الثلاثاء، 5 يونيو 2012

هنا إذاعة نفاقستان ... من بيروت



    هنا إذاعة نفاقستان ... من بيروت !    للكاتب و الصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {المرافئ القديمة}  في إفتتاحية مجلة المستقبل بتاريخ 1974/7/20     الذين يتابعون إذاعات النقل الخارجي من إذاعة لبنان من بيروت، لن يصدق ما يروى لهم ... لأن ما يحدث يقرب فعلاً من الخيال.     مرة، وبعد أن بحّ صوت المذيع ... إذاعة لبنان من بيروت وهو يصف حفلة أستقبال أمير الكويت، إنتهت الحفلة، وتفرّق المستقبلون... ولم يبق في المطار إلا المذيع وحده، وحاول الإستنجاد {بالأستديو} في الإذاعة ليقفل الميكرفون ففشل، فإذا به ينظر إلى الطائرة التي جاء فيها الأمير ويبدأ بالحديث {على الميكرفون} معها قائلاً {وبلا مبالغة} : أيتها الطائرة الجاثمة على أرض المطار، يا من حملت بين جوانحك حبيب لبنان، أهلاً بكِ {للطائرة} في وطنكِ الثاني، أيتها الطائرة الغالية، هل تعرفين من حملتِ إلينا ؟ هل تعرفين من كان بجوفك ؟ رويدك دائماً أيتها الطائرة... رويدك دائماً فعندما تأتين إلينا تحملين رجلاً كبيراً، حبيباً .... عزيزاً عزيزاً ....     ولولا إنقاذ الأستديو للمذيع في اللحظة الأخيرة، وإغلاق الميكرفون لكان قام من مكانه ... ليقبل الطائرة.     وليت الأمر يقتصر على ما يقوله المذيع، وإنما يتعداه إلى جميع البرامج والأغاني التي تذاع يوم سفر أو استقبال أي ضيف من ضيوف لبنان، في الأسبوع الماضي، عندما أقلعت طائرة أمير الكويت من المطار .... كانت الأغنية التي بثّت من الإذاعة مباشرة هي أغنية {يا بو عيون عسليّة ... تاركنا لمين ؟؟؟!!!}.     قبل أسبوعين حضر الرئيس فرنجيّة افتتاح المؤتمر الكشفي العربي في البترون، وكانت الإذاعة تنقل وقائع الإحتفال ... وبينما كان الرئيس فرنجيّة يدخل مكان الإحتفال إنقطع التيار الكهربائي، وإذا بالمذيع يقول : الخبراء الفنيون توزعوا لإصلاح العطل في التيار الكهربائي ... ولكن {وأرتفع صوته} ماذا يهمنا من الليل، ماذا يهمنا من الظلام ما دام بيننا شمس ساطعة ... ما دام بيننا شمس تبدّد الليل المدلهم، شمس فخامة الرئيس سليمان بك فرنجيّة، إنها تبدّد الظلام، وأكاد من هنا، من مكاني أشعر بحرارتها.     وظل المذيع {لا فض فوه} يتحدث عن الشمس وحرارة الشمس لمدة دقائق {حتى قيل أن بعض المدعوين للمؤتمر وضعوا على رؤوسهم مظلات لإتقاء حرارة الشمس}.     قبل ذلك بشهر كان المذيع {ماغيره} ينقل وقائع الإحتفال بتخريج دفعة جيدة من الضباط عندما بدأ المطر يهطل فإذا به يقول : أفراد الجيش اللبناني الباسل يتلقون زخات المطر برؤوس شامخة، ما همهم هؤلاء الأبطال من المطر ... إنهم يتحدونه بصدورهم.     هذه أمثلة بسيطة ونماذج صغيرة مما يستمع إليه الناس كل أسبوع بل كل يوم أحياناً من الإذاعة.  والكلام نفسه يتكرر مع كل ضيف، وفي كل مناسبة.     ونشكر الله أن الضيوف أنفسهم لا يستمعون ـ وفي غمرة الإستقبال الرسمي ـ إلى هذا الكلام، لأنهم ـ لو فعلوا ـ سيشعرون حتماً أن المقصود بمثل هذا الكلام ليس المديح ولكن الهجاء.  فالمبالغة في المديح هي تماماً كالمبالغة في الذم ... ومن منكم يستطيع أن يقنع حاكم رأس الخيمة مثلاً {الذي زار لبنان أيام عهد الرئيس حلو} أن المذيع لم يكن يذمه عندما وصفه {بالمجاهد الكبير ... وخالق الدولة العظمى} {بالمناسبة عدد سكان رأس الخيمة 2000 نسمة !!} مما جعل أحد السياسيين يتصل بالإذاعة اللبنانيّة يومها ليقول : ماذا تركتم للرئيس عبد الناصر إذا جاء لزيارة لبنان ؟     ولكن هل يلام المذيع إذا هو بالغ ؟ ألم يستمع إلى وزيره {فهمي شاهين} في العام الماضي وهو يصف ذكرى 17 آب/أغسطس بأنها {مولد وطن}!! ولم يخطر ببال أحدهم أن يسأله : أين كان هذا الوطن من قبل ؟ وحتى ـ استطراداً ـ ما ذنب فهمي شاهين إن هو تملق بعد أن سمع بقصة الوزير الكبير الذي وقف في مجلس الوزراء ليقول للرئيس شارل حلو: يا صاحب الفخامة إنني أرى في محياك ملامح القديسين، وصدق الأنبياء والمرسلين !!     ... حتى للنفاق هناك أصول وتقاليد، والمنافق الجيد هو الذي يعرف كيف ينافق بدون أن يكون هذا النفاق ممجوجاً ويدعو إلى التقيؤ.     أما هنا، في لبنان، بلد الـ {هالكم أرزه العاجقين الكون} فقد أصبح كل من يعمل في مهنة الإعلام يضطر في كثير من الأحيان أن يهاجم الناس، لأنه لو مدحهم فسيكون كمن شتمهم ...  أليس المديح الرسمي {اللبناني} هو أقرب إلى الشتمية منه إلى المديح ؟.




   في مسألة المهنة أيضاً ! 
 
للكاتب والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {آخر النهار}
نشر هذا المقال في صحيفة النهار بتاريخ 28/10/1995
 

 

زمان {قبل الكومبيوتر} يوم كان لكل حرف مقياس، كنت تكتب عدداً معيناً من الكلمات، وتعرف سلفاً أنها تكفي للمساحة المخصصة لمقالك.

اليوم، حيث يصغّر الكومبيوتر الحرف ويكبّره ـ كما تشاء ـ فأنت خاضع لحكم الإعلانات، ولذلك كان من المفروض على {النهار} أن توزع الأسبوع الماضي، نظارتين طبيتين مع كل عدد من أعدادها، كي يتسنى للقارئ قراءة ما كتبناه بعنوان {في مسألة المهنة}.

وفي مسألة المهنة :

ففي الخمسينيات قرر الأستاذ فيليب تقلا أن يصبح زميلاً لنا، فاتفق مع المرحوم الأستاذ حنا غصن على إصدار جريدة {الديار} (التي كان يملكها) معاً. وكنت في عداد المحررين.

ومنذ بدأت الكتابة وأنا أهوى وضع عشر نقاط بعد كل كلمة {وأحياناً قبلها}، ولفتت هذه الظاهرة الأستاذ فيليب ـ أمد الله بعمره ـ فاستدعاني إلى مكتبه، وما إن جلست حتى قال لي: بتسمح {نستعير} كم نقطة من مقالك لاستعمالها في مقالي، فقد أبلغت إليَّ المطبعة أنه لم تعد هناك نقاط عندها لمقالي بعدما تمَّ صف مقالك {كانت الجريدة يومها تصف باليد}.

ثم استرسل يشرح لي أنه يجب أن يكون لكل نقطة معنى، فالنقطة الوحيدة بعد الكلمة تعني إنتهاء المعنى، والنقطتان تعنيان ... ثم الثلاث والأربع إلى آخره.

وعلى رغم اقتناعي بكلام الأستاذ فيليب، إلاّ أنني لم أتوقف عن رش النقاط في كل مقال أكتبه.

تجربتي في {الديار} بمعزل عن التنقيط، تجربة لن أنساها، فقد أستقطب لها الأستاذ فيليب الكتّاب الكبار وعلى رأسهم الأستاذ الكبير أميل خوري، والصحافيين الكبار والزملاء الواعدين {وكنا منهم}، ومع ذلك بقي توزيع الصحيفة محدوداً، على رغم أن الشريك حنا غصن كان ينفرد كل يوم بـ {مانشيت} محليّة مهمة وخطيرة ومثيرة، تكفي وحدها لبيع أرقام كبيرة..

هذا في الوقت الذي كانت جريدة كـ {التلغراف} التي يحررها الزميل الراحل نسيب المتني تقريباً وحده، تكاد تختفي من السوق بعد صدورها بقليل.

ومن يومها إلى اليوم، وأنا أسأل نفسي: ما هي {الكيمياء} التي تشد القارئ إلى جريدة ما، وما الذي يجعله يبتعد عنها ؟

أشك في أنني أعرف الجواب الكامل حتى الآن، على رغم أنني توليت إصدار مجلات عدة ورئاسة تحريرها، كانت آخرها {المستقبل}.

وأيضاً الشيء بالشيء يذكر في لبنان، أعني السوق المحلي، لم تبع مجلة في تاريخ الصحافة اللبنانيّة بقدر ما باعت {الحوادث}، يوم كان يصدرها المرحوم سليم اللوزي، وكنت رئيس تحريرها قبل أن أصدر {المستقبل}، وفي استطاعة المدير العام لشركة التوزيع اللبنانيّة الصديق فؤاد تويني أن يعطي شهادة بذلك.

كان عدد المحررين في {الحوادث} يومها لا يزيد عن عدد أصابع اليدين، ولم يكن لها مراسلون ولا من يراسلون، وطبعاً لا مكاتب في أي مكان، وكانت تحرر من الغلاف إلى الغلاف في بيروت، ومع ذلك كانت أرقام مبيعاتها مع الباعة المتجولين من دون المكتبات وأكشاك الصحف وفي بيروت فقط ما يقارب الـ 25 ألف نسخة أسبوعيّاً، وهو رقم لم تكن تطبعه ولا تصل إليه أربع أو خمس مجلات مجتمعة.

ما هي الكيمياء ؟

لا أزال، حتى اليوم، أعجز عن الإجابة الكاملة.

إن هذه {الكيمياء} لا تخضع لمعادلة محددة، أو {روشتة} معينة، وإلا كان جميع {هواة} إصدار الصحف والمجلات درسوها وطبقوها.

وهي تماماُ كالمعادلة التي تجعل القارئ يقبل على قراءة مقالات كاتب معين ويرفض أن يقرأ لكاتب آخر، على رغم أن {الاثنين} بذلا مجهوداً مماثلاً في جمع المعلومات واختيار الموضوعات، فالموضوع واحد والمعلومات واحدة، والفكرة هي هي، فإذا كتبها كاتب معين قرأت له، وإذا تناولها كاتب آخر عزفت عنه.

في أميركا ـ بطولها وعرضها ـ لم تصدر مجلة سياسية ناجحة منذ عشرات السنين بعد {تايم} و{نيوزويك}، وهناك أيضاً يسألون : ما هي المعدلة ؟

أخيراً، قبل أسابيع أصدر إبن الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي {جون جونيور} مجلة سياسية وهو يعتقد أنه يملك أسرار {المعادلة}.

نرجو التوفيق له، ولك المدعين أنهم يملكون أسرارها فقد توقفنا عن إصدار المجلات منذ سنوات !.
عودة ... عصفور من الشرق
 
للكاتب والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {المرافئ القديمة}
في إفتتاحية لمجلة المستقبل بتاريخ 10/2/1985
 

كانت باريس حلماً ... وتكاد تصبح كابوساً .

عندما كنار صغاراً، نسرق الوقت ونقتّر النقود كي نهرب إلى السينما، كنا نصاب بما يشبه التخدير كلما رأينا على الشاشة مشهداً، ولو لدقيقة واحدة، لباريس.

إذا أرقنا في الليل، ونحن نستعرض ما شاهدناه على الشاشة الكبيرة، كان أرقنا يطوف دائماً حول باريس.

وإذا نمنا من كثرة الأرق والتفكير بباريس، كنا نحلم .... بباريس.

ونضيف إلى ما رأينا في السينما من خيالنا أشياء وأشياء.

نرفض المقارنة بين باريس وبين أي عاصمة أخرى، فهي عروس المدن وغانية العواصم، وهي بالنسبة إلينا الغرب.

عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، قرأناه، بل وحفظناه لكثرة ما قرأناه. وسبحنا معه في خيالنا، حتى أصبح كل من يشعر أنه والبطل توأمان، وأن الأمنية الكبرى البعيدة في حياته أن يكون ـ في يوم من الأيام ـ بطل العصفور القادم من الشرق.

محمد التابعي {عقّدنا} جميعاً بكتابه {بعض من عرفت}، ولكننا توقفنا أمام حكاياته، وحكايات مغامراته في باريس، وقضينا أيام صبانا الأول، نكره التابعي ونحقد عليه، لأنه كان .... هناك، هناك، في باريس، ونحن لا نراها إلا في السينما أو المجلات أو بعض بطاقات البريد .... التي يستلمها غيرنا، ونحسده عليها.

وعندما أطلّ علينا سهيل إدريس برواية {الحي اللاتيني}، وكنا بدأنا نحبو في دنيا الكتابة، توقفنا عن الكتابة {كتابة القصة} لأشهر طويلة، فمن الذي يستطيع كتابة قصة، بعد قصة إدرس عن باريس، وحيّها اللاتيني، وقصص الحي اللاتيني مع البطل القادم من الشرق أيضاً.

وإعتقدنا أننا إذا زرنا باريس، فقد تخفف هذه الزيارة من وهج الحلم، وأن واقع المدينة النائمة على ضفاف السين، سيرجع إلينا عقلنا الذي أخذته هذه العشيقة البعيدة، البعيدة.

وزرنا باريس ... لأسبوع في المرة الأولى، فإذا الحلم البعيد، يتحول إلى حب حقيقي، وإذا بالحنين إليها بعد الزيارة والعودة إلى الوطن، يصبح ألماً في القلب، وضيقاً في التنفس.

وكما كنا نسرق الوقت للذهاب على السينما أصبحنا نسرق الوقت للذهاب إلى باريس.

ونعود دائماً، وأبداً ... ولما نرتو. دائماً عطاشاً إليها ...

وإلى غموضها، وسحرها الذي لا ينتهي.

وتحترق بيروت، وتقذف بنا الأيام إلى ... باريس.

{مؤقتاً} في البدء.

أسبوع. شهر. شهران. ثلاثة ....

نقراء كل الصحف، وبكل اللغات، ونستمع إلى كلّ الإذاعات، وبكلً اللغات، ونشاهد التلفزيون ... باللغة الفرنسيّة فقط.

نتساقط أخبار بيروت.

نتسكع في المقاهي ... بإنتظار بيروت.

ننام، ونصحو ... وكأننا على موعد مع بيروت.

ويصبح {المؤقت} ... دائماً ...

نستأجر منزلاً، ثم مكتباً،  ثم تصدر {المستقبل} من باريس.

وفجأة يسقط كل شيء.

ينطفئ الوهج. يموت الحب. تصبح باريس كابوساً.

....وتضمنا سهرة مجموعة من المهاجرين.

كل واحد يشكو خيبته و{كابوسه}.

رجل واحد، ظل جالساً لوحده بعيداً عنا وعن الشكوى ... وعن الحنين، وكان صوت شكواه الصادر من عينيه أعلى من أصواتنا جميعاً.

كان حزيناً ... إلى درجة البكاء.

ولم تننته السهرة إلا وقد لفّنا جميعاً في حزنه.

ولم تكن المرة الأولى التي أسهر معه ... أو يصدمني صمته وحزنه.

لكنني لم أسأل، ولا مرة واحدة، عن سر هذا الحزن.

إلا تلك الليلة، فقد سألت صديقاً آخر يجلس إلى جانبي.

وهمس في أذني، وكأنه يعترف : ألم تعرفه ... إنه بطل رواية سهيل إدريس {الحي اللاتيني}، لقد اضطرته الأيام إلى العودة إلى باريس للعمل فيها، بعد أن عرفها كتلميذ.

ومن يومها .... لم تفارقه الصدمة.

 

في مسألة المهنة

 
للكاتب والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {آخر النهار}
نشر هذا المقال في صحيفة النهار بتاريخ 21/10/1995
 

في باريس كنت خارجاً لتوي من حضور الفيلم الجديد لكلينت إيستوود {الطريق إلى ماديسون}، اشتريت الصحف العربيّة من {الكشك} الذي تعودته، وتعودني من أكثر من عشرين سنة، وجلست أقرأها بمتعة المدمن الممنوع من التدخين، لأفاجأ بخبر بارز في إحداها يقول : انتهى الممثل كلينت إيستوود من تصوير فيلمه الجديد {الطريق إلى ماديسون} والذي سيعرض في الموسم المقبل في صالات العرض في العالم.

ضحكت. لا بد من أن المحرر الفني في الصحيفة العربيّة الكبرى{إنحشر} بخبر لـ {تسكير} الصفحة (كما نقول) فلجأ إلى خبر عمره ما يقارب السنة، فأرسله إلى المطبعة وهرع إلى موعد العشاء.

عرت المحرر، فقد كنت على موعد عشاء، قبل أربعين سنة، ولم أجد حتى خبراً قديماً لـ {تسكير} الصفحة، وجدت صورة فـ {فبركت} لها خبراً وذهبت إلى موعد العشاء.

الخبر {المفبرك} كان أيضاً خبراً فنياً، ولكن ذا {أبعاد سياسية}، كما حدث هذا العام 1955، وكنت أعمل في مجلة {الصيّاد} يوم كانت زهرة المجلات في لبنان، أيام عميدها وأستاذ الجميع المرحوم سعيد فريحة.

وإنحشرت كما أنحشر محرر خبر كلينت إيستوود، وفجأة رأيت أمامي صورة الممثل مارلون براندو، وبما أنني لم أكن محرراً فنياً، والصفحة التي أحررها سياسية، أمسكت بالصورة وأرسلتها إلى المطبعة مع عنوان يقول: {إمنعوا أفلام هذا الصهيوني}.

لم أعد أذكر تفاصيل الخبر الذي كتبت، وإن كان فحواه يقول إن براندو متبرع دائم للإسرائيل.

وذهبت إلى العشاء...

كانت المفاجأة أن مكتب مقاطعة إسرائيل في دمشق، صدّق الخبر، وما هي إلاّ أسابيع حتى صدر قرار يمنع أفلام مارلون براندو من دخول العالم العربي.

وعبثاً حاول ممثل الشركة التي توزع أفلام براندو رفع الحظر وإلغاء القرار، فقد كانت {الصيّاد} أصدق من كل الوثائق التي تقدّم بها.

للقصة بقية: إنتقاماً أو غضباً، بدأ مارلون براندو يتبرع بالفعل لإسرائيل، واستمر كذلك إلى أن حدث نوع من الإتفاق بين الشركة المنتجة لأفلامه، ومكتب المقاطعة على رفع أسمه عن القائمة السوداء، إذا توقف عن التبرع ... وهكذا كان.

حدث هذا قبل أربعين سنة، ماذا يحدث اليوم ؟

تابعت قراءة الصحف العربيّة في ذلك الليل الباريسي المبلل بالمطر.

لاحظت، أننا {أهل المهنة} كنا {نفبرك} الأخبار {أحياناً} قبل أربعين سنة، وكان الحكّام يصدقونها.

أما اليوم، فالحكّام {يفبركون} الأفكار والأحداث، ونحن نصدِّقها، وتالياً فنحن جميعاً نعيش في عملية تكاذب كبرى، والضحيّة ـ الوسيلة في آن واحد هي المهنة : الصحافة.

نصف رؤساء التحرير في العالم العربي، لا يصدقون ما تنشره صحفهم {على ألسنة الحكّام} والنصف الآخر يكذب على نفسه، ويدَّعي أنه يصدق.

نصف الذين يذهبون لإجراء مقابلات صحافية مع الحكّام يعرفون لفاً أن ثلاثة أرباع ما سيكتبونه على لسان الحكّام ليس حقيقياً، والنصف الآخر يكتب ما سيقوله الحاكم، قبل أن تتم المقابلة.

نصف الذين يكتبون في تأييد الحاكم منتفع، والنصف الآخر خائف.

نصف الصحافة يملكه الحاكم، والنصف الآخر متعاطف مع الحكّام، لأسباب ... إعلانيّة ـ إعلاميّة...

لم يعد الخيار هو الحرية المسؤولة، صار الخيار هو الحرية التي لا تعارض ولا تعترض. الرقيب في كل العواصم العربيّة صار من دون عمل، لأن الصحف ... تراقب نفسها.

لم يعد الحاكم مضطراً إلى سجن الصحافي لتأديبه، صار يكتفي بتجويعه. أبدل التعذيب بالترويض، لم يعد هناك {قضية} أو قضايا، صار هناك حلول.

الخلاف، لم يعد يفسد للود قضية لأنه لم يعد هناك خلاف أصلاً.

لا أحد يتحدث {أو يكتب} عن المضمون، الحديث والكتابة صارا في الشكل وعن الشكل.

{فنّ الممكن} لم يعد يقتصر على السياسة، امتد أيضاً إلى عالم السلطة الرابعة.

من بقي من الجيل الذي يرفض أن يوافق قبل أن يناقش ويقتنع والذي يستمر في قول {لا} في زمن الـ {نعم}، صار في طريقه إلى الإنقراض تماماً كالديناصورات.

وكما {زمان الوصل في الأندلس}، أنتهي زمان الخطف {فكلنا مخطوفون} وضرب الموسى {موضة قديمة} والإغتيال ... لأن له رائحة.

وبعد ذلك أنلوم المحرر الذي نشر خبراً بائتاً بريئاً عن كلينت إيستوود و{الطريق إلى ماديسون}؟

العوض بسلامتكم.

عصر { الهلس } 

 

للكاتب والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {آخر النهار}

نشر هذا المقال في صحيفة النهار بتاريخ 9/8/1997
 

بلا مبالغة، كتبتُ في حياتي الصحافيّة أكثر من عشرين ألف مقال، ونُشر في نهاية العام الماضي كتابي الخامس عشر، ولا أستطيع أن أحصي عدد التعليقات الإذاعيّة التي كتبتُها {وأذعتها} وظهرتُ على شاشة التلفزيون أكثر من عشرين مرة.

الناس، أو معظم الناس، لا يذكرون أو يتذكرون من كل هذا، إلا ما قلته على الشاشة الصغيرة، التلفزيون.

هل نحن على أعتاب نهاية عصر الكلمة المكتوبة {ومن يكتبها} وبداية عصر الكلمة المرئيّة والمسموعة في آن واحد ؟

أتفه مذيعة تلفزيونيّة اليوم يعرفها الناس أكثر مما يعرفون نجيب محفوظ.

وأصغر قارئ للأخبار على الشاشة الصغيرة أشهر من أي كاتب صحافي، أمضى في مهنة المتاعب {وليس البحث عنها}، ما يقارب نصف هذا القرن.

هل يعني هذا أن نكسر أقلامنا، ونسارع إلى طلب وظيفة، أي وظيفة، في هذا العالم {عالم التلفزيون} الذي فرض نفسه على بيوتنا وحياتنا معاً ؟

شاعر مغمور، يقدمه مذيع {أغمر} مدة دقائق، فيقرأ قصيدة أو قصيدتين لا تنشرهما أي جريدة أو مجلة تحترم نفسها، يصل حتماً بشعره إلى عدد من الناس يفوق بكثير الذين قرأوا للمتنبي، والذين سيقرأونه.

إذا قلت لأحد أنك لا تزال تكتب بالقلم على ورق أبيض، كما كان يفعل كل من سبقك إلى الكتابة منذ اختراعها، وأنك لم تصل بعد إلى الكتابة على الكومبيوتر، نظر إليك باحتقار، وإذا كان ودوداً نظر إليك بشفقة.

كان الناس ينامون مع كتاب، صاروا ينامون مع كاظم {الساهر}.

حتى متعة كتابة الرسائل وتلقيها، هي في طريقها إلى الانقراض، فقد طحش عليها {الإنترنت} والـ {emaiel}. لن يرسل إليك أحد، أو ترسل إلى أحد رسالة معطرة تحتفظ بها سراً في خزانة الذكريات، أقصى ما تطمح إليه أن تتسلم رسالة عبر الآلة الباردة.

لدي شعور أنهم ينتظرون رحيلنا، أو توقفنا عن الكتابة، أو وصولنا إلى مرحلة اليأس، كي يحولنا إلى {سوق البرغوت} للأنتيكا، سواء في بيروت، أو في باريس.

تعزي نفسك بأن ما يحدث عابر لن يستمر طويلاً، طفرة، كأغاني الشباب، وأن عهد الكلمة المكتوبة {بالورق والقلم}، لن يهزه هذا الإعصار الآتي من الغرب، وأن ألف كاتب تلفزيوني لن يصل إلى ركبة طه حسين، أو توفيق الحكيم، وأن ألف مطرب {فيديو كليب} لن يطاول حذاء محمد عبد الوهاب، أو أم كلثوم.

أنت تكابر.

فلم يعرف {الملايين} نجيب محفوظ إلا عبر نقل أدبه إلى الشاشة الصغيرة، قبلها كانوا بالآلاف التي لا تتعدى أصابع اليدين، إن لم نقل اليد الواحدة.

والملايين أيضاً شاهدوا ورقصوا على أغنية {نور العين} لعمرو دياب التي قيل أنها باعت مليون نسخة من الكاسيت، بينما {جندول} عبد الوهاب، أو {أراك عصي الدمع} لأم كلثوم، تحاول ـ فقط تحاول / أن تصل إلى ما وصلت إليه أغنية واحدة لجورج وسّوف ونجوى كرم.

هل تستقيل، لأن العصر سبقك، أو لأنك فشلت في اللحاق به ؟

طبعاً لا.

لأن هذا يعني إقرارك الكامل بالهزيمة. عليك أن تستمر، وأن تقاوم، وأن تبقى، وأن تكتب، لأنك أنت ـ أنت وحدك ـ {ككاتب} ستبقى، لأن ما سيبقى، على رغم {عصر الهلس} الذي يغرق العالم، هو الكلمة المكتوبة.

منذ آلاف السنين كانت، وإلى آلاف السنين ستبقى.

أما إذا كسرك هذا العصر، وخسرت، فحسابك أنك لم تنحنِ.

خذونا ... إلى بيروت
 

للكاتب و الصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {المرافئ القديمة}

في إفتتاحية مجلة المستقبل بتاريخ1977/3/26  
 
الظاهرة المميزة في تاريخ العرب {من الجاهلية إلى الأندلس فبيروت} أنهم يزدادون تعلقاً بوطنهم، وحباً له وشوقاً إليه وشغفاً به، كلما ازدادوا إبتعاداً عنه.

كان لنا على بيروت ألف شكوى وألف مأخذ، فإذا بيروت تصبح ــ وهي أنقاض ــ زهرة العواصم.

كانت باريس، بالنسبة لنا، حلماً وأمنية، فإذا بالحلم ينقلب إلى كابوس عندما شعرنا بأنها قد ــ فقط قد ــ تصبح بديلاً عن بيروت.

 

أجمل ما كتبه العرب كان في البكاء على وطن ضاع، أو أثناء غربة عن وطن قهر.

أقفر من أهله ملحوب فالقطبيات فالذنوب

لعبيد بن الأبرص، إلى امرئ القيس في :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل

إلى إبن الرومي في رثاء البصرة بعد أن أحرقها الزنج عندما قال :
لهفي عليك أيتها البصرة لهفاً كمثل وقد الضرم

إلى الأندلسي {أبو البقاء الرندي} في قصيدته الشهيرة والتي يقول فيها:
أتى على الكل أمر لا مرد له
حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا

     إلى ... طبعاً :
جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل في الأندلس

 

وعندما قررت هذه المجلة {الهجرة} كان أول عنوان اخترناه هو عنوان هذه الصفحة : {من دفتر الوطن} وافتتحها الزميل إبراهيم سلامة بمرثيته الساخرة : {خذوني إلى يارافان} وكأنه بذلك يطمئنا إلى أن مصيرنا ــ بعد أعوام طويلة ــ سيكون كمصير {سنكري انطلياس}، ونردد في أزقة باريس : خذونا .. إلى بيروت.

حتى كتابة هذه السطور نحن نردد : خذونا إلى بيروت، لا في الأزقة ولا في الشوارع االعريضة، نرددها ونحن في عزّ اليقظة، ونحن نعي كل كلمة نقولها، ونحن نكرر مع العرب ومع العالم : لا بديل عن بيروت.

إن أمطرت تذكرنا صحو بيروت

وإن بردت اشتقنا إلى دفء بيروت

وإن سهرنا هزّنا الحنين إلى بيروت

وإذا سبحنا قلنا : أين شواطئ بيروت

والجبل، إنه في خيالنا كلما رأينا شجرة خضراء أو زهرة، أو حتى حادث سيارة.

نتلوع  ونحن نتذكر {عجقة السير}، وبوليس السير... وأضواء السير.

تكتشف فجأة أن دنياك، الحقيقيّة هي مجموعة من الأشياء الصغيرة تبدأ ببائع الصحف في الصباح وتنتهي بالعشاء عند {العجمي} في آخر الليل.

تبيع كل أوروبا في سبيل جلسة مع صديق، أو {دسكة} مع رفيق، أو نسمة وأنت في طريقك من العمل إلى المنزل، ومن المنزل إلى العمل.

سكرتير التحرير شكري نصر الله أصدر قراراً الأسبوع الماضي بأن أكتب هذه الصفحة، وأن أكتب بالذات عن مصاعب العمل في باريس.

كل مصاعب العمل التي أرادني أن أكتب عنها لا شيء أمام الغربة، الغربة ذاتها قاتلة ــ بدون مصاعب ــ فكيف إذا اقترنت بقوانين تجهلها، وعادات لا تعرفها، وأناس لا تفهم عليهم ولا يفهمون عليك، ومدينة أنت فيها رقم صغير، وقارة بلا قلب.

العزاء الوحيد أن هذه الأسرة الصغيرة {أسرة المستقبل} تشعر بأنها تعمل من أجل االوطن. وتساهم ــ ولو من بعيد ــ في بناء الوطن.

وقد يكون من المفيد أن نعيد الآن ما كتبته في أحد أعداد {الصفر} عن صدور المجلة إلى القراء...

هذه المجلة ولدت في الغربة ...

ولكنها ولدت من أجل الوطن.

وهي إذ تصدر من باريس، وطن الحرية، فإنما تصدر لإيمانها الملتزم بقدسية الكلمة المسؤولة، الكلمة التي تساهم في بناء الوطن ... لا هدمه.

كلام كثير قيل عن الحرية في الوطن العربي.

وكلام كثير كتب عن الحرية في الوطن العربي.

وكلام كثير سيقال وسيكتب.

لكننا هنا، في هذه المجلة، ما توسلنا الصدور من باريس إلا لقناعة ثابتة بأن الحرية، والحرية الصحفية، والحرية الصحفية المسؤولة بالذات، إنما تشكل سياجاً للوطن، يقيه العثرات، ولا تشكل مدفعاً يصوب إلى صدره.
.... والدروس من لبنان لا تزال مثخنة بالجراح والدم والدمار، والدرس الأول الذي تعلمناه من لبنان هو ببساطة : كيف نبني وطناً، وبالكلمة، سيقال بعد سنتين إنها كانت للوطن سلاحاً له، ولم تكن سلاحاً عليه.
//-->
حمَّال الأسيّة !
للكاتب والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {آخر النهار}
نشر هذا المقال في صحيفة النهار بتاريخ 19/2/1994
 

تعودنا أن نلقي همومنا على جامعة الدول العربيّة، إنها {حمَّال الأسيّة}، نهرع إليها إذا تعثرت بنا الأحوال، وضاقت بنا الدنيا، وأنقطع حبل الوصال في ما بيننا، أو أطلت علينا ضائقة لا نفع في حلها إلاّ إذا تشاورنا واتفقنا على طرق معالجتها {بالإجماع}.

وتعودنا أيضاً أن نقنع من حولها بالوسط، فهي تؤمن إيماناً قدرياً بأن {خير الأمور الوسط}، فإذا إنفجرت مشكلة ولم يتم الإجماع عليها أجّلتها، وإن هي استفحلت {نيمتها}، وإذا استمرت تجاهلتها، وإذا تفاقمت تناستها.

ومع ذلك تبقى هي الملجأ، وتبقى هي البيت، نهرب إليه عندما تتساقط علينا الهموم والمشاكل والقضايا كالقنابل، ونحتمي به من عائلات الزمن.

مشكلتها مع العرب الذين تجمعهم، أنهم يقررون ولا ينفذون.

وإلاّ، فأين المعاهدات وإتفاقات الدفاع العربي المشترك، والتكامل الإقتصادي، والتنسيق الأمني والثقافي والإعلامي والتربوي، وعشرات بل مئات القرارات التي يضيق بها أرشيف بناء الجامعة العربيّة الأنيق في القاهرة ؟

ليس اصطلاح لبناني في اللهجة الدارجة وترجمته : المهم أو الخلاصة.

ليس ...

الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أحدث مطلع الستينيات نقلة نوعية في عمل الجامعة، عندما قفز فوق رأس أمينها العام والمندوبين الدائمين والمؤقتين وكل أجهزتها البيروقراطيّة، ودعا عبر خطاب عام نقل إذاعيّاً على الهواء مباشرة، قادة العرب ورؤساءهم وملوكهم إلى عقد ما سماه مؤتمر القمة في رحاب الجامعة.

وفي أيام، بل في ساعات، كان قادة العرب ورؤساءهم وملوكهم يستجيبون للدعوة بمن في ذلك أولئك الذين كانوا على خلاف كبير مع عبد الناصر، وأذكر أنني كنت في مطار القاهرة عندما وصل إليها الملك السعودي الراحل سعود بن عبد العزيز، الذي فاجأ الرئيس المصري قبل أن يصافحه ببيت الشعر القائل :

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما  يظنان كل الظن أن لا تلاقيا


كان ذلك في العام 1964. وكان لقاء القمة الأول بعد لقاء القمة التأسيسي في أنشاص بمصر العام 1945، والذي أنشئت فيه الجامعة وحضره سبعة حكّم عرب.

تسعة عشر عاماً مرت بين القمة الأولى {إذا صحت التسمية} العام 1945، والقمة الثانية العام 1964، وأذكر يومها وكنت عضواً في الوفد اللبناني كيف أن نصف الجلسة الأولى خصص للتعارف... لأن معظم القادة العرب لا قلة منهم، كانوا لا يعرفون بعضهم بعضاً، ويلتقون للمرة الأولى، ومنهم من كان قد قفز إلى الحكم قبل أشهر فقط. ومهما مر الزمن فلن يغيب عن ذاكرتي وفكري وقلبي معاً منظر كل حكّام العرب وهم يسيرون جنباً إلى جنب ويداً بيد من فندق {هيلتون} حيث يقيمون إلى مقر الجامعة حيث تعقد الإجتماعات، والناس يستقبلونهم بالدمع والرياحين والزغاريد!

في هذه القمة أقرّت خطة تحويل روافد نهر الأردن، وما يترتب على ذلك من إلتزامات ماليّة وعسكريّة، وتمَّ فيها ما يمكن أن يُسمى إحياء معاهدة الدفاع المشترك، كي تدافع عن تنفيذ خطة التحويل إذا ما حاولت إسرائيل منعها بالقوة، وهذا ما حصل فعلاً، وام تستطع معاهدة الدفاع ... أن تدافع!

وحتى العام 1990، موعد آخر قمة، عقد 17 مؤتمر قمة بين عادي، وغير عادي، وطارئ وطارئ جداً، وإستثنائي.

من المقررات في هذه القمم ما هو عادي، ومنها ما هو غير عادي، ومنها ما هو أكثر من ذلك، ومنها ما ساهم في صنع الأحداث بل التاريخ.

فقرار إنشاء منظمة التحرير الفلسطينيّة {قمة الإسكندرية العام 1964} والذي أتبع بعد سنوات بتكريسها ممثلاً شرعيّاً وحيداً للشعب الفلسطيني {قمة الرباط العام 1974} قرار غير عادي، وساهم حتماً في صنع الأحداث والتاريخ.

وكذلك قرار اللاءات العربيّة الثلاث {لا للتفاوض، لا للإعتراف، لا للصلح}، في الخرطوم بعد هزيمة ونكسة وكارثة حرب العام1967، أصبح هو السياسة العربيّة المعتمدة والوحيدة تجاه إسرائيل.

وقرارات قمتي القاهرة والرياض {فصلت بينهما أيام فقط العام 1976} كان لها الأثر الأكبر في الموقف العربي من مسار الأحداث الدامية والمدمرة في لبنان، ومن مقررات القمة الثانية إنشاء {قوة الردع العربيّة}.

وقمة بغداد العام 1978 التي عزلت مصر وأخرجتها من الجامعة بعد إتفاق كامب دايفيد كانت نقطة تحول كبرى في تاريخ العرب.

ومشروع الملك فهد بن عبد العزيز للسلام في قمة فاس 1981، الذي لو أخذ به لكان السلام قد طرق أبواب المنطقة مذ ذاك.

 

وفي الدار البيضاء 1985 كان قرار وقوف العرب مع العراق في حربه ضد إيران.

ثم {وعذراً للقفز} قمة القاهرة 1990، ووقوف العرب ضد العراق إثر إحتلال الكويت، وما بينهما قمم عادية بعضها أيّد {لفظياً} الإنتفاضة الفلسطينيّة في الأراضي المحتلة، وبعضها غرق في عموميات التعايش والتضامن والتعاضد والتكاتف والتساند والتلاحم والتكامل العربي، ثم لا تكاتف ولا تضامن ولا تعاضد ولا تساند ولا تلاحم ولا تكامل.

بعد حرب الخليج وقمة حرب الخليج 1990، أجرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح، ونامت القمة ومشاريع عقد القمة، لأن الحرب المشؤومة {خبطت} العرب بعضهم ببعض كما لم يحصل من قبل ... وجاء الأمين العام الجديد للجامعة الدكتور عصمت عبد المجيد يرفع شعار {المصارحة قبل المصالحة}، في محاولة للملمة شمل ما بقي من العلاقات العربيّة ـ العربيّة.

من يومها، العام 1991، لم تحصل المصارحة وتالياً المصالحة.

لكن حرب الخليج لم تقتصر في نتائجها على ضرب العلاقات العربيّة ـ العربيّة، بل تعدتها إلى المشروع الأهم في تاريخ العرب منذ العام 1948، وهو المشروع الأميركي الذي طرحه الرئيس المنتصر جورج بوش ونتج منه مؤتمر مدريد: مؤتمر الصلح والسلام والوئام {ونكاد نقول الهيام} والتطبيع بين العرب وإسرائيل.

منذ عقد مؤتمر مدريد وما تبعه من مفاوضات مباشرة ومتعددة بيننا وبين إسرائيل، ونحن نعيش حقبة مؤتمر مدريد. وأفكار مؤتمر مدريد لا تطاول الدول العربيّة المعنية والتي تتفاوض فقط، بل تطاول كل العرب في المشرق والمغرب معاً.

فالمطلوب ليس الصلح والسلام بين سوريا ولبنان والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينيّة، وإسرائيل فقط، بل صلح وسلام يضمّان كل دول الرب الواحدة والعشرين وإسرائيل، والدليل أن الضغط الهائل الذي يمارس الآن لإنهاء المقاطعة العربيّة الإقتصاديّة لإسرائيل تتعرض له دول الخليج قبل دول المواجهة.

حدثان زلزلا المنطقة في نصف القرن الماضي.

أحدهما: إنشاء إسرائيل وقد قاومنا هذا الحث بالحروب والمال والدم والتظاهرات وأيضاً بالكتب والمقالات ومئات الآلاف من الشهداء والأرامل والأيتام .... وبمؤتمرات القمة.

والثاني: وهو ما يجري الآن ـ محاولة إلغاء كل تاريخنا معها، خطوة للإعتراف بها وقبولها دولة شرعية آمنة مستقرة بيننا.

سؤالنا البسيط ألا يستحق الحدث الثاني مؤتمر قمة ؟.

 

تاريخ القمم العربية بدأ بعد قمة أنشاص


بدأ تاريخ القمم العربية منذ مايو/ أيار من عام 46 بانعقاد قمة أنشاص الطارئة لمناصرة القضية الفلسطين، تلتها بعد عقد تقريبا قمة بيروت الطارئة أيضا في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 56 لدعم مصر ضد ما عرف فيما بعد بالعدوان الثلاثي

إلا أن تاريخ القمم العربية، بوصفها مؤسسة سياسية، بدأ فعليا في عام 64 مع التآم القمة العربية الأولى في العاصمة المصرية، لتليها 12 قمة عادية وسبعة مؤتمرات قمة طارئة كان آخرها مؤتمر القاهرة في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي لدعم الانتفاضة الفلسطينية

وفيما يلي ملخص بمؤتمرات القمة العربية التي عقدت منذ انشاص وحتى القاهرة:

·       قمة انشاص: عقدت في مايو/ أيار من عام 46 وركزت على قضية فلسطين وعروبتها، واعتبرتها في قلب القضايا العربية القومية، إلى جانب مساعدة الشعوب العربية على نيل استقلالها من المستعمر

·       قمة بيروت: عقدت في نوفمبر من عام 56 ودعت في بيانها الختامي إلى مناصرة مصر ضد العدوان الثلاثي، وسيادتها على قناة السويس، وتأييد نضال الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي

·       قمة الاسكندرية: عقدت في سبتمبر/ أيلول من عام 64 ودعت إلى دعم التضامن العربي وتحديد الهدف القومي ومواجهة التحديات، والترحيب بمنظمة التحرير الفلسطينية

·       قمة الدار البيضاء: وعقدت في سبتمبر/ أيلول من عام خمسة وستين وقررت الالتزام بميثاق التضامن العربي، ودعم قضية فلسطين عربيا ودوليا، والتخلي عن سياسة القوة وحل المشاكل الدولية بالطرق السلمية، وتصفية القواعد الأجنبية وتأييد نزع السلاح

·       قمة الخرطوم: وعقدت أغسطس/ آب وأيلول من عام 67 ودعت إلى إزالة آثار العدوان الإسرائيلي، واللاءات الثلاث وهي لا صلح، ولا تفاوض مع اسرائيل، ولا اعتراف بها، والاستمرار في تصدير النفط إلى الخارج

·       قمة الرباط: وعقدت في ديسمبر/ كانون الأول من عام 69 ودعت إلى إنهاء العمليات العسكرية في الأردن بين المقاتلين الفلسطينيين والقوات المسلحة الأردنية، ودعم الثورة الفلسطينية

·       قمة الجزائر: وعقدت في نوفمبر من عام 73 وقالت باستحالة فرض حل على العرب، في اعقاب حرب أكتوبر التي اعتبرتها القمة نتيجة حتمية لسياسة إسرائيل العدوانية

·       قمة الرباط: عقدت في نوفمبر من عام 74 ووضعت أسس العمل العربي المشترك، والالتزام باستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، واعتماد منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني

·       قمة الرياض السداسية غير العادية: وعقدت في أكتوبر من عام 76 ودعت إلى وقف اطلاق النار في لبنان وإعادة الحياة الطبيعية إليه واحترام سيادته ورفض تقسيمه، وإعادة اعماره، وتشكيل لجنة عربية لتنفيذ اتفاقية القاهرة

·       قمة القاهرة: وعقدت في أكتوبر من عام 76 وصدقت على قرارات قمة الرياض السداسية

·       قمة بغداد: وعقدت في مايو من عام 78 ورفضت اتفاقية كامب ديفيد التي وقعها الرئيس المصري الراحل أنور السادات مع إسرائيل، ونقل مقر الجامعة العربية وتعليق عضوية مصر ومقاطعتها

·       قمة تونس: وعقدت في نوفمبر من عام 79 وأكدت على تطبيق المقاطعة على مصر، ومنع تزويد إسرائيل بمياه النيل، وإدانة سياسة الولايات المتحدة وتأييدها لإسرائيل

·       قمة عمان: وعقدت في نوفمبر من عام 80 وقالت إن قرار مجلس الامن 242 لا يشكل أساسا صالحا للحل في المنطقة، ودعت إلى تسوية الخلافات العربية

·       قمة فاس: وعقدت في نوفمبر من عام 81 وبحثت في مشروع السلام العربي، والموقف العربي من الحرب العراقية الإيرانية، وموضوع القرن الإفريقي

·       قمة الدار البيضاء غير العادية: وعقدت في اغسطس من عام 85 وبحثت القضية الفلسطينية، وتدهور الاوضاع في لبنان، والارهاب الدولي

·       قمة عمان غير العادية: وعقدت في نوفمبر من عام 87 وبحثت موضوع الحرب العراقية الإيرانية والتضامن مع العراق، والنزاع العربي الإسرائيلي، وموضوع عودة مصر إلى الصف العربي

·       قمة الجزائر غير العادية: وعقدت في يونيو/حزيران من عام 88 ودعت إلى دعم الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وبحثت موضوع المؤتمر الدولي حول السلام، والسياسة الأمريكية وقضية فلسطين

·       قمة الدار البيضاء غير العادية: وعقدت في مايو من عام 89 واعادت مصر إلى عضوية الجامعة العربية، وبحث قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، والمؤتمر الدولي للسلام، وتشكيل لجنة لحل الأزمة اللبنانية، والتضامن مع العراق

·       قمة بغداد غير العادية: وعقدت في مايو من عام 90 واعتبرت القدس عاصمة لدولة فلسطين، ودعم قيام اليمن الموحد، والتحذير من تصاعد موجات الهجرة اليهودية إلى وخطورتها على الامن القومي العربي، وإدانة قرار الكونغرس الامريكي باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل

·       قمة القاهرة غير العادية: وعقدت في أكتوبر من عام 90 وأدانت العدوان العراقي على الكويت، وأكدت سيادة الكويت، وشجب التهديدات العراقية للدول الخليجية

·       قمة القاهرة غير العادية التي عقدت في يونيو من عام ستة وتسعين ودعمت جهود السلام على اساس قرارات مجلس الامن الدولي، ودعم اتفاق العراق مع الامم المتحدة حول برنامج النفط مقابل الغذاء

·       أما المؤتمر الأخير فقد كان قمة القاهرة غير العادية في اكتوبر من العام الماضي، ودعت إلى دعم الانتفاضة الفلسطينية، وتقرر فيها إنشاء صندوق دعم القدس.
//-->
حظك هذا اليوم !

للكاتب و الصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {المرافئ القديمة}

في إفتاحية مجلة المستقبل بتاريخ 1998/4/11

 

عندما أصدرت مجلة المستقبل من باريس، رفضت رفضاً قاطعاً تخصيص صفحة أو حتى عمود لباب {حظك هذا الأسبوع}، مع أنه باب مقروء ومنتشر، ولا تخلو منه ـ تقريباً ـ صحيفة أو مجلة عربيّة.

حتى الآن، لا أحد يعرف سبب هذا الرفض بمن في ذلك الرفاق الذين كانوا إلى جانبي ونحن نستعد لإصدار العدد الصفر.

بعد أكثر من عشرين عاماً، أعترف بالسبب.

السبب : لم أوافق على هذا الباب خوف أن أقع ضحيته، أي أن أكون أول المصدقين لما يرد فيه.

فأنا، حتى الآن ـ أصدق كل ما أقرأ عن {حظي} في أي جريدة أو مجلة، وفي أي لغة من لغات الأرض الحيّة، ولو وجدته في أي لغة انقرضت {غير حيّة الآن} لصدقته أيضاً.

والعلة في كل هذا، أنني خلال حياتي المهنيّة أعرف تماماً كيف يُكتب هذا الباب، ومن أين مصادره {وكيف يُفبرك أحياناً}، مع ذلك أصدقه.

ما فاجأني وأفرحني في آن واحد، أنني اكتشفت قبل أيام أن زميلاً كبيراً لنا {في العمر والمقام} مُدمن مثلي على متابعة حظه صحافياً، يبدأ بقراءة الجريدة من صفحة الحظ، أو يُقرأ له حظه بالتلفون حتى لو كان ... في الصين.

قبل أربعين عاماً بالضبط عندما صدرت {الأنوار} عام 1958، كُلفت إلى جانب عملي في {الصيّاد} عامذاك، الإشراف على الصفحة الأخيرة التي كنت أكتب فيها عموداً صغيراً يومياً، بعنوان {كلمة صغيرة}.

وكانت الصفحة تحتوي ضمن ما تحتويه على باب {حظك هذا اليوم}، وكان محرر هذا الباب يستغرب إلحاحي اليومي عليه كي ينتهي من الكتابة قبل ساعات أحياناً من الموعد المحدد له، وكانت {كذبتي البيضاء} عليه يومياً،أن المطبعة تُطالب به.

لم يعرف أن هذا الإلحاح كان لأنني محترق لقراءة حظي قبل نشره بأربع وعشرين ساعة، كي أعرف {مستقبلي} قبل جميع القراء والزملاء المحررين معاً.

لا أعرف ما حلّ بهذا الزميل.

قيل لي إنه هاجر إلى بلد بعيد خلال الحرب، ولا أعرف إذا كان يعرف يومذاك سرّ {تدليلي} له وسر إصداري على زيادة راتبه كلما استطعت، لكنه يعرف حتماً كيف كنت أمضي وقتاً طويلاً معه كل أسبوع أستقصي منه {وبدقة} من أين يأتي بمعلوماته، وكان يشرح لي تفصيلاً المجلات والدوريات ـ بل الكتب ـ التي تمدّه بتفاصيل حظ العباد يومياً.

وكان ـ أعاده الله من غربته ـ يأخذ عمله بمنتهى الجديّة، ويشعر بالإهانة إذا اتهم بأنه {يُفبرك} هذه الحظوظ.

وتوثقت العلاقة بيني وبينه إلى درجة أنه صار يطلعني على حظي سلفاً لمدة أسبوع، ثم لمدة شهر كامل.

ومع الزمن اكتشفت أنني لست وحدي في هذا المرض، اكتشفت أن معظم القراء يشاركونني فيه، بل أن بعضهم يقرأ الباب قبل {المانشيت} غالباً.

أما الذي لا أنساه، ولن أنساه، فهو إستغلالي هذا الباب ضدّ سياسي لبناني لم أكن أحبه.

قبل التفاصيل، مقدمة :

يومذاك في {الأنوار} و{الصيّاد} كان شبه محظور علينا نحن الصغار الكتابة {وخصوصاً المقالات} في السياسة، وعن السياسة المحليّة {اللبنانيّة}، إذ كان أمرها متروكاً للكبار، وعلى رأسهم عميد  الدار الراحل سعيد فريحة، والكاتب الكبير المرحوم اميل الخوري، وأحياناً الرئيس الراحل الكبير تقي الدين الصلح، ومرة أو مرتين الشاعر الكبير أمين نخلة، والناقد العلاّمة مارون عبّود والشاعر المتألق جداً سعيد عقل وغيرهم.

والمحظور الأكبر كان الكتابة عن السياسيين اللبنانيين، وخصوصاً إذا كانت تربطهم بعميد الدار صداقة.

السياسي الذي لم أكن أحب كان أحد أصدقاء عميد الدار، لذلك لم أستطع أن أترجم عدم حبي {أو إحترامي} له كتابةً.

إلى أن شاء سوء حظه أن أقرأ ذات يوم عن إحتفاله بعيد ميلاده وأن أعرف من {الأستاذ} سعيد في اليوم ذاته أن هذا السياسي مُدمن على قراءة باب الحظ.

ومنذ تلك اللحظة {إستلمته} كما يقال.

كل يوم صرت أصحح في حظه الذي يكتبه زميلنا.

فإذا نجا يوم الخميس من حادث تصادم، لحقته الجمعة بحريق متوقع في منزله، ويوم السبت أمنعه من مغادرة المنزل، ويكاد لا يرتاح يوم الأحد {لأننا لم نكن نصدر} حتى يقرأ عن مرض سيطرق بابه مساء الإثنين .... وهلم جر.

لا أدري كم لعب خيالي في إنهاء هذه {اللعبة} مع السياسي، لكنني عندما رأيته خارجاً من مكتب عميد الدار بعد أسبوعين لاحظت على وجهه شحوباً وإصفراراً غريبين، وهو الذي كان معروفاً بنضارته.

ليتذاك أشفقت عليه، وكتبت له : الحظ سيبتسم لك بعد طول غياب، أمامك أيام سعيدة هانئة.

في المساء {أمرنا} الأستاذ سعيد أن نرافقه إلى منزل السياسي ولم يقبل إعتذار  أحد منا، لأن الحفلة كانت مُقامة على شرفنا، وذهبت مضطراً ... لأفاجأ بالنضارة تعود إلى وجه السياسي، وضحكته تملأ المنزل والشارع، وأصرَّ على أن يُقبّل كل واحد منا عند الإستقبال ثلاث قبلات متوالية، وهو يصرخ : أهلاً، أهلاً، أهلاً.

أما الزميل الذي كان يكتب باب الحظ فقد قبله .... خمس مرات.

{للأمانة الصحافية لن أنشر إسم هذا السياسي، إذ أن الأستاذ نبيل خوري قد سماه لنا}
  //-->
 

للكاتب و الصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {المرافئ القديمة}

في إفتاحية مجلة المستقبل بتاريخ 5/13/1978

 

في الأعداد الستين التي نشرت من {مجلة المستقبل} كان أهم مقال ـ إذا صحت التسمية ـ هو المقال الذي نشر قبل ثلاثة أعداد تحت عنوان : سقوط نظام الكالوريز !!

وخلاصة المقال، للذين لم يقرأوه، أو يحتفظوا به {آلاف القراء احتفظوا به} أنه يعطي القارئ، والقارئ السمين بوجه خاص طريقة جديدة للغذاء، يستطيع فيها أن يخفف وزنه، بدون أن يلجأ إلى عذاب الصيام.

وعندما قررنا نشر المقال، بعد ترجمته عن الإنكليزيّة، لم نكن نتصور عن أن يعتبره الآلاف من القراء، المقال الأساسي في العدد.

ولم نكن نتصور أن تنهال علينا التلفونات، والرسائل، المستفسرة والمستوضحة، والطالبة مقالاً تفسيرياً للمقال الأساسي.

طبعاً إن حب العربي للأكل قديم قديم، فما من كتاب عربي خلا من ذكر وليمة.

وما من تاريخ عربي، لم يقرن الوقائع {بطبخة}.

ولكنّا لم نكن نعرف حتى نشر المقال، أن هذا الحب، قد تحول مع التطور التكنولوجي للقرن العشرين، إلى الحب الأول، إن لم نقل الإهتمام الأول.

قال لنا البعض، عندما روينا لهم ما جرى إن السبب قد يعود إلى حالة الكبت السياسي {وغيره} التي يعيشها المواطن العربي، مما جعله ينفس عن هذا الكبت ... بالتحول إلى الأكل.

وقال البعض الآخر : بأن ما تبقى من كل أمجاد العرب، هو المطبخ، ولذلك كان تمسك الملايين به، في وجه الحضارة الصناعيّة الزائلة.

وقال غيرهم : إن الهموم الحياتيّة للمواطن العربي العادي تنحصر في البحث عن الطعام، ولذلك ـ ومع الزمن ـ تحول هذا البحث المستمر إلى نوع من الإدمان.

وقيل بأن المقال نال كل هذا الإستحسان الهائل، لأن عذاب العربي ـ قبل المقال ـ كان ينحصر في كيفيّة الجمع بين الوزن المعقول، ووجبة الأكل التي لن يرضى عنها بديلاً.

وهناك من تفلسف وقال : لماذا الإستغراب ؟ إن الأكل لدينا كان دائماً الإهتمام الأول في حياتنا، والدليل أنه عندما يساق أي موطن إلى السجن {خاصة لآرائه السياسية} فإن العائلة تركض للتوسط لدى المسؤولين حول كيفية تأمين الطعام له ... ولا مرة توسطت العائلة لإيصال كتاب له مثلاً، أو جريدة !! .

وقالوا : لقد كتبت أنت مرة أن الوطن ليس مطبخاً، وذلك بعد أن لاحظت أن أي عربي في غربته لا يتذكر وطنه إلا عبر ... الحنين إلى الأكل.

وبعضهم كتب يقول : هنيئاً لكم على مقالاتكم الجادة الرصينة وخاصة مقال {سقوط نظام  الكالوريز}، الآن فهمنا سر الشعار الذي رفعتموه قبل الصدور بأن المستقبل.. هي مجلة الإنسان العربي !!

ناهيك عن البرقيات {برقيات} التأييد التي تطالب بالإكثار من مثل هذه المقالات القيمة التي تمس حياة الإنسان الجوهريّة.

والبعض تبرّع بشرح معقول بقول : إن القارئ العربي بعد ما مر به من أهوال، أهوال السياسة، أصيب بحالة قرف، وهو لذلك قرر تلقائيّاً التوقف عن قراءة كل ما يمت إلى السياسة بصلة، وقرر الإتجاه إلى غيرها، فكان مقال الأكل وما هو أهم من {الأكل} لنسيان السياسة.

لست أدري لماذا تذكرت الآن هذه {الهلولة} التي أحدثها المقال قصة الضابط العري الذي خسر موقعاً هاماً في حرب 1967 لأنه قبل هجوم الإسرائيليين على موقعه بساعة واحدة كان قد إلتهم {لاحظ كلمة إلتهم} على الغداء نصف خروف، فلما فاجأه الهجوم لم يستطع أن يستيقظ من النوم {إذا أردت أن تعرف إسم الضابط راجع ما هو الموقع الهام جداً الذي سقط بعد الغداء مباشرة}.

ولست أدري لم تذكرت الوطن، الوطن الصغير، والوطن الكبير، وتذكرت أن هذا الوطن الكبير والصغير لن يصبح وطناً، إلا إذا قررنا جميعاً بأنه لم يعد مطبخاً ....

وإلى ذلك الحين ...

{العوض بسلامتكم} !.

//-->
هنا إذاعة نفاقستان ... من بيروت !
 

للكاتب و الصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {المرافئ القديمة}

في إفتتاحية مجلة المستقبل بتاريخ 1974/7/20
 
الذين يتابعون إذاعات النقل الخارجي من إذاعة لبنان من بيروت، لن يصدق ما يروى لهم ... لأن ما يحدث يقرب فعلاً من الخيال.

مرة، وبعد أن بحّ صوت المذيع ... إذاعة لبنان من بيروت وهو يصف حفلة أستقبال أمير الكويت، إنتهت الحفلة، وتفرّق المستقبلون... ولم يبق في المطار إلا المذيع وحده، وحاول الإستنجاد {بالأستديو} في الإذاعة ليقفل الميكرفون ففشل، فإذا به ينظر إلى الطائرة التي جاء فيها الأمير ويبدأ بالحديث {على الميكرفون} معها قائلاً {وبلا مبالغة} : أيتها الطائرة الجاثمة على أرض المطار، يا من حملت بين جوانحك حبيب لبنان، أهلاً بكِ {للطائرة} في وطنكِ الثاني، أيتها الطائرة الغالية، هل تعرفين من حملتِ إلينا ؟ هل تعرفين من كان بجوفك ؟ رويدك دائماً أيتها الطائرة... رويدك دائماً فعندما تأتين إلينا تحملين رجلاً كبيراً، حبيباً .... عزيزاً عزيزاً ....

ولولا إنقاذ الأستديو للمذيع في اللحظة الأخيرة، وإغلاق الميكرفون لكان قام من مكانه ... ليقبل الطائرة.

وليت الأمر يقتصر على ما يقوله المذيع، وإنما يتعداه إلى جميع البرامج والأغاني التي تذاع يوم سفر أو استقبال أي ضيف من ضيوف لبنان، في الأسبوع الماضي، عندما أقلعت طائرة أمير الكويت من المطار .... كانت الأغنية التي بثّت من الإذاعة مباشرة هي أغنية {يا بو عيون عسليّة ... تاركنا لمين ؟؟؟!!!}.

قبل أسبوعين حضر الرئيس فرنجيّة افتتاح المؤتمر الكشفي العربي في البترون، وكانت الإذاعة تنقل وقائع الإحتفال ... وبينما كان الرئيس فرنجيّة يدخل مكان الإحتفال إنقطع التيار الكهربائي، وإذا بالمذيع يقول : الخبراء الفنيون توزعوا لإصلاح العطل في التيار الكهربائي ... ولكن {وأرتفع صوته} ماذا يهمنا من الليل، ماذا يهمنا من الظلام ما دام بيننا شمس ساطعة ... ما دام بيننا شمس تبدّد الليل المدلهم، شمس فخامة الرئيس سليمان بك فرنجيّة، إنها تبدّد الظلام، وأكاد من هنا، من مكاني أشعر بحرارتها.

وظل المذيع {لا فض فوه} يتحدث عن الشمس وحرارة الشمس لمدة دقائق {حتى قيل أن بعض المدعوين للمؤتمر وضعوا على رؤوسهم مظلات لإتقاء حرارة الشمس}.

قبل ذلك بشهر كان المذيع {ماغيره} ينقل وقائع الإحتفال بتخريج دفعة جيدة من الضباط عندما بدأ المطر يهطل فإذا به يقول : أفراد الجيش اللبناني الباسل يتلقون زخات المطر برؤوس شامخة، ما همهم هؤلاء الأبطال من المطر ... إنهم يتحدونه بصدورهم.

هذه أمثلة بسيطة ونماذج صغيرة مما يستمع إليه الناس كل أسبوع بل كل يوم أحياناً من الإذاعة.
والكلام نفسه يتكرر مع كل ضيف، وفي كل مناسبة.

ونشكر الله أن الضيوف أنفسهم لا يستمعون ـ وفي غمرة الإستقبال الرسمي ـ إلى هذا الكلام، لأنهم ـ لو فعلوا ـ سيشعرون حتماً أن المقصود بمثل هذا الكلام ليس المديح ولكن الهجاء.
فالمبالغة في المديح هي تماماً كالمبالغة في الذم ... ومن منكم يستطيع أن يقنع حاكم رأس الخيمة مثلاً {الذي زار لبنان أيام عهد الرئيس حلو} أن المذيع لم يكن يذمه عندما وصفه {بالمجاهد الكبير ... وخالق الدولة العظمى} {بالمناسبة عدد سكان رأس الخيمة 2000 نسمة !!} مما جعل أحد السياسيين يتصل بالإذاعة اللبنانيّة يومها ليقول : ماذا تركتم للرئيس عبد الناصر إذا جاء لزيارة لبنان ؟

ولكن هل يلام المذيع إذا هو بالغ ؟ ألم يستمع إلى وزيره {فهمي شاهين} في العام الماضي وهو يصف ذكرى 17 آب/أغسطس بأنها {مولد وطن}!! ولم يخطر ببال أحدهم أن يسأله : أين كان هذا الوطن من قبل ؟ وحتى ـ استطراداً ـ ما ذنب فهمي شاهين إن هو تملق بعد أن سمع بقصة الوزير الكبير الذي وقف في مجلس الوزراء ليقول للرئيس شارل حلو: يا صاحب الفخامة إنني أرى في محياك ملامح القديسين، وصدق الأنبياء والمرسلين !!

... حتى للنفاق هناك أصول وتقاليد، والمنافق الجيد هو الذي يعرف كيف ينافق بدون أن يكون هذا النفاق ممجوجاً ويدعو إلى التقيؤ.

أما هنا، في لبنان، بلد الـ {هالكم أرزه العاجقين الكون} فقد أصبح كل من يعمل في مهنة الإعلام يضطر في كثير من الأحيان أن يهاجم الناس، لأنه لو مدحهم فسيكون كمن شتمهم ...
أليس المديح الرسمي {اللبناني} هو أقرب إلى الشتمية منه إلى المديح ؟.  



هناك تعليق واحد:

  1. شراء مظلات كاسيت كهربائية بسعر مناسب

    اشتر مظلات كاسيت كهربائية مباشرة من الشركة المصنعة عبر الإنترنت بسعر معقول. جودة صنع في ألمانيا.

    See More:- مظلات-كاسيت

    ردحذف