الأربعاء، 24 أكتوبر 2012

البلطجية في تونس.حكم مواز.النقابات أخطبوط مجموعات الضغط المرتبطة بالنظام السابق.

     كيف تستطيع أن تنظر إلى ما يجري في تونس بعين أخرى غير عيون القائمين على الحكم المبررين لما يجري، وخصومهم الناقمين على كل شيء؟

سؤال تجد إجابته على ألسنة كثير من الناس الذين توافدوا، منذ سنة خلت، على مراكز الاقتراع منذ الصباح الباكر وتحملوا الانتظار والحرارة لينتخبوا لأول مرة بحرية كاملة.

يقول الناس الغلابى في المقاهي والحافلات وقاعات الانتظار الطويل بالمستشفيات إن البلاد خربت، وأن تونس لم تعُد تونس، وكثير منهم يترحم على أيام بن علي، ويؤكدون أنّ الأمن أهم من الخبز والكرامة والحرية والديمقراطية وكل الشعارات الكبيرة.

مع كل سوءاته وقصصه المخيفة التي تتداولها الألسن بصوت هامس خوفا من زوار الفجر، لم يكنْ أمن بن علي ينسحب من الطرقات ليلا، ولا يترك الأحياء الشعبية لسطوة البلطجية، ولا يغتصب البنات في احتفالية جماعية، ولا يلوي أذرع الحكومة التي تديره وتغدق عليه بسخاء ليرضى، ولا يحرك الاحتجاجات والفوضى ليؤجل لحظة المحاسبة.

رجل الأمن الذي كان يعمل ساعات طويلة وفي مهمات متعددة لم يكن ليجرؤ أن يقول لا، ولو بإيماءة رأس، صارت لديه نقابات تُفاوض وتُناور، وتُضرب عن العمل، وتتحدى وزير الداخلية، وتضغط على القضاء، وتمارس السياسة.

وفي ظل ضعف هيبة الدولة، لم يعُد رجل الأمن يخيف أحدا، وهو نفسه لا يسلم من العنف الذي تنظّر له مجموعات سياسية وتوكل لتنفيذه العاطلين عن العمل، والحالمين بالحرقة (الهجرة السرية)، والغاضبين على السلطة من أبناء المناطق المهمّشة والمُفقّرة.

وخلاصة الصورة أن البلطجية أصبحت مهماتهم يسيرة في الاختطاف والاغتصاب وتصفية الحساب، وقطع الطرق، واحتجاز رجال التعليم والصحة والفلاحة، والمقاولين وحكام الكرة، ويمكن لهم أن يأخذوا ما يشاؤون من أي كان بالليل والنهار.

والمفارق هنا أن الحكومة لا تضع من أولوياتها التصدي لهؤلاء البلطجية، وتعتبر أعمالهم عادية ولا يخلو منها أي مجتمع، وتركز الجهد والوقت لمطاردة الإضرابات المسيسة أو التي يحركها سياسيون من وراء الستار.

فما الذي يجعل "حكومة ثورة" تقابل احتجاجات المناطق المهمّشة والمفقّرة بالعنف والاعتقال العشوائي؟

نعم، وراء تلك التحركات أطراف سياسية، هي ذاتها من دفعت شباب أبناء سيدي بوزيد والقصرين والحوض المنجمي (مهد الثورة) إلى التظاهر ضد بن علي وتسببت بسقوطه المدوي.

ولكن، أليست المطالب مشروعة؟ ولماذا تبطئ الحكومة في بدء مشاريعها رغم تواضعها، وصعوبة استجابتها لحجم كبير من الانتظارات في مناطق أهملها النظام السابق أكثر من خمسين عاما؟

الشباب الغاضب في تلك المناطق هو من قاد الثورة، وبدل أن تهرول حكومة الجبالي وراء رجال الأعمال والأمن والقضاة والإعلام لإرضائهم كان عليها أن تهرول إلى من صنعوا الثورة، ومكّنوا أبناء النهضة من أن يعودوا إلى الواجهة، وانتخبوهم ليحكموا البلاد.

لتبدو النهضة وكأنها غير معنية بقضية العدالة الاجتماعية والتوازن بين الجهات، وفق ما أشار إليه برنامجها الانتخابي.

وهناك قناعة لدى جزء من قواعد النهضة وقياداتها الوسطى، وناشطين سابقين بها، أنها تركت زخم الشارع وصار همها الرئيس إنجاز تسويات وصفقات لإسكات أو استقطاب مجموعات ضغط سياسية واقتصادية مرتبطة بالنظام السابق يروج أنها هي من تدفع إلى الإضرابات وتمولها في أكثر المناطق.

ونشير هنا إلى مأدبة عشاء اقمها أمين عام حركة النهضة، ورئيس الحكومة حمادي الجبالي، على شرف رجال أعمال وشخصيات سياسية بارزة كان لها دور مؤثّر في فترة بن علي (حامد القروي – وزير أول، الهادي الجيلاني – رئيس اتحاد رجال الأعمال).

ويقول ناشطون غادروا النهضة إنها لم تّهمل أبناء المناطق التي انتخبتها فقط، وإنما أهملت الآلاف من أبنائها الذين خاضوا تحت يافطتها الصراع مع بورقيبة وبن علي، ويعيش الكثير منهم أوضاعا سيئة، وعجزت النهضة (أو هي تتهرب) عن تفعيل قانون أقرته حكومات سابقة يخص العفو العام لفائدتهم.

واعترف رئيس الحركة راشد الغنوشي في تصريحات صحفية منذ ايام أن الحركة تراجعت شعبيتها بسبب السلطة، وهو ما يدعم نتائج استفتاء صدر بتونس مؤخرا يقول إن النهضة فقدت 30 بالمئة من قاعدتها الانتخابية.

وهناك مؤشرات على أنها ستجد نفسها بعد الانتخابات القادمة بلا تحالفات ذات قيمة، فشريكها الأول في الحكم حزب المؤتمر انقسم إلى حزبين وفقد بدوره شعبيته خاصة بعد تفرغ رئيسه المنصف المرزوقي إلى رئاسة الجمهورية.

وقد ألمح عدنان المنصر، الناطق باسم الرئاسة التونسية (حزب المؤتمر)، إلى إمكانية فك الارتباط مع النهضة، إذ قال في حوار مع موقع "المشهد التونسي": "عبارة التحالف الإستراتيجي بين المؤتمر والنهضة هي عبارة خاطئة مضموناً وشكلاً، فإذا تحولت النهضة إلى حزب يتناقض مع حزب المؤتمر بصفة كاملة فلن نبقي على التحالف".

أما شريكها الثاني حزب التكتل برئاسة مصطفى بن جعفر فيعش مشاكل داخلية أضعفته، كما أن جزءا من قواعده لم تكن راضية على التحالف مع النهضة وتدعم رفضها بعد أن ظهر التكتل دون تأثير في الحكومة أمام هيمنة النهضة على القرارات.

وهناك مغازلات لهذا الحزب ليلتحق بتحالف يجمع "نداء تونس" (السبسي)، والجمهوري (الشابي)، والمسار (أحمد ابراهيم)، فضلا عن شخصيات مستقلة وجمعيات مدنية وحقوقية ذات حضور إعلامي قوي.

كما لا يستبعد التحاقه بالجيهة الشعبية التي تضم مجموعات يسارية وقومية تقدم نفسها بديلا للنهضة ونداء تونس، وإنْ كانت حظوظها ضعيفة.

وحتى التلويح بتكوين "جبهة إسلامية" لمواجهة جبهات اليسار والقوميين، أو تحالف اليسار والليبراليين، لن تنقذ النهضة بل ستزيدها أعباء على أعباء في ظل غلو المجموعات السلفية وحزب التحرير.

وإذا كانت حكومة النهضة مترددة في حسم الكثير من الملفات، وضعيفة ومرجئة ما سهل انتشار الفوضى، وامتهان رموز مؤسسة الدولة، فإن شقا من المعارضة "الثورية" رفض منذ إعلان نتائج 23 تشرين أول 2011 الاعتراف بديمقراطية يصعد عبرها خصم إيديولوجي إلى الحكم.

وهذه إشارة مهمة إلى أن الإيمان بالديمقراطية مرتبط بالمصلحة الحزبية، فإذا كنت أنا الفائز فنعم الديمقراطية، وإذا لم أكن أنا الفائز فالديمقراطية ليست سوى مكياج تخفي به الرأسمالية التابعة وجهها القبيح.

فضلا عن أن هذه المجموعات تؤمن بأن لا حرية لأعداء الحرية، أي لا حرية للخصوم، وهو شعار رفعته مجموعات طلابية يسارية في ثمانينات القرن الماضي.

وهذه أرضية فكرية مهمة لمعرفة سياسة "الأرض المحروقة" التي تعتمدها تلك المجموعات، وتتقاطع فيها (ربما عن غير قصد) مع "ثورة" الذين فقدوا امتيازاتهم من أنصار النظام السابق، خاصة في المحافظات المهمشة.

ولئن نجحت سياسة الأرض المحروقة في إرباك النهضة، وتعجيزها عن حكم البلاد، وضرب شعبيتها، فإنها ضربت صورة تونس في الصميم، وجعلت المستثمرين يترددون في القدوم إليها، ومنهم من فر بجلده إلى دول مستقرة مثل المغرب، ومنهم من أغلق المصانع مكرها بسبب سطوة النقابات وشروطها التعجيزية.

ربما تنجح لعبة التأزيم، والفوضى الخلاقة، في الإطاحة بالنهضة كهدف لمرحلي عاجل، لكنها بالتأكيد ستحقق هدفا استراتيجيا أسوأ بتغيير صورة تونس في أذهان العالم من دولة متفتحة آمنة إلى دولة يستشري فيها العنف ولا يأمن فيها السائح ولا المستثمر على نفسه.

لن يعود المستثمرون الذين فروا، أو الذين ترددوا في القدوم، بعد الانتخابات القادمة التي لم يتحدد موعدها بعد وليس هناك مؤشرات على فوز من يقف وراء الاحتجاجات التي تتسع يوما عن آخر في المحافظات الداخلية.

ظروف الفوضى قد تستمر وتتسع، فالنهضة إذا انهزمت ربما تطلق اليد لأنصارها بالاحتجاج والتأزيم والفوضى، وسينهض عنف مقابل يغذيه إحساس قوي بمظلومية مغلفة بالشرعية الحزبية والسياسية والدينية.

وهنا يتراجع الاعتدال والتكتيك ومنطق التهدئة، وتختفي الرموز المدنية والعقلانية وتصعد وجوه متجهمة متشددة، ونكون بذلك قد فتحنا أبواب الأفغنة على مصراعيها، وفرشنا الأرض سجادا أحمر للسلفية التي ترتفع الأصوات للمطالبة بضربها بكل الوسائل.

إن الصراع السياسي الذي تعيشه تونس الآن يهدد مستقبلها لأن من يخوضونه يرفعون شعار "أنا ومن بعدي الطوفان"، وبالتأكيد فإن الطوفان إذا حل سيغرق الجميع.

وتكفي الإشارة فقط إلى أن البلاد بدأت تفقد الكثير من القيم الإيجابية التي تأسست طيلة خمسين سنة من عمر الدولة الوطنية، ففي غياب هيبة الدولة بسبب الصراع السياسي الحامي، أخذت قيمة العمل تتراجع تحت وطأة الإضرابات المتتالية وغياب الرقيب الإداري، وضعف الولاء للدولة.

والبلاد "الخضراء" لم تعد خضراء إلا من باب المجاز، حيث تتكدس الزبالة هنا وهناك بعد أن أصبح عمال النظافة طرفا في لعبة كسر العظام بين الحكومة والنقابات.

والخلاصة أن الحكومة الضعيفة المربكة، رغم ما تردده صباح مساء عن شرعيتها الانتخابية والشعبية، فتحت الباب واسعا أمام حكم مواز هو حكم البلطجة والنقابات وأخطبوط مجموعات الضغط المرتبطة بالنظام السابق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق