الجمعة، 8 يونيو 2012

انحراف الاسلاميين

بصفتي قد عايشت الأحداث في قلب النظام، أستطيع أن أصرح بأن الحرب الطاحنة التي تمزق بلدي منذ 1992 هي أكثر تعقيدا مما تحاول أن تسمعنا إياه بعض التحاليل القادمة من أروبا، والتي تقدم لنا هذه الحرب باعتبارها صراعا ناشئا عن تعارض بين عسكريين جمهوريين ومتعصبين إسلاميين... فلهذا السبب أردت أن أساهم في إظهار الحقيقة للتاريخ دون أية مجاملة أو تحيز لهذا الطرف أو ذاك.
إني في هذه الشهادة أتهم وأدين قادة الجيش الذين يسيرون ويستغلون العنف الذي تقوم به الجماعات الإسلامية منذ سنوات. قد يعتقد البعض أنني أتخذ موقف الدفاع عن (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) (ج.إ.إ/fis)، أو عن الإسلاميين، ولذلك أحرص منذ البداية هنا على التوضيح بأني لم أنتسب على الإطلاق، في أي يوم من الأيام إلى أية منظمة سياسية، كما أنه ليس في نيتي على الإطلاق أن أنفي أو أبرر الجرائم الفظيعة التي ارتكبها بعض الإسلاميين، والتي وردت وقائعها مفصلة في العديد من الكتابات، وسواء كان مرتكبو تلك الجرائم أو لم يكونوا مستعملين ومغررا بهم، فإنهم في كل الأحوال مجرمون، ويجب أن يحاكم مرتكبوها يوما لينالوا جزاءهم. إذا كانت هناك حرب فحتما يوجد هناك طرفان متعارضان ومتصارعان وهذان الطرفان في نظري هما الجنرالات من جهة وقادة (ج.إ.إ/fis)من جهة أخرى، فلكل منهما دور ومسؤولية في إحداث المأساة الجزائرية الراهنة.
بعد الانتصار الذي تحقق للإيديولوجية الإسلامية ابتداء من سنة 1989 أخذ أصحابها يتوقون إلى تجسيد مبادئ وقيم الإسلام محاولين في غالب الأحيان فرض ذلك بالقوة وبالتي هي أخشن، وليس بالإقناع وبالتي هي أحسن. وبالرغم من أن قاعدة هذا الحزب كانت غير متجانسة إلا أن بعض قادة (ج.إ.إ/fis)شجعوا هذا الانحراف التسلطي، وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور تيار متطرف مناهض لأي تقدم أو مسايرة للعصر. وقد طور هذا التيار خطابا معاديا للديمقراطية يتجلى بوضوح في بعض الشعارات المرفوعة آنذاك " الديمقراطية كفر" أو " القانون الوحيد هو القرآن" أو "لا ميثاق لا دستور قال الله قال الرسول" وكان أصحاب هذا الاتجاه يدعون إلى تطبيق الإسلام بالقوة والعنف، كإجبار النساء على ارتداء الحجاب أو إقامة الحدود الشرعية على العصاة والمخالفين... وكذلك أخذ الضريبة "الثورية" التي تحولت فيما بعد، خلال سنوات الدم، إلى "ضريبة الجهاد"، (إن هذه الفرقة المتطرفة من الإسلاميين هي التي دفعها الـ"أ.ع/sm"، بالوسائل التي سنتحدث عنها فيما بعد، إلى الثورة والمجابهة، مجرجرة معها شبيبة بكاملها إلى حمل السلاح والالتحاق بالجبال واتخاذ لغة العنف وسيلة وحيدة للتخاطب)، ثم ما لبثت الحسابات السياسية لقادة (ج.إ.إ/fis)وتلاعبات مصالح الـ(أ.ع/sm) واستفزازاتها فيما بعد أن جعلت الحركية المتولدة من هذا الحزب تسلك طريق المواجهة، مما أدى أكثر فأكثر إلى جعل أية فرصة أو إمكانية للتعايش غير ذات موضوع، أو قرار.
لقد حاول الرئيس الشاذلي بن جديد كثيرا أن يحقق نوعا من التوازن بحرصه الشّديـد على تحقيق المصالحة بين أصحاب الاتجاه الديمقراطي (بمن فيهم الموجودون داخل "ج.إ.إ/fis") والجنرالات "أصحاب القرار" المعادين للإسلاميين في آن واحد، علما أن الإسلاميين وعـدوا بمحاسبة المسؤولين، وكانوا سيتولون أمر المراقبة على المداخيل (التجارة الخارجية، وصادرات البترول والغاز). وقد كلّـف الرئيس الشاذلي بن جديد تمسكه بموقفه التصالحي هذا، منصبه ذات يوم في 12 فبراير 1992.
ابتداء من هذا التاريخ المشؤوم، اتخذ جنرالات الظل من توقيف المسار الانتخابي وإلغاء نتائج دورته الأولى... ذريعة للزج بآلاف الجزائريين في أتون حرب أهلية فظيعة: جنون غير مسبوق يصيب الشباب الذين كانوا محرضين بعضهم ضد البعض الآخر من قبل نظام حكم مكيافيلي، في حين لم يكن هؤلاء الشبان يحلمون جميعهم في حقيقة الأمر إلا بالحرية والعدالة والكرامة!
إن الإسلام الثوري أو الحركي لم يبرز إلى الوجود هكذا من العدم. فالبؤس الاجتماعي وتهميش النخب التواقة إلى التقدم ومواكبة العصر وكذلك رفض أي مشروع مجتمع متماسك يسمح بتكوين تركيبة متناسقة تجمع بين القديم والجديد والأصالة والمعاصرة، يضاف إلى ذلك غياب الحرية والديمقراطية، وتفشي ظاهرة الرشوة والفساد في كل مكان وفي مختلف المجالات... كل هذه العوامل والظروف مجتمعة هي التي أدت خلال الثمانينيات إلى ظهور الحركة الإسلامية في الجزائر. ومن جهة أخرى وفي سياق جيوسياسي وتحول واسع وعميق للعالم (سقوط جدار برلين، أفول نجم الشيوعية، نهاية الحرب الباردة، وبالتالي نهاية عالم القطبين، وظهور العولمة...) كان بروز الحركة الإسلامية نتيجة منطقية كذلك لتدني مستوى "أصحاب القرار" الرئيسيين الذين لم يرفضوا تسليم المشعل للأجيال اللاحقة فحسب، بل أن فسوق" شبه النخبة" هذه التي تعيش على الريع قد عكس للمجتمع صورة نظام متغطرس تنخره الرشوة، ويشله الإهمال، ويقتله التبذير.
لم يدرك هؤلاء المسؤولون أو القادة أن وضع العالم قد انقلب جذريا رأسا على عقب، وأن الإسلام السياسي يفرض نفسه فرضا كبديل للهيمنة الأمريكية منذ انهيار الإمبراطورية الشيوعية. لقد كانوا يريدون مواصلة تسيير الأمور على الطريقة القديمة التي عف عنها الزمن، وتجاوزتها الأحداث. وهذا ما يبرر عدم الفهم والإدراك في البداية ثم الاندهاش بعد ذلك، وأخيرا المقاومة الشرسة لكل محاولات الإصلاح التي أعقبت "الانفتاح السياسي المراقب" منذ بداية 1989.
لقد لاحظت البلدان الأوروبية هذه التحولات دون أن تدرك المراهنات في الواقع، مترددة بين الرضى بما يعد به الانفتاح الديمقراطي وبين التوجس من إمكانية قيام ديكتاتورية إسلامية على أعتاب أروبا. إن احتمال ظهور دولة دينية على النمط الإيراني هو أمر غير وارد فضلا عن أنه غير مقبول كذلك. وهذا كله ما يفسر تخاذل الحكومات الأوروبية، عندما ذهب الجنرالات بعيدا في ممارستهم للقمع والاضطهاد ابتداء من انقلاب 1992.
إن هذا الانقلاب قد سار نحو الأسوأ في دعم سلطة الجنرالات وبسط نفوذهم بصفة كلية على البلاد منذ ذاك الوقت، وهؤلاء الجنرالات هم : خالد نزار، العربي بلخير، محمد تواتي، محمد العماري، وشركاء آخرون... هؤلاء الذين يسمون عادة بعصابة "الفارين من الجيش الفرنسي" (ف.ج.ف/daf)، حتى إن بعضهم كالجنرال محمد العماري، ومحمد تواتي لم يلتحقوا بمراكز الجيش الوطني خارج الحدود الجزائرية إلا في سنة 1961 أي ببضعة أشهر فقط قبل الاستقلال، ولم يشاركوا قط في أية معركة ضد المحتل الفرنسي داخل الوطن أو خارجه!
وبصفة جلية فإن قسما كبيرا من قادة (ج.إ.إ/fis) قد أخطئوا نتيجة قلة تجربتهم السياسية وانشغالهم في كبح جماح الجناح المتطرف داخل الجبهة الذي غالبا ما كان يُحَرك من طرف جهاز الـ(أ.ع/sm)، وبذلك تكون(ج.إ.إ/fis) قد شاركت بقسط وافر وبشكل كبير في إعطاء المبرر لجنرالات(ف.ج.ف/daf)، وتمكينهم من النجاح في مناورتهم للاستئثار بالسلطة وبسط نفوذهم على البلاد والعباد!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق