شهد يوم 20 من أبريل/نيسان بالمعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط مائدة مستديرة من تنظيم مؤسسة محمد عابد الجابري للفكر والثقافة بعنوان: ‘محمد عابد الجابري الصحافي والمثقف وعلاقته بالشأن العام’. وذلك في إطار أنشطتها الدورية.
وافتتح عبد الله ساعف رئيس المؤسسة النقاش الذي ساهم به اساتذة جامعيون وباحثون بعروض عددت اهتمامات شخصية المفكر المغربي محمد عابد الجابري، بدء بتجربته الفكرية ثم الصحافية ووصولا إلى علاقاته بعدة شخصيات وطنية أبرزها المهدي بن بركة.
من بوعرفة إلى فكَيكً، ومنها إلى وجدة شرق المغرب كانت مراحل الانفتاح المكاني والثقافي للجابري على محيطه. سيرته لم تغطي سوى عشرين سنة الأولى من حياة المفكر المغربي، حيث كان يعزم إصدار جزأين آخرين، وهي تربوية بالأساس تذكر المراحل التعليمية الأولى التي مر بها حيث عرف في وجدة لأول مرة المقهى والمذياع، هناك حيث تم نفي والده لمواقفه الوطنية المناهضة للاحتلال الفرنسي للمغرب.
في سنوات 1951 و1952 كان الجابري ضمن مجموعة من جالية قوامها تلاميذ فكَيكَ الذين كانوا يدرسون في المرحلة الثانوية ويعملون في الآن ذاته في مساعدة الخياطين التقليديين حيث يبيتون لياليهم في محلات عملهم. ويعيشون في ظروف صعبة لانعدام السكن المدرسي إلى أن تم بناء مؤسسة داخلية تأويهم. وكانوا يدرسون ليلا على أضواء أعمدة النور العمومية. إلى أن جاءت موجة اعتقالات مكثفة شملت أساتذة المدرسة ومديرها فاختار الجابري قسرا الانقطاع عن التعليم ليصبح مساعد معلم في النظام الفرنسي. ثم حصل بعد ذلك على شهادة الثانوية موسم 53-54 كطالب حر، وبعدها على شهادة في الترجمة خولته العمل في قسم للترجمة سنة 1956. وفي السنة الموالية تم البدء بأشغال بناء طريق الوحدة لفك العزلة عن المناطق الشمالية وربطها بباقي الأراضي المغربية المحررة.
هناك نال الشاب محمد إعجاب مهندس المشروع المناضل والزعيم الوطني المهدي بن بركة، حيث دعاه الأخير إلى القدوم إلى مدينة الرباط للاشتغال في جريدة العلم في نفس السنة. وفي 1958 قرر الجابري السفر إلى سورية قصد تدريس الرياضيات، وكانت فترة الخمسينات قد شهدت هجرة عدد من المثقفين المغاربة إلى كل من مصر والعراق بالإضافة إلى سورية وقبلهم إلى القدس في ثلاثينيات القرن لماضي. إلا أنه عاد بعد ثلاثة أشهر فقط للاختلاف البين في لغة وتقنيات مناهج التدريس هناك عن ما عليه الأمر في المغرب. وصادفت عودته إلى المغرب افتتاح جامعة محمد الخامس بالرباط.
عمل الجابري في جريدة العلم تحت إشراف من بن بركة الذي تأثر الصحافي الشاب بشخصيته وبشخصية أحمد بن سودة كذلك، حيث بدأ في بلورة تجربته الصحافية والتربوية بالأساس، وهو الطفل الذي كان يشارك والده قراءة الصحف الوطنية وعلى رأسها العلم ابتداء من سنة 1946. وفي سنة 1958 نفسها كان الجابري أول من حصل على الإجازة في الفلسفة من جامعة محمد الخامس.
وكانت للجابري محاولات في الأدب، وجد بعضها سبيله إلى النشر، بالإضافة لأخرى في الشعر، لكن أغلبها ضاع. وفي سنة 1958 تنتهي روايته لسيرته ‘حفريات في الذاكرة من بعيد’ ليبقى للقراء فقط ما عرفه ونقله عنه المقربون منه وطلبته. وبعد انقسام حزب الاستقلال سنة 59 انضم الجابري إلى عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
كانت سنوات الستينات سنوات عطاء زاخر للجابري مع ظهور مجلة ‘أقلام’ سنة 1963، إلى أن ظهرت مجلة ‘فكر ونقد’ في 1997. كما نشر الجابري عدة دراسات في مجلات لبنانية نظرا لهامش الحرية الكبير الذي كانت تتمتع به. حيث اشتهر الجابري بسياسة الملفات، والتي كان من بين مواضيعها: العولمة والمسرح والخطاب وغيرها من الملفات الفكرية والثقافية الكبرى. وقد كان الراحل غزير الإنتاج، حيث بلغ معدل إنتاجه في إحدى مراحل حياته كتابا كل شهر.
بهذا تكون الصحافة قد استفادت من الجابري بصفته مفكرا مقتدرا، حيث وجدت التجربة الفكرية والفلسفية طريقها إلى الإنتاجات الصحافية لمحمد عابد الجابري متمثلة في كتابات رصينة. ومما قد يفسر لجوءه إلى الصحافة تكوينه السياسي والوطني، إضافة لإيمانه بديمقراطية المعرفة. باعتبار الصحافة وسيلة تنويرية وتواصلية.
واتخذ محمد عابد الجابري من فلسفة ابن خلدون وابن رشد أسسا لبناء صرح فكري شامخ، ركز قبل إنشاءه على ‘تقليب التربة الثقافية’ عن طريق تحديد المفاهيم الفلسفية الكبرى كالعقل والحرية. حيث حاول برؤيته تلك أن تتناول الفلسفة، أكثر فأكثر، ما هو معاش. مما سما بتجربته الفكرية التي ما تزال تدرس اليوم في عدة مدارس وجامعات عربية.
وأكد الكاتب العام لمؤسسة محمد عابد الجابري للفكر والثقافة جمال بن دحمان أن شخصية الجابري وحضوره الفكري يطرحان نقاشا حول شخصيته الصحافية، مبرزا أن النقاش النظري حول مفهوم الصحافي الذي قد يبدو محسوما لا يكون كذلك، مستعرضا أسماء شخصيات مغربية جمعت بين الصحافة والسياسة والنضال الاجتماعي أمثال عمر بن جلون وعلي يعتة وعبد الرحمان اليوسفي وغيرهم. وقال انهم هم جيل من الصحافيين لم يكونوا فقط ممارسين، فقد عكست تجاربهم اهتمامات المثقف الفكرية والنضالية والسياسية.
عمل المفكر محمد عابد الجابري في عدة منابر صحافية منها: العلم والتحرير والمحرر. بالإضافة لإدارته عدة مجلات والمساهمة في إدارة أخرى كان آخرها مجلة فكر ونقد وكتب الراحل في التربية إضافة إلى تخصصه في الفلسفة والكتابات الأكاديمية. وخصص عدد من كتاباته لتجربته الصحافية. وقال بن دحمان لو نظر فيها، أي الصحافة، كما فعل في الفلسفة لكانت إضافة نوعية كمجموعة مقالاته التي نشرها في مجلة مواقف. وتظل جريدة التحرير أهم و’أغلى وأغنى تجربة’ حيث قال الجابري عنها أنه تعلم خلالها كيف يكتب، وأن ينتبه في نفس الوقت لما يكتب. وقد مكنه ذلك كما قال من كتابة أقوى كتابة وأعنفها دون أن يدرك القارئ والرقيب ذلك مما كان سيتسبب لو حصل في المنع أو التوقيف.
وذكر الباحث جمال بن دحمان أيضا خمس مميزات في تجربة الجابري وهي- المعرفة الأكاديمية والصحافية: حيث للصحافة عند الجابري بعد أكاديمي ودور معرفي تنويري بالأساس يضاف إلى وظيفتها التفسيرية. والجابري والمواقف: إذ لم تكن كتاباته حزبية فقط لأنها كانت موجِهة ولم تكن موجَهة. وصحافة المرجع: كون الصحافي لا يمكن أن يكون هلاميا، فلا بد له من مرجعية، والتي كانت مرجعية عقلانية بامتياز. وهنا تطرح مسألة المرجع وهل هو ذاته الخط التحريري؟ أما عن الجابري فقد كسر هاته القاعدة بفضل خاصية التفاعل الأسلوبي، وحضور السهل الممتنع والصحافة والخطاب المؤسس: كتابات الجابري كانت خطابا مؤسسا قائما بذاته. على نقيض ما تقول به بعض النظريات من أن الصحافة ليست خطابا مؤسسا في حد ذاتها بل تستند إلى خطابات مؤسسة أخرى كعلوم الاجتماع والفلسفة والسياسة وغيرها. كما ان الجابري من أوائل من أسس موقعا له على شبكة الإنترنت على الرغم من استغراقه في دراسة الثرات. وبالتالي فقد كان من السباقين إلى العالم الرقمي.
وأبرز الباحث عز الدين العلام في عرضه مدى التصاق الجابري بالواقع والشأن العام. الأمر الذي نلمسه بوضوح في انتقاده في كتاباته الاستبداد، وما أسماه ‘أخلاق الطاعة التي غزت القلوب’. وفي تصوره للديمقراطية اعتبرها الجابري شأنا فلسفيا بالأساس. وليست فقط مسألة تقنية تخص السياسيين والقانونيين فقط. فقد كتب الجابري مستشرفا المستقبل انطلاقا من كتابة تاريخية نقدية لوصف ما نسميه اليوم بـعملية ‘الانتقال’.
وسلط عرض عبد الله الحوزي الضوء على تأصيل ثقافة المواطنة والديمقراطية عند الجابري، حيث كان من أوائل المفكرين المغاربة والعرب الذين كتبوا عن ‘الإبيستيمولوجيا’، وعن الديمقراطية كوعي فكري ونظري. وعن الفرق بين الإيديولوجيا والمواطنة. وكذا المعوقات البنوية التي تعرقل ما نسميه اليوم ‘الانتقال الديمقراطي’.
وتمحور عرض الباحث حسن البحراوي حول ‘الجابري الإنسان’. حيث لم يكن للأخير أصدقاء كثر بما تعنيه الكلمة. فقد كان شديد الانشغال، كحال المفكرين الكبار أمثال عبد الله العروي. وبالتالي فالجانب الإنساني أقل جوانب حياة الجابري إضاءة. كما أن سيرته الذاتية: ‘حفريات في الذاكرة من بعيد’، لم تقرأ على نطاق واسع ولم تقدم فيها قراءات نقدية.