الاثنين، 31 ديسمبر 2012

المجاهدون الصوفية ( 1 ) الأمير عبدالقادر الجزائري

بسم الله الرحمن الرحيم


... وفي الجزائر ورغم تفرق القبائل والإمارات في هذا البلد إبان العهد العثماني ، إلا أنهم سرعان ما توحدهم كلمة الجهاد في سبيل الذود عن حرمة الإسلام من تهديد المد الصليبي ، (( وإن الصوفية كانت في الغالب هم الذين يغذون تلك الوطنية الدينية )) (1)

وفي خلال الاحتلال الفرنسي للجزائر لاحظ الخبراء الفرنسيون أن زعماء حركة الجهاد التي تولت محاربتهم ، انطلقت من الطرق الصوفية ، وخاصة المرتكزة منها حول الزوايا ، التي كانت منذ قرون تعتني بالعلم والتصوف ، (( وعند الخطر تدق طبولها ، وتسفر عن وجهها ، وتتعاون للدفاع عن البلاد ، وصد العدو المشترك . ومع أن الحماس الديني والوطني مشترك بين جميع فئات الشعب ، فإنما كان دور الطرق الصوفية ، إعطاء القيادة ، وتوحيد الكلمة )) (2)

وقد صور أحمد توفيق مدني في كتابه [تاريخ الجزائر] دور هذه الطرق فقال : إنها استطاعت أن تحفظ الإسلام في هذه البلاد في عصور الجهل والظلمات ، ولولا تلك الجهود التي بذلوها ، لما كنا نجد الساعة في بلادنا أثرا للعربية ، ولا لعلوم الدين .
ومن أبرز تلك الطرق في القرن الماضي القادرية والرحمانية .

وقد أنجبت الأولى :

الأمير عبد القادر الجزائري (1807 - 1885 م) الذي يعد بلا منازع شيخ المجاهدين في العص الحديث ، فضلا عن كونه من كبار صوفية عصره . وقد ترجم له معاصره عبدالرزاق بيطار ، ترجمة عارف بفضله ونبله ، فقال : ( هو الهمام الكامل العارف ، والإمام المتحلي بأعلى العوارف ، الراسخ القدم في العلم الإلهي ، والكاشف عن أسرار الحقئق حتى شهدها كما هي ... ومع ذلك فهو فارس ميدان اليراع ، وليث الرماح ، فهيهات أن يصفها الواصف ، وإن أطال في الكلام ... ) (3)

نشأ الأمير عبدالقادر في بيت علم ودين ، وصحبه والده في رحلة طويلة ، إذ زار في بدايتها الأماكن المقدسة لأداء فريضة الحج ، ثم سار إلى بغداد ، لزيارة ضريح جده عبدالقادر الجيلاني ، ونال هناك ممن اجتمع بهم الطريقة القادرية ، ثم قصد الحجاز مرة ثانية ، وتشرف وتبرك بزيارة الرسول الأعظم صلى الله عليه وىله وسلم ، وأصحابه الغر الميامين ، كما التقى مع العارف بالله محمد الفاسي ، فأخذ عنه الطريقة الشاذلية ، ونظم قصيدة يمتدح بها شيخه ، ويثبت ولايته .

وأخيرا عاد إلى بلاده ليجد الجحافل الجرارة من المستعمرين الفرنسيين وقد بدأت تداهم الجزائر ، فاجتمع الأشراف ، والعلماء ، وأعيان القبائل ، عند شجرة عظيمة ، وهناك بايعه الجميع على تقلد الإمارة ، والزعامة الجهادية ، فذهبت البشائر في أقطار الأرض (4) . ووضع الأمير لنفسه خاتم نقش عليه :

ومن تكن برسول الله نصرته = إن تلقه الأسد في آجامها تجم

حارب الأمير الفرنسيين بلا هوادة ، وقام بأدوار مدهشة حيرت أعداءه . مثل ( عدم النوم خلال أسابيع ، وندرة إغماد سيفه ، حتى استحق ما قيل عنه ، من أن سرجه كان عرشه ) (5)

وبقي في كفاحه مدة ثمانية عشر عاما ، اضطر بعدها مكرها مغادرة الجزائر ، وتسليم راية الجهاد طاهرة مطهرة إلى العب ، لمواصلة الجهاد في ميدان آخر ، له رجاله وأبطاله أيضا .
واهتزت لقدومه دمشق ، التي اختارها لتكون مقرا له ، واستقبل فيها استقبال الفاتحين ، وقرأ على علمائها شرح صحيح البخاري ، وأشهر كتب التصوف ، كما ألف فيها عددا من الكتب أشهرها كتاب [المواقف] في الوعظ والتصوف والإرشاد . (6)

وكانت وفاته فاجعة في قلوب الجميع الذين ألفوه وأحبوه ، ودفن بوصية منه (7) في سفوح قاسيون ، لصيقا لابن عربي الحاتمي ، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ...

ونقل رفاته إلى الجزائر سنة 1966 م ، في موكب رسمي وشعبي مهيب . وصف المؤرخ الفرنسي برنار الأمير عبدالقادر فقال : ( كان أنيقا جميلا شجاعا وكان متدينا عن إخلاص ومن صميم الفؤاد ولم يطلب الإمارة لإشباع أطماع نفسية بل ليقود أمته في طريق الفلاح ، وكان قاسيا عند اللزوم وحيما عند الاقتضاء وكان من أجل وأبرز أعدائنا في الجزائر )

وممن حضر معظم وقائع الأمير الحربية ، ابن أخيه محمد المرتضى الجزائري ، شيخ مشايخ الطريقة القادرية المتوفى في بيروت سنة 1901 م (8)

وكذلك ابنه محي الدين بن عبدالقادر المتوفى 1917 م . وله شعر لطيف ، بعضه على نمط القوم ، قال يمتدح الشيخ الأكبر ابن عربي :

لله در الصالحية مذ بدت = محفوفة بحدائق النوار
حوت المفاخر إذ غدت للحاتمي = دارا فأضحت مطلع الأنوار(9)

ومن المفيد ذكره ، أن الثورات توالت بعد حرب الأمير ، وكان أشدها وأعنفها التي قامت سنة 1871 م بزعامة الحاج محمد المقراني والشيخ :
محمد الحداد شيخ الطريقة الدرقاوية (10) الشاذلية أو الطريقة الرحمانية الخلوتية كما ورد في بعض المصادر . وهذا لا يهم ما دام ليس ثمة خلاف بين الطرق في الأسس والمبادئ وإنما الفرق في نوع الأذكار والأوراد يواظب عليها المريد من أتباع كل طريقة .

وكلهم من رسول الله ملتمس = غرفا من البحر أو رشفا من الديم


... يتبع إن شاء الله


(1) مقال: الحضور الصوفي في الجزائر على العهد العثماني ، مجلة التراث العربي العدد 57 ت 1 1994
(2) الحركة الوطنية الجزائرية 1/298
(3) حلية البشر 2/883 ، وانظر : الحدائق الوردية في أجلاء السادة النقشبندية (ترجمة الأمير عبدالقادر الجزائري)
(4) تحفة الزائر في مآثر عبدالقادر وأخبار الجزائر 1/95 وما بعدها ، وانظر : حلية البشر 2/884 وما بعدها
(5) مقال : عبدالقادر الجزائري والوحدة الوطنية ، مجلة الدوحة 63 العدد 65 لعام 1981
(6) وهو من ثلاثة أجزاء يقول في مقدمته : ( هذه نفثات روحية وإلقاءات سبوحية بعلوم وهبية خارجة عن أنواع الاكتساب والنظر في كتاب ... وطريقة توحيدنا طريقة الكتب المنزلة وسنة الرسل المرسلة التي كانت عليها بواطن الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين والسادات العارفين وإن لم يصدقوا الجمهور فعند الله تجتمع الخصوم ... )
ويقول الأمير عبدالقادر في الموقف 23 : ( إن القوم رضي الله عنهم لما استقامت ظواهرهم وبواطنهم على الطاعات واتباع السنة قولا وعملا وحالا ، قوي نور إيمانهم ... ظهرت لهم أشياء ظهور السمن باطنا في اللبن عندما خض ... ) .
وللأمير ديوان شعر منه قوله :

جمالنا بعلوم أنت تجهلها = بها حبانا الذي أهدى وجملنا

(7) مقابلة شفهية مع الأميرة بديعة الجزائري الحسني حفيدة الأمير عبدالقادر الجزائري .
(8) تاريخ علماء دمشق 1/189
(9) حلية البشر 3/1429
(10) مقال نشر في مجلة حضارة الإسلام العدد 65 لعام 1960 عد خاص عن الذكرى السابعة لثورة الجزائر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق