بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا وحبيبنا وشفيعنا ومولانا محمد بن عبد الله وآله الطيبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ..


يقال :


لا يعيش الإنسان إلا بعصبية أيديولوجية ...


أي عصبية عقائدية ..


والعصبية يقصد بها هنا الرغبة في التضحية من أجل العقيدة والعمل الدؤوب من أجل العقيدة بهدف إقامتها كروح تسري في أوصال الواقع ... أو كدين ودولة ...


هذا المقال يأتي كحلقة ثانية ضمن حلقات عدة رسائل سيكتبها الفقير في المنتدى العام ..


كان المقال الأول بعنوان ( نحن نحتاج لأفق جديد .. مقال حول نصرة الأمة ) ..


يوضح المقال الأول كيف أننا نحتاج حقاً لنهضة فكرية ..


وهذا المقال يوضح كيف أننا نحتاج حقاً لنهضة روحية .. وفكرية أيضاً ..


ليس هناك من شك في أن ربع القرن المنصرم الفائت كان للوهابية فيه أثرهم الكبير .. سلباً أو إيجاباً ..


لست هنا أقيم نفسي كمحاسب على الفترة السابقة .. لكن سأنتحل دور المراقب إلى حد ما لأعرف ما هي الإيجابيات والسلبيات ..


الإيجابيات :

وقف الفكر الوهابي كدرع حصين في مواجهة بعض الممارسات غير الصحيحة التي يفعلها جهلة المسلمين في عدة أصقاع من الأرض ..

مع أن المشكلة هي أنهم اتهموا الناس بالشرك والكفر .. وهذه مصيبة ما بعدها مصيبة .. لكن على الأقل هناك شيء إيجابي ولو 1% ..


ثانياً ً : وقف الفكر الوهابي كدرع حصين في مواجهة الدعاوي الحادة التي تبعثها العاطفة الإنسانية التي تجعل الإنسان يخرج أحياناً عما هو معقول ..


كمثال : شاهد الفقير رجلاً من شرق آسيا يتمسح بماسورة حديدية تنقل ماء زمزم من البئر إلى أماكن أخرى .. وفعلاً : الماسورة ليست لها أي بركة خاصة فيها .. والتمسح بها أمر أتعجب منه كثيراً .. وليس لدينا شك في أن هذا الرجل الكريم لم يتمسح بالماسورة إلا لأنه يعتقد أن لها بركة معينة أياً كانت فكرته حول هذه الماسورة الحديدية .


ثالثاً : أخرج الفكر الوهابي رجال وقفوا جنباً إلى جنب مع إخوانهم المسلمين من الشيعة والصوفية في أفغانستان والبوسنة والشيشان وكشمير والفلبين وجنوب السودان وشمال شرق إندونيسيا قاموا بخدمة الجهاد الإسلامي ومحاربة أعداء الله من الصليبيين واليهود والوثنيين بشكل كبير .


لكن المشكلة هي أن كثيراً من هذه المحاضن الفكرية والتربوية أخرجت فكر الخوارج من أعماق التاريخ لتجعله واقعاً معاصراً .


السلبيات :

تكفير الأمة الإسلامية .. فلا عقيدة صحيحة إلا عقيدة بن تيمية .. وأي إنسان لا يعترف بتقسيم التوحيد في عقيدته خلل ..

ثانياً : حمل المعاني فوق ما تحتمل : فكلمة مثل ( يا سيدي يا رسول الله يا كاشف الكربات ) شرك أكبر مخرج من الملة .. وفيها تسوية للمخلوق بالخالق ..

وهذا أمر ليس صحيحاً ..

فالله سبحانه وتعالى وصف البشر في كتابه الكريم بما وصف به نفسه ..


فقال عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم )

والله هو الهادي .

وقال عن من يمسك بأموال اليتامى : ( وارزقوهم منه ) أي اعطوا اليتامى من أموالهم .. والله هو الرزاق .


وقال عن سيدنا رسول الله أيضاً : ( بالمؤمنين رؤوف رحيم ) والله هو الرؤوف الرحيم ..


وأيضاً : ( رسولاً شاهداً عليكم ) والله هو الشاهد .


وفي الحديث النبوي الشريف : ( من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ) والله هو مفرج الكربات .


وفي الحديث النبوي الشريف : ( أسألك مرافقتك في الجنة فقال أو غير ذلك فقال هو ذلك فقال فأعني على نفسك بكثرة السجود ) ولم يقل سيدنا رسول الله للصحابي :

يامشرك .. أنت تسألني ما لا يقدر عليه إلا الله .

وفي مدح سيدنا العباس لسيدنا رسول الله كلمات مثل : ملاذنا وعصمتنا وركننا ..


فكل كلمة تخرج من المسلمين إنما تحمل ككفر وشرك .. والحقيقة أن ننبه على بعض الألفاظ التي فيها تجاوز دون اعتقاد أو مخاطبة لمسلمين بكفر أو شرك .


ثالثاً : عاطفة جياشة أبرزت فكر الخوارج كما مر سابقاً . وهي أيضاً من الدعاوي الحادة التي تخرجها العاطفة والتي تجعل الإنسان يخرج عن الشريعة الصحيحة والسنة المطهرة لكنها في كفة الوهابية هذه المرة .


رابعاً : وهو أمر خطير .. برود في العاطفة الإيمانية وبعد إلى حد ما عن الارتباط بالله جل جلاله ..

حيث لدينا آلاف القصص عن مخالفات شرعية وعقائدية خطيرة نبعت من هذه المدرسة ..

وأمور كثيرة جداً انتشرت بين الوهابية ومدعي السلفية ..


ويعلم الله أن لنا إخواناً من السلفية والوهابية نحبهم في الله ونشهد الله على صلاحهم ونشهد لهم بالخير وحسن الخلق وسرائرهم إلى الله ولا نزكي على الله أحداً ..


وكل امرئ سيقف أمام الله ليس بينه وبينه ترجمان ..


لكن نتحدث هنا بشكل عام .


تكاد تكون أحداث الحادي عشر من سبتمبر وبروز فكر الخوارج وجماعات العنف خصوصاً في المملكة العربية السعودية ووجود قدر من التنوير الروحي والعاطفي والفكري منعطفاً لا بد أن نمر عليه ونقف عنده ..


الشيخ توفيق الصايغ من مشايخ جدة في رمضان في إحدى السنوات توسل بجاه الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم .. هذا كمثال على أن هناك تنوير فكري ..


والآن دعونا من الإيجابيات والسلبيات لننتقل للفقرة الأخرى في المقال ..


علينا أن نقف الآن لنحدد أين المسار لهذه الأمة ..


من وجهة نظر شخصية ومن وجهة نظر يرى الفقير أنها عقلانية ..


فلكل طرف ( الشيعة - الصوفية - الوهابية ) فوائد وعليها مآخذ ..


من روائع الوهابية مثلاً : حرص على اتباع الطريقة السنية .. لا تنسوا أن هناك مآخذ رهيبة وشديدة جداً على الوهابية ..


من روائع الصوفية مثلاً : وجود ارتباط كبير بالله في الباطن والظاهر وبرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الباطن والظاهر وأخذ طريقة معتمدة عن شيخ معتمد طبقة عن طبقة إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... لا تنسوا أن هناك مآخذ كبيرة أيضاً على الصوفية ..


من روائع الشيعة مثلاً : وجود محبة هائلة لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحرص على اتباع طريقتهم .. لا تنسوا أن هناك مآخذ كبيرة أيضاً على الشيعة ..


شخصياً : أرى أن الصوفية هي الطريقة والأسلوب المرشح لأخذ زمام المبادرة في الأمة للمرحلة القادمة ..


لماذا ؟ أهو لأنني أحب الصوفية فحسب ؟ لا ..


هناك سبب هو :

أن طريق النهضة للأمة لابد له مما ذكرناه سابقاً : عصبية أيديولوجية .. ووضحنا معنى هذه العبارة ..
لكن هناك لفظ أجمل من ( عصبية أيديولوجية ) هو ( فكر وروح للفر والمجتمع ) ..

الطريقة الصوفية مرشحة لأن تكون عصب النهضة للأمة بسبب انصياعها أكثر للفكر والروح ..


نهضة الأمة الإسلامية تحتاج ارتباطاً قوياً بالله ، وثقة قوية بالله ، وبرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبالشريعة والسنة المطهرة .. وهذه أمور موجودة لدى الصوفية أكثر من غيرهم ..


على المشايخ الصوفية أن يراعوا ماهو مشروع وما ليس بمشروع ( والفقير ليس هو من يعلم المشايخ وحاش لله .. لكنه مقال فكري على أية حال ) ..


فعلى سبيل المثال : أعجبت جداً بكتاب للحبيب زين بن سميط يوضح فيه كثير من الأخطاء التي يرتكبها بعض العامة مثل كراهة مس القبور وحرمة الطواف حولها وكراهة تقبيلها والتمسح بها ..


فالحبيب زين لم يكن من طراز الصوفية الذين يجعلون كل شيء جائزاً .. بل كان حقاً وقافاً عند أقوال رسول الله والعلماء من سلف الأمة ..

فقال بصراحة : العلماء كرهوا ذلك .. وهذا محرم .. إلى غير ذلك .

أيضاً هناك مسألة يرى الفقير أن المنهج الصوفي عموماً وقف منها موقفاً متطرفاً تماماً كما وقفت الوهابية موقفاً متطرفاً آخر ..


وهي مسألة سد الذرائع ..


الوهابية أخذت بسد الذرائع فجففوا العاطفة الإيمانية واعتقدوا أن المسلمين انقلبوا مشركين ووثنيين .


الصوفية ( في بعض الأحيان ) : أنكرت هذا التشدد في سد الذرائع ووقفت على الجانب الآخر فجعلت الكثير مما هو غير جائز شيئاً جائزاً وإن لم تقل صراحة أنها تجعل مما هو غير جائز أشياء جائزة .


من المسائل التي على الصوفية أن توجه لها عناية خاصة ويا حبذا لو أصدرت كتاباً عليه تعقيب أو تقديم العديد من العلماء المعروفين بالتصوف في أقطار العالم الإسلامي :


مسألة القبور ..

هل الأجساد التي اشتملت على أرواح الصالحين فيها بركة حتى بعد وفاتهم ؟
هل الأماكن التي يدفن فيها الصالحون والأولياء لها بركة خاصة وهي أفضل من غيرها ؟
هل يجوز التمسح بالقبر ؟
هل يجوز تقبيل القبر ؟
هل يجوز الطواف حول القبر ؟
هل تجوز الصلاة عند القبر ؟
هل يجوز بناء مسجد على القبر ؟
هل يجوز البناء على القبر قبة أو مسجداً أو حائطاً أو غيرها ؟
هل يجوز خدمة هذا البناء على القبر ؟
هل يجوز طلب شيء من الأموات ؟
هل يجوز طلب شيء منهم مما يقدر عليه الأحياء ؟
هل يجوز طلب شيء منهم مما لايقدر عليه إلا الله ؟
هل يجوز أخذ شيء من تربة أو أحجار أو الأشجار حول القبر لمكان آخر البيت أو غيره للتبرك بها ؟

على كل هذه المسائل أن توضح بالقول العلمي ..

أيضاً فإن على الكاتب أو الباحث أن يتنبه لمسألة سد الذرائع .. هل يمكن أن يفتى بعدم جواز شيء لأن الناس لو اعتادت فلسوف تخالف الشريعة وتنشئ أجيال تتربى على مخالفة الشريعة ( وكما يقول الوهابية : ينقلبون إلى وثنيين يعبدون القبور ؟ ) لكن نحن نقول : ينقلبون إلى مخالفين للشريعة بدعوى العاطفة وتعظيم الصالحين ؟

الجهد الذي قدمه العلامة السيد محمد علوي مالكي في كتابه مفاهيم يجب أن تصحح جهد مشكور ..


لكن نحن بحاجة إلى توضيح أكبر وتخصص أكثر دقة ..


أيضاً هناك مسألة أخرى على الفكر الصوفي التنبه لها وهي :

مسألة الشرك والعبادة :
ماهو معنى العبادة ؟
ما هو معنى الشرك ؟
كيف يكون الإنسان مشركاً والعياذ بالله ؟
ما هي أعمال الشرك والكفر بالله والعياذ بالله ؟
الكفر العملي والكفر القولي .. هل هناك شيء بهذا الاسم ؟
وهل الكفر العملي والكفر القولي يخرجان من الملة ؟
وما واجبنا تجاه هذه الأنواع من الكفر ؟

وهكذا ..


أمر آخر على الفكر الصوفي أن ينتجه إذا أراد أن يتبوء المكانة في الأمة الإسلامية هي :

الفكر الاستراتيجي والتخطيط وطرق النهضة لهذه الأمة الإسلامية .

على هذه الكتب أن تخرج فكراً جديداً يثمر عملاً مختلفاً .. لأن العمل هو ما يحرز النتائج في النهاية .. وإذا أردنا نتيجة مختلفة فعلينا أن نفعل أفعالاً مختلفة .. إذا أردنا أن نفعل أفعالأً مختلفة فعلينا أن ننتهج فكراً جديداً ..


أود أن تثمر هذه الكتب فكراً جديداً حتى لدى العلماء والمشايخ ..

لا عيب في ذلك .. العلماء الكبار رجعوا عن بعض أقوالهم وأصدروا الكتب في ذلك ..
الإمام الشافعي كان له مذهبين واحد في العراق وآخر في مصر ..
الإمام أحمد بن حنبل رجع عن القول ببدعة قراءة القرآن عند قبر الميت وأجازها ..
الإمام الغزالي غير مجرى حياته بعد خروجه من بغداد وذهابه إلى دمشق ..

وهكذا .. لا عيب في أن يعود شيخ طريقة مثلاً عن بعض أقواله أو آراءه في الأصول والفروع

( في العقيدة أو الفقه )
تماماً كما هو ليس عيباً أن يعود شيخ وهابي أو شيعي عن بعض أقواله وآراءه في الأصول والفروع .

لدى الجميع أخطاء .. والخطأ في مسائل العقيدة أمر ممكن.. وهو ليس بشرك كما يعتقد الكثيرون ..


من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله هو مسلم.. ومن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره مسلم .. وغير ذلك من أنواع العلوم والمعرفة والممارسات يمكن الرجوع عنه ..


هناك من يصور الصوفية على أنهم وثنيين مشركون عباد قبور .. وهذا خطأ ..

هناك من يصور الوهابية على أنهم كارهون للرسول وخرجوا للناس بعقيدة جديدة .. وهذا خطأ ..
هناك من يصور الشيعة على أنهم كفرة .. وهذا خطأ ..
هناك من يصور الصوفية على أنها حق مطلق .. وهذا خطأ ..
هناك من يصور الوهابية على أنها حق مطلق .. وهذا خطأ
هناك من يصور التشيع على أنه حق مطلق .. وهذا خطأ ..

ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمت ربك لأملئن جهنم من الجنة والناس أجمعين ..


لكل طرف إيجابياته وسلبياته ..

تذكروا أننا نحتاج لكفر جديد حتى نثمر أمة حقيقية ..

هناك من يقول : منذ متى والوهابية عندهم حق ؟ ومنذ متى والشيعة عندهم خير ؟ ومنذ متى والصوفية لديها علم ؟


هناك من يقول : أنت تحب الوهابية ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله .

أنت تحب الصوفية ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله .
أنت تحب الشيعة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله

وكأن الله سيحاسبنا على أساس انتماءاتنا الفكرية ..


الله يحاسب العبد على الصلاة .. فإن صلحت صلح سائر العمل وإن فسدت فسد سائر العمل ..

الله يحاسب العبد على نيته .. وما حديث : أول من تسعر بهم النار مجاهد وقارئ قرآن ومتصدق ببعيد ( أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم )
وآية : ( إلا من أتى الله بقلب سليم ) ..

الله يحاسب العبد عن أربع : عن عمره وشبابه وماله ( ورابعة لا تحضرني الآن على الرغم من شهرة الحديث ومعرفة الجميع به لكن جل من لا يسهو ) .


نحتاج أن نعرف حقاً حدودنا في التعامل مع الله ومع الأولياء ومع القبور ومع مفهوم العبادة والشرك ..


ليس الخطأ حليف الآخرين فقط .. لدينا أخطاؤنا ..

ولسنا الأحلاف الوحيدين للصواب .. للآخرين صواب أيضاً ..

لكن العاطفة الروحية العالية التي يخرجها الفكر الصوفي من شأنها أن تعيد للأمة مجدها ..


وأروع وأقوى وأفضل مثال بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نهضة الأمة من كبوتها بالتصوف هو المثال الرائع ( ولا أقول هذا مجاملة لأن قراء الغريب صوفية ) :


الإمام عبد القادر الجيلاني ..


الذي كان وقافاً عند حدود الشريعة .. وإماماً من أعظم أئمة المسلمين عموماً والصوفية .

وانتهت إليه مشيخة المذهبين : الشافعي والحنبلي .. وهو حنبلي في الأساس رضي الله عنه ورحمه .



أعلم أن الفقير سيجد البعض غاضباً لما كتب هنا ..

والبعض معجب ..
والبعض محايد ..

أياً كان الأمر ..

فإنني أرحب بمشاركة الإخوة ..

ويعلم الله أنني لم أكتب في هذا المنتدى إلا لأنني أحبه وأحب أهله ..


وجزاكم الله تعالى خيرالجزاء


وشكراً جزيلاً .