الثلاثاء، 5 يونيو 2012

الوطن الأكبر والهم الأكبر !



الوطن الأكبر والهم الأكبر !
 
للكاتب والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {آخر النهار}
نشر هذا المقال قي صحيفة النهار بتاريخ 25/6/1994
 

عندما يصبح الهم الأول والأكبر للإنسان العربي أن يدفع فاتورة الكهرباء، فكيف تطلب منه أن يفكر في الهم القومي ؟

والهم الكهربائي ليس همّاً لبنانيّاً، كما قد يتبادر إلى الأذهان، فهذا الهم يكاد يصبح الهم العربي الأول، ومن المحيط إلى الخليج، إنه متأصل في مصر، ومتجذر في السودان، وعام في تونس، ومألوف في عمّان، إلى آخر القائمة ...

ولو أجتمع كل المبتلين بهذا الهم، لتكوّن أكبر حزب في تاريخ هذه الأمة ....

الهم التلفوني {فاتورة التلفون} لا يزال ترفاً، ويشكو منه فقط طبقة قادرة على مواجهة الهم الكهربائي....

بقية الهموم العربيّة، لا مجال ولا داعي لذكرها ... لأنك مضطر إذا أردت ذكرها... لأنك مضطر إذا أردت ذكرها وتعدادها أن تكتب عن الهزيمة العربيّة التي سحقتنا ـ ولا تزال ـ حتى الأعماق، والإفلاس العربي، والتكامل العربي الذي لا يزال حبراً على ورق، والتضامن العربي الذي بحّت الأصوات وهي تطالب به من دون نتيجة، والتكاذب العربي الذي لفّنا ويلفنا جميعاً ...

هل نكمل ؟

القائمة لا تتسع لها هذه الصفحة بكاملها، وتردادها نوع من التكرار الذي ملّه القارئ والكاتب معاً.

رحلة طويلة بين هموم الاستقلال والتحرير والوحدة، و ... والمعركة الحضاريّة، وهمّ الكهرباء، وهم أقساط المدارس والطبابة، والسكن والمواصلات و ... وأسعار الخضار.

هل تمَّ هذا مصادفة ؟

هذا الإلغاء التام للإنسان العربي، هل كان قدراً ؟

الكلمة العربيّة الوحيدة التي قد تكون فقدت معناها هي كلمة {التآمر}. لكنها مع ذلك تبقى هي الكلمة الأهم في حياتنا العامة منذ أكثر من نصف قرن.

وإذا لم يكن هناك تآمر ومؤامرة، فما هو التفسير لأن يصبح همنا الأكبر المواجهة والتصدي لفاتورة الكهرباء ؟

أمة وهبها الله الثروة والأرض واليد العاملة ولا تنقص شعوبها القدرة والذكاء. كل فرد من أفرادها {خارج بلاده} قبيلة، ومع ذلك يصبح طموح الغالبيّة من ملايينها دفع فاتورة الكهرباء !

أين التآمر ؟!

حكاية طويلة كما يقال، لكن بعد عرض هادئ لنوعية الناس الذين حكمونا، وللناس الذين نهبونا، والسؤال عن الذي اختارهم وأتى بهم وأبقاهم، يأتيك الجواب صافياً رقراقاً من دون عناء.

عندما تصبح الرشوة ذكاء، وإلغاء حقوق الإنسان {المواطن}طريقة حكم، والتسلط على رقاب العباد وأرزاقهم عبادة، والتفاهة كتباً مفروضة على الناس، وكتم المعلومات أهم من الدستور، والنظام أهم من الأرض والولاء أهم من الكفاية وتنقلب الهزيمة إلى نصر، والإستسلام إلى سلام، والخونة إلى أبطال، والأبطال إلى سجناء أو مهاجرين.

وعندما يتحول المواطنون رعايا، والنساء بغايا، والرجال أشباه رجال، وأشباه الرجال رجالاً.

وعندما يصبح الشرطي أهم من المثقف أو زائر الفجر كبائع الحليب يأتي كل يوم، وبائع الحليب لا يأتي لأن لا حليب، والزائر الوحيد غير المرغوب فيه جابي الكهرباء.

هل نستغرب كيف تصبح فاتورة الكهرباء عي الهم الأكبر ؟

منذ وصلت إلى بيروت قبل أسبوع، لم أسمع حديثاً سوى حديث فواتير الكهرباء. وهو حديث لم نكن نسمعه من قبل، لأنه لم تكن هناك كهرباء ... ولا فواتير.

وليس هذا الحديث ـ كما ذكرت ـ جديداً عليَّ، فعندما غبنا عن بيروت وغابت عنا سمعته في أكثر من عاصمة عربيّة.

العام 1974 بعد الطفرة الهائلة في أسعار النفط وبداية الحديث عن {فائض المال العربي} كتبت مقالاً بعنوان : {حذاء لكل عربي} جاء فيه :

{{ يطمئننا رجال المال والاقتصاد عندنا إلى أن فائض المال العربي بألف خير، وأننا نستثمره في دول العالم بكل مهارة وإتقان. نشتري به أسهماً وعقارات، نودعه المصارف، نتلاعب به بأسعار العملات ... نفلس من نشاء ونغني من نشاء . وإننا ـ بإذن الله ـ سنحكم العالم كله عن طريق مالنا }}.

للوهلة الأولى تصاب بالاعتزاز، بنوع من الغرور ... نتخيل أنفسنا ـ عبر مالنا ـ وقد تحكّمنا بمصير العالم.

وتقفز إلى أذهاننا صورة ملايين العرب الأميين المرضى.

ونبدأ ـ بسذاجة ـ نضع معادلات جديدة، لا علاقة لها بالاقتصاد، عن طريق إنفاق {فائض المال العربي}.

نطالب أولاً بتأمين حذاء ـ نعم حذاء ـ لكل مواطن عربي ... فمن العيب أن يقال إن هناك ملايين العرب وفي عصر {فائض المال العربي} لا يملكون ... ثمن حذاء.

ثم نصعد طموحنا لنطلب أو لنطالب بحملة لشفاء الإنسان العربي من الأمراض التي تفتك به لأنه من العيب أن نتحدث عن الفائض بينما تنهش البلهارسيا حياة ملايين العرب، ويعاني أكثر من 20 في المائة منهم فقر الدم، وترتفع نسبة الذين لا يحصلون على الحد الأدنى من الدرجات الحراريّة في الغذاء إلى 47.7 في المائة من مجموع سكان الوطن العربي حسب إحصاءات منظمة الصحة العالميّة.

من المعيب أن نتحدث عن الفائض بينما يموت بعض العرب جوعاً.

نعم يموتون جوعاً كما حدث في اليمن الشماليّة العامين 1969و1970، ليس فقط لأنهم لم يأكلوا بضعة أيام بل لأنهم لم يكونوا يأكلون جيداً طوال أعوام سابقة.

من المعيب أن نتحدث عن الفائض ومعدل عمر الإنسان العربي هو 38 سنة فقط في حين أنه 71 عاماً في الدول الإسكندينافيّة و67 في الولايات المتحدة. ونسبة وفيات المواليد العرب 145 في الألف أي أعلى من أعلى نسبة لوفيات الأطفال في العالم {119 في الألف} أي نحو عشرة أضعاف ما هو في إسرائيل {15 في الألف} أو أسوج {16.6 في الألف} !

من المعيب أن نتحدث عن الفائض لأن هذه النسب هي الحاصل المنطقي لتخلف الأوضاع الاقتصاديّة، ولا نعرق أين نوظف أموال النفط العربي !

02،0%  من الزراعة العربيّة هي زراعة ممكننة أو حديثة والبقيّة أي 99،98%  {كما في الإستفتاءات (الحرة)} زراعة بدائيّة، على هذه الزراعة البدائيّة يعيش 75 في المائة من العرب، فنسبة الريفيين في العالم العربي هي من النسب المرتفعة جداً، في حين أن 7 % فقط يعيشون من الإنتاج غير الزراعي و 18 %  يعملون في قطاع الخدمات الهامشيّة.

قدرة العالم العربي على استيعاب التصنيع أو تطوير الزراعة هي قدرة غير محدودة. للتذكير فقط فإن العالم العربي هو أوسع بلاد العالم التي تسكنها أمة واحدة، إذ تبلغ مساحته عشر مساحة المعمورة تقريباً وضعفين ونصف ضعف مساحة أوروبا.

هذا الوطن الفسيح يعرف في بعض مناطقه أكثف نسبة تجمع للسكان في العالم، فحول مناطق المياه في المغرب وفي وادي النيل مثلاً يعيش 745 شخصاً في الكيلومتر المربع {أعلى كثافة سكان في بلجيكا حيث يعيش 300 شخص في الكيلومتر المربع}.

وتحث تلك المفارقة المذهلة : كثافة شديدة للسكان في مناطق معيّنة وشبه فراغ سكاني في مناطق أخرى. وفي حين يكافح الهولنديون البحر مثلاً، ويردمونه ويقيمون السدود لتحويل أجزاء من البحر أراضي زراعيّة نجد أن أقل من 30 % من الأراضي الصالحة للزراعة في الوطن العربي تستثمر والـ 70 % الأخرى من الأراضي الصالحة للزراعة مهجورة ومهملة وفي حاجة إلى استصلاح.

ونتساءل بعد ذلك، كيف نستثمر الأموال الفائضة وأين ؟

دعونا نغرق في أحلامنا فتتخيل مشروعاً عربياً موحداً لمحو الأمية، أليست التربية استثماراً رابحاً ؟ أليست، كما يقول الخبراء، أنجح توظيف مالي على المدى البعيد ؟

ما هي نتائج استثماراتنا على هذا الصعيد ؟

50 % من الأطفال هم خارج التعليم الابتدائي. و 40 % فقط هم داخل التعليم العالي.

ونسبة الأمية هي الأكثر ارتفاعاً في العالم : معدلها الوسطي في العالم العربي كله 78% .

أسوأ من هذا كله أن نسبة الأمية بين الشباب، أي بين القوى العاملة المنتجة والقوى التي سيقوم عليها اقتصاد المستقبل، تبلغ 64 % .

وباعتراف منظمة الأونيسكو الدوليّة، الرقم مذهب و{استثنائي}.

دعونا نحلم ونتخيل مشروعاً لمحو الأمية، لتأمين التعليم المجاني لكل طفل عربي، فلا يبقى طفل ـ وعصر {الفائض} ـ لا يجد مالاً ليتعلم.

هل هو كثير أمام بلايين {الفائض} العربي ؟

هل هو استثمار يقل جمالاً وروعة عن شراء العقارات والقصور في أوروبا ؟

ولا نطلب تأمين الغذاء أو الماء لكل مواطن عربي فنحن نخجل أن نعترف أمام العالم أن هناك عربياً واحداً يشكو من جوع أو عطش ، لأننا بذلك نكون قد أضفنا إلى حجج الذين يقولون بأننا لا نستأهل مالنا حجة جديدة !

ويشط بنا الخيال، والخيال جموح، فنرى العالم العربي {غنية وفقيرة} مرتبطاً بشبكة أوتوسترادات لأن الأوتوسترادات هي شريان الحياة الحديثة الاقتصادية والإجتماعيّة، وبمجموعة من الموانئ والسدود والمشاريع الأخرى، التي تؤمن للعالم العربي الاقتراب من القرن الحادي والعشرين {...} .

إلى آخر المقال الطويل .

كان هذا قبل عشرين عاماً تماماً.

ماذا حدث ؟

الحقيقة الواحدة الثابتة التي حدثت هي أن المال العربي، الفائض وغير الفائض، قد ذهب وتلاشى وأن الأرقام التي ذكرتها في مقالي قبل عشرين عاماً لم تتحسن {في ما عدا نسبة الأمية} بل ازدادت سوءاً وأننا بعدما كنا نبحث عن ثمن حذاء أصبحنا نبحث عن فاتورة الكهرباء !

ولم نحصل على الحذاء ... ولن نحصل على الكهرباء !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق