الحب على الجانبين العقلي، والعاطفي، أي الوجدان، والعقل، وقد تجلى هذا الأمر في قوله:
ألا من منصفي من ظبي قفر      لقد أضحت مراتعه فؤادي
أي أن الحبيب قد سيطر على كامل وجدانه، ومن ذلك قوله أيضاً:
وبي ما يُزيلُ العقل عن مستقره   فلا تعجبوا إن قيل فيه خبالُ
 وقد ظهر حرصه على العفة والطهارة في قوله:
وأبذل مُهجتي في لثم فيها     فتمنعني وأرجع منها صادِ
 وكذلك في قوله:
ومالي في اللذائذ من نصيب     تودع منه مسلوب الرقادِ
ويشير إلى هذا الأمر كذلك ضمنياً في قوله:
فإن هو لم يجد بالوصل أصلاً   ويُدني الطيف من سكني وداري
أقُل للنفس: ويك ألا فذوبي     وموتي فالقضاء عليك جارٍ
      وكذلك من أهم الخصائص، والسمات التي طبعت غزل الأمير، حرصه على تصوير الفراق في صور بديعة، حتى كأن المرء يجد الصورة مجسدة أمامه، كما يظهر من شعره الغزلي مدى حبه للسهر والليالي، ومناجاته للحبيبة الغائبة، ويتبدى ذله، وانكساره، وشجنه العميق، الذي يظهر من خلال الأسئلة الكثيرة التي يثيرها، والاستغاثات المتوالية التي يطلقها، ومنها تظهر أنواع من العتاب لغياب الحبيب، وقسوته، وبعده عنه.
ثالثاً: الوصف:
        من المسلم به أن كل شعر فني يندرج تحت لواء الوصف، فالشاعر عندما يتغزل يصف، وعندما يمدح يصف، وعندما يرثي يصف، وعندما يفخر كذلك يلجأ إلى الوصف، «وكذلك كان شعر الأمير في فخره، ووجدانياته، لكن من المواقع ما يصير فيها الوصف هو السائد حتى يكاد الموضوع نفسه يذوب فيه حين تدق مشاعر الشاعر الوجدانية بما فيها المشاعر الدينية، أو تجنح أشواق الذكرى والحنين. ولعل الصورة التي تُظهر لنا طبيعة الوصف عند الأمير إثر وقوفه قرب جبل أحد في بستان، حيث مكث وقتاً في المدينة المنورة، فاحتدمت المشاعر في نفسه، وتداخلت بين إرادة المكث في المدينة، وضرورة المغادرة حسب مقتضى الحال، فقد هدته المعاناة جسداً وروحاً، فطفق يصف الموقف قائلاً:
إلى الله أشكو ما ألاقي من النوى   وحملي ثقيل لا تقوم به الأيدي
     فقد وصف لنا الشاعر اللحظة والمكان، واحتدام تلك المشاعر بين إرادة يصعب تحقيقها،بل لا سبيل إلى ذلك،فيصف لنا حالته النفسية أدق الوصف،مسلطاً الضوء من شتى الجوانب،فكأنه يقدم لنا مسحاً شاملاً،ورؤية مكتملة لوضعيته النفسية في هذه الحال حيث إنه يقول:
تذكرت وشك البين قبل حلوله   فجادت عيوني بالدموع على الخدِّ
وفي القلب نيران تأجج حرّها    سرت في عظامي ثم سارت إلى جلدي
ومالي نفس تستطيع فراقهم     فيا ليت قبل البين سارت إلى اللحدِ
بطيبة طاب العيش ثم تمررت    حلاوته، فالنحس أربى على السعدِ
أردد طرفي بين وادي عقيقها     وبين قباها ثم ألوي إلى أُحُدِ
منازل من أهواه طفلاً ويافعاً     وكهلاً إلى أن صرت بالشيب في بردِ»(13).
    ويظهر لنا للوهلة الأولى أن وصف الأمير في هذه المقطوعة البديعة هو وصف معنوي، فهو يصف الحالة النفسية الداخلية، ويقدم لنا رؤية عما يختلج فؤاده إثر فراق هذه المدينة الطيبة، مدينة الإيمان، والسلام.
    وقد انقسم الوصف عند الأمير إلى قسمين رئيسين وفقاً لرؤية الباحث فؤاد صالح السيد، فأحياناً هو يظهر أنه وصف بدوي، كما ظهر في قصيدته الشهيرة التي يصف فيها البدو :
ياعاذِراً لامرئ، قد هام في الحضر   وعاذلاً لمُحب البدو والقفرِ
لا تذمَّنَّ بيوتاً خف محملها   وتمدحنَّ بيوت الطين والحجرِ
لو كنت تعلم ما في البدو تعذرني    لكن جهلت، وكم في الجهل من ضررِ
أو كُنت أصبحت في الصحراء مُرتقياً   بساط رمل به الحصباء كالدررِ
أو جُلت في روضة راق منظرها   بكل لون جميل شيق عطِرِ
أو كنت في صُبح ليلٍ هاج هاتنه    علوت في مرقب أو جلت بالنظرِ
رأيت في كل وجه من بسائطها   سرباً من الوحش يرعى أطيب الشجرِ
فيا لها وقفة! لم تبق من حزن   في قلب مضنى ولا كدا لذي ضجرِ
     وأما الوصف الحضري فقد أناخ بكلكله على المرحلة الثالثة من حياة الأمير نظراً لابتعاده على حياة البدو، واقترابه من الحياة الحضرية، عندما أقام في مدن المشرق العربي فخصص له قصائد مستقلة انضوت تحت لواء هذا الغرض، ولم تدخلها أغراض أخرى، في حين أن الغزل البدوي لم يأت في قصائد خاصة، بل جاء ممزوجاً ومضمناً  في أغراض متنوعة من بينها الفخر والحماسة.
 وما يثير انتباه المتأمل في وصف الأمير عبد القادر للحضر أنه يتراوح ما بين  الوصف النسخِي الحسي التقريري، والوصف التشخيصي الوجداني. ويعود ذلك في الدرجة الأولى إلى الجو الفرنسي والحيوي الذي كان يُحيط بالأمير في أثناء نظمه للقصيدة الوصفية، فالوصف النسخي الحسي التقريري ظهر في قصيدته التي وصف بها قصر دُمَّر الذي يجاور واديها البديع، فقد كان الأمير يتردد على هذه المدينة للاصطياف، حيث يقول في هذه القصيدة:
عُجْ بِي-فَدَيْتُكَ-في أَبَاطِحِ دُمَّرِ   ذَاتِ الرَّياضِ الزهرات النُّضَّرِ
ذَاتِ المِياهِ الجَارِياتِ عَلَى الصَّفَا   فَكَأنَهَا مِنْ مَاءِ نهْرِ الكَوثَرِ
ذَاتِ النَّسِيمِ الطَّيِّبِ العطر الذي     يُغنيكَ عن زَبَدٍ ومِسكٍ أذَفَرِ
والطَّيْرُ في أَدْوَاحِها مُتَرَنِّمٌ   بِرَخيِمِ صَوْتٍ نغمَةَ مِزْهَرِ
مَغْنًى بِهِ النُسَّاكُ يَزهُو حَالُهَا       مَا بَيْنَ أَذْكار وَبَينَ تفكرِ
مَا شِئتَ أَنْ تَلْقَى بِها مِن نَاسك    أو فَاتك في فَتْكِهِ مُتَطَوِّرِ
أَيْنَ الرُّصَافَةُ والسَّدِيرُ وَشَعبُ بوَّ   انٍ..إذَا أَنْصَفَتها مِنْ دُمَّرِ(14).
وقد ظهر الوصف الوجداني التشخيصي في شعر الأمير في بعض المقطوعات القصيرة، وقد تميز هذا النوع عند الأمير بلغته العذبة والرقيقة والتي تبلغ حد الليونة، إذ تنساب مع خرير الجداول، وتغريد الطيور، وتحليق النور، وتعالق الأشياء. وهذا ما يتبدى لنا في تصويره الرائع لتلك الناعورة العاشقة التي ألصق بها صفات إنسان ينوح ويدمع، «فلم تعد الناعورة في لوحته الفنية شيئًا حسياً مادياً جامداً، وإنما تحولت بطريقة تشخيصية إلى عنصر تدبُّ فيه الروح والحياة والحيوية. إنها صورة الناعورة التي تجيب الشاعر عن تساؤلاته، فحاورها وحاورته، وسألها وأجابته، فهي كالعاشق الذليل الذي أذله الحبُّ، فهو تارة يطأطئ رأسه حزناً وتذللاً، وتارة يرفع رأسه للعويل والبكاء:
وَنَاعُورَة نَاشَدْتُهَا عَنْ حَنِينهَا    حَنين الحوارِ والدُّمُوعُ تَسِيلُ
فقالت وَأبْدَتْ عذرَهَا بِمَقَالِهَا    وللصِّدقِ آياتٌ عَلَيهِ دَلِيلُ
أَلَسْتَ تَرَانِي أَلقِمُ الثدي لَحْظَةً!    وَأدْفَعُ عنْهُ وَالبَلاَءُ طَوِيلُ
وَحَالِي كَحَالِ العِشْقِ بَات مخلَّفًا    يَدُورُ بِدَارِ الحبِّ وَهوَ ذَلِيلُ
يُطَأطِئ حُزناً رَ أسَه بتذلل        وَيَرفَع أخرى والعويلُ عويلُ
وتحت لواء الوصف الوجداني التشخيصي انضوى وصف الأمير لعود الطِّيب الذي يُتَبَخَّر به، فقد ذكره العُود بالعَود، أي بالعودة إلى أرض الوطن وذكَّره الوَرْد بالورد، أي بالصدور والرجوع:
تَبَخَّرْ بِعُودِ الطَّيبِ لاَ زِلْتَ طيباً   وَرُشَّ بِمَاءِ الزهْرِ يَا خِلُّ  وَالوَرْدِ
وَمَا بُغْيَتِي هَذَا وَلَكِن تَفَاؤلاً   بِعُودٍ إلى عَوْدٍ وَوَرْدٍ إلى وِرْدِ»(15)
 رابعاً: التصوف في شعر الأمير عبد القادر:
      يجمع الباحثون الذين اهتموا بالتصوف عند الأمير عبد القادر على أنه كانت له ميولات منذ الصغر نحو التصوف، وذلك يعود إلى نشأته الدينية المحافظة، وطبيعته الانطوائية، حيث إنه كما أشرنا سلفاً كان ينكب على القراءة، وينصرف إلى المطالعة، وقد جاءت جملة من العوامل لتؤخره عن التصوف في شبابه، وأبرز هذه العوامل انشغاله بالنضال والجهاد ضد المستعمر الفرنسي.
 ويحدثنا الأستاذ الأديب رابح بونار عن هذا الأمر قائلاً: « كان الأمير يميل إلى التصوف منذ صغره، ولا شك أن أباه محيي الدين الذي كان صوفياً كبيراً من أتباع القادرية كان ذا تأثير عليه في تربيته الدينية، وكان أكبر موجه له في حياته الروحية الصوفية، كان العصر عصر تصوف انتشرت فيه طرق كثيرة، ورسخ في الأذهان أن اتخاذ شيخ عارف ضروري، ولهذا كله كان الأمير متصوفاً، ولكننا عندما رجعنا إلى ديوانه لم نجد له قصائد في التصوف في مرحلته الأولى بالجزائر، وإنما تجد له قصائد تعود إلى ما بعد الاعتقال، والاستقرار بالشام. وقد يكون ذلك عائداً إلى أنه لم ينظم في فترته الأولى  لعدم نضجه في الأدب الصوفي، وبعد نضجه في الفترة الثانية أخذ يقرض فيه القصائد، والأمير في شعره الصوفي قد يكون متأثراً بمحيي الدين بن عربي، وابن الفارض، والنابلسي، وغيرهم. وهو في شعره هذا يُعنى بتصوير ما يحس به، ويسجل الواردات التي ترد على خاطره، ومن الحق أن نقول: إن الأمير في شعره الصوفي يتجلى عن روح شعرية، ويطفح بعواطف صادقة، وأخيلة ملونة في أسلوب سهل متوسط. وقد استغل الأمير رمزية المتصوفة فزان بها شعره، ومن أشهر قصائده في هذا الموضوع قصيدته الرائية، التي صور فيها بروح قصصية فتوحاته الربانية مع شيخه محمد الفاسي الذي التقى به في مكة المكرمة، وأخذ عنه الطريقة، وفي مطلعها يقول:
أمسعود جاء السعد والخير واليسرُ   وولت جيوش النحس ليس لها ذكرُ»(16).
      لقد وظف الأمير عبد القادر في شعره الذي يندرج ضمن هذا الباب الرمزية الصوفية بشقيها الغزلي، والخمري  وهو متأثر في ذلك تأثراً كبيراً بكبار المتصوفة في العالم الإسلامي. ومن الرموز التي بدت في شعره بشكل واضح وصف الخمرة، والحبيب أو(المحبة) بصورة عامة. فالأمير «لم يفرد للخمرة الحسية المادية قصائد ومقطوعات في ديوانه، ولم يذكرها بتاتاً، وإنما ذكر هذه الخمرة الإلهية التي وصفها وصفاً يكاد يكون شبيهاً بوصف ابن الفارض لخمرته التي اعتبرها هذا الأخير رمزاً من رموز المعرفة الإلهية، أو لمعرفة الحبيب الأزلي، أي واجب المطلق...
 إن قصيدة الأمير الصوفية التي ضمنها ذكر الخمرة تكاد تكون صورة طبق الأصل لقصيدة ابن الفارض، بيد أن الفرق الوحيد بينهما هو أن موضوع قصيدة الخمرة الإلهية فقط، أما قصيدة الأمير فيكون الموضوع الخمري جزءاً منها»(17).
        وقد تجلت الخمرة في شعر الأمير من خلال مجموعة من الصور من بينها: الخمرة المعتقة، والخمرة التي لا تكسر، والهجرة إلى الخمرة، والخمرة هي العلم، والخمرة هي الغنيمة الكبرى وغيرها من الصور التي تبدت فيها في قصائد الأمير.
     أما الرمز الغزلي فقد ظهر لنا في شعره من خلال مزجه بين موضوعين هما: الخمر والمحبة، ومن ذلك وصفه لليالي اللقاء متوجهاً توجها كلياً للحبيب، ويتحدث عن وصال الحبيب ولقائه قائلاً :
أوقات وصلكم عيدُ وأفراحُ    يا من هم الروح لي والرَّوحُ والراحُ
يا من إذا اكتحلت عيني بطلعتهم   وحققت في محيا الحُسن ترتاحُ
    وقد تجلى كذلك الرمز الغزلي من خلال جملة من العناصر، من أبرزها: رؤية الحبيب، والتوجه الكلي، وليالي اللقاء، وصبر المحبين، ومن خلال موقفه من أهل العشق الإلهي، إذ يقول في هذا الصدد:
ويحَ أهلَ العشق هذا حظُهُم     هلكى مما كتموا وصرحوا
خامساً: المدح:
      تغير المدح في شعر الأمير عبد القادر جملة من التغيرات، وذلك بتغير حياة الأمير، وتنوعها من مرحلة إلى أخرى، وقد اختلفت أنواعه باختلاف ظروف حياة الأمير، فبعد مرحلة التعمق في التصوف ظهر مدح سمي بالمدح الصوفي، ومما  قاله في هذا الجانب يمدح شيوخه بالكرم، والجاه، والجمال:
 وما زهرةُ الدنيا بشيء له يُرى     وليس لها-يوماً-بمجلسه نشرُ
 وقوله كذلك يمدح شيخه الشاذلي، ويؤكد أن حضوره يبعد الآلام، والأشجان، إذ يقول:
أهلاً وسهلاً بالحبيب القادم    هذا النهار-لدي-خيرُ المواسم
جاء السرورُ مُصاحباً لقُدومه    وانزاح ما قد كان قبل مُلازمي
طالت مساءلتي الرُّكاب تشوُقاً    لجمال رؤية وجهك المتعاظم
    في حين أن مدحه السياسي تميز بقلة العدد مقارنة مع بقية القصائد، وتميز باستقلاله عن الفنون الأخرى، كما تضمن مدحه السياسي أفكاراً دينية، وإشارات إلى ضرورة الدفاع عن شريعتنا الإسلامية قولاً وفعلاً .
خاتمة:
     من خلال رحلتنا مع عوالم الأمير عبد القادر الشعرية، تجلت لنا جملة من الصور التي يمكن أن نصفها بأنها كانت متباينة عن شعر الأمير عبد القادر، فنلفي الأمير عبد القادر مُكثراً في أغراض، ومُقلاً في أغراض أخرى، وعلى سبيل المثال: فقد أكثر في الفخر والحماسة، وبالمقارنة مع المدح نجده مُقلاً، وهذا يعود إلى طبيعة الأمير فهو ينتمي إلى عائلة شريفة ذات حسب ونسب، فمن الطبيعي أن يغلب الفخر على المدح، وكما تباينت الأغراض من حيث الكثرة والقلة، فقد اختلفت أساليب الأمير، وجودة قصائده من غرض إلى آخر. فالمتأمل في شعره يقف على جملة من الاختلافات التي ظهرت بشكل واضح، ففي أغراض يجد القارئ قصائد بديعة ساحرة، متينة السبك، جيدة الأسلوب، رقيقة الألفاظ، حسنة التركيب، وفي بعض القصائد يُلفي القارئ ضعفاً وركاكة في بعض الأساليب.
     ومهما يكن الأمر؛ يمكن القول: إن أهم ما يمكن أن يخرج به المتتبع للتجربة الشعرية عند الأمير عبد القادر الجزائري هو أنه كان صادقاً مخلصاً في كتاباته، فقصائده هي بمثابة انعكاس لأحداث حياته، فقد عبر عنها بكل صدق، وشفافية، فشعر الأمير يمكن اتخاذه كوسيلة لتوثيق حياته، نظراً لصلته العميقة بها، فقدم لنا صوراً عن ثقافة عصره، وأبرز لنا بعمق الكثير من القضايا التي سادت في بيئته.
الهوامش:
 (9)د.عمر بن قينة: المصدر السابق، ص:98 وما بعدها.
(10) د.فؤاد صالح السيد: المصدر السابق، ص:214ومابعدها.
(11)  د.عمر بن قينة: المصدر السابق، ص:95، وما بعدها.
(12) د.فؤاد صالح السيد: المصدر نفسه، ص:217.
(13)  رابح بونار: الأمير عبد القادر حياته وأدبه، المصدر السابق،ص:15 وما بعدها.
(14)د.فؤاد صالح السيد: المصدر نفسه، ص:260،258.
(15)المصدر نفسه، ص:261.
(16)  د.فؤاد صالح السيد: المصدر السابق، ص:229ومابعدها.
(17)د.فؤاد صالح السيد: المصدر نفسه، ص:228  و ما بعدها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق