الاثنين، 31 ديسمبر 2012

الجرثومة الحلزونية.. بكتيريا مثيــــرة للجدل أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية يستضيفون الجرثومة في معدتهم














ما زالت جرثومة المعدة الحلزونية تتربع على رأس قائمة الميكروبات المثيرة للجدل العلمي لأكثر من مائة عام، فعلى الرغم من أن أولى الملاحظات عن وجود بكتيريا حلزونية الشكل في بطانة المعدة وضعت على يد العلماء الألمان عام 1875، فإن الباحثين تجاهلوا وجودها اعتمادا على افتراضية أن عموم أنواع البكتيريا لا تستطيع العيش في الوسط الحمضي للمعدة، لذلك ظل الباحثون يتخبطون بين التوتر النفسي وتناول الشطة والفلفل الحار كأسباب محتملة لنشوء قرح المعدة والتهاباتها. وفى عام 1979 أكد العالمان الأستراليان باري مارشال وروبين وارين، الحاصلان على جائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا لعام 2005، نجاحهما في عزل بكتيريا حلزونية الشكل ذات ذيول متعددة تستطيع العيش محتمية بالغشاء المخاطي للمعدة البشرية الممتلئة بالإنزيمات الهضمية والأحماض القاتلة للميكروبات، وذلك نتيجة قدرتها على إفراز إنزيم يدعى «يورياز Urease»، المسؤول عن تحويل مادة «اليوريا» في الإفراز المعدي إلى مادة «الأمونيا» القلوية، والمسؤولة عن معادلة حمض المعدة. واستطاع الباحثان إنماء الجرثومة بالمختبر ودراستها بشكل أكثر جدية، مما أدى إلى معرفة أنها تتسبب في حدوث التهابات وتقرحات وسرطان المعدة. * «البوابة الحلزونية» * وأطلق اسم «هيليكوباكتر بايلوري H. pylori» على جرثومة المعدة بعد عام 1989، حينما أظهرت دراسات الحمض النووي اختلاف جيناتها عن جينات أنواع بكتيريا «كامبيلوباكتر»، واشتقت كلمة «هيليكو» من شكلها الحلزوني، و«بايلوري» من كلمة البواب، إشارة إلى البوابة فيما بين مخرج المعدة وبداية الاثنى عشر. وتوالت المفاجآت من العيار الثقيل، فقد أكدت الإحصائيات أن أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية يستضيفون الجرثومة في معداتهم.. إما كضيف ثقيل يعيث فسادا بجهازهم الهضمي، وإما كضيف خامل يستعمره. والغالبية العظمى من الحالات المصابة لا يعانون من أي أعراض، والبعض الآخر يعاني من أعراض متنوعة مثل ألم بفم المعدة أو الحموضة أو الغثيان المتكرر أو عسر الهضم وأحيانا فقدان الوزن. كما أكدت الأبحاث أن معظم حالات الإصابة تحدث خلال السنوات الأولى من العمر نتيجة انتقال الجرثومة عبر الطعام والشراب الملوث بجزئيات من البراز الآدمي. وتتنقل الجرثومة عبر المخالطة بين أفراد العائلة، كما يمكن أن تنتقل من القطط والكلاب إلى الإنسان. وتزداد فرص الإصابة مع انخفاض المستوى الاجتماعي والاقتصادي، لتصل في الدول النامية المزدحمة إلى نحو 90 في المائة، في حين تصل نسبتها بالدول المتقدمة إلى نحو 30 في المائة. وكشفت الأبحاث عن وجود عدة سلالات من الجرثومة تتباين في درجة شراستها ومقاومتها للدفاعات المناعية بالجسم، مما زاد من صعوبة الحصول على لقاحات فعالة للوقاية أو استئصال الجرثومة حتى الآن. وكشفت الأبحاث مؤخرا عن أدوار جديدة يمكن أن تلعبها الإصابة بالجرثومة الحلزونية في حدوث وتطور الكثير من الأمراض، مثل الشلل الرعاش أو نقص الحديد بين الأطفال أو الأنيميا الخبيثة الناجمة عن نقص فيتامين بي 12. وتباينت آراء العلماء حول استراتيجيات العلاج المختلفة، فقد أيدت بعض الدراسات عدم الاندفاع في استئصال جرثومة المعدة، إلا في حالات محددة، لدورها المهم في الإقلال من الالتهابات القولونية. كما أن الجرثومة على الرغم من أنها تتسبب في حدوث تقرحات وسرطان المعدة، فإن عدد المرضى الذين يعانون من القرحة الهضمية لا تتجاوز نسبتهم 15 في المائة، ولا يتجاوز عدد المصابين بسرطان المعدة نحو 1 في المائة نتيجة العدوى الجرثومية. * الشلل الرعاش * وقد ظهر أن الجرثومة الحلزونية تسبب الشلل الرعاش، ففي دراسة نوقشت بالاجتماع الحادي عشر بعد المائة للجمعية الأميركية للميكروبيولوجيا خلال شهر مايو (أيار) 2011، أكد الباحثون أن الإصابة المتعمدة لفئران تجارب في أواخر منتصف العمر بأحد سلالات الجرثومة الحلزونية يؤدي إلى ظهور أعراض مرض «الشلل الرعاش» خلال ثلاثة إلى خمسة أشهر من العدوى. ورجح الباحثون احتمال أن تلعب العدوى بالجرثومة الحلزونية دورا مهما في تطور وحدوث الشلل الرعاش المعروف باسم (مرض باركنسون) الذي يصيب الإنسان. واستخدم الباحثون ثلاث سلالات مختلفة من الجرثومة لأحداث العدوى في نماذج فئران صغيرة وأخرى مسنة، وقاموا برصد النشاط الحركي لجميع الفئران بالإضافة إلى قياس مستوي مادة «دوبامين» بالمخ. وأكدت النتائج أن الفئران التي أصيبت بالعدوى بإحدى السلالات عانت من قلة النشاط الحركي وانخفاض مستوى مادة «دوبامين» بالمخ بصورة واضحة، وكانت الفئران المسنة أكثر تأثرا. وفسر العلماء ذلك بأن التقدم في العمر يزيد من فرص الإصابة بالشلل الرعاش بين الفئران مثلما يحدث في الإنسان. وكشف الباحثون عن مادة كيميائية تفرزها الجرثومة تشبه في تركيبها مادة «الكولسترول» المعروفة، وأطلقوا عليها اسم «الكولسترول المعدل Modified cholesterol»، تلعب دورا مهما في أحداث سمية بالجهاز العصبي تتسبب في تطور وظهور أعراض مرض «الشلل الرعاش». والجدير بالذكر أن العلاقة بين التقرحات الهضمية بالمعدة والشلل الرعاش عرفت منذ أوائل الستينات من القرن الماضي قبل اكتشاف الجرثومة الحلزونية، كما أكدت الدراسات أن نسبة كبيرة من مرضى الشلل الرعاش يعانون من الإصابة بالجرثومة الحلزونية، وتتحسن أعراضهم قليلا بعد معالجتهم واستئصال الجرثومة من المعدة. كما أكدت دراسة أجريت في أوائل الثمانينات من القرن الماضي على سكان جزيرة غوام (Guam)، الواقعة في الشمال الغربي من المحيط الهادي ومعروف عنها معاناة الغالبية العظمى من سكانها بمرض الشلل الرعاش، أن بذور نبات «سيكاد Cycad» التي كان يستخدمها سكان الجزيرة في صنع الدقيق إبان الحرب العالمية الثانية تحتوي على مادة كيميائية لها تأثير سام على الجهاز العصبي، تشبه في خصائصها مادة الكولسترول المعدل التي تنتجها الجرثومة الحلزونية. ونبات سيكاد أو سيكاس كما يطلق عليه أحيانا، ويعرف أيضا باسم «الحفريات العارية»، عبارة عن شجرة تشبه النخيل إلى حد كبير.. وهو النبات الوحيد الباقي من فصيلة «السيكاسيات عاريات البذور»، ويستخدم حاليا ضمن نباتات الزينة في الحدائق والمتنزهات. وأكد الباحثون أن العلاقة بين الشلل الرعاش والجرثومة الحلزونية ترتبط بعدوى سلالات محددة من الجرثومة دون الأخرى، وطالبوا بإجراء المزيد من الدراسات لمعرفة تأثير العوامل البكتيرية والاستجابة المناعية التي تزيد من خطورة الإصابة وتطور المرض. * فقر الدم الخبيث * كما تسبب الجرثومة الحلزونية نقص الحديد والأنيميا الخبيثة. فقد أكدت دراسة نشرت خلال شهر مارس (آذار) 2011، في دورية طب الجهاز الهضمي وتغذية الأطفال، أن الأطفال المصابين بالجرثومة الحلزونية في سن ما قبل المدرسة يعانون من انخفاض مستويات الحديد بالدم، مقارنة بأقرانهم الأصحاء أو من سبق علاجهم لاستئصال العدوى الجرثومية. ورجح الباحثون استهلاك الجرثومة الحلزونية لعنصر الحديد بالجسم في حدوث نقص الحديد وتأثيراته السلبية على الأطفال في السن المبكرة، وطالبوا بالمزيد من الأبحاث لدراسة التأثيرات طويلة المدى للعدوى بالجرثومة الحلزونية واستنفاد مخازن الحديد بالجسم وإصابة الأطفال بأنيميا نقص الحديد، وتأثير ذلك على قدراتهم الإدراكية والسلوكية. كما أشارت دراسة أخرى نشرت خلال شهر يونيو (حزيران) 2010، في مجلة «العالم» للجهاز الهضمي، إلى دور الجرثومة الحلزونية في حدوث التهاب المعدة المناعي المصحوب بضمور الغشاء المخاطي «Autoimmune gastritis»، مما يؤدي إلى نقص امتصاص فيتامين بي12، والإصابة بالأنيميا الخبيثة. وأكد الباحثون أن معالجة الالتهاب المعدي الضموري المصحوب بأنيميا نقص فيتامين بي12 لن تجدي دون معالجة للجرثومة الحلزونية واستئصالها بشكل جذري. * تقليل التهاب القولون * لكن ظهر أن الجرثومة الحلزونية تقلل من التهابات القولون. وفي دراسة مثيرة نشرت على الموقع الإلكتروني لجامعة ميتشغان خلال شهر مايو 2011، أكد الباحثون على فائدة وجود الجرثومة الحلزونية بالمعدة للإقلال من حدة الالتهابات القولونية بفئران التجارب. وقام الباحثون بإحداث عدوى متعمدة بالجرثومة الحلزونية وبكتيريا «إي كولاي E coli»، وأظهرت النتائج أن الفئران التي تلقت العدوى بالجرثومة الحلزونية كانت أقل معاناة من الالتهابات القولونية ونقص الوزن والإسهال، مقارنة بالفئران التي تلقت العدوى ببكتيريا «إي كولاي». والجدير بالذكر أن دراسة سابقة نشرت خلال شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2010 في مجلة أمراض القولون الالتهابية، أكدت أن جرثومة المعدة تلعب دورا مهما في وقاية القولون من الالتهابات الناتجة عن بكتيريا «السلمونيلا»، وارجع الباحثون قلة حالات الإصابة بأمراض القولون الالتهابية في بعض المناطق مثل آسيا وأفريقيا إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالجرثومة الحلزونية. ويرى الباحثون أن هذه النتائج تؤكد على ضرورة عدم التسرع لاستئصال جرثومة المعدة في غياب المضاعفات التي تسببها، مثل التهابات وتقرحات المعدة، كما تؤكد على ضرورة تطوير وإنتاج لقاحات فعالة مضادة للجرثومة الحلزونية. * لقاح مضاد * ونظرا لتزايد مقاومة الجرثومة الحلزونية للمضادات الحيوية وارتفاع تكلفة العلاج وانتكاس العدوى، بالإضافة إلى الصعوبة التي يواجهها الجهاز المناعي بالجسم في استئصال الجرثومة، يبذل الباحثون جهودا كبيرة لإنتاج لقاحات وقائية وعلاجية للجرثومة الحلزونية.. لكنهم لم يتمكنوا حتى الآن من تحديد المستضدات Antigens المناسبة لتحفيز الجهاز المناعي، أو الطريقة المثلى لإعطاء اللقاحات. وفي دراسة نشرت خلال شهر فبراير (شباط) 2011 في مجلة «Vaccine»، أكدت تمكن العلماء من تطوير لقاح جيني مضاد للجرثومة الحلزونية (HelicoVax)، يحتوي على عدة مستضدات، ويمكن إعطاؤه عن طريق الأنف أو الحقن بالعضل. وأكدت النتائج أن إعطاء التطعيم عن طريق الأنف يؤدي إلى نتائج أفضل من إعطائه عن طريق الحقن بالعضل. كما أكد الباحثون أن استخدام اللقاحات متعددة المستضدات يؤدي إلى تنشيط واسع المدى للجهاز المناعي بالجسم للإقلال من مستعمرات الجرثومة الحلزونية بالمعدة أو التخلص منها نهائيا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق