الثلاثاء، 5 يونيو 2012

كوابيس بيروت . للكاتبة الأديبة غادة السمان

  كوابيس بيروت 
 
للكاتبة الأديبة غادة السمان
 
كابوس 2 :
حين غادرت سيارتي ذلك الصباح، ودخلت الى البيت سالمة - حتى اشعار آخر - لم اكن ادري انها المرة الاخيرة التي ساغادر فيها بيتي بعد اعوام طويلة .. وانني منذ اللحظة التي اغلقت الباب خلفي، اغلقته ايضاً بين وبين الحياة والامن ..وصرت سجينة كابوس سيطول ويطول..
وانني عدت واخي الى البيت لنلعب دور السجناء ..ولو علمنا لتزودنا بشيء من الطعام في درب العودة .. ولو علمنا ربما لما عدنا ..ولو .. ولو .. وزرعنا "لو" في حقول الندم، فنبتت كلمة ياليت.

كابوس 3
لم نكن قد سمعنا الراديو بعد. فقط حينما عدت : تذكرت انني للمرة الاولى منذ شهر غادرت البيت دون ان استمع الى ارشادات المذيع شريف، او اغسل وجهي على الاقل ..
وحين انصت اليه، كان الاوان قد فات. كان المسلحون يحتلون فندق "هوليدي ان" المواجه لبيتنا الصغير العتيق والذي يطل فوق اعلى طوابقنا (الثالث). كما يشرف جبل من الاسمنت والحديد فوق كوخ لفلاح مسالم في قعر الوادي ...
بعدها فقط استيقظت وادركت انني كاعزل محكوم بالاقامة الجبرية وسط ساحة معركة ! ...فاتصلت بالبقال لاطلب مؤونة من الطعام. لا جواب. تلفنت لدكاكين الحي كلها. لا احد يرد. تلفنت للجيران، فرد ابنهم امين مدهوشاً، اين تعيشين ؟ الا تعرفين ما يدور حولك ؟
 
كابوس 4:
اين اعيش ؟
ردني سؤاله الى واقع مروع. اعيش في ساحة حرب ولا املك أي سلاح ولا اتقن استعمال أي شيء غير هذا النحيل الراكض على الورق بين اصابعي تاركاً سطوره المرتجفة كآثار دماء جريح يزحف فوق حقل مزروع بالقطن الابيض .
اين اعيش ؟ يبدو انني اسكن بيتاً من الشعر (بكسر الشين). وسادتي محشوة بالاساطير، وغطائي مجلدات فلسفية، وكل ثوراتي وقتلاي تحدث في حقول الابجدية وقذائف اللغة.
اين تعيشين؟ ودوى انفجار .. وشعرت بوخزة : لماذا لم اتعلم المقاتلة بالسلاح - لا بالقلم وحده - من اجل ما اؤمن به ...؟ كم هو خافت صوت صرير قلمي على الورق حين يدوي صوت انفحار ما .. وقررت : ان الوقت ليس وقتاً لتقريع الذات على عادة الادباء الذين يقعون في ازمة ضمير كلما شب قتال ويشعرون بلا جدوى القلم ... المهم ان اعيش، فالحياة هي وحدها الضمان لتصليح أي خطأ اذا اقتنعت فيما بعد انني على خطأ..والوقت ليس وقت مراجعة ذاتية او حوارات فلسفية .. كانت الانفجارات تتلاحق، وقررت ان اواجه الواقع الملموس حالياً وان احدد موقعي من ساحة الحرب بطريقة عسكرية، واحصائية !
 
كابوس 6:
هدأ الرصاص قليلاً..
اقتربت من النافذة ... كذلك فعلت الام التي تقطن في الدور الثالث من البناء المقابل لبيتي . وكان البقال العجوز يضع لها بعض ارغفة الخبز في سلة مربوطة بحبل وقد وفقت هي خلف خشب النافذة وادلت اليه بالحبل دون ان تخرج حتى يدها .. اما هو فقد احتمى بمدخل البناء.
كان الهدوء شاملاً، وتخيلت ان المقاتلين يغسلون وجوههم ويبردون اسلحتهم .. وقررت ان انادي البقال - المغامر وامارس الشيء ذاته.
وبدأت السيدة ترفع السلة المربوطة بالحبل ببطء شديد. وقررت: لابد ان يديها ترتعدان الان ! ... ولكن السلة كانت ترتفع باستمرار وكان حبلها دقيقاً حتى بدت مثل سلة تصعد في الفضاء نحو الخائفين، حاملة رغيف السلام .. لاحظت ان عيون بقية الجيران المختبئين خلف النوافذ كانت ايضاً تتابع طيران سلة الخبز في الفضاء ، واحسست ان قلوبنا حيعاً مثل قلب واحد يصلي من اجلها ..كأن السلة صارت طفلاً .. طفل المحبة والامان والتواصل مع عالم البسطاء..
وظلت السلة تعلو حتى وصلت الى حدود الطابق الثاني ، والصمت المتوتر ما زال يسود ...
وفجأة انطلقت رصاصة.
لا ادري هل سمعنا صوتها اولاً ام شاهدنا السلة تهوي في الفراغ مثل رجل سقط من الشرفة.
وفهمنا جميعاً بومضة برق مدلول ما حدث : هنالك قناص ما اطلق رصاصة على الحبل الرفيع.
لقد عرض مهارته امام اهل الحي جميعاً . لقد قال لنا جميعاً : انني قادر على اصابة أي هدف مهما كان دقيقاً ونحيلاً. قلوبكم كلها تحت مرماي. شرايينكم كلها استطيع ان اثقبها شرياناً شرياناً. استطيع ان اصوب داخل بؤبؤ عيونكم دون خطأ . استطيع ان اصوب رصاصتي الى أي جزء يحلو لي من اجسادكم ؟
وحين هوت السلة، شعرت بان الحي كله تحول الى قلب واحد يتنهد بغضة . وادركنا اننا جميعاً سجناء ذلك الغول الغامض المختبيء في مكان ما والذي يتحكم بدورتنا الدموية والعقلية والنفسية لمجرد انه يمتلك بندقية ذات منظار تدرب عليها بعض الوقت .. ولتذهب الى الجحيم كل الساعات التي قضيناها في الجامعات والمختبرات لنتعلم !
وحين سقطت السلة، سقطت آمالنا معها وتكومت على الرضيف جثة تحتضر . حين سقطت السلة، حزنا كما لو ان طفلاً سقط من على دولاب مدينة الملاهي وانطفأت الاضواء والضحكات كلها دفعة واحدة ..كان واضحاً اننا فهمنا جميعاً رسالة القناص . ومن ساعتها اغلق خشب نوافذ الحي كلها باحكام ..ولم تفتح!
وداعاً ايها الشمس !.

كابوس  10:
هدأ الرصاص قليلاً...
لم يبق الا الليل والصمت ... صمت غامض متوتر .. خيل الي انني اسمع اصواتاً خافتة..أصوات استغاثة ..ظننتني واهمة، ثم تذكرت دكان بائع الحيوانات الاليفة المجاور لنا ...لعل صاحبها يعمل قناصاً مثلاً، وهو مشغول عن رعايتها واطعامها بصنع الدمار (ام تراه لا يستطيع الوصول اليها؟)
وتخيلتها داخل اقفاصها ..تشم رائحة البارود والنار ، وتلتقط كهارب الخطر ... لكنها عاجزة عن الهرب ، وعاجزة عن الدفاع عن نفسها ..اين صاحبها الذي اعتاش من الاتجار بهاوبيعها وشرائها؟..
الم يسجنها بأسم تامين العيش (الكريم) لها؟ ..ولماذا يغيب عنها مع غياب الزبائن والصفقات وقدوم الخطر؟... اين صاحب دكان الحيوانات الاليفة؟ تراه لملم ثروته التي جمعها من بيعها وهرب بها الى اوربا مع من هرب؟
(اتذكره. في وجهه قسوة لا يخفيها تهذيبه البروتوكيلي مع الزبائن. مرة رافقت زميلة الى دكانة. كانت ترغب في شراء قط سيامي تعرف مواصفاته جيداً: ازرق العينين. بني الاذنين. ابيض الجسد. بني الذيل. وعبثاً حاولت اقناعها بانها بحاجة الى انجاب طفل بدلاً من الهرب الى تبني قط. كانت ما تزال تعشق صديقها المتزوج الذي لن يطلق ام اولاده ولن يتزوجها. كان يغدق عليها النقود كتعويض (عطل وضرر) عن شبابها المهدور، وكانت فيما يبدو راضية بالصفقة مع حبيبها الثري، وقد قررت تتويج قصة الحب بتبني قط، ما دام انجابه غير ممكن.
دخلنا الى الدكان ..الجزء الخاص بالغرباء-والقادمين من الخارج لاتمام صفقاتهم-نظيف وجميل ومرتب كانك في دكان سويسري، وفيه كل ملاهي عصرنا الاستهلاكي كما في شارع الحمراء وطريق المطار وصالة الترانزيت والروشة والكازينو مثلاً ...وقفت صديقتي في هذا القسم النظيف العصري المفروش (بالستينلس ستيل) و (الموكيت) اما انا، فتجاوزت اسوار الدكان السياحية الى الداخل ..وكان صوت صديقتي يتناهى الي وهي تعرض طلبها : اريد قطاً سيامياً - ابن عيلة - ازرق العينين اسود الشاربين نبي الذنب ابيض الجسد ..وكان صاحب الدكان يرد: كل طلباتك موجودة. والاسعار متهاودة..ساحضر لك ثلاثة قطط تختارين منها بنفسك ..قالت : اترك اختيار القط لذوقك ..ورن الهاتف وانشغل في حوار -صفقة حول كلاب للصيد وكنت اتسلل الى ماوراء السور الديكور الذي يحجب حقيقة وضع بضاعته ..
خلف السور، كانت الاقفاص المختلفة الاحجام والاشكال مرصوصة ومتلاصقة كما في مقابر الفقراء ...الشمس  لا تطالها ولا الرياح ولا الندى ولا السماء الزرقاء ..وداخل الاقفاص كانت هناك مجموعة كائنات حية تشبه البشر في تنوعها : كلاب مختلفة الانواع ..قطط رمادية وبلدية وشامية ..ارانب بيضاء جمر العيون ..فئران بيض . فئران ملونة ..اسماك ملونة صغيرة تسبح في "الاكواريوم" المضيء كانها فراشات مائية ..عصافير مكسورة الخاطر والجناح ..بلبل وحسون وببغاء وغيرها ...حيوانات من مختلف الالوان والاشكال والامزجة يجمعها القفص، والسجن، والبؤس ..كانت متعبة ، فلا القطط تموء تماماً ولا الكلاب تعوي جيداً ولا العصافير تغني ..وتسائلت : تراه يضع دواء مخدراً في اوعية الماء الخاصة بها ؟ ام انه لا يطعمها بما فيه الكفاية لتكون قوية فتثور وتضرب رأسها بالقفص وتعض يد السجان والزبون، البائع والشاري ؟
كانت عيناي قد الفتا الظلمة النسبية بالداخل، ورغم موسيقى الجرك العالية التي حرص صاحب الدكان على وضعها في (الجناح السياحي) من دكانه، فقد استطعت ان اسمع الصوت الموحد الحزين لشعب الحيوانات الاليفة في الاقفاص ... كان يشبه صوتاً قادماً للمرضى والجرحى والمتعبين، لكنه صوت تهديدي شرس الوعيد ... كان من الواضح ان البائع يطعمها بما فيه الكفاية لتبقى على قيد الحياة فقط ، كي يظل قادراً على بيعها ، يسقيها مياهاً نصف ملوثة، ويخرجها الى النور حينما تكاد تحتضر، وهمه الوحيد ابقاؤها حية كي لا تموت ويخسر تجارته . ولكن، اية تجارة؟ هذا موضوع آخر لا يهمه. علاقتها مع الشمس والغابات والبحار والليل والقمر وافراح المواسم والحرية ، كل هذه امور لا تعنيه مطلقاً..
وفجأة وجدته خلفي. جاء ليحمل لصديقتي الحيوان المطلوب. فتح احد الاقفاص. اخرج منها قطاً حشر حشراً في مجال حيوي ضيق مع سبعة قطط أخرى من نوعه ، لاخظت ان بعضها جريح، ولعلها في غمرة ضيقها بسجنها وبؤسها وسوء وضعها ، تقتتل فيما بينها، ويعض بعضها بعضها، وصاحب الدكان يرحب دونما شك بهذه الظاهرة حيث يعض البؤساء كل منهم صاحبه، بدلاً من ان يهجموا جميعاً عليه هو  مرة واحدة..هو العدو الحقيقي...
اخرج القط من القفص واغلقه بعناية. التقت نظرتنا. كان من الواضح انه فهم انني افهم ما يدور وان ذلك لم يعجبه ابداً. قال بصلف : ممنوع دخول الزبائن الى المخزن !
قلت : لست زبونة. انا من الفريق الاخر ...
وتمت الصفقة بين رفيقتي المدحورة عاطفياً المتلهية بهمومها الشخصية عن حقيقة ما يدور ..ودفعت ثمن القط، وخرجت بعد ان زودها البائع باسم طبيب بيطري من المفروض ان تذهب اليه فوراً لتلقيح القط وقص اضافره! البائع اولاً ، ثم البيطري، وربما بعده الصيدلي. وبعده لا ادري ماذا من حلقة مافيا المنتفعين .. وحين خرجت صديقتي بالقط لاخظت ان (راعي) الدكان تنهد الصعداء. كان سعيداً بخلاصه من فم اضافي يجب اطعامه. لم اشعر بأية عاطفة تربط بين صاحب الدكان وشعبه من الحيوانات الاليفة .. انه يخرجها من اقفاصها ويعيدها اليها دون ان يرف له قلب ! ...وحتى في السجون، ثمة علاقة انسانية تنشأ بين السجان وسجينه (وكلاهما من طبقة مسحوقة واحدة ) ، اما صاحب الدكان ، فلم الحظ ان بينه وبين "رعيته" لمسة حنان واحدة ..لا جسر بينهما غير المصالح ...
وهو قادر على ترويضها جميعاً، خانعها وشرسها، بالتجويع والسجن والاذلال وشروط العيش الرديء بحيث لا تقوم لها قائمة في وجه طغيانه ولا مبالاته ...
وذهبنا الى عيادة الطبيب البيطري وكانت فخمة ونظيفة وخاصة بطبقة القطط المرفهة .. ولا ادري لماذا تذكرت مشهد امرأة كانت تضع طفلها تحت خيمة في عكار وقد تمسكت بغصن شجرة وهي تصرخ دون طبيب او معين او قطعة قطن واحدة ..كنت قد ذهبت يومها لكتابة تحقيق صحفي عن مجاهل عكار، وشاهدت يومها كيف يولد الاطفال ليتعمدوا بالتراب فوراً ... فقد وضعت طفلها الذي تلقته منها ارض الحقل وامتزج دمه بالاشواك، ثم امسكت بحجر وقطعت به حبل الخلاص، بينما وقفت انا مذهولة امام وجهها المتجلد الصامد الشبيه بالصخرة التي كنت قد تحجرت قربها !
ودخلنا بالقط الى عيادة الطبيب، وبمساعدة الممرضة وصديقتي تم الامساك بالقط وقص اضافره، وكان هو يضرخ بما تبقى له من قوة مناضلاً للابقاء على سلاحه الطبيعي بينما المجهول يحيط به من كل جانب ...
وبعد عملية قص الاظافر، جاء الطبيب بابرة غرسها في فخذ القط، وتذكرت انا بهلع ان طفل الفلاحة العكارية قد يكون قد مات الان لانه لم يجد من يلقحه ...وبعد ذلك قرر الطبيب ان من الضروري اعطاء القطة جرعات محدودة من الفاليوم كي لا تبحث عن قط تمارس معه ما تمارس، وتحمل، لانها ما زالت صغيرة السن!.. والحمل خطر على صحتها العزيزة.
وهنا جنت رفيقتي. قطة لا قط ؟ كانت تريد قطاً ذكراً. وصاحب الدكان باعها الاخ القط على انه ذكر لا انثى . تلقت النبأ بحزن شديد كأمرأة انجبت طفلتها لسابعة وقد حلف زوجها بالطلاق في حال عدم انجابها لذكر!
ثم قبلت ما هو "مكتوب عليها" وبدأت تشتم البائع الغشاش بينما البيطري يعطي جرعات فاليوم للقطة، ثم بدأت تشتم الطبيب البيطري حين طالبتها الممرضة بالفاتورة.
 
كابوس 12 :
لم يتوقف شلال النار..
لاحظت انني جالسة على الارض، مكومة تحت مستوى النافذة. قررت انني لا اعرف من اين ستاتي الرصاصة التي ستسقر في صدري، وبالتالي لماذا لا اتمدد في فراشي واتعلم النوم رغم الرصاص؟
لقد عشت في ظروف لا حد لقسوتها ..واضطررت الى النوم في اماكن مسكونة بالبرد والغربة والاشباح الرمادية، وعلمت نفسي التكيف مع ما حولي من عذاب ... بل انني روضت نفسي ذات مرة على النوم، وقد سلطت على وجهي مصباحاً كهربائياً ساطعاً.
اليوم علي ان اتعلم النوم في ساحة حرب ... استجمعت ارادتي، وكل ما اعرفه من اليوغا، وبدأت افكك اعضاء جسدي عضواً بعد الاخر. كما لو كنت دمية عرض لواجهات المخازن. امرت ساقي اليمنى بالنوم، ثم ساقي اليسرى . بدأت آمر اعضاء جسدي واحداً بعد الاخر بالسفر عن الزمان والمكان الى براري النوم... تاكدت ان التجربة ممكنة التحقيق، لكنها تحتاج الى كثير من المران... فقد دوى انفجار شديد، وانفرطت من يد دماغي جديلة الاعصاب التي كنت الملمها خيطاً بعد الاخر واسيطر بها على جسدي عضواً بعد الاخر.
وبعد فشلي هذا اصبت بنكسة. بدات اسمع الانفجارات اعلى مما كانت على حقيقتها (او هكذا خيل الي).
ثم حدث شيء غريب، دخل جسم غريب الى الغرفة، كائن ساخن الحيوية، مروع النشاط ، سمعت صوته يضرب خشب الباب ثم المقعد فالسرير فالباب .. في البداية لم افهم ما حدث بالضبط، كانت رائحة حريق خاصة تفوح من الغرفة ... كانت رصاصة ما او شظية قد اخترقت طرف باب الغرفة وفجرت ساق الكرسي ثم اصطدمت بالسرير وارتدت عنه الى الباب الاخر فخرقته ...ووقفت احدق مذهولة ..كانت شظايا الخشب تملأ ارض الغرفة والسرير وشعري وتغطي المجلات التناثرة على الارض ..وكنت اتامل موضعها بهلع ..فقد حفرت الخشب تماماً على عمق 10 سنتمترات على الاقل، اما الكرسي الواطيء الذي اصابته فقد تناثر بين شظاياه بعض قطع المسامير التي صهرت وانكسرت تماماً كما لو ان مطرقة جهنمية ضربتها ...

شيء آخر روعني ... كنت اظن الرصاص (وهذه اول مواجهة عملية بيننا) ينطلق في خط مستقيم ثم يصيب هدفه ..اما هذه الرصاصة (ام الشظية؟) فقد تحركت في الغرفة كما لو كانت كرة بلياردو او قطاً مذعوراً ... ركضت في الاتجاهات كلها هادمة نظرياتي العسكرية كلها عن السلامة في البقاء على مستوى الارض او التمدد ، فالفظيع ان مستوى انفجار (الرصاصة او الشظية) كان على مستوى خفيض جداً لا يزيد ارتفاعه اكثر من 30 سم عن الارض ...وذهلت . من اين دخلت الرصاصة اياها؟ وكيف؟ وحيرني الامر حتى انساني خوفي، وخرجت الى الغرفة المجاورة من حيث بدأت الشظية (نزهتها) وخيل الى انها ربما كانت قد انطلقت من داخل المنزل ..على الجدار المقابل لاول باب ضربته، فوجئت بندبة وقد سفط بعض الكلس والتراب عن الجدار الى الارض ... اذن من هنا مرت الرصاصة .. ولكن من اين دخلت والنوافذ كلها مغلقة بالخشب والزجاج غير مكسور .. وبدأت احدق جيداً في النوافذ حين دوى انفجار، فقرررت وقف (تحقيقاتي العسكرية)، واغلاق (ملف القضية) مؤقتاً والهرب الى الطرف الاخر من البيت.
هذه المرة كنت خائفة حقاً ..فقد وعيت للمرة الاولى ان الرصاص لا يمشي على الصراط المستقيم وانما قد يمشي في خط متعرج كجرذ يركض من جدار الى اخر.
ووعيت ايضاً ان الرصاص لا يمشي بالضرورة فوق مستوى النوافذ ، وان القضية اكثر تعقيداً بكثير  من المعلومات السطحية التي كنت قد جمعتها من السينما البوليسية والروايات، وادركت انني اواجه عدواً اجهله تماماً، وبهذا الشعور البائس تمددت باستسلام على اريكة في الصالون .
 
من كابوس 13:
تمددت على الاريكة في الصالون، وكان الظلام دامساً وجميع الانوار مطفئة ... تعلقت نظراتي بشقوق النوافذ المحكمة الاغلاق المفتوحة الزجاج. كنت قد اغقلت خشبها وتركت النوافذ الزجاجية مفتوحة. هكذا قرأت في كتاب بوليسي انه من الافضل في حال الانفجارات ترك زجاج الغرف مفتوحاً كي لا يحوله الضغط الى سكاكين تتناثر في كل مكان وتنغرس في جسد الضحية. وارتعدت لهذا الخاطر. ظللت اتامل شقوق النوافذ،  (والقمريات) أي النوافذ الصغيرة المستديرة الملاصقة للسقف والتي لا خشب يغطيها وتوجد في اكثر البيوت الدمشقية والبيروتية القديمة. كان الغرض الاساسي منها ادخال مزيد من النور نهاراً الى الغرف الشاهقة الجدران،  والسماح بدخول ضوء القمر اليها ليلاً ...
اما الان، فقد بدت لي القمريات المزينة بالزجاج الملون مثل اسلحة فتاكة ...مثل عشرات الخناجر التي لا ادري متى يطلقها الانفجار من عقالها ..
هكذا تمددت وحيدة في قلب الظلام، وخلف القمريات كان المنظر مذهلاً . فقد كانت الصواريخ والقنابل المتفجرة في الجو تضيء الليل كالبرق، وتلتمع خلف القمريات مثل عاصفة برقية رعدية جهنمية لا تهدأ. احسست بخوف بالغ. ولكنني رغم كل شيء لم اتمالك نفسي من الاعجاب بجمال المشهد بينما القمريات بزجاجها الملون تسطع فجأة وتنطفيء ثم تسطع بتسارع "سيكاديلك" ساحر الالوان.
وقررت انني مثل رجل يهوي الى قاع شلالات نياجارا بينما هو ما يزال مسحوراً بجمال المشهد ... او مثل شخص يسقط من الطابق الخمسين ويعجب بزهور الشرفات التي يمر بها في دربه الى الموت.
 
 كابوس 16:
لم  يطل السكون..بدأت الطلقات المتقطعة بايقاعها الخفيف ايذاناً بدخول العزف الاكثر شراسة وعنفاً..
مع الانفجار الكبير الاول لملمت نفسي من موضعي على الاريكة حيث قضيت الليلة السابقة..
حاولت السيطرة على اعصابي لقضاء يوم عادي قدر الامكان كي لا اصاب بالجنون! ..كان ذلك مستحيلاً. كنت فيما مضى ابدأ يومي بمطالعة الصحف ، ولم اجدها طبعاً خلف الباب ..(لا يمكن لهم توزيها على البيوت بالمصفحات مثلاً! وحتى لو ارتدى باعة الصحف ثياباً واقية من الرصاص لما استطاعوا الوصول الى بابي حيث مركز القتال) ...
ورغم معرفتي الاكيدة بان القطط نفسها لا تجرؤ على التجول في شارعنا ، لكني تلفنت الى دكاكين البقالة المجاورة ...وطبعاً لم يرد احد. اقتربت من النافذة وشققتها قليلاً. كان المشهد مروعاً. كانت النوافذ كلها مغلقة. كأن الحي فرغ تماماً من سكانه . كأنهم تسللوا جميعاً هاربين تحت جنح الظلام .
وحين يهدا الرصاص، يسود سكون متوتر مخيف، سكون كابوسي لا يصدق، كالسكون داخل التوابيت المغلقة منذ قرون، سكون يجعلك تحن الى سماع أي صوت ،حتى ولو كان طلقة رصاصة. قررت الاستماع الى الراديو، وهو اداة لا اتعامل معها عادة الا مؤخراً وللاستماع الى المذيع شريف فقط، الذي يخاطبنا بصدق مباشر دونما حذلقات خطابية سمجة ..فاخفض صوت المذياع. بحيث لا اميز الغناء او الموسيقى او الثرثرة، ولكني اعرف نبرة صوت شريف، وحين اسمعها ارفع صوته ، وحين ينتهي الكلام اعود الى حشو القطن في فم المذياع ..وهكذا..
اليوم، لشدة وحشتي، ادرت زر الراديو، وكان المذياع يقول: قضت العاصمة ليلة هادئة ما عدا طلقات متقطعة في منطقة القنطاري وحول فندق "الهوليدي ان".
وصرخت به : الا تخجل من هذه الكذبة؟
ولم يرد علي وانما تابع قراءة نشرة الاخبار وانتقل فوراً للحديث باسهاب عن الحرب الاهلية في ...البرتغال.
صرخت به: ولكني لا الومك .. انت مجرد حنجرة، وهم يحشونها بالمعلومات الكاذبة ... انت مجرد اداة للجريمة.
لم يرد الذيع علي وانما تابع قراءة الاخبار عن انغولا.
وصرخت به: الا تخجل من هذه الكذبة ؟
ولم يرد علي وانما تابع نشرة الاخبار وانتقل فوراً للحديث باسهاب عن الحرب الاهلية في البرتغال .
وصرخت به : انت المسدس، وهم اليد والطلقة ..وحينما تقع جريمة، يجب سجن القاتل لا المسدس.
ولم يرد المذيع علي وانما بدأ يتحدث باسهاب عن حالة الطقس.
وبدأت الانفجارات تتوالى ، وتتعالى متلاحقة ونهض اخي مذعوراً يبحث عني.
وقررت : نشرة الاخبار الحقيقية هي ما نسمعه من الريح، لا من الراديو.
 
كابوس 23:
الا يتعب الرجال ؟
الا تستريح اصابعهم المشدودة على الزناد؟ فترات الهدوء لا تكاد تذكر. وقررت: لابد ان استبدال المقاتلين يتم خلال لحظات الصمت المتوتر العابرة.
الان عاد ذلك الصمت المتوتر المروع .ارهفت السمع . سمعت صراخ بعض الرجال ، لكنني لم استطع تمييز كلامهم، فقط اصوات نداءات سريعة وحادة كصراخ الخطر لدى طيور الغابة.
كانت مأساتي ان بيتي يقع في منتصف الطريق تماماً بين المتقاتلين، تماماً في الوسط . تذكرت الذي قال "خير الامور الوسط" وترحمت عليه . لو كان يسكن بيتنا ، لقال شيئاً آخر ربما. كنت اعرف ان المقاتلين في الشوارع خلفنا، لابد انهم يتصلون بالناس، وربما يتقاسمون ارغفة (المناقيش) معاً. اما موقع بيتنا في الوسط تماماً على تلة مكشوفة من كل الجهات ومحاطة بحدائق برية الاعشاب، كل ذلك جعل الاقتراب منا امراً مستحيلاً للطرفين. وحتى للطرف الثالث من الغربان الذين احترفوا سرقة البيوت المنكوبة بالحرب.
كنا كسكان وادي الجذام، لا احد يجرؤ على الاقتراب منا، حتى اللصوص !! وحدها القذائف تجرؤ على زيارتنا وقرع ابوابنا وجدراننا.
 
كابوس 35 :
كانت ابواب مغلقة في داخلي تتفتح باباً تلو الاخر، ووجدتني احدق في الاشياء فارى الى ابعد منها .
في الممشى امامي على طول الجدار مكتبة تمتد من الارض الى السقف . ليس الممشى آمناً بقدر ما كنت اظن . ففي حال انفجار داخل البيت قد تنهار الكتب فوقي وتقتلني. اما البقية الباقية من الجدار فيغطيها ملصق (بوستر) فيه صورة خضراء كثيفة الاشجار. وكان بوسعي ان اخطو الى داخل اللوحة ، هاربة الى الغابة الاوربية من جحيم عالمي، وكان بوسعي ان اتسلق الاشجار والتحف بالضباب وانام قليلاً. لكنني لم افعل . لقد علمتني الحياة ان الهرب من انتمائي الحقيقي لا يجدي . انا ابنة هذه الارض ، ابنة هذه المنطقة العربية المضطربة حتى الغليان. انا ابنة هذه الحرب ، هذا قدري. تعلقت عيني بالرف الذي يضم كتبي وعشرات من الكتب التي ترجمتها . ووجدتني اهمس: وانا ايضاً قد شاركت في صنع هذه الحرب. صحيح انني لم احمل سلاحاً قط ، صحيح انني مذعورة كاي جرذ في دكان بائع الحيوانات الاليفة ، ولكن كانت سطوري تحمل دائماً صرخة من اجل التبديل، صرخة من اجل مسح البشاعة عن وجه هذا الوطن وغسله بالعدالة والفرح والحرية والمساواة . وكل ما يفعله المقاتلون هو انهم ينفذون ذلك على طريقتهم. انها حروفي وقد خرجت من داخل الكتب لتتقمص بشراً، يحملون السلاح ويقاتلون.اكنت حقاً اريد ثورة بدون دم ؟ اجل، مثل كل الفنانين انا متناقضة، اريد الثورة ولا اريد الدم . اريد الطوفان ولا اريد الغرقى.
ها قد عدت الى معزوفة تانيب الذات.
-ولكن هذه مجرد كوابيس لا ثورة.
-كل الثورات تولد هكذا معمدة بالدم. حتى ولادة طفل لا تتم الا معمدة بالدم.
-ولكن عدداً كبيراً من الابرياء والعزل يموت.
-لا احد بريء في مجتمع مجرم.
-ما زالت انفجارات القنابل تتعالى، ما زلت جالسة في الدهليز احتمي بجدرانه شبه المتلاصقة كرحم حجري. لم اعد مذعورة كجرذ. الكتب تحدق بي من رفوفها. وانا احدق بالكتب، ولا احد يملك للآخر شيئاً.. الكتب اغلفة فارغة والكلمات هربت من الصفحات لتصير رجالاً مقاتلين. اتناول كتاباً من تلك التي ترجمتها. افتحه. اجده كما حدست، صفحات بيضاء ان الحروف خرجت الى الشوارع لتمارس حياتها الخاصة  صارت مقاتلين يحولون الافكار الى سلوك. ما الذي يخيفني؟
ما زالت انفجارات مضيئة تتلاحق في اعماقي وابواب مغلقة في روحي تنفتح باباً تلو الآخر. ما زالت الاصوات تتعالى في داخلي، وتتابع نقاشها داخل ذلك الصندوق الصغير المقفل جيداً المدعو دماغي. تتلاحق الصرخات ويخيل الى ان جدران الدهليز ورفوف المكتبة تردد اصداءها.
-ولكن عدداً كبيراً من الابرياء والعزل يموت.
-لا احد بريء في مجتمع مجرم.
-والوافقون على الحياد؟
-لا حياد في مجتمع بلا عدالة. لا حياد في مدينة العرى والفيزون. مدينة الجوع والتخمة . المحايدون هم المجرمون الاوائل . الاكثرية الصامتة هي الاكثرية المجرمة ، انها ترى الظلم وتعانيه، لكنها تؤثر السلامة الرخيصة على الكفاح الخطر النبيل.
-بعض الناس غير مؤهلين نفسياً لرؤية الدم.
-حينما يحدقون جيداً في جرحهم الداخلي ودمهم النازف، لابد وان يتعلموا رؤية عدوهم ينزف تحت ضرباتهم هم.
-من ضربك على خدك الايمن ادر له الخد الايسر.
-بل العين بالعين والسن بالسن والباديء اظلم.
-ولكن، ما ذنب الاكثرية الصامتة الامنة المسالمة.
-ذنبها الصمت والمسالمة والعيش في وهم الامن. كل عملية حياد هي مشاركة في عملية قتل يقوم بها ظالم ما ضد مظلوم ما. الاكثرية الصامتة هي الاكثرية المجرمة . انها تشكل اغراء لا يقاوم لممارسة الظلم عليها . انها هي التي تثير غريزة الشر في نفوس الذئاب البشرية. المسالمة هي تحريض على القتل. وتلك جريمة. المسالمة هي شروع في الانتحار ، وتلك ايضاً جريمة.
-ولكنني لم اكن على الحياد. انني منحازة لطرف ضد آخر. انني منحازة للشمس والعدالة والحرية والفرح والمساواة. وقد قضيت عمري اخدم هذه القضايا بالسلاح الوحيد الذي اتقن استعماله .
-كان عليك ان تتقني استعمال اسلحة اخرى من اجل يوم كهذا.
-ولكن قلماً جيداً خير من رصاصة طائشة.
-ولكن ما جدوى القلم في دوامة النار الان؟
-انتظر ريثما يصمت الرصاص فيعود للقلم صوته.
-تعنين ان تجلسي في هذا الممشى المعتم كالجزذان. وحينما تنتهي الحرب تتابعين دورك السخيف : التصفيق او التصفير من خلف طاولة مكتبك. وحينما يدوي الانفجار تنزلين للاختباء تحت الطاولة.
-ولكن ما جدوى ان يقتل الادباء في الحرب مادامت طبيعة اكثرهم لا تؤهلهم ليكونوا مقاتلين جيدين. بايرون كان شاعراً عظيماً ومقاتلاً فاشلاً. وقد مات في الحرب الاهلية باليونان بعد ان كبد (فريقه) لا الفريق العدو خسائر كثيرة. لو عاش وكتب من اجل المثل التي يؤمن بها لافاد واستفاد بدلاً من ان يتعفن بعد ساعة من موته وتنطفيء يده التي هي مصباحه. من واجب الفنان ان يبقى على قيد الحياة كي يستمر في اداء رسالته : الكتابة!
-ولماذا تتمسكين بهذا المثال ؟ ماذا عن غيره من الفنانين المقاتلين؟
-همنغواي كان مقاتلاً سيئاً ايضاً. لقد استفاد ادبه من تجربة المعركة، اما فريقه فلابد وانه دفع الثمن باهظاً من سوء استخدامه للسلاح ولفنون القتال. ولعل المرة الوحيدة التي اجاد فيها همنغواي استعمال سلاحه كانت لحظة انتحاره !
-ستجدين الان عشرات الامثلة لتبرير نفورك الفكري من مشهد الدم، ومن العنف الجسدي.
-لا اريد ان اسقط فريسة شعور بالذنب لانني لا اقاتل . اعرف عشرات من المثقفين الفرنسيين الذين داهمهم هذا الشعور ايام الحرب الاهلية في اسبانيا وتطوعوا للقتال وكانت النتيجة انهم كانوا عبئاً على الثوار، واحداهن (كانت شاعرة كبيرة) لم تكن تصلح في ميدان الحرب حتى لطبخ الطعام للجنود. ان جر الفنان الى القتال هو كجر ماري كوري من مختبرها الى المطبخ بحجة ان البلاد تعاني نقصاً في الطباخين!
-اذن ترين ان مهمة الفنان هي ان يصب البنزين ويشعل النار ثم ينسحب من المدينة هارباً .
-تقريباً! هذا صحيح على نحو ما . مهمته ان يخلق الثورة لا ان يمارسها . لقد اعلن الرئيس جمال عبد الناصر ان كتاب "عودة الروح" لتوفيق الحكيم كان من العوامل الهامة التي ساهمت في تفجير ثورته والضباط الاحرار، واشعال شرارتها. الفنان شرارة الثورة ونبوئتها .
-ووقودها!
-ان موته كجرذ لا يفيد احداً . ولكن ما يحدث عادة هو ان الفنان نوع فريد من الثوار. انه يصنع الثورات ويجد نفسه بطريقة ما وقوداً لها لا محالة . انه يشعلها وهو يعرف انه اول من سيحترق بنارها . وحتى اذا لم يقتل الفنان اثناء الثورة فانه سيفقد ادوات عمله : مكتبته ومراجعه وكتبه وارشيفه وسلامه النفسي الداخلي النسبي الذي سيمزقه تماماً التشرد الجسدي ، هذا بالاضافة الى تشرده الروحي المستمر.
-ولماذا لا يقاتل الفنان حين تشب الحرب كاي فرد آخر في المجتمع؟ هنالك مقاتلون جيدون ومقاتلون سيئون ، فلماذا لا يكون مقاتلاً سيئاً ؟ ان ذلك سيحجبه على الاقل من الموت وحيداً، ومن عذاب الاصوات المتناقضة في داخله.
-لان تركيبة الفنان النفسية التي تجعل منه فناناً جيداً هي نفسها التي تحول بينه وبين ان يكون مقاتلاً جيداً . لا استطيع ان اقتل أي انسان او اعذبه. سافكر بانه كان ذات يوم طفلاً بريئاً. سافكر بانه لم يصنع من نفسه الوحش الذي هو امامي وانما هي عوامل كثيرة خارجة عن ارادته ساهمت في صنع ذلك الوغد امامي. سافكر ايضاً بامه ، بحبيبته ، ساعجز عن تعذيبه ، ساتذكر كيف قد يبدو وجهه وهو يضحك وهو يصلي. ساحس بانه كوكب قائم بذاته ، وان قتله مجزرة كونية.
اصوات، اصوات، اصوات، تتفجر داخل راسي وتتناقش بصوت عال ومع كل صوت اشعر بان امرأة جديدة خرجت من داخلي، ولم اعد امرأة واحدة في الدهليز ، بل تناسلت وتكاثرت وازدحم بنا الدهليز. ودوى انفجار رهيب وكنت واثقة انه داخل بيتي في مكان ما. وعدت امراة وحيدة. وحيدة في الدهليز على الخط الفاصل بين الموت والحياة، اواجه مكتبتي الكبيرة، والمح عبارة "الثورة" في اكثر عناوينها. وصرخ صوت في داخلي: هذا كابوس لا ثورة. هذه "كوابيس سادية" لا "حرب تحريرية."
ورد صوت آخر: كل الثورات في التاريخ كانت تبدو من الداخل هكذا. المهم في الثورة هو الجيل الذي سيحصدها. لابد لكل ثورة من جيل ضحية.
سمعت جيدا صوت سقوط جدار ما، اخمد انفجار الاصوات في رأسي. ركضت. للوهلة الاولى، بدا لي دخاناً كثيفاً يتصاعد من غرفة جدتي. لم اكن ادري انني استطيع ان اكون شجاعة. دونما وعي حملت (طفاية الحريق) الصغيرة وسارعت الى الغرفة. كان السقف محفوراً والجدار مقابل للنافذة. في البداية ظننت قذيفة ما سقطت على السطح، وركضت نحو المطبخ اتسلق السلم الخشبي الى السطح ففوجئت بأن القرميد الذي يغطي بيتنا سليم ولا ثقب فيه. عدت الى الغرفة. كانت سحب الغبار قد استقرت على الارض والاثاث. وحين حدقت جيداً اكتشفت ان شيئاً ما قد اخترق زجاج النافذة وثقبه دون ان يكسره مصطدماً بالسقف ومرتداً الى الجدار وان ما توهمته دخاناً كان مجرد غبار تساقط من السقف والجدار المشروخين. وبحثت على الارض فوجدت ثلاث قطع معدنية ما تزال ساخنة، واحدة منها مدببة، وكانت بصورة عامة صغيرة واذهلني انها قادرة على احداث هذا الخراب كله.
حينئذ فقط لاحظت ان ركبتي ترتجفان كانهما فُصلتا تماماً عن جسدي ورغباتي. وركعت على الارض ودفنت وجهي بين يدي وبدات ابكي.
 
كابوس 60 :
ما زلت انتظر الغروب لازور جيراني، مخلوقات بائع الحيوانات الاليفة، اتابع قراءة الصحف العتيقة المكدسة في بيتنا. وتبدو لي التسلية الوحيدة الممكنة وفي الوقت ذاته تبدو لي تعذيباً. اقرأ واقرأ. من أول يوم سجنت فيه وانا اعيد قرائتها. اراها بعين جديدة. كل خبر صار له مغزى جديد ودلالة مختلفة.
قرأت الاعلان التالي: من  مسلماني وسمير الى اهلهم في منطقة النبطية. نحن بخير فاطمئنوا !!
غمرني رعب لا حدود له. انها النهاية. لا اثر للحضارة بعد اليوم حولنا. الهاتف اختراع تم بعد العصر الحجري ونحن عدنا الى العصر الحجري. ولعلي اقرأ الصحف القديمة واتمسح بكتبي كي اؤكد لنفسي انني اعيش في هذا العصر المفروض انه عصر الفضاء. ربما كان هنالك مركبة فضائية تنطلق في هذه اللحظة من الارض الى كوكب ما لاكتشافه ومع ذلك ما يزال في كوكبنا من يحيا عذابات العصر الحجري! الصحف وحدها تجعلني اصدق لدقائق انني ما زلت في عصري نفسه ولم تختل عجلة الزمن ببيروت وتعيدها فجأة آلاف السنين الى الوراء. اية مأساة ان نعيش في وطن يصبح فيه بقاؤنا على قيد الحياة خبراً يستحق الاعلان عنه ؟ لو توقفت الصحف عن الصدور-كما سيحدث اذا تابعوا تدميرها - كيف سيتصل حسن وسمير ومحمد باسرهم ؟ وكيف سيوصلون نبأ نجاتهم من الوحوش الى اهلهم في الطرف الثاني من الغابة؟ أبالدخان على طريقة الهنود الحمر ؟ بقرع الطبول؟ بالحمام الزاجل؟
اقرأ: جاءنا مايلي: علي فادي يوسف من عرمتي وهو غير علي يوسف الذي عثر عليه مذبوحاً بأيدي (....)، اعجبتني صيغة الاعلان. اذا نجوت فسأنشر اعلاناً اقول فيه: اعلن انني انا لست غير التي وجدت مذبوحة في مراحل مختلفة من حياتها والتي توفيت عدة مرات وقامت من رمادها، واعلن انني ما زلت على قيد الحياة وقادرة على ان اذبح مرات عديدة ايضاً في المستقبل! هاهي الشمس وقد بدأت تلملم عباءتها الذهبية وعما قريب تلقي الطبيعة رداء الليل الاسود. حان وقت زيارتي لدكان بائع الحيوانات الاليفة.
انه الليل.
ليل المتفجرات والرعب. ليل الارواح الهائمة الغاضبة، التي صارت صرخاتها مكتوبة بلغة الحديد والنار على وجه السماء.
وانا اتسلل خارجة من بيتي. اهبط درجات السلم. الحظ بأسي انني احنى قامتي ، ليس فقط عند النوافذ بل على طول السلم. حتى حينما اتحرك داخل البيت صرت احني قامتي . صحيح ان تجربة الرصاصة (البلياردو) علمتني ان الانحفاض تحت مستوى النوافذ لا يجدي مع الاسلحة الحديثة، لكنني رغم كل شيء صرت احني هامتي الى ما تحت مستوى النوافذ . كانني انحني لا للرصاص وانما لمنطق الرصاص. كم هو مذل ان يتحرك الانسان اياماً واياماً وقد احنى قامته كالاحدب. حتى ولو عاد السلام الى هذه المدينة، فانه سيجدنا قد نسينا المشي منتصبين ، وصارت مشيتنا اقرب الى مشية القردة .
انه الليل. ليل الوحشية والموت المختبيء حتى تحت اظافرك. انه ليل الدمار. وانا وصلت الى الحديقة وانعطفت الى خلف المنزل.
 في البداية اخافني العراء. واخافني ان اسمع صوت الرصاص في العراء للمرة الاول، طوال الايام السابقة كنت اسمع صوت الرصاص وانا محتمية بالجدران او بالاثاث او ملتصقة بأي شيء. اما الان وانا اقف في الحديقة تحت السماء بجسدي الهش دونما أي نوع من الدروع والمظلات واسمع مطر الرصاص، تعتريني رجفة مخيفة.
صوت الرصاص في العراء شيء مختلف. انه الموت وقد خلع قناعه وتقدم منك . انك انت تلك النملة في مملكة الليل الشاسعة. ركضت الى اقرب شجرة -وكانت نخلة، والتصقت بجذعها. دفنت نفسي في صدرها العاري وخيل الى انني اسمع دقات قلبها، اسمع النسغ يركض في عروقها، اسمع الخوف يدق طبوله داخل خشبها . ازداد التصاقاً بها. نصير شجرتين مذعورتين. نصير حياتين مذعورتين. ولكنها ستظل مكانها حتى تصيبها قنبلة او لا تصيبها. انها لا تستطيع مثلي ان تطلق ساقيها للريح. احسست بشيء من العزاء لانني انثى لا شجرة ولانني استطيع ان اركض.
آه صوت الوصاص في العراء وانا وحيدة. في البداية اخافني الى ابعد مدى. كانت كل رصاصة تستقر في جسدي انا شخصياً وكل قذيفة تنسفني انا شخصياً. ثم قررت: الرصاصة التي ستصيبني لن اسمع صوتها. والقنبلة التي ستطيح بي لن ترعبني لانني ساكون ممزقة قبل ان اجد وقتاً للرعب. فلم الخوف اذاً؟ كل ما اسمعه لا يمكن ان يؤذيني مادام كل ما سيؤذيني لا يمكن ان اسمعه. امدني هذا الخاطر ببعض القوة ، لكنني على الرغم مني ظللت ارتجف كلما دوى انفجار. سرت في الظلام باتجاه الجدار الخلفي لدكان بائع الحيوانات الاليفة. كنت اعرف جيداً مكان الاشجار والنباتات في الحديقةـ لكنني تعثرت اكثر من مرة رغم ان الظلام لم يكن دامساً تماماً. رفعت رأسي الى السماء. لا قمر. هنالك فقط بقايا مصابيح الشارع التي ما زال اكثرها يضيء. اصل الى النافذة. ضيقة وعلى مستوى الارض من ناحية الحديقة، لكنها قد تكون مرتفعة جداً بالنسبة لارض المخزن. فكيف اهبط منها؟ ربما كان علي ان آتي معي بحبل. لكنني لم اتسلق حبلاً من قبل. ترى هل الامر سهل كما في الافلام؟ كل ما يحدث لي هذه الايام سبق لي ان شاهدته في الافلام واكتشفت كم الحياة المعاشة تختلف عن تلك المغامرات التي تزيف الحياة على الشاشة. قد يكون تحت النافذة كرسي اهبط عليها. او صندوق. او احد اقفاص الحيوانات. ولكن لماذا استبق الاشياء؟ فلنحل المشكلة خطوة خطوة. المهم اولاً ان افتح النافذة قبل ان افكر بكيفية الهبوط منها.
تحسستها في الظلام. شعرت انها مكسوة بالاوساخ وبطين جاف. وان بعض الحشرات او الديدان الصغيرة تركض فوقها مذعورة لوقع اصابعي. كانت النافذة مغطاة بشريط من (المنخل) داخل اطار من الخشب. ترى هل خلفه قضبان ؟ سأعود الى البيت لاحضر مقصاً واقص به (شريط المنخل) الحديدي الذي يبدو من ملمسه المتعقر ان الصدأ قد اكله. اهز الاطار بيدي فيذهلني كم هو مخلخل، ويذهلني ان النافذة كلها قد خرجت في يدي. وخلفها لم تكن هنالك اية قضبان. أي سجن هو هذا؟ ولماذا لا يحتاط صاحب الدكان خوفاً من هرب رعاياه وعصيانهم؟ ام ان السجن ليس قفصاً فحسب بل هو اولاً رعايا اذلاء، ورعاياه من الببغاوات والقطط والفئران والكلاب والحساسين والطواويس لا يستحقون عناء كبيراً لسجنهم والاتجار بهم؟
مددت رأسي داخل المخزن عبر النافذة. كان الظلام دامساً ورائحة كريهة تفوح. والصمت التام مخيماً على المكان. تسائلت : هربوا جميعاً؟ ام ماتوا جميعاً؟ ام تراهم مثل باقي اهل الحي يقبعون في الظلام في مخابئهم مذعورين صامتين حائرين، خائري القوى؟؟ بعد قليل الفت عيناي الظلمة ، ولم اعد اشم الرائحة الكريهة كثيراً. لاحظت ان سقف المخزن ليس مرتفعاً بقدر ما كنت اتصور، وانني استطيع ان ادلي بجسدي من النافذة ثم اقفز على الارض بسهولة. ولماذا السقف المرتفع، وهل تهم صاحب الدكان الشروط المعيشية الصحية الجيدة لحيواناته، ام ان كل ما يعنيه هو ان يبقيهم على قيد الحياة كي يتابع اتجاره بهم ؟
انه الليل
وانا قد قفزت الى داخل الدكان. قفزتي اثارت همهمات واصواتاً غريبة . اذن لم يموتوا ولم يهربوا، ولكنهم مثل بقية اهل الحي تماماً في حالة ذعر وخوف. هم يحسون بوجود جسم غريب داخل المكان، ويحاولون عبر قلقهم وخوفهم الغريزي تحديد كنهه. هل هو حيوان من فصيلتهم (صديق) ام من فصيلة اخرى (عدو) ؟ وما نتيجة دخوله الى سجنهم؟ لعل كل حيوان منهم يفكر في، انا ذلك الكائن (الغريب) عن السيادة، أي عن سيادته هو عليها وهي الان بحكم (ببغائية) ما حفظته تعلن بان دخولي الى الدكان تحد للسيادة(!). ولكن، اية سيادة هذه؟ اية سيادة لمن يسكن قفصه ، ويقضي وجوده سلعة تباع وتشتري لاصحاب النزوات ولاثرياء من أي مكان جاءوا؟ اية سيادة لمن حياته سجن بلا نهاية؟
وصحيح ان بعضها الذي يعرض في الواجهة الخارجية يعيش في ظروف نموذجية تلفت انظار الزبائن، وتجعل الحيوانات في المزارع الاخرى المجاورة تشعر بالغيرة من ترف تلك القاطنة في شروط عصرية نموذجية ـ ولكن الاكثرية الساحقة من مخلوقات بائع الحيوانات الاليفة تعيش هنا خلف جدار التنك المرتفع الذي لونه رجل الديكور، ورسم عليه مناظر طبيعية بديعة لشاطيء ساحر تعلوه الغابات المزروعة بالارز والقمم المتوجة بالثلوج ! اية سيادة هي هذه؟! كانت الببغاوات اول من واجه دخولي بشكل عدائي. كانت اصواتها غاضبة ومتحدية في البداية، ثم صارت خافتة. انها بحكم طبيعتها الببغائية لا تملك الا ان تكرر الاسطوانة التي حفظها اياها سيدها، لكنها يضاً بحكم بؤسها وارهاقها لا تملك الا ان تصمت او على الاقل تكف عن تكرارها بحماس. ببغاء واحد ظل يصيح : مرحباً ياضيف. انا نحبك . اشتريني. ويقول بعدها على التوالي: اطلع ياغريب . وكان الببغاء يكرر العبارتين كما لو كانتا وجهين لعملة واحدة.
ووسط هذا الليل  المرعب وجدت صوت الببغاوات مضحكاً .وانفجرت اضحك بصوت عال. فانا لست من (جماعة الزبائن) اصحاب الثراء ولا اجد سبباً يدعوا لاعتباري (الغريب) غير المرغوب فيه. اليس بؤسنا واحداً؟ خوفنا واحداً؟ قلقنا وحيرتنا ومخاوفنا وبالتالي مصيرنا واحداً؟
سكتت الببغاوات. لم تبق عير همهمة جماعية كبقايا صوت مظاهرة مقهورة امام هراوات رجال الشرطة. مزيج عجيب من مواء وعواء و"هسيس". اجل لم تكن العصافير تغرد او تزقزق بل كان صوتها اشبه بغمغمات محتضر. كان الصوت رهيباً مخيفاً مليئاً بالهول. بل كان كالصوت البعيد القادم من قبيلة من الجرحى والمحتضرين الذين ادمتهم الحرب وحرقت اطراف ثيابهم واهدابهم واقدامهم.
وحينما عادت الانفجارات شعرت ببعض الراحة..فصوت العذاب الحيواني اشد ايلاماً لقلبي حتى من صوت الرصاص المصهور في فوهات البنادق .
هدأ الرصاص. عادت الهمهمات . وسمعت نفسي اقول لهم بصوت عال: شعبي الكريم! (سمعت صوتي وخفت منه وخيل الي انني بدأت اصاب بمس من الجنون). ولكنني تابعت: ياشعبي الكريم. بلاغ رقم واحد. جئت احمل لكم الخلاص . وردت علي الحيوانات بارتفاع همهمتها التي كانت تحمل كثيرا من الخوف. صرخت بهم: صفقوا لي، وانفجرت ابكي. شعرت انني ممثل صغير بائس مهزوم يمثل وحيداً على مسرح بائس مهزوم مثله.
كانت عيناي قد الفتا الظلام النسبي تماماً . تذكرت انني هنا لاحضر لهم الطعام والماء ولاتفقد حالهم ، لا لاصاب بجنون العظمة وانصب نفسي اميرة على مملكة البائسين. الاسياد لا ينقصونهم ولكن ينقصهم الماء والغذاء وكل شيء أخر ما عدا الزعماء.
فوجئت بالطعام في اقفاصهم وبالماء ايضاً. لم يكن قد نقص ولا زاد. كان في الاقفاص ما فيه الكفاية ليعيشوا اياماً. ترى هل غامر صاحب الدمان وجاء لاطعامهم؟ اشك في ذلك. كانت نوعية الطعام سيئة، والماء ايضاً كان ملوثاً ، ولكنه كان موجوداً على كل حال.
ودوى انفجار. وعلى ضوء التماع الصاروخ الذي اضاء كالبرق لوهلة، شاهدت كل شيء في نظرة واحدة شاملة انطبعت في ذاكرتي كوشم من جمر والى الابد. شاهدت ان بعض الحيوانات جريح، كانها  تقضي نصف وقتها في الذعر ، والنصف الاخر في الشجار فيما بينها. هذا السجن المروع البؤس يشحنها بعدوانية تحتاج الى تفريغ، والتفريغ يحدث للاسف عن طريق الاقتتال فيما بينها بدلاً من الهجوم  الموحد على صاحب الدكان، سجانها. وشاهدت احد الطواويس فارشاً ذيله، وخيل الي انه يتباهى على ما تبقى من حيوانات، وان الكلاب الكبيرة (تتمرجل) على الكلاب الصغيرة ، والقط الكبير يفرض (الخوة) على القط الصغير، خيل الي انهم مشغولون بسفاسف فروقهم البيولوجية دون ان يلحظوا انهم يشتركون في شيء واحد : هو انهم جميعاً عبيد وسجناء. آه الحمقى، الا يرون حقيقة الامر؟ بلى. ربما كانوا يرون ذلك، فقد لاحظت في عيونهم جميهاً نظرة واحدة. نظرة دامعة مليئة بالذل والنكسار والذعر ولمسة من الغضب القلق.
اتجول بين مخلوقات دكان بائع الحيوانات الاليفة ـ وضوء الشارع يرتجف مع كل انفجار، والليل الحزين يسيل من اقفاص الحيوانات السجينة المكسورة النظرات. اتجول بينها مثل ملك اسطوري مجنون في قرية خرافية جميع سكانها من الجرحى والمشوهين والبؤساء ، وهو اشد الجميع بؤساً.
اعاود مخاطبتهم : ياشعبي الكريم . قررنا منحكم اثمن ما في الوجود . الحرية.
وكأن صوتي يقلقهم اكثر مما يرعبني (يرعبني ان اكون مشرفة حقاً على الجنون). وخلف كل جملة اصرخ بها، تعلو همهماتهم الموحدة ، العواء المتعب للكلاب ، عواء اقرب الى المواء، ومواء القطط الشبيه بالانين، وصوت العصافير الذي لا يشبه الزقزقة ، بل هو اقرب الى اصوات شخير شيوخ محتضرين ، وشهقات الارانب ونعيب الفئران الاقرب الى صوت البوم منه الى صوت العصافير . وأمتلات الماً لحال تلك المخلوقات السجينة البائسة وقررت : سوف اطلق سراحها . سوف امنحها الحرية والفرح. وغداً حين ياتي صاحب الدكان الذي يعتاش من بيعها ، لن يجدها . سأحررها من البؤس الذي تحياه .
لحظات وافتح ابواب الاقفاص كلها، لحظات واسمع خفق اجنحة العصافير وهي تطير عبر النافذة وفوق الاشجار الى البحر الذي لابد وانها تفتقده في سجنها المعدني ، وتهرب من هذه المدينة المجنونة الى الغابات، لحظات وافتح باب سجن كلاب الصيد لتنطلق مجنونة تشم رائحة الليل النقي هاربة من جحيم الاسر ، لحظات وتخرج القطط وهي تموء كما لو كانت تزعرد ، وقد تمشي على قائمتين بدلاً من اربع لشدة الفرح، لحظات وتنطلق الفئران البيض وتتسلق الاغصان وتنام ملتفة باوراق الاشجار ، لحظات وتتحول كآبة هذا السجن الى مهرجان حين تمسه يد الحرية، ولكن بمن ابدأ او أي الاقفاص افتح اولاً؟ خشيت ان افتح قفص الكلاب قبل القطط ، فتطارد الكلاب القطط وتؤذيها . كان من الممكن ايضاً اطلاق الطيور قبل الكلاب والقطط معاً لئلا تنشأ معركة جوية ارضية بينها.
قررت ان تتم عملية (تحرير) مخلوقات بائع الحيوانات الاليفة على الوجه التالي : اطلاق سراح الطيور اولاً ثم الفئران . فالطواويس . فالقطط . فالكلاب . كان لابد من (التخطيط المرحلي) للعملية ، وقد فوجئت بذلك ، والا لخططت له طوال النهار. يدي ترتعد وانا افتح اقفاص الطيور كلها من حساسين وبلابل وببغاوات . شيء رائع ان نصنع الحرية . كان الباب صدئاً ، لكنه لم يكن محكم الاغلاق . صرير حاد صدر عن مزلاجه ، وبدا لي ان الطيور اجفلت قليلاً كانما اخافها صوته . فتحت الباب على مصراعيه ، وفوجئت بانها لم تتجه اليه لتطير هاربة صوب الحرية والليل والرياح والسماوات ودروب المجرة ، وانما سارت تلقائياً نحو المكان المعد لطعامها كما لو كانت عمياء او منومة مغناطسياً . لقد اعتادت ان يتم فتح باب السجن لمجرد لاطعامها ، ولعلها تظن انه اعيد اغلاقه . فتحت ابواب اقفاص الطيور ، وهالني ان عصفور منها لم يطر. كأنها نسيت الحرية . كأن خيوطاً لا مرئية تربطها بجدران سجنها . جلست اراقبها  مذهولة . لم تعد المتفجرات ترعبني . لم تعد اصوات الرصاص تخيفني. مشهد الطيور القابعة في سجنها رغم الباب المفتوح ملأني بذهول وخوف لم اعرف لهما مثيلاً طوال حياتي . دائماً تخيلت الطائر جائعاً للحرية، يقضي لياليه وهو يضرب جدران القفص بجناحيه وبابه برأسه . دوماً تخيلت انني ما اكاد افتح الباب للعصافير حتى تنطلق فوراً طائرة نحو شمس الحرية. ولكن ، في هذا للبل الذليل الطويل، تبدت لي صورة مروعة للطبيعة (الحيوانية). تقدمت منها ، وحملت في يدي بطائر ، واحسست بجسده ينبض داخل يدي دافئاً وربما خائفاً ، بل خيل الي انني احس بضربات قلبه ، حملته وقذفت به نحو النافذة . فرد جناحيه قليلاً، قليلاً جداً بما فيه الكفاية ليكون سقوطه على الارض متوازناً واقل ايلاماً . واستوى واقفاً على قدميه وعاد فمشى باتجاه قفصه وطار بجناحين مضطربين ليستقر في داخله ، ثم مشى الى داخله واختبا بين بقية زملائه السجناء. صعقني المشهد . فانطلقت كالمجنونة افتح ابواب الاقفاص جميعاً ، واصرخ بها جميعاً . فكانت تهرب من موقع الباب وتمعن هرباً الى ابعد بقعة داخل السجن وبعضهم يحتمي ببعض . كأن الحرية غول قابع بانتظارها . كانها نسيت كل شيء عن الطبيعة والسماء والركض والتحليق والسباحة ، نسيت كل شيء عن الحرية والفرح وتحضير رزقها ومتع الصيد في دروب الفصول الاربعة ، مكتفية بنصيب يقيم اودها بينما هي مختبئة داخل اوكارها مذعورة من الرصاص راضيه بهذا السجن الخامل مسلمة امرها الى الاقدار. والى سيدها صاجب الدكان . ذكرتني بحال اهل حينا ، حيث يهدأ القتال في اوائل كل شهر، فيذهب كل واحد لقبض واتبه او نصف راتبه او ربعه كما يشاء له رب عمله ، ويعود بعدها راكضاً الى بيته ، القفص ، حاملاً ما استطاع تخزينه من طعام ، قابعاً في عاصفة الريح والنار والجموم مكتفياً من حياته باحط انواع الوجود البيولوجي.
كانت ابواب سجون دكان بائع الحيوانات الاليفة كلها مفتوحة ، ولم يهرب احد عبر النافذة  . بعض القطط مد برأسه من باب السجن دون ان يُخرج جسده منها . كلب خرج وتجول قليلاً في ارض الدكان - السجن- ثم عاد الى القفص المعد له بالذات . لم يفكر حتى بالدخول الى قفص آخر على الاقل .
شعرت بان المشهد يثير جنوني . فتركت الدكان وانطلقت هاربة . تسلقت النافذة، وخرجت منها كما دخلت، واعدت اطارها الى مكانه، ولم احكم اقفالها بحيث تستطيع الحيوانات الخروج منها فيما لو حاولت او رغبت حقاً بذلك. في الخارج كان الليل بانتظاري، بارداً وكئيباً، والرصاص لا يهدأ.
ركضت الى النخلة، ودفنت وجههي في جذعها الرطب وفاحت في انفي رائحة الارض. وبكيت طويلاً طويلاً وقد الصقت صدري بصدرها. وخيل الي انها لم تعد خشباً، وان جذعها رق لي، وهززت الى بجذع النحلة، وخيل الي ان شيئاً رطباً نقياً يتساقط على، وشعرت ببعض السلام يغمر روحي الممزقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق