الثلاثاء، 5 يونيو 2012

مَوسِم الهِجرَة

مَوسِم الهِجرَة 
                                                   
للكاتب والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {المقالات الغاضبة}
 
أبواب السفارات الغربيّة، في أكثر من عاصمة عربيّة ... وخاصة بيروت، تشبه هذه الأيام دكاكين البقالة أيام الحرب، أو محطات البنزين أيام أزمة النفط، فالطوابير تصطف أمامها من الفجر حتى ساعة الإغلاق، كل يطلب {فيزا} ... للهروب من الوطن.

ومكاتب الهجرة في عواصم الغرب، تكاد تصبح كأبواب السفارات في عواصم العرب ... فالعرب يبحثون اليوم عن جنسيات جديدة، جوازات سفر جديدة، يستبدلون بها القديم، خوفاً من أن يصبح القديم مثل جواز السفر الروسي بعد سقوط القياصرة.

هذا يريد أن يصبح أميركياً، والثاني بريطانياً... كندياً ... فرنسياً... برازيلياً ... وحتى برتغالياً.
 وفرحة الحصول على جنسية جديدة أصبحت تعادل فرحة الحصول على حياة جديدة ... مستقبل جديد ... وآفاق جديدة.

هكذا وصلنا مع الوطن، أو هكذا أوصلنا الوطن.

ولا مانع لدى معظم الدول العربيّة، فهي تعطي الحق بجوازي سفر، فأنت لبناني في لبنان وأميركي في وسكونسن، أنت أردني في عمّان وبريطاني في مانشيستر، وأنت سوري في دمشق وكندي في كويبك...

والفرحة .. تكاد تنسي الناس ماذا تعني الغربة إذا طالت، وماذا يعني أن تكون بلا وطن... حتى لو امتلأت حقائبك بكل جوازات سفر العالم.

كاتب هنغاري {الأصل} بريطاني الجنسية منذ 25 عاماً مشهور بكتاباته الساخرة، أستوقفني مقال له كتبه قبل أيام عن الغربة.
فهو يقول أنه هرب من بلاده، هنغارياً، قبل ربع قرن، وأصبح إنكليزيّاً، و{أكتب بالإنكليزيّة} أحسن من {أهلها}، ويقول إنه تأقلم تأقلماً كاملاً مع أهل بريطانيا...

ولكن يتساءل : هل أصبحت واحداً منهم مائة في المائة... بعد ربع قرن ؟
ويجيب ... لا ...
فأنا، كما يقول {لا أزال أحلم أثناء نومي باللغة الهنغاريّة} ... {رغم أنني أكتب وأتكلم الإنكليزيّة طوال النهار والليل، ولا أتكلم الهنغاريّة إلا نادراً، عندما أتقابل مع {هارب} مثلي}.

ويقول : وعندما أحن إلى الشعر، وكثيراً ما أحن، فأنا لا أتذكر إلا الشعر الهنغاري، ولا تدمع عيناي إلا وأنا أتذكر أبياتاً منه، كانت جزءاً من طفولتي وشبابي.

ويقول .. ويقول .. ويقول كثيراً، إلى أن يقول : {وقد يكون الأهم هو ما أسميه {بوطنية المعدة} . فهنا أنسى بريطانيا والبريطانيين، وجواز السفر الذي أحمله، فأنا قد أتحمل الأكل البريطاني ثلاث مرات في اليوم، وقد ... أحترمه !! ولكنني حتماً لا ... ولن أحبه}.
ويتابع : {عندما أجلس إلى مائدة طعام هنغاريّة، أشعر بأنني قد عدت إلى الوطن، وبأنني لم أغادر بلادي ... لحظة واحدة}.

وقد يكون هذا سبب الإنتشار الهائل للمطاعم العربيّة في كل عواصم ومدن العالم، فهي الحنين الوحيد الذي يشد العربي إلى ...الوطن، مهما طال الزمن.

وبعيداً عن السخرية التي تثير الدمع، فإن ما يحدث هو أكبر من حجم الكارثة، والغريب اننا لا نهتم لها، ونعتبرها {شيئاً طبيعيّاً}، ولكنها إذا أستمرت فقد نجد عدد العرب في اوسلو أكثر منهم في أي مدينة عربيّة. ونفقد بالتالي كل آمال وأحلام المستقبل، مع فقدان الذي يصنع المستقبل : الرجال.

أطفال الغربة .. لا يعرفون العربيّة، بعضهم يتقن الهولنديّة .. والآخر الفرنسيّة، والثالث الإنكليزيّة.. ولكن أحداً منهم لا يعرف .. العربيّة.

يسمونهم الجيل الثاني أو الثالث، هؤلاء في خلال أعوام سيحاربون مع جيوش البلدان التي أكتسبوا جنسيتها، ولن يعرفوا عن الوطن .. إلا ما يسمونه عرضاً من آبائهم .. وأمهاتهم.
.... وهكذا تضيع الأوطان، وفي زمن الإنهيار.
في مسألة الوطن ! 
 

للكاتب والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {آخر النهار}

نشر هذا المقال في صحيفة النهار بتاريخ 29/9/1995
 
في مسألة الوطن، سنبكي ـ مستقبلاً ـ فلسطين أكثر بكثير مما بكينا الأندلس، على رغم أنهار الدموع التي ذرفناها على غرناطة.
السبب الأساسي، أن الأندلس كانت مستعمرة عربيّة، أما فلسطين فهي وطن عربي.
غرناطة كانت وستبقى مدينة جميلة، أما القدس فهي مدينة مقدسة.

والدة آخر خليفة عربي في الأندلس عبد ألإله الصغير، قالت له وهو يبكي غرناطة :
 
إبك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال

كانت الوالدة تتحسر على المُلك ولم تكن تتحسر على التراب أو الوطن.
دخلنا محتلين، وخرجنا منها {على أيدي أهلها} مهزومين.

أما القدس فقد كانت أولى القبلتين، قبل أن نأتيها، وهي التي عرج منها النبي العربي، فقد أتاها العرب حجاجاً، وأقاموا فيها وطناً، فيه ثالث الحرمين المسجد الأقصى.

لكن {الوطن} في القدس، لم يتحول {وطناً} في غرناطة.
صحيح أنهم نقلوا إلى غرناطة العدل والسماحة والرحمة، لكنه ـ بالنسبة إلى أهل غرناطة ـ ظل حتى النهاية عدل {المحتل} وسماحة {المحتل} ورحمة {المحتل}.
 
في غرناطة حاكم، ومحكوم، وبلاط وظلم
وفي القدس تعايش، وتآلف، وعيش مشترك
وفي غرناطة إنقسام، وشرذمة، وخلافات
وفي القدس وحدة، وإتحاد، وتضامن

انتصرنا في القدس على الصليبيين، لأننا كنا ندافع عن وطن، ونحرر وطناً.
وهُزمنا في غرناطة، لأننا كنا ندافع عن مستعمرة.

هزمنا اليهود في القدس لاعتقادهم {عن خطأ أو عن صواب} إنهم سيرجعون وطناً ظلوا يبكونه ألفي عام حتى استعادوه.
ونحن خسرنا القدس، لأننا لم ندافع عنها كوطن، بل كـ {مدينة}.
هم {اليهود} لم ينسوا قبور أنبيائهم بعد آلاف السنين، ونحن نسينا قبور شهدائنا ولم يجف الدم فيها بعد.
هم، منذ البداية، عرفوا أن {الأرض} هي التي تصنع الوطن، ونحن نريد أن نصنع وطناً بالتنازل عن الأرض.
نحن، أصابنا {الملل} بعد أقل من نصف قرن فقط من المطالبة بحقنا المشروع والواضح والتاريخي.
وهم، لم يملوا ولم يكلوا عن المطالبة بـ {حق} هو في الأصل زائف ومزور.
وظهر منا {فلاسفة} يفلسفون الهزيمة، والتنازل، والأمر الواقع.
هم، كتبوا {بالسيف} التاريخ {تاريخنا} الجديد، ونحن، نسينا السيف والتاريخ القديم والجديد معاً.
هم، يورثون أطفالهم نصراً، ونحن نترك لأطفالنا هزيمة.
في التاريخ لم يحتفل مهزوم بهزيمة.
نحن نقيم لها الأفراح، ولولا الخجل لأقمنا لها الليالي الملاح.
 
صديقنا كلوفيس مقصود كتب من أميركا مقالاً عشية توقيع اتفاق طابا في واشنطن، ناشد فيه ضيوف البيت الأبيض العرب بقوله :
{إذا كانت الصور مطلوبة تجنبوا على الأقل الابتسام!}
ومع ذلك ... ابتسموا !.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق