السبت، 16 فبراير 2013

المعلومات المتعلقة بالأمام المهدي..


٢
٣
٤
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسول الله وخاتم النبيين ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، الذين اصطفاهم وميّزهم على علم من عباده المسلمين أما بعد :
فبعد أن طبعت كتابي الحادي عشر « الهاشميون في الشريعة والتاريخ » صممت على الشروع بتأليف كتاب خاص عن « القضاء والافتاء عند أهل بيت النبوة » جمعت وهيأت المصادر والمراجع المتعلقة بهذا الموضوع ورتبتها على طاولتي ، ولم يبق على سوى المباشرة فعلا بالكتابة بعد الموضوع ورتبتها على مباشرة فعلا بالكتابة ، بعد ذلك اجتمعت مع أخ كريم ، وصديق بارز ، فسألني عن مشاريعي الجديدة بعد طباعة كتابي الأخير فأخبرته بما عزمت عليه فقال أبو علي : لقد أثبت بالدليل القاطع في كتابيك « المواجهة » و « الهاشميون في الشريعة والتاريخ » أن عدد الأئمة الشرعيين من بعد النبي اثنا عشر إماماً ، فما رأيكم لو كان كتابك الثاني عشر عن الإمام الثاني عشر من أئمة أهل بيت النبوة وهو الإمام المهدي المنتظر؟ ثم إنك قد غطيت بالبحث والدراسة الفكر السياسي لأهل بيت النبوة خاصة ، والنظام السياسي الاسلامي عامة من خلال مؤلفاتك فلماذا تترك هذه الثغرة لأن نظرية الإمام المهدي المنتظر مقطع بارز بالفكر والنظام السياسي الإسلامي ، وأن الإمام المهدي هو المؤسس الفعلي لدولة آل محمد التي ستكون آخر الدول وبالتالي فلا يمكنك تجاهل هذه الحقايق ، أو القفز عنها ، والاهم أن تناول الإمام المهدي بالبحث والدراسة يشكل إغلاقاً مناسباً لدائرة بحوثك عن الفكر السياسي العالمي عامة ، ولفكر أهل بيت النبوة خاصة ، وبعد ذلك فلا تثريب عليك لو طرقت أي موضوع شئت فاقتنعت
٥
بصواب الاقتراح ، تفاءلت خيراً ، ولكني أوجست في نفسي خيفه وتهيبت كثيراً ، لأن : كافة المعلومات المتعلقة بالأمام المهدي من أنباء الغيب التي لم تقع بعد ، ولا مجال فيها للاجتهاد ولا للتحليل ، بل آلت إلى الأمة من الأحاديث النبوية الشريفة ، ثم إن الحديث النبوي نفسه قد تعرض لمحنة قاسية حيث منعت دولة الخلافة التاريخية كتابة ورواية الأحاديث النبوية منعاً باتاً قرابة مائة عام تحت شعار « حسبنا كتاب الله » وزاد المشكلة تعقيداً أن دولة الخلافة قد عزلت أئمة أهل بيت النبوة ، وهم ورثة علمي النبوة والكتاب وفرضت عليهم نوعاً من الإقامة الجبرية ، وهكذا حوُصرت أنباء الغيب محاصرة تامة ، وبعد المائه عام حدث الانفراج عن مصادر تلك الأنباء ، وبدأ المسلمون يروون ويكتبون الأحاديث النبوية علناً!! هذه الظروف تجعل الوصول إلى الحقائق الشرعيه الصادرة عن رسول الله أمراً ليس سهلاً.
ويكمن الخوف والتهيب في منهجية عرض وتقديم نظرية الإمام المهدي المنتظر ، فالعشرات من العلماء الأجلاء قد بحثوا هذه النظرية ، وعرضوها بأشكال متشابهة ، وما ينبغي أن يكتب يجب أن يكون مختلفاً تماماً.
ثم إن شعور النخبة المستنيره من المسلمين ولاشعور الخاصه والعامه من أبناء الجنس البشري قد انفض تماماً من حول العقائد والأنظمة الوضعية ، ويئس من قدرتها على إنقاذ البشرية ، وقد حمت عندهم وتواترت بينهم ، واقتنعوا بأن العالم الأنساني لن ينقذه ، ولن يخلصه من مستنقعات واقعه إلا المهدي المنتظر!! فعشقوه عشقاً ، وعشقوا حكومته العالمية التي سيخضع لسلطانها كافة سكان الكرة الأرضية ، والملتزمة بتطهير الأرض من الظلمة ، ونشر العدالة المطلقة في أرجائها ، وتحقيق الكفاية التامة والرخاء المطلق لكل بني البشر ، وإتمام المصالحة التامة بينهم بعد أن تقتلع جذور الخلاف والاختلاف فيسود الانسجام التام ، هولاء بحاجة إلى دعم معنوي من الباحث ، وتنسيق خاص لأنباء الغيب المتعلق بمثل هذه الأمور ، والأهم كيف يرتقي الواقع العالمي للإمام المهدي وأهدافه وغاياته المعلنة؟ وبتعبير أدق كيف تتسلسل الحادثات وحلقات الوقائع تسلسلاً منطقياً بحيث تؤدي أو تفضي مباشرة إلى دولة آل محمد ، أو إلى عهد الإمام
٦
المهدي المنتظر؟ وكيف نخلص هذا الكم من الامال من بين مخالب واقع عالمي يبعث على اليأس والقنوط؟ كل هذا يحتاج إلى قدرة هائلة على الاستقراء والاستنباط والمقارنة وتحليل الثوابت من النصوص تحليلاً يبقيك دائماً ضمن دائرتها.
واجتزت حواجز التهيب والخوف ، وصممت على الكتابة ، وجمعت مجموعة كبيرة من المراجع أهمها وأعظمها على الإطلاق « معجم أحاديث الإمام المهدي » الذي ألفته الهيئة العلمية في مؤسسة المعارف الإسلامية تحت إشراف سماحة الأخ والصديق الشيخ علي الکوراني ، وهو يقع على خمسة مجلدات اشتملت على كافة الأحاديث النبوية وأحاديث أئمة أهل بيت النبوة ، وشرعت بالكتابة ، ولم أجد بحمد الله ومنّته عسراً ولا حرجاً ، لأن مولانا الإمام المهدي يُسر ويفرح.
وبعد أن أتممت الكتاب أيقنت أن قوانينا ، ومناهجنا وأساليبنا بالتغيير ، تعكس حجم قدراتنا وقوانا المحدودة ، وأن لله نواميس وأساليب بالتغيير تعكس حجم قدرته التي استطال بها على كل شيء ، لا إله إلا هو شديد المحال ، الكبير المتعال.
وقد اشتمل فهرس الموضوعات على الأبواب والفصول ويمكنني القول وبغير ادعاء أن الكتاب مختلف تماماً عن الكتب التي سبقته والتي عالجت نفس الموضوع ، لقد قدمت نظرية الأمام المهدي المنتظر ، بروح العصر ولغته بعد أن أصّلتها وجذرتها دينياً وتاريخاً.
الّلهم اجعل عملي خالصاً لوجهك الكريم ، وتقبل منا إنك أنت السميع العليم وآخر دعواهم ان الحمدلله رب العالمين.


المحامي
أحمد حسين يعقوب
٧

٨
حقيقة الاعتقاد بالإمام
المهدي المنتظر
٩

١٠
الباب الأول
نقض عرى الإسلام وغربته
والتهيئة لظهور المهدي المنتظر
١١

١٢

الفصل الأول :

نقض عرى الأسلام وناقضوها
الأسباب والنتائج
نجاح لا مثيل له في التاريخ البشري
لقد نجح محمد رسول الله نجاحاً لا نظير له في تاريخ البشرية. كلها ، فقد نقل العرب من دين إلى دين ، وكون لهم دولة شملت كل بلادهم ، ووحدهم وحدة حقيقية لاول مرة في التاريخ كله بمدة لا تتجاوز ٢٣ سنة وبكلفة بشرية لم تتجاوز ٣٨٩ قلتيلاً من طرفي الصراع ، ووضع تحت تصرفهم نظاماً سياسياً لو أخذوا به لدخل العالم كله في طاعتهم من غير إكراه ، ولتغير مجرى التاريخ العالمي تماماً لما اختلف اثنان قط.
وبكل الحياد والتجرد والموضوعية ، فإن نجاح النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا نجاح لا يضاهيه نجاح في الدنيا قط ، خاصة وأنه والهاشميون من خلفه قد شقوا طريقهم بموضوعية وبحدود قدرة العقل البشري على الاستيعاب ، وتخطوا قبل النجاح عوائق عظمى لا طاقة لقدرة في الأرض على مواجهتها وتخطيها. واکتمل كل شيء. بلغ الرسالة على خير ما تُبلغ الرسالات ، وأدي الأمانة على خير ما توًدى الأمانات ، وانتهت مرحلة الإبداع والتأسس ، وخُيّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين النبوة والملك والبقاء ، وبين ما عند الله ، فاختار ما عند الله ، وأعلن للأمة أنه سيمرض بعد عودته من حجة الوداع وسيموت في مرضه ، وحذرها من فتن وعواصف ومحن تتربص بها ، وتنتظر موته بفارغ الصبر لتنقض كالصاعقة. فتلغي عملياً كافة الترتيبات
١٣
الإلهية لعصر ما بعد النبوة وتضع ترتيبات بديلة توًدي لتفريغ الإسلام من مضامينه ومحتواه مع الإبقاء على القشرة أو الاسم ليكون الغطاء الشرعي للملك وضرورات توسعه وتوسيعه.
بيان ما هو كائن وما سيكون
رحمة من النبي بالأمة ، ورغبة منه بتبصيرها معالم الطريق ، وإقامة للحجة بيّن الرسول للأمة كل ما كان في الأمم السابقة ، وما كان أثناء مرحلة بناء الدعوة والدولة ، ماذا سيكون بعد موته ، وأن ما سيكون يمكن تجنبه تماماً إذا التزمت الأمة بتوجيهات نبيها ، لأن النبي لا ينطق عن الهوى ، بل يتبع ما يوحى إليه ويتكلم بالعلم الإلهي اليقيني ، وبيان ما كان وما سيكون هو جزء من رسالته ، وهو فيض الرحمتين الإلهية والنبوية ، وأكد لهم النبي أن الفتن ستزحف عليهم بعد موته وهي مشتبهة كوجوه البقر لا تدرون أياً من أي. قال حذيفة : قلت : « يا رسول الله ، إنّا كنا في جاهليةٍ وشر ، فجاء الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال : نعم! قال حذيفة : ما هو؟ قال النبي : فتن كقطع الليل المظلم ، سيتبع بعضها بعضاً تأتيكم مشتبهة » [ راجع صحيح البخاري ، كتاب بدء الخلق ، باب علامات النبوة ، ورواه أحمد. راجع الفتح الرباني ج‍ ٢٣ ، ص ٣٨ ] ، وروى مسلم في صحيحه كتاب الفتن ج ١٦ ص ١٨ وأحمد في الفتح الرباني ج ١ ـ ص (٢٧٤) عن أبي زيد أنه قال : « صلى بنا رسول الله الفجر وصعد المنبر ، فخطبنا حتى حضرت الظهر ، فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ، ثم نزل فصلي ، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس ، فأخبرنا بما كان ، وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا ». قال أسامة : أشرف النبي على آطم من اطام المدينة ، ثم قال : « هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر ». [ رواه البخاري في كتاب الحج من صحيحه ج‍ ١ ص ٣٢٢ ، ورواه مسلم في صحيحه ج ٧ ص ٨ ].
نقض عرى الإسلام كلها والناقضون
لقد حذر رسول الله الموًمنين بانهم إن لم يتبعوا ما أمرهم أصحابه قائلاً : « لينقض
١٤
الإسلام عروة عروة ، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها ، فأولهنّ نقضاً الحكم ، وآخرهن الصلاة ». [ رواه أحمد وابن حبان والحاكم ، راجع كنز العمال ج‍ ١ ص ٢٣٨ ]. وعملية نقض العرى لن تتم من تلقاء نفسها بل سيتولاها وينفذها فريق من المسلمين المحسوبين على الأمة ، لذلك كشف رسول الله حقيقة هذا الفريق ليحذر الناس من شرورهم قبل وقوعها. قال حذيفة : « والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا ، والله ما ترك رسول الله من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا بلغ من معه ثلاثمائة فأكثر ، إلا قد سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته ». [ رواه أبو داود في عون المعبود حديث ٤٢٤٣ و ٤٢٢٢ ] ، ووضع رسول الله النقاط على الحروف ، قال حذيفة : قال رسول الله : « إن في أصحابي اثنى عشر منافقاً منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ، [ رواه الإمام أحمد والإمام مسلم ، راجع كنز العمال ج‍ ١ ص ١٦٩ ومعالم الفتن ج‍ ١ ص ٦٧ ] ، وقال حذيقة : أشهد أن الاثنى عشر حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد [ راجع صحيح مسلم ج‍ ١٧ ص ١٢٥ ] ، وروي عن عمار بن ياسر مثل ذلك. [ رواه الإمام أحمد ، راجع الفتح الرباني ج‍ ٢١ ص ٢٠٢. ] إن اثنى عشر مجموعة تخريبية كذبت بآيات الله واستكبرت عنها كما يستفاد ذلك من الآية ٤٠ من سورة الأعراف. واقترب الرسول من نقطة الخطر فأعلن أمام أصحابه قائلاً : « إن هلاك أمتي على يد غلمة من قريش ». [ رواه البخاري في صحيحه كتاب بدء الخلق ، باب علامات النبوة من صحيحه ج‍ ٢ ص ٢٨٠ ] ثم قال : « يهلك أمتي هذا الحي من قريش » [ رواه البخاري أيضاً في كتاب بدء الخلق ، باب علامات النبوّة من صحيحه ج‍ ٢ ص ٢٨٠ ومسلم في صحيحه كتاب الفتن ج‍ ١٨ ص ٤١ ] ، وعن ابن عباس أنه قال : قال رسول : « ولتحملنكم قريش على سنّة فارس والروم ولتؤمنن عليكم اليهود والنصارى والمجوس ». [ رواه الطبراني ، راجع محمع الزوائد ج‍ ٧ ص ٢٣٦ ] ، وقال الرسول مرة لأصحابه : « رواه الإمام أحمد ، وقال الهيثمي : رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح الفتح الرباني ج‍ ٢٣ ص ٢٤٠ ].

١٥
وعندما ذكر رسول الله الغلمة من قريش ، والحي من قريش طالب الناس باعتزالهم قائلاً : « لو أن الناس اعتزلوهم ». [ راجع صحيح البخاري ج‍ ٢ ص ٢٨٠ وصحيح مسلم ج‍ ١٨ ص ٣٩ ومعالم الفتن ج‍ ١ ص ٣٠٣ ].
ثم وقف النبي طويلاً عند بني أمية وحذر الأمة منهم ، فبين أن أكثر بطون قريش بعضاً لمحمد ولآل محمد هم بنو أمية ، وبنو أمية ، وبنو مخزوم ... [ راجع المستدرك على الصحيحين للحاكم وحلية الأولياء لأبي نعيم ، وكنز العمال ج‍ ١١ ص ١٦٩ حديث ٣١٠٧٤ ] تحديث عن الشجرة الملعونة وعن رؤى نزو الأمويين على منبره نزو القردة وتيقن المسلمون من استياء النبي البالغ من تلك الرؤيا ، [ رواه الحاكم في المستدرك ج‍ ٣ ص ١٧١ ، وأقره الذهبي وقال ابن كثير في البداية والنهاية ج‍ ٦ ص ٢٤٣ ، ورواه الترمذي وابن جرير والحاكم والبيهقي ] وتحدث النبي عن اصحاب الخطر من بني أمية ، وركز عليهم واحداً واحداً ، وحذّر الأمة منهم. ثم وقف النبي وقفة طويلة وخاصة عند الحكم بن العاص والد وجد الخلفاء الامويين ، فقال أمام أصحابه : « ويل لأمتي مما في صلب هذا » [ رواه ابن عساكر راجع الكنز ج‍ ١١ ص ١٦٧ ] ، وقال أيضاً : « ويل لأمتي من هذا وولد هذا » ، [ الكنز ج‍ ١١ ص ١٦٧ والإصابة لابن حجر ج‍ ٢ ص ٢٩ ] ، وقال النبي لأصحابه عن الحکم : « إن هذا سيخالف كتاب الله وسنة نبيه وسيخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء ، وبعضكم يومئذ شيعته ، [ رواه الدار قطني الكنز ج‍ ١١ ص ١٦٦ وابن عساكر ج‍ ١١ ص ٣٦٠ والطبراني ج‍ ١١ ص ٦٦٧ ].
وبعد أن كشف الرسول حقيقة هذا الخطر لعنه رسول الله ، ولعن ولده. [ قال الهيثمي ، رواه أحمد والبزار والطبراني راجع الزوائد ج‍ ٥ ص ٢٤١ ]. قال عبد الرحمن بن أبي بكر لمروان بن الحكم : « إن رسول الله لعن أباك » [ رواه البزار ومجمع الزوائد ج‍ ٥ ص ٢١ ] ، وقال الحسن بن علي لمروان : لقد لعنك الله على لسان رسوله ، وانت في صلب أبيك [ رواه أبو يعلى مجمع الزوائد ج‍ ٥ ص ٢٤٠ ، وابن سعد وابن عساكر ج‍ ١١ ص ٣٥٧ وابن كثير في البداية ج‍ ٨ ص ٢٨٠ ]. وحتى يكون الأمر معلوماً أمام الجميع أمر رسول الله
١٦
بنفي الحكم بن العاص ، فنفاه الرسول من المدينة أن الحكم بن العاص عدو لله ولرسوله ، وبقي الحكم منفياً طوال عهد النبي المبارك ، وبعد وفاة النبي راجع عثمان أبا بكر لإعادة الحكم فرفض ذلك أبو بكر ، وبعد وفاة أبي بكر راجع عثمان عمر فرفض ذلك ، ولما آلت الخلافة لعثمان أدخله معززاً ، واتخذ ابنه مروان رئيساً لوزرائه ، ولما مات الحكم أقام عثمان على قبره فسطاطاً تعبيراً عن حزنه وعميق مصابه بموت الحكم [ راجع الإصابة ج‍ ٢ ص ٢٩ ].
استمع المسلمون إلى كافة تحذيرات الرسول مما سيكون!! وتعجبوا كيف يكون ذلك!! وهل يعقل أن تنقض عرى الإسلام كلها!! فأراد الرسول أن يحذر أصحابه أنفسهم ، وأن يضعهم إمام مسؤولياتهم فذكرهم أنه سينتظرهم على الحوض وفاجأهم قائلاً : « ... وليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثم يُحال بيني وبينهم. [ راجع صحيح بخاري ج‍ ٤ ص ١٤١ كتاب الدعوات وصحيح مسلم ج‍ ٥ ص ١٥٣ كتاب الفضائل والفتح الرباني ج‍ ١ ص ١٩٢ ] ، وفي رواية عن عبد الله : « فأقول يا رب أصحابي!! فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ». [ صحيح البخاري كتاب الدعوات ج‍ ١ ص ١٤١ وصحيح مسلم كتاب الفضائل ج‍ ١٥ ص ١٥٩ ، ورواه أحمد والبيهقي ، راجع كنز العمال ج‍ ١١ ص ٤١٨ ] ، وفي رواية عن أبي هريرة : « فيقال إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ». راجع صحيح البخاري ج‍ ٤ ص ١٤٢ باب الصراط ] ، وفي رواية عن ابن عباس : « فيقال إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ». [ راجع صحيح البخاري تفسير سورة الأنبياء ج‍ ٣ ص ١٦٠ ، وصحيح مسلم ج‍ ١٧ ص ١٩٤ ] ، ونادى منادٍ فقال هلم ، قلت : أين؟ قال : إلى النار والله! قلت : ما شأنهم؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم » [ راجع صحيح البخاري ج‍ ٤ ص ١٤٢ كتاب العدعوات باب الصراط ]. هذه التحذيرات التي أطلقها الرسول بمواجهة أصحابه كانت إغلاقاً للدائرة فقد بين كل شيء على الإطلاق ، فمن وعي بيانه تيقن أن الوقائع التي جرت بعد وفاته ، ما كانت إلا ترجمة حرفية ، لكل ما حذر منه ، وباختصار شديد قال رسول الله : « وايم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء ». [ رواه ابن
١٧
ماجه راجع الكنز ج‍ ١١ ص ٣٧٠ ، وقال الألباني له منابع قوي عند الإمام أحمد كتاب السنة ج‍ ١ ص ٢٧ ].
أخطر التحذيرات النبوية
لغايات إكمال الحلقة ، وحتى لا يضل الناس بعد هدى ، وتبياناً لما سيكون قال النبي لأصحابه ومنهم أصحاب الخطر : « أكثر ما أتخوف على أمتي من بعدي رجل يتأول القرآن ، يضعه على غير مواضعه ، ورجل يرى أنه أحق بهذا الأمر من غيره » ، [ رواه الطبراني في الأوسط ، راجع معالم الفتن ج‍ ١ ص ٩١ ] ، لأن الله تعالى قد خصص فئة معينة لفهم القرآن فهماً يقينياً ، وهم أهل البيت والمتأول يقف بما ليس له به علم ، ويتولى مهمة مخصصة لغيره ، ولأن هذا المتأول محكم بهواه فسيضطر ، لترك النصوص الشرعية التي لا تتفق حتماً مع هواه ، واتباع ارائه الشخصية ، مما يعني إهمال مضامين النصوص الشرعية وإحلال التحليلات والاراء الشخصية محلها تحت شعار أن هذا المتأول مشفق وناصح لله ولرسوله ، وانه يرى مالا يرون!!! وبيّن الرسول أن القرآن سيقرأه في زمن الأزمان ثلاثة « مؤمن ومنافق وفاجر ». [ رواه الحاكم وأقره الذهبي في ذيل المستدرك ج‍ ٤ ص ٥٠٧ ] ، ولكن لا يمسه ولا يفهم المقصود الشرعي منه إلا المطهرون ، وليقنع الرسول أصحابه ، بأن ما يقوله يقيناً ومن عند الله ، فقد ذكرّ أصحابه قائلاً : « لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلاً حتى نشأ فيهم المولدون وأبناء سبايا الأمم التي كانت بنو إسرائيل تسبيها ، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا ». [ رواه الطبراني في الكبير ، راجع كنز العمال ج‍ ١١ ص ١٨١ ].
أما الشق الآخر من الخطر المحدق الذي حذر منه رسول الله فهو رجل يرى أنه أحق بهذا الأمر من غيره!! لقد أعلن رسول الله بأمر من ربه حديث الثقلين ، وبيًن بأمر من ربه قد ترك هذين الثقلين. خليفتين من بعده ، وبين أيضاً بأن القرآن لا يمسه إلا المطهرون والمطهرون الذين أذهب الله عنهم الرجس هم أهل البيت أحد الثقلين ، بمعنى أن النقاط موشوعة على الحروف وأن كل شيء مرتب تربيناً إلهياً محكماً ، وأخطر ما حذر الرسول من الوقوع فيه بعد موته هو ادعاء عمرو أو
١٨
زيد من الناس انه أحق بالأمر أي (بقيادة الأمة) ومس القرآن من أهل بيت النبوة وأن « مصلحة المسلمين » تقتضي ، تقديم المفضول على الأفضل ، وهكذا وبجرة قلم ينقضوا أعظم عروة من عرى الأسلام ، وهي نظام الحكم ويلغوا كافه الترتيبات الإلهية المتعلقة بها ، وكافة النصوص الشرعية التي تعالجها مستندين إلى الرأي الشخصي ، والتأويلات الخاطئة ، وهكذا يضلون ويضلون الأمة ، ويدخلوها ... والعالم معهم في ليل طويل ، لا آخر له. وقد حذرهم الرسول إن فعلوا ذلك قائلاً : « إنه سيلي أمركم بعدي رجال يُطفئون السنّة ، ويُحدثون البدعة ، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها. وعندما سأله ابن مسعود : كيف بي إذا أدركتهم؟ أجابه النبي قائلاً : « يابن أم عبد ، لا طاعة لمن عصى الله » ، قالها ثلاث مرات. [ رواة أحمد ، الفتح الرباني ج‍ ٢٩ ص ٢٣ وقال : حديث ].
الله ورسوله يكشفان العقول
والجموع التي ستنقض عرى الإسلام
إن نقض عرى الإسلام لم يتم الياً أو بصورة عفوية إنما كان وراء عملية النقض ، تخطيط محكم ، وعقول كبيرة كانت تعرف ما تريد وتسعى ، بلا كلل ولا ملل لتحقيق ما تريد ، وتقف وراءها جموع إلهها هواها ، ولا همّ لها إلا هدم دين الإسلام وتفريغه نهائياً من مضامينه ، والإبقاء على قشوره ليستقيم لها الملك الذي جاءت به النبوة. وقد أشرنا إلى قيادات النقض ، بالقدر الذي تحتمله عقول العامة ، ونشير الآن إلى الجموع التي وقفت خلف تلك القيادات التي تولت كبر عملية نقض عرى الإسلام وهذه الجموع هي :
١ ـ بطون قريش : منذ اليوم الأول الذي أعلن فيه الرسول أنباء النبوة والكتاب ، وطوال مدة ال‍ ١٥ سنة التي سبقت الهجرة النبوية ، وبطون قريش ال‍ ٢٣ تقف وقفة رجل واحد ضد محمد ، وضد بني هاشم ، وقد استعملت بطون قريش كافة سهام كيدها ، وفنون مكرها ، وتآمرت على قتل النبي مرات متعددة ، لأنها ببساطة تحسد الهاشميين ، وتكره ما أنزل الله ، ولا تريد أن يكون النبي من بني هاشم ، ولما هاجر النبي جيّشت بطون قريش الجيوش ، واستعدت العرب على
١٩
النبي ، وحاربته حرباً لا هوادة فيها ، وبعد حروب طاحنة ، ولما هزمها النبي إضطرت مكرهة أن تدخل ، أو أن تتظاهر بالدخول في الإسلام ، وبنفس الوقت أخفت تركة صراع طويل ، وحسداً متمكناً من النفوس ، وحقداً دفيناً ألقي أجرانه في القلوب. ولما رأت بطون قريش أن النبوة قد أسفرت عن مُلْك رأت من مصلحتها أن تعترف بهذه النبوة طمعاً بالأنقضاض على الملك ذات يوم ، وعندما تيقنت البطون بأن الرسول قد رتب مرحلة ما بعد النبوة ، وأنه قد عين خليفتين من بعده « كتاب الله وعترة النبي أهل بيته » ، صممت بطون قريش أن تستولي على الملك من بعد النبي ، وأن تحارب الإسلام بأسلحته فروّجت ، بإن الإسلام قد جاء بالعدل والمساواة والانصاف ، وليس من العدل ولا من الإنصاف أن ينال الهاشميون الملك والنبوة معاً ، وأن تحرم بطون قريش من هذين الشرفين معاً ، الأفضل أن يختص الهاشميون بالنبوة ، وأن تختص بطون قريش بالملك تتداوله فيما بينها ، لذلك صممت بطون قريش على فرض هذه الغاشمة بعد وفاة النبي ، وهكذا نقضت بطون قريش عملياً العروة الأولى من عرى الإسلام ، وهي الحكم. واتحدت ضد آل محمد بعد وفاة النبي تماماً ، كما اتحدت ضد النبي ، وحاربت آل محمد بكل وسائل الحرب وفنونه ، تماماً كما حاربت النبي من قبل ، واستعدت عليهم العرب ، تماماً كما استعدت العرب على النبي من قبل!! وكانت بطون قريش على استعداد أن تمد يدها للشيطان إن ساعدها على تحقيق ذلك كله. وقد وثقنا ذلك في كتابنا « المواجهة » وسقت ٣٩٤ دليلاً على ذلك من عيون المراج المعتمدة عند أهل السنة ، فليرجع إليه من يشاء.
٢ ـ المنافقون : وهم العمود الفقري للجموع التي دعمت نقض عرى الإسلام ، وكانت لهم قواعد في المدينة ، وما حولها وفي مكة وما حولها ، وقد حمل عليهم القرآن حملات متكررة حتى كشفهم وعّراهم على حقيقتهم ، ووضع الله ورسوله معياراً لمعرفة المؤمن من المنافق ، فمن وإلى علياً بن أبي طالب وأحبه ، فهو مؤمن ، ومن عاداه وأبغضه فهو منافق. [ راجع على سبيل المثال صحيح الترمذي ج‍ ٢ ص ٢٩٩ ومسند أحمد بن حنبل ج‍ ٦ ص ٢٩٢ وصحيح النسائي ج‍ ٢ ص ٢٧ وخصائص النسائي وصحيح ابن ماجة ص ٢ ].
٢٠
وكتابنا « الهاشميون في الشريعة والتاريخ » ص ٢٢٥ يشتمل على عشرات المراجع والمثير للدهشة أنه لم يرو راو قط أن أحداً من المنافقين على الإطلاق قد عارض أي خليفة ، أو امتنع عن بيعة أي خليفة ، أو تلكأ عن نصرة أي خليفة من الخلفاء الذين حكموا الأمة عبر التاريخ ، والوحيد الذي عارضه المنافقون وامتنعوا عن بيعته هو علي بن أبي طالب ، وهكذا فعلوا مع ابنه السبط الإمام الحسن!! أتحدى أي عالم على وجه الأرض أن ينقض هذه الحقيقة!! بل الأعظم من ذلك أنه بعد موت النبي اختفت المخاوف من ظاهرة النفاق ، واندمح المنافقون في المجتمع اندماجاً تاماً!! ووقفوا بكل قواهم مع دولة الخلافة ، ومارسوا حياتهم بحرية ، وأصبح الولاء للدولة هو المعيار لتمييز الحق من الباطل ، فمن يوالي دولة الخلافة فهو على الحق ، أو مستور الحال بغض النظر عن إيمانه أو نفاقه! ومن يعارضها فهو على الباطل ، وشاق لعصا الطاعة ، ومفرق للجماعة ، ودمه حلال للخليفة!!
٣ ـ الذين في قلوبهم مرض : وهم غير الفئة المنافقة ، ويمكن أن نسميهم بأصحاب المصالح ، أو ضعاف الإيمان ، وقد وصفهم القرآن الكريم وصفاً دقيقاً ، وقد ساهمت هذه الفئة في نقض عرى الإسلام.
٤ ـ الذين في قلوبهم زيغ : وهم فئة رابعة متميزة عن غيرها من الفئات ، وهؤلاء يفرون من الوضوح إلى الغموض ، ومن الحق إلى الباطل ، وهم التاركون للنص الآخذون بالرأي حرصاً على مصلحة الإسلام والمسلمين!!!
٥ ـ أصحاب التخشع الكاذب : فئة يتظاهر أفرادها بالورع ، والتقي والدين ، وهم كاذبون ولهم القدرة على خداع كل الناس ، وأبرز مثال على هذه الفئة ابن ذي الثدية ، فقد خدع أبا بكر ، وخدع عمر رضي الله عنهما ، وتصور أنه خاشع تقي فكلف رسول الله أبا بكر ليقتله فلم يفعل تقديراً لخشوعه ، ثم كلف الرسول عمر فلم يفعل ، لأنه قد اغتر بخشوعه ، فأمر الرسول علياً بقتله فلم يجده ، وأخبر الرسول. أن هذا المتخشع الكاذب مارق ، وأن علياً سيقتله ذات يوم وقتله علي بالنهروان بالفعل ، [ راجع البداية والنهاية لابن كثير ج‍ ٧ ص ٢٩٩ ، ومجمع الزوائد ج‍ ٦ ص ٢٢٧ ]. وقد ساهمت هذه الفئة بنقض عرى الإسلام ، وقد كشف
٢١
الله ورسوله حقيقة هذه الفئة ، كما كشف حقيقة غيرها من الفئات التي ستقود. وتتبنى عملياً عملية نقض عرى الإسلام.
البيان اليقيني وإقامة
الحجة على الجميع
من خلال الترابط والتكامل بين القرآن وبيان النبي لهذا القرآن ، وبمتابعة من الوحي الإلهي الذي لم يتوقف ، بيّن الترتيبات الإلهية لمرحلة ما بعد موت النبي ، وأثبت بالدليل القاطع ، بأن هذه الترتيبات محكمة ، وأنها صنع الله ، وهي الهدى بعينه ، وهي الصراط المستقيم نفسه.
ونجح النبي نجاحاً منقطع النظير في وصف الطريق التي سيسلكها المسلمون بعد وفاته ، وكشف مخاطرها ومنعطفاتها ، وتحديد الأعداء تحديداً دقيقاً ، وبيان طريق النجاة من كل خطر ، والمنهج الفرد لهزيمة الشيطان وأوليائه. وهكذا وضع الله ورسوله تحت تصرف طلاب المهدي التصوّر اليقيني ، لما هو كائن ولما ينبغي أن يكون ، فقامت الحجة على الجميع ، فمن يترك الطريق القويم لا يتركها بشبهة ، أو بعذر لأنه لا شبهه مع اليقين ، إنما يتركها منحرفاً متعمداً مع سبق الإصرار.
المفاجأت الكبري
بعد أن وضع النبي تحت تصرف المسلمين التصوّر اليقيني لما هو كائن ، ولما ينبغي أن يكون ، وبعد أن رسم لهم مخططاً للطريق التي سيسلكونها بعد وفاته ، مرض كما أخبرهم من قبل ، وأعلن أنه سيموت في مرضه ، وأنه سيلخص لهم الموقف خطياً ، فيؤمنهم ضد الضلالة والانحراف تأميناً شاملاً ، وضرب موعدًا لكتابة توجيهاته النهائية ، وما جلس النبي مع خلّص أصحابه ، وفي الوقت الذي همّ بكتابة توجيهاته النهائية فوجئ النبي وخلص من أصحابه ، بجمع كبير من بطون قريش يدخل حجرة النبي دون استئذان ، ويجلسون دون دعوى متجاهلين بالكامل وجود النبي ، ولم يثن هذا التصرف النبي عما أراد ، فقال النبي لخلّص أصحابه : « قربوا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً » ، فتجاهل
٢٢
جمع بطون قريش وجود النبي ، وتجاهلوا ما قاله ، ووجهوا كلامهم للخلّص من أصحابه قائلين : « إن النبي قد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله » أن النبي يهجر حسبنا كتاب الله استفهموه! إنه يهجر!!! القرآن وحده يكفينا ولا حاجة لوصية الرسول!!!
احتج الخلّص من أصحاب النبي على هذا التصرف المستغرب ، واصطدموا مع جمع البطون ، وعلت الأصوات بين أصحاب النبي الخلًص القلة ، وبين الكثرة من بطون قريش ، وتنازعوا ، فأطلّت النسوة من وراء الستر ، وقلن : ألا تسمعون رسول الله يقول : قرّبوا يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده؟ فنهرهن أحد الصحابة قائلاً لهن : « إنكن صويحبات يوسف » هنا تكلم النبي فقال : « إنهن خير منكم » ما أنا فيه خير مما تدعونني إليه ، قوموا فلا ينبغي عندي تنازع!! وهكذا صرف النبي النظر عن كتابه توجيهاته الخطية ، إذ لو أصر النبي على الكتابة لأصرت بطون قريش في ما بعد على أن الكتابة قد صدرت عن النبي وهو يهجر حاشاه ، مع ما يستتبع ذلك من خطر ماحق على دين نفسه ، وهكذا نجحت بطوتن قريس ومن لف لفها يإخراج النبي من التأثير على سير الأحداث بلحظات حاسمة ، وحرقت الأمة والعالم من الاستفادة من توجيهات النبي النهائية الخطية. وما ذكرناه حقائق رواها البخاري في صحيحه في ست روايات ، ورواها مسلم في صحيحه والنووي في شرحه على صحيح مسلم وابن القيم الجوزي في تذكرة الخواص ، وأبو حامد الغزالي في سر العالمين ، وكشف ما في الدارين ، ولا خلاف إطلاقاً بين المسلمين على صحة وحقيقة هذه الوقائع ، وهكذا صدمت بطون قريش خاطر النبي الشريف ، وقصموا ظهر الإسلام بالفعل. وتلك حادثة فريدة من نوعها في التارنخ السياسي إسلامي ، فما من خليفة على الإطلاق إلا وقد مرض قبل موته ، واشتد به الوجع أكثر مما اشتد الوجع برسول الله. وما من خليفة على الإطلاق إلا وقد كتب توجيهاته النهائية أثناء مرضه ، وقبل موته ، ولم يصدف على الاطلاق أن قال أحد لأي خليفة من الخلفاء أنت تهجر ، أو أن الوجع قد اشتد بك ، وأنه لا حاجة لنا بوصيتك ، ولا بتوجيهاتك لأن القرآن عندنا وهو يكفينا ويغنينا عنك!!. بل على العكس فقد كانت وصايا الخلفاء وهم على هذه الحالة تنفذ كأنها وحي إلهي
٢٣
تنزلت به الملائكة علناً ، وعلى رؤوس الأشهاد!!! وبعض الخلفاء وهو مشرف على الموت أوحى لقتل كل من لا يلتزم حرفياً بتوجيهاته النهائية التي أصدرها ، وهو مريض على فراش الموت ، ومع هذا نفذت تلك التوجيهات بدقة متناهية.
حلقة من مخطط
وخطوة على طريق
لم تكن مواجهة بطون قريش للنبي في الحجرة المقدسة وقولهم له « أنت تهجر ، والقرآن يغنينا عنك ، ولا حاجة لنا بوصيتك » وليدة لحظتها إنما كانت الحلقة قبل الإخيرة من مخطط أعدّ له بدقة ، ونفّذ خطوة بعد خطوة. كانت بطون قريش ومن لف لفها تُريد أن تبقى من الدين والنبوة فقط ، ما هو ضروري لبقاء الملك الذي تمخضت عنه النبوة وما لا يتعارض مع هذا الملك ، تريد في النهاية الاستيلاء على هذا الملك بالقوة والقهر والتغلب ، وأن تنسف كافة تعاليم الدين وترتيباته التي تتعارض مع أهدافها تلك. لقد أدركت هذه الجبهة خطورة البيان النبوي ، وقدرة النبي على إيصال ما يريد إلى قلوب سامعيه ، وأدركت إحكام الترتيبات الإلهية لذلك ، وأثناء حياة النبي وصحته كانت بطون قريش تشكك بكل ما قاله النبي ، وتصد عن كتابه أحاديث النبي. قال عبد الله بن عمرو بن العاص : « كنت اكتب كل شيء سمعته من رسول الله ... فنهتني قريش وقالت : الرسول بشر يتكلم في الغضب والرضى ... [ راجع سنن أبي داود ج‍ ٢ ص ١٢٦ ، وسنن الدارمي ج‍ ١ ص ١٢٥ ومسند أحمد بن حنبل ج‍ ٢ ص ١٦٢ و ٢٠٧ و ٢١٦ والمستدرك للحاکم ج‍ ١ ص ١٠٥ و ١٠٦ وجامع بيان العلم لابن عبد البر ] ، وكانت بطون قريش تشيع بأن الرسول يفقد السيطرة على أعصابه ، فيسب ويشتم ويلعن من لا يستحق ذلك ، [ راجع صحيح البخاري ، مسلم كتاب الدعوات باب قول النبي من « من آذيته » ، وصحيح كتاب البر والصلة ، باب من لعنه النبي ] ، وأن النبي قد سُحر وأنه يُخيل إليه أنه قد فعل الشيء وما فعله .. [ راجع صحيح البخاري ، بدء الخلق ، باب صفة إبليس وجنوده ، وصحيح مسلم باب السحر ] .. إلي آخره من تلك الأراجيف والأكاذيب التي لا أساس لها من الصحة ، واساس لها من الصحة ، ولما أدركت البطون الطامعة بالملك فشل إشاعاتها ، واستبطأت أجل النبي صممت على
٢٤
قتله ، وشرعت في جريمتها في غزوة تبوك ، ولكن الله حمى نبيه ؛ كل ذلك يجري تحت خيمة الإسلام التي استظلت بها الفئة الطامعة بالملك ، فجاء يوم الرزيّة كما يسميه ابن عباس ، وهو يوم المواجهة في الحجرة المقدسة ليكشف الأسرار ، وليظهر حقيقة توجهات البطون الحاقدة على بني هاشم.
كانت جبهة الصد عن سبيل الله تشكل فريقاً حقيقياً ، حزباً منظماً ، رتب كل شيء ، واقتسم الملك والغنائم ، حتى قبل موت النبي ، وجاءت المواجهة في الحجرة المقدسة بمثابة استعراض للقوة ، ولإقناع أولياء النبي بأنه لا فائدة ترجى من المعارضة ، فإما أن يقبلوا بترتيبات البطون وما قبلته من الإسلام ، أو يواجهوا الموت ، ويتوقعوا عودة الشرك بعد التوحيد ، وهذا يفسر اضطرار بعض الصحابة الكرام لمجاراة هذا التيار الساحق. وكانت هذه الجبهة تضم بطون قريش التي قاومت النبي قبل الهجره ، وحاربته بعد الهجرة ، ثم اضطرت مكرهة للدخول في الإسلام ، وتضم المنافقين من أهل المدينة ، ومن حولها ؛ منافقون من أهل مكة ، وممن حولها من الأعراب بالإضافة إلى المرتزقة من الأعراب الذين لا همّ لهم إلا الكسب ، الذين ينتظرون من تدور عليه الدوائر ليأكلوه ، والقاسم المشترك بين هذه الفئات هي كراهيتهم لآل محمد ، وعدم قبولهم بأن يجمع الهاشميون النبوة والملك معاً!!! لأن في ذلك إجحاف بحق البطون!! فهل من العدل ـ برأي البطون ـ أن يجمع الهاشميون النبوة والملك ، وأن ينالوا الشرفين ، ويحوزوا الفخرين معاًً وتُحرم بقية البطون!! أليس محمد من قريش!! لماذا يرث سلطانه الهاشميون وحدهم!! ومن الذي يضمن للبطون أن الهاشميين لن يجحفوا عندما يؤول المُلك إليهم بعد وفاة النبي!! ثم إن الهاشميين قد وتروا بطون قريش أثناء حروبها مع النبي ، فما من بطن من بطون قريش إلا وقتل منه الهاشميون ، فهل تقبل بطون قريش رئاسة الذين قتلوا أبناءها ، ويتّموا أطفالها ورمّلوا نساءها!! إن من مصلحة الإسلام أن تتوحد بطون قريش خلفه ، ولن تتحفف هذه الوحدة إلا أذا استُبعِدَ الهاشميون عن الملك ، وسلمت قيادة المسلمين لبطون قريش ، ومن والاها من العرب خاصة وأن الجميع يتلفظون بالشهادتين والبواطن لله. أما الاحتجاج بالترتيبات التي أعلنها النبي في غدير خم ، فالنبي بشر والناس أعلم بشؤون
٢٥
دنياهم!!! وهكذا صارت الفتنة كوجوه البقر ، لا تدري أياً من أي ، وأصبح أولياء النبي أقلية يخافون مرة ثانية أن يتخطفهم الناس من حولهم. وقد وثقنا كل ذلك بكتابنا ؛ المواجهة.
وهكذا افترق الإسلام عن السلطان « مع أنهما توأمان لا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه ، فالإسلام أس والسلطان حارس ، وما لا أس له يهدم ، وما لا حارس له ضائع ». [ رواه الديلمي ، راجع كنز العمال ج‍ ٦ ص ١ ]. ومع الأيام آلت الخلافة لمن لا مؤهل له ، إلا الغلبة وكثرة الأتباع ولمن لا يعرف من الدين إلا اسمه!!!
٢٦

الفصل الثاني :

بطون قريش وأنصارها يستولون عملياً
علي مقاليد الدولة الإسلامية
قبل فتح مكة كانت الفئة المؤمنة الصادقة أقلية وسط أغلبية ساحقة من المشركين والمنافقين والمرتزقة من الأعراب. وبعد فتح مكة ودخول العرب بالإسلام بقيت الفئة المؤمنة الصادقة أقلية أيضاً وسط أكثرية ساحقة من المنافقين والمرتزقة من الأعراب وحديثي الدخول بالإسلام الذين يجهلون تاريخه ورجاله. وفي الحالتين كان وجود النبي كقيادة إسلامية ، والتفاف الفئة المؤمنة الصادقة حوله الضمانة الوحيدة لنقاء الحكم الإسلامي وبقائه. وهنا يكمن سر تركيز النبي المكثف على من يخلفه. لقد أدركت بطون قريش هذه الناحية ، ورأت أن استغلالها هي الطريق الوحيد للوصول إلى الملك ، وفصل السلطان عن الإسلام ، لذلك استغلت هذه البطون سماحه الإسلام وعدالته ، وجمعت حولها كافة العناصر التي اشتركت بمقاومة النبي ومحاربته سابقاً ، وانصب هدفها على عزل الفئة المؤمنة عن المجتمع تهميشها تماماً ودس الوقيعة بين رموزها ، واستعمال الكثرة الساحقة ، كطريق فرد للاستيلاء على الدولة الإسلامية. والتفرد بالملك الذي تمخضت عنه النبوة!! وكمرحلة أولى رأت البطون أن تسند رئاسة الدولة لرموز إسلامية مقبولة ومعروفة « الخليفة الرمز » على أن تكون بطانته ، وقادة جنده وعمال ولايته وأهل الحل والعقد عنده ، وبعد أن تضرب جذور البطون في الأرض تُلغي فكرة الخليفة الرمز وتستولي علنا ورسمياً على كافة مقاليد الدولة الإسلامية ، وتفرض على الناس مناهجها التربوية والتعليمية وخلال هذه المدة تمنع رواية
٢٧
الحديث النبوي وكتابته ، حتى تطمُسَ كلّ ما يذكر الناس بالحقيقة وبالشرعية السياسية الإلهية. وسواء في عهد الخليفة الرمز ، أو عندما استولت البطون على مقاليد الدولة ، كانت الفئة المؤمنة مهمشة تماماً. وراجت قناعة بأن أفرادها لا يصلحون للقيادة ، وغير موالين لدولة البطون ومتحفزين لشق عصا الطاعة ، ومفارقة الجماعة!! ومن مصلحة الإسلام والمسلمين ، ومن دواعي استقرار الدولة أن تبقى هذه الفئة تحت الرقابة المباشرة للخليفة الرمز وبطانته ، وأن لا يتولى أفرادها أي مصلحة من المصالح العلمية ، بمعنى أن الفئة عملياً تحت الإقامة الجبرية ، فنادراً أن يأذن الخليفة لأحد من أفرادها بمغادرة العاصمة إلى الأقاليم البعيدة عن إشرافه المباشر. ولأن الخليفة عادل فقد كان يغدق على الشخصيات البارزة من أفراد هذه الفئة المؤمنة الأموال من بيت مال المسلمين تأليفاً لقلوبها ، واتقاء لخطرها وطمعاً باستقرار الدولة ، حتى صارت تلك الشخصيات من أصحاب الملايين في مجتمع أكثريته الساحقة جائعة ومحتاجة!!.
المعايير الجديدة لتعبئة الوظائف العامة
عندما نجح التحالف الذي قادته بطون قريش ، بالاستيلاء على مقاليد الدولة اختفت المعايير التي كانت سائدة في زمن الرسول ، فلم يعد منها البلاء في سبيل الله ، ولا السابقة في الإسلام ، ولا العلم ، ولا الإخلاص لله ولرسوله ، وحلت محلها معايير جديدة أهمها ؛ موالاة دولة البطون ، وإرضاء رموزها والأكثرية الساحقة ، والقدرة على تنفيذ سياسة الدولة وبرامجها التربوية والتعليمية ، ومعاداة أعداء الدولة ، من قيمتهم ، بحيث لا يتقي لهم شأن ولا ذكر ، وإرغام أنوفهم لتبقي دوماً في التراب!
الاستعانة بالمنافقين والفاسقين والمرتزقة
قال ابن حجر في فتح الباري « والذي يظهر من سيرة عمر رضي الله عنه في أُّمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط ، بل كان يضم إليه الذي عنده مزيد من المعرفة السياسية ، فلأجل ذلك استخلف معاوية
٢٨
والمغيرة بن شعبة ، وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل منهم في أمر الدين والعلم ، [ راجع فتح الباري ، الأحكام ج‍ ١٣ ص ١٩٨ ].
قال حذيفة : « أمين سر رسول الله » لعمر بن الخطاب يوماً : « يا عمر إنك تستعين بالرجل الفاجر ». [ راجع كنز العمال ج‍ ٥ ص ٧٧ ] « والله يا عمر إنك تستعين من يخون وتقول ليس عليك شيء وعاملك يفعل كذا وكذا » [ راجع تاريخ الطبري ج‍ ٥ ص ٣١ ] ، وكان عمر يعلم أن الذين يستعين بهم ويستعملهم فجار أو منافقون أو منفقون أو خونه لله ولرسوله ولكنه كان يبرر استعماله لهم بالقول ، « نستعين بقوة المنافق ، وإثمه عليه » [ رواه ابن أبي شيبة والبيهقي ، راجع كنز العمال ج‍ ٤ ص ٦١٤ ] وهكذا صارت الاستعانة وتأمير الفاسقين والمنافقين والفجار طمعاً بقوتهم سُنّة ونظرية تتبناها دولة البطون وتنفذها بوفاء ، فأينما وجدت القوة ، تعني الالتزام بسياسة الدولة العامة ، والولاء لها ، وكراهية أعدائها ، وحرمان أُلئك الأعداء وأوليائهم من كافة الواظائف العامة ، والکارثة حقاً أن « أعداء » الدولة ومعارضيها سواء بالعلن أم بالسر هم أولياء النبي وقرابته الأدنون ، ومن قام الإسلام كله على أكتافهم!!
طواقم جديدة من الولاة
بعد أقل من شهرين على وفاة الرسول الأعظم تم عزل كافة العمال والولاة والأمراء الذين عينهم الرسول ، وقتل بعضهم شر قتلة ، كمالك بن نويرة ، ونجا أسامة بن زيد الذي عينه الرسول أميراً على جيش من العزل بأعجوبة!! وعينت الدولة طواقم جديدة من الولاة والأمراء بدلاً من الذين عينهم رسول الله ، واقتسمت بطون قريش الوظائف العامة ، وحصل البطن الأموي على نصيب الأسد ، لأن هذا البطن قد ساهم مساهمة فعالة بإقامة دولة البطون. وهذا البطن مشهور بعداوته للنبي وببغضه لآل النبي ، وحقده عليهم ، فالعرب كلهم بل العالم بأسره يعلم بأن أبا سفيان وأولاده خاصة ، والأمويين عامة هم الذين قادوا جبهة الشرك ضد رسول الله طوال فترة ال‍ ١٥ سنة التي سبقت الهجرة ، وأنهم هم الذين جيّشوا
٢٩
الجيوش وألبوا العرب على رسول الله وحاربوه بكل فنون القتال ، وعادوه بكل وسائل العداء حتى أحيط بهم عندما فتح الرسول مكة ، فاضطروا مكرهين للتلفظ بالشهادتين ، وکتموا إحباطهم وحقدهم على آل محمد ، لأنهم فئة موتورة ، فما من بيت من بيوت البطن الأموي إلا وأصاب الهاشميون منه مقتلاً ، وقد بيّن الرسول لأصحابه ، بأن الأمويين هم أکثر بطون قريش بغضاً لآل محمد ، وأنهم طامعون بملک النبوة لأنه رآهم ينزون علي منبره نزو القردة ، وطلب من الناس أن يعتزلوهم وأن يحذروا منهم ، وبعد وفاة النبي بفترة وجيزة ولت الدولة يزيد بن أبي سفيان قائداً عاماً لجيش الشام ، ولما مات يزيد عينت أخاه معاوية أميراً على الشام خلفاً لاخيه ، [ راجع البداية والنهاية ج‍ ٨ ص ١١٨ ، وتاريخ الطبري ج‍ ٥ ص ٦٩ ، والاستيعاب ج‍ ٣ ص ٥٩٦ وكنز العمال ج‍ ١٣ ص ٦٠٦ ] وأطلق عمر بن الخطاب يد معاوية في بلاد الشام ، وأعطاء الحرية الكاملة ليفعل ما يشاء ، وليتصرف على الوجه الذي يراه ، بلا رقيب ولا حسيب ، فقد قال عمر لمعاوية يوماً : « ... لا آمرك ولا أنهاك » ، [ راجع البداية والنهاية ج‍ ٨ ص ١٢٥ ، وتاريخ الطبري ج‍ ٦ ص ١٨٤ ] ، وكان عمر بؤطد له بين الناس فيقول عن معاوية : « إنه فتى قريش وابن سيدها » ، [ راجع البداية والنهاية ج‍ ٨ ص ١٢٥ ، والاستيعاب ج‍ ٨ ص ٣٩٧ ] ، وكان يقول للناس : « تذكرون كسرى وعندكم معاوية » ، [ راجع تاريخ الطبري ج‍ ٦ ص ١٨٤ ] ، وخاطب عمر أصحاب الشورى قائلاً : « إذا اختلفتم دخل عليكم معاوية بن أبي سفيان من الشام » ، [ راجع الطبقات الكبرى لابن سعد ج‍ ٥ ص ٥٣٥ ] وكان عمر يعرف أن معاوية يعد أهل الشام للخروج ، وأنه سيخرج ذات يوم ، فقد صرح عمر في يوم من الايام قائلاً : « يا أهل الشام استعدوا لأهل العراق ». [ راجع الدلائل لابن سعد ، وكنز العمال ج‍ ١٢ ص ٣٥٤ ]. ومع هذا لم يتعرض له عمر ، إنما تركه ليكمل استعداداته وعدته ويخرج في الوقت المناسب!! وكان وراء تأمير عمرو بن العاص ، فقد أعلن عمر أمام علية القوم قائلاً : « لا ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميراً ». [ راجع الإصابة ج‍ ٥ ص ٣ ] ، واستعان عمر بقوى الوليد بن عقبة ، مع أن الوليد فاسق بنص القرآن ، وكان يسكر علناً وصلى بالناس وهو سكران. [ راجع الإصابة

٣٠
ج‍ ٣ ص ٣٦٣ ]. واستعان عمر بعبد الله بن أبي سرح ، وكان من المقربين إليه ، [ راجع تاريخ الطبري ج‍ ٥ ص ٥٩ ، والبداية والنهاية ج‍ ٨ ص ٢١٤ ]. وعبد الله ابن أبي سرح هذا هو الذي افترى على الله الكذب ، وأباح الرسول دمه حتى لو تعلق بأستار الكعبة ، ثم أتمها عمر على بني أمية ، ووضع الأساس المتين لحكمهم يوم عهد عملياً بالخلافة لعثمان.
واستعان عمر بقوة أبي الأعور السلمي الذي شهد حنين مشركاً ، [ راجع الإصابة ج‍ ٢ ص ٥٤٠ ، وأسد الغابة ج‍ ٦ ص ٨٢ ]. وكان من أشد المبغضين لعلي بن أبي طالب ، وقد أمّره عمر ، وجعله على مقدمة جيش. [ راجع الإصابة ج‍ ٢ ص ٥٤١ ].
وأمر عمر يعلى بن منبه على بعض بلاد اليمن ، وكان من الحاقدين على علي بن أبي طالب ، فقد أعان الزبير بأربعماءة ألف عندما خرج على علي ، واشبرى لعائشة أم المؤمنين جملاً يقل له ( عسكر ) ، وجهز سبعين رجلاً من قريش لقتال علي بن أبي طالب. [ راجع الاستيعاب ج‍ ٣ ص ٦٦٢ ـ ٦٦٣ ].
واستعان عمر ببسر بن أرطأة ، وأياس بن صبيح ، وهو من أصحاب مسيلمة الكذاب ، أسلم وولاه عمر القضاء على البصرة ، [ راجع الاصابة ج‍ ١ ص ١٢٠ ]. واستعان عمر بطليحة بن خويلد الذي ادعى النبوة بعد النبي ، وقد أعجب عمر به ورضى عنه ، وكتب إلى أمرائه أن يشاوروه. [ راجع البداية والنهاية ج‍ ٧ ص ١٣٠ ]. وابن عدي الكلبي الرجل النصراني الذي تلفظ بالشهادتين ، وفوراً دعا له عمر برمح فولاه الإمارة ، قال عوف بن خارجة ، ما رأيت رجلاً لم يصلّ صلاة أمر على جماعة من المسلمين قبله ، [ راجه الإصابة ج‍ ١ ص ١١٦ ]. واستعمل عمر أبا زبيد على صدقات قومه وكان نصرانياً ، ولأنه قوى استعمله ، ولم يستعمل نصرانياً غيره. [ راجع الاستيعاب ج‍ ٤ ص ٨٠ ]. واستعان عمر بكعب الأحبار اليهودي الذي أسلم فصار من خلص الخليفة وأصفيائه ومرجعه وموضع أسراره ، والمجيب الموثوق على كل تساؤلاته ، وتولى كعب عملية القص في المساجد وصار القص سنّة. [ راجع الإصابة ج‍ ٣ ص ٣١٦ ] ، فكان كعب يقص ما يحلو له
٣١
في مسجد رسول الله ، في الوقت الذي منعت فيه دولة الخلافة كتابة ورواية أحاديث رسول الله نفسه!!
ولما مات عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت ولايات الدولة وأعمالها ووظائفها العامة غاصة بأصحاب « القوة » من الفاسقين والمنافقين ، وقد استخدمهم الخليفة ليستعين بقوتهم ، كما قال ونفاقهم وفسقهم على أنفسهم.
ولما آلت الخلافة إلى عثمان رضي الله عنه ، رفع شعار صلة الرحم ، بدلاً من القوة ، فعمر كان يبحث عن الأقوياء ليستعين بقوتهم ، أما عثمان فقد كان يبحث عن الأرحام ليصلها ، ومن نافذة الأرحام وبابها الواسع دخل الأمويون كلهم ، ودخل معهم أولياؤهم إلى ولايات الدولة وأعمالها ووظائفها ، فما من مصر من الأمصار ، وما من عمل من الأعمال ، إلا وواليه أموي ، أو موالٍ لبني أمية. وكان أول الداخلين من هذا الباب الحكم بن العاص ، طريد رسول الله وعدوه اللدود ، لعنه رسول الله وطرده وحرم عليه دخول المدينة ، ولما آلت الخلافة لعثمان أعاده للمدينة معززاً مكرماً ، ولما مات بنى على قبره فسطاطاً ، ومع الحكم دخل ابنه مروان. قالت عائشة أم المؤمنين لمروان : « أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله لعن أباك وأنت في صلبه ». قل الذهبي وابن عبد البر وغيرهما : « مروان أول من شق عصا المسلمين بلا شبهه ». [ راجع الإصابة ج‍ ١ ص ٦٩ ]. وكان مروان من أسباب قتل عثمان. [ راجع الإصابة ج‍ ٦ ص ١٥٧ ]. ومع أن مروان ملعون على لسان نبيه ، إلا أنه تولى الخلافة ، ولقب بأمير امير المؤمنين وتوارث أبناؤه ملك النبوة. وقد وصف مران بن الحكم وضع دولة الخلافة بآخر أيام عثمان ، وصفاً دقيقاً فقال لجموع الثوار الذين احتشدوا حول دار عثمان : « ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب ، شاهت الوجوه ، كل إنسان آخذ بإذن صاحبه إلا من أريد ، جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا ، اخرجوا عنا ، غب رأيكم ، ارجعوا إلى منازلكم ، فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا ». [ راجع تاريخ الطبري ج‍ ٥ ص ١١٠ ].
والخلاصة أن دولة الخلافة تحولت إلى ملك أموي خالص ، وأن الأمويين قد غلبوا على كل شيء وأن الأكثرية الساحقة مع بني أمية طمعاًًً بما هم غالبون
٣٢
عليه وأنه لم يبق من الإسلام السياسي إلا لقب الخليفة « أمير المؤمنين » ، وأن الولايات والأعمال والوظائف العامة بالكامل مع بني أمية من جميع الوجوه ، بمعنى أن الدولة بكل مؤسساتها قد أصبحت تحت سيطرة الذين عادوا رسوا الله وحاربوه بالأمس ، وأن الفئة المؤمنة مهشمة بالكامل ، وأقلية ، وليس لها من أمر الدولة شيء. ولو تولى الخلافة بعد عثمان أي رجل في الدنيا غير علي بن أبي طالب لما استطاع أن يصمد بمثل هذه الظروف أكثر من ساعة من الزمان ، لأن الملك الأموي ، وسلطان المنافقين والفاسقين ، قد توطّد وضربت جذوره في الأرض وفي النفوس والمصالح طوال عهود الخلفاء الثلاثة ، ووفقاً للمعايير التي عممتها الدولة ، فلا فرق بين أي صحابي من السابقين في الإيمان ، ومن أهل البلاء وبين أبي سفيان ، أو الحكم بن العاص ، فهم بدون تفصيلات صحابة ، لانهم شاهدوا النبي ، وكلهم عدول والتفاضل بينهم في الآخرة ، وليس في الدنيا ، والأهم من ذلك هو اعتقاد الاكثرية ، بأن أبا سفيان والحكم بن العاص أصلح لامارة الناس من أصحاب السابقة ، ومن أهل البلاء في سبيل الله ، ممن قامت الدولة النبوية على أكتافهم وبسواعدهم ، أما أهل بيت النبوة ، فقد تم التعتيم رسمياً على كل فضائلهم ولا يجرؤ أحد على ذكرهم بخير ، وهم في أحسن الظروف صحابة مثلهم مثلٍ أبي سفيان ، ومروان بن الحكم ، ومعاوية بل إن هؤلاء وأمثالهم أعظم شاناً عند الأكثرية والأولى بالطاعة من أهل بيت النبوة لأن وسائل إعلام الدولة الرسمية نفخت الثلاثة وأمثالهم وأعطتهم أحجاماً أسطورية ليست لهم في الحق والحقيقة ، بينما تجاهلت وسائل إعلام الدولة التاريخية أهل بيت النبوة ، وعتمت على صورهم ، وسخرت الدولة كافة مواردها لإبراز أهل بيت النبوة بصورة النكرات!!! واستقرت تلك الأوهام التي خلقتها وسائل الإعلام ، وإمكانيات دولة الخلافة في قلوب الأكثرية الساحقة من أبناء الأمة لأن تلك الأوهام كانت بمثابة القناعات الرسمية التي تبنتها دولة البطون ، وعلى منوالها سارت عهود الخلافة التاريخية.
وباختصار شديد فإن أهل بيت النبوة ، وأولياء النبي وهم علماء الإسلام وأساتذته الذين قامت دعوة الإسلام ودولة النبوة على أكتافهم ، قد أُخروا بالقوة ،
٣٣
وصاروا رعايا ومحكومين ، لا تقدم مواقفهم ولا تؤخر مع إجماع أغلبية ساحقة ، أما الذين قاوموا النبي والنبوة قبل الهجرة وحاربوا النبي بعد الهجرة ، وجهلوا أحكام الدين فقد غلبوا بعد وفاة النبي ، وتسلموا بالقوة أو بالعهد والتسلل مقاليد الدولة ، فصاروا هم السادة والحكام والأساتذة وأصحاب الكلمة المسموعة ، لأن بيدهم النفوذ والجاه والمال والسلطة ، ومؤهلهم الوحيد هو القوة. تلك حقيقة لا يماري فيها إلا جاهل ، أو متجاهل أو عابد هواه.
وتحقق ما حذر منه النبي
وتفكك الإسلام وحلت كافة عراه!!!
بيّّنا بأن رسول الله وقبل أن ينتقل إلى جوار ربه ، حذر المسلمين وبأنهم إن لم يلتزموا بما أمرهم به ، فإن الإسلام سيتفكك ، وستحل عراه عروة بعد عروة ، فكلما انقضت عروة تثبت الناس بالتي تليها ، وأن أول عرى الإسلام نقضاً الحكم ، وآخرها نقضاً الصلاة. [ رواه أحمد وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، راجع كنز العمال ج‍ ١ ص ٢٣٨ ].
وكرر النبي التحذير في مناسبات متعددة ، وأطلعهم على ما هو كائن وبالتصوير الحي البطيء ، وأحيط الجميع علماً بما حذر منه الرسول ، وقامت الحجة على الجميع. ولخص الرسول الموقف للجميع ، وأكد هذا التلخيص بكل وسائل التأكيد ، وبيّنه وبكل طرق البيان ، وحذر المسلمين بأنهم لن ينجوا ولن يهتدوا ، ولن يتجنبوا الضلالة من بعده ، إلا إذا تمسكوا بالثقلين كتاب الله ، وعترة النبي أهل بيته.
ثم بعد ذلك مرض النبي ، وكان ما كان ، فما أن مرض النبي حتى تنكرت له الأكثرية الساحقة رغبة أو رهبة ، وقالوا له وجهاً لوجه : « أنت تهجر!! والقرآن وحده يكفينا ، ولسنا بحاجة لوصيتك »!! بل والأعظم من ذلك أن هذه الأكثرية بعد أن استولت على مقاليد الحكم منعت رواية وكتابة احاديث رسول الله منعاً باتاً ، ورفعت شعار « حسبنا كتاب الله »!! وصارت رواية أحاديث الرسول من الجرائم الكبرى التي يستحق مرتكبها القتل ، فكان حذيفة يقول : « لو كنت على شاطىء
٣٤
نهر ، وقد مددت يدي لأغترف فحدثتكم بكل ما أعلم ما وصلت يدي إلى فمي حتى أُقتل ». [ راجع كنز العمال ج‍ ٣ ص ٣٤٥ نقلاً عن ابن عساكر ] وروى البخاري في صحيحه [ كناب العلم ج‍ ١ ص ٣٤ ] عن أبي هريرة أنه قد قال : « حفظت من رسول الله وعائين ، فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قُطع هذا البلعوم »!! وقال : « اني لأحدث احاديثاً لو تكلمت بها في زمن عمر أو عند عمر لشجّ رأسي ». [ راجع البداية لابن كثير ج‍ ٨ ص ١٠٧ ] وفي عهد عمر بن الخطاب عزم اُُبي بن كعب أن يتكلم في الذي لم يتكلم به وفاة الرسول فقال : « لأقولن قولاً لا أبالي أَستحييتموني عليه أو قتلتموني ». [ راجع ابن سعد ، الطبقات الکبرى ج‍ ٣ ص ٥٠١ والحاكم باختصار ج‍ ٢ ص ٣٢٩ وج‍ ٣ ص ٣٠٣ ]. ووعد أن يكشف الحقائق أمام الناس يوم الجمعة ، وترقب الناس ذلك اليوم الذي يكشف فيه الحقائق ما سمعه من رسول الله ، ولكن في يوم الأي يكشف فيه أبي بن كعب ما سمعه من رسول الله ، ولكن في يوم الأربعاء مات الصحابي العظيم الذي وعد بكشف الحقائق قال قيس بن عباد : رأيت الناس يموجون ، فقلت : ما الخبر؟ فقالوا : مات سيد المسلمين أبي بن كعب ، فقلت : ستر الله على المسلمين حيث لم يقم لشيخ ذلك المقام ». [ راجع المسترشد لابن جرير الطبري ص ٢٨ ومعالم الفتن لسعيد أيوب ج‍ ١ ص ٢٥٧ ].
والخلاصة أن منع رواية وكتابة أحاديث الرسول قد تحوّل إلى قانون أساسي ، نافذ المفعول في كل أرجاء دولة الخلافة ، ولكن لا بأس برواية الأحاديث التي تمدح القائمين على الحكم ، وتضفي طابع الشرعية والمشروعية على تصرفاتها ، فرواية مثل هذه الأحاديث مباحة حتى وإن كانت مختلفة ، ورواة هذه الأحاديث من المقربين ، حتى وإن كانوا أعداء لله ولرسوله!!
وبمدة وجيزة ، حلت عرى الإسلام كلها عروة بعد عروة ، ولم يبق غير الصلاة ، وحُشر المؤمنون الذين كانوا يصلون على طريقة رسول الله ، وضُيق الخناق عليهم على اعتبار « أنهم شواذ » يخالفون جماعة المسلمين وإمامهم ، ويتفردون بصلاة تختلف عن صلاة الأمة!! قال حذيفة أمين سر رسول الله : « لقد ابتلينا حتى أن الرجل ليصلي وحده وهو خائف ». [ راجع صحيح البخاري ج‍ ١ ص ١٨٠ كتاب الجهاد والسير ]. وقال حذيفة أيضاً : « فابتلينا حتى جعل الرجل منا
٣٥
لا يصلي إلا سراً ». [ راجع صحيح مسلم ج‍ ٢ ص ١٧٩ ، ورواه أحمد في الفتح الرباني ج‍ ٢٣ ص ٤٠ ، وج‍ ٢ ص ٤٦٢ من معالم الفتن ]. وروي البخاري أن الزهري قد دخل على أنس بن مالك فوجده يبكي ، فقال له ما يبكيك؟ فقال أنس : لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة ، وهذه الصلاة قد ضيعت. [ راجع الفتح الرباني ج‍ ١ ص ٢٠٠ ]. وقال أنس بن مالك مرة أخرى : « لا أعرف شيئاً اليوم مما كنا عليه على عهد رسول الله!! فقلنا : فأين الصلاة؟ فقال أولم تضعوا بالصلاة ما قد علمتم؟ »! [ رواه أحمد والترمذي ، وحسنه وقال في الفتح الرباني ج‍ ١ ص ١٩٩ روى عن أنس من غير وجه ].
هذه شهادة حذيفة أمين سر رسول الله وتكتسب شهادته أهمية خاصة لانه أمين سر رسول الله بإجماع المسلمين ، ولأنه بقي على عهد رسول الله لم يُبدل ولم يتبدل ، ولم يرجع القهقرى على عقبيه ، تدعمها شهادة أنس بن مالك الذي وعى عملياً الصلاة بحكم خدمته للنبي ، وان أنس إلى جانب السلطة دائماً عايشها وتعايش معها ، ولم يثنه عن الولاء لهذه السلطة تبدلها ولا تغيرها ، وكان يسمع مسبته من رجالها بصبر بالغ.
فإذا ثبت بأن المخلصين من الصحابة كانوا يصلون سراً ، وهم في حالة خوف ، من غضب السلطة ، أو من غضب الجماهير الموالية لها ، وإذا كان أحد الذين خدموا الرسول فترة طويلة ، وشاهد رسول الله مئات المرات وهو يصلي عملياً يشهد ويقر ويعترف بأن الصلاة قد ضيعت بالفعل ونقضت من أصولها ، ففي هذا دليل قاطع على أن آخر عروة من عرى الإسلام ، وهي الصلاة قد حلت تماماً بشهادة شهود عيان عاصروا حكومة الرسول ، وحكومة الخلفاء الثلاثة ، وحكومة بني أمية ولا خلاف بين اثنين من المسلمين على أن رسول الله قد أخبر الأمة بما هو كائن ، مثلما أخبر الأمة بأن عرى الإسلام ستنقض عروة بعد عروة ، وأن نقض نظام الحكم هو أول عرى الإسلام نقضاً ، وأن نقض الصلاة هو آخر عرى الإسلام نقضاً ، ولا خلاف بين اثنين من المسلمين على أن رسول الله صادق فيما أخبر ، وأنه لم ينطق عن الهوى ـ على الأقل في هذه الأخبار ـ حتى نتجنب معارضة أولئك الذين يزعمون بأن محمداً بشر يتكلم في الغضب والرضى!! ثم إنه من المحال
٣٦
عقلاً أن يخبر الرسول الأمة بهذه الأخبار الخطيره على مسؤوليته ، وباجتهاد منه ، وبدون تفويض إلهي!! ومن الناحية الواقعية فقد تحقق ما أخبر به الرسول وحذر منه ، فلا أحد من أولياء الخلفاء ، ومن شيعة الخلافة التاريخية يمكنه أن يزعم بأن الإسلام كله قد بقي على حاله. أو ينكر بأن عرى الإسلام كلها لم تنقض. لقد بيّن الرسول ما هو كائن وما سيكون إشفاقاً ورحمة بالامة ، وقياماً بواجب البيان ، ولقد حذر وأنذر إقامه للحجة على المكذبين والمكابرين ، وإرشاداً للصادقين ليبقوا دائماً على الصراط المستقيم. وكان الرسول صادقاً في بيانه ورحمته ، وتحذيره وإنذاره ، وأنه لم يخبر بتلك الأخبار المستقبلية اجتهاداً منه كما كانوا يتصورون ، أو تحليلاً شخصياً ، إنما كانت تلك الأخبار الموثوقة ثمرة وحي الهي صدقه ما وقع في المستقبل ، لأن الله ورسوله لا يقولان إلا الحق والحقيقة.
٣٧

الفصل الثالث :

مظاهر نقض عرى الإسلام ووسائله

١ ـ استبعاد النبي!!

أول وأخطر مظاهر نقض عرى الإسلام هو مواجهة بطون قريش وزعامتها للنبي أثناء مرضه ، والحيلولة بين النبي وبين كتابه توجيهاته النهائية وتجاهلهم لوجوده تجاهلاً تاماً ، قولهم على مسمعه : إن النبي يهجر!! استفهموه إنه يهجر ، ولا حاجة لنا بكتابه ، حسبنا كتاب الله!!! [ راجع صحيح البخاري كتاب المرض باب قول المريض قوموا عني ج‍ ٧ ص ٩ وج‍ ٤ ص ٣١ وج‍ ١ ص ٣٧ ، وصحيح مسلم آخر كتاب الوصية ج‍ ١١ ص ٩٥ ، مسند أحمد بن حنبل ج‍ ٤ ص ٣٥٦ ح ٢٩٩٢ ، والكامل في التاريخ لابن الأثير ج‍ ٢ ص ٢٣٠ وكتابنا نظرية عداله الصحابة ص ٢٨٧ وما فوق ].
كانت هذه أول عروة وأخطر عروة تنقض من عرى الإسلام ، فقد تجاهلت زعامة بطون قريش وجود النبي ، وأعلنت وبكل صراحة ، أن القرآن يكفي ، ولا حاجة لما قاله النبي أو سيقوله!!
وقد مهدت زعامة بطون قريش لهذا الموقف المدمر ، فبثت سلسلة من الشائعات التي تنصب كلها على ضرورة عدم الوثوق بكل ما يقوله النبي ، لأنه بشر يتكلم في الغضب والرضى ، ودوره مقتصر على تلاوة القرآن وتبليغ الناس ، ما يوحى إليه من هذا القرآن فقط. وقد وثقنا ذلك في كتابنا « المواجهة » مع رسول الله وآله. وعندما تسلمت هذه الزعامة قيادة الأمة بعد وفاة النبي ترجمت أقوالها
٣٨
وشائعاتها وقناعاتها إلى قوانين ملزمة للرعية بالقوة الجبرية ، فمنعت رواية وكتابة الحديث النبوي ، وأحرقت المكتوب منه ، وصار من المعروف عند العامة والخاصة أن عقوبة من يروى أحاديث النبي المتعلقة بالأمور الأساسية عقوبته قطع البلعوم على حد تعبير أبي هريرة ، أو الاستحياء والقتل ، كما عبر عنهما أبي بن كعب رضي الله عنه.
وهكذا واعتباراً من اللحظة التي قعد فيها رسول الله على فراش المرض تم استبعاده بالكامل ، وجمدت كافة أوامره وتوجيهاته ، ولم ينفذ منها شيء ، وإن نفذت فقد جاء التنفيذ متأخراً وبالقدر الذي يخدم توجيهات زعامة بطون قريش ، وخير مثال على ذلك جيش أسامة ، أو بعث أسامة ، فالملك ملك النبوة ، وزعيم البطون رسمياً هو خليفة النبي ، والمتصرف بالملك الذي بناه النبي ، والأمة هي أمة النبي. ومع هذا فلا يجوز لأي فرد من أفراد الأمة أن يروى أو يكتب حديثاً عن النبي!!!
لأن رواية وكتابة أحاديث النبي تسبب الخلاف والاختلاف بين الناس ، كما ذكر ذلك الخليفة الأول في أول تصريح له حسب رواية الذهبي في تذكرة الحفاظ وبنفس التصريح أمر الخليفة رعاياه قائلاً : « فمن سألكم عن شيء فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله »!!! فعلى العموم ، الرسول شخصياً مستبعد « کما في حالة مرضه » ، وأحاديثه التي تضمنت توجيهاته مستبعدة من التأثير على الحركة الكلية للمجتمع ، إلا إذا كانت هذه تخدم الملك ، وتوجهاته الجديدة والقائمين عليه ، فعندئذٍ تعمم هذه الأحاديث وتعامل بقداسة ، وتروى وتبرز كأدلة قاطعة على شرعية نظام البطون!! يمكن لمن يشاء أن يروى ما يشاء من أشعار الجاهلية ، وخرافات الأقدميين ونجاسات الشرك ، ويمكن لفئة أن تقص القصص وأساطير بني إسرائيل في مسجد الرسول نفسه ، فلا خطر من ذلك على ألفة الأمة ووحدتها وانقيادها لزعامة البطون. ولكن لا يمكن حتى لأبي بن كعب أن يروى حديثاً عن النبي يمس واقع المجتمع أو مستقبله ، لأن مثل هذا الحديث يسبب الخلاف ، والاختلاف على حد تعبير الخليفة الأول وبهذه الحالة وأمثالها فالقرآن وحده يكفي!!!
٣٩

٢ ـ استبعاد آل محمد وأهل البيت والهاشميين ومن والاهم!!!

ومن مظاهر حل عرى الإسلام ان زعامة بطون قريش التي استولت على السلطة بعد وفاة النبي ، قد استبعدت آل محمد الذين يصلي عليهم المسلمون في صلاتهم ، كما استبعدت أهل بيت النبوة الذين شهد الله لهم بالطهارة ، ثم هم أبناء النبي ، ونساؤه ، وكنفسه كما هو ثابت بآية المباهلة ، وبعد يوم واحد من دفن النبي هددت زعامة البطون علي بن أبي طالب بالقتل ، وأحضرت الحطب وشرعت بحرق بيت فاطمة بنت الرسول على من فيه وفيه ، فاطمة والحسن والحسين سبط رسول الله ، وحرمتهم من إرثهم من النبي ومن تركته وصادرت كافة الإقطاعات التي أعطاها النبي لهم حال حياته ، وجردهم من كافة ممتلكاتهم ، ولأسباب إنسانية تعهد الخليفة الجديد بتقديم المأکل والمشرب لهم لا يزيد عن ذلك!! وصورت السلطة الجديدة أهل بيت النبوة بصورة الشاقين لعصا الطاعة المفارقين للجماعة ، فأذلتهم وعزلتهم عزلاً تاماً ، فتجنبهم الناس ، ونفروا منهم مع أن آل محمد وأهل بيته قد ورثوا علم النبوة كاملاً وعُزٍل الهاشميون وهم بطن النبي وتجنبهم الناس ، واتخذوا منهم موقفاً حذراً على ضوء موقف السلطة ، وأدعت بطون قريش أنها الأقرب للنبي لأن محمداً من قريش!!!
ويحذر بالذكر ، أن بطون قريش ال‍ ٢٣ وقفت وقفة رجل واحد ضد النبي ، فقاومته قبل الهجرة ، وحاربته بعد الهجرة ، ولم يقف مع النبي عملياً ولم يحمه من شرور بطون قريش إلا البطن الهاشمي ، وعندما أشعلت بطون قريش حربها الآثمة ضد النبي ، كان الهاشميون أول من قاتل وأول من قتل وبقوا إلى جانب النبي حتى انتقل إلى جوار ربه ، هناك مزقت بطون قريش سجلات بني هاشم الحافلة بالأمجاد والشرف وعزلتهم وعاملتهم معاملة العبيد والسوقة.
وأحكمت بطون قريش الحلقة عندما عاملت أولياء آل محمد وأهل بيت النبوة معاملة جائرة بجرم موالاتهم لأهل البيت ، وقولهم بأن آل محمد كما قد عرفوا من النبي أولى بسلطانه.
وخوفاً من هذه الدعوى استبعدت بطون قريش آل محمد ، وأهل بيته ، وبني هاشم ، ومن والاهم أو قال بمقالهم أو بمقالتهم أو تتلمذ على أيديهم. ومع أن الخلفاء
٤٠
التاريخيين ، وبقوة الدفع النبوي ، وبالآلية التي أوجدها النبي ، وبالجيش الذي أسسه النبي قد فتحوا مشارق الأرض ومغاربها ، إلا أنه لم يرو راو قط أن أحداً من الخلفاء قد أمّر أحداً من آل محمد أو من أهل بيته ، أو أحداً ممن يواليهم ، بل على العكس كان الخلفاء يختارون الأمراء والعمال والولاة من الكارهين لآل محمد والحاقدين عليهم ، أو ممن كانوا لا يرون لآل محمد أي فضل أو تميز عن الناس. ولم تكتف زعامة قريش بذلك إنما حاولت أن تضرب آل محمد ببعضهم وأن توقع بينهم كما فعلت عندما وعدت العباس ببعض الأمر لتتمكن من الانفراد بعلي بن أبي طالب ، وإبطال حجته ، وحاولت أن تفتت وحدة البطن الهاشمي ، ولكن محاولاتها فشلت في البدايه ونجحت فيما بعد!!
ورصت زعامة البطون ، وقادت بنفسها حملة كبرى هدفها طرد وتقتيل وتشريد وإذلال آل محمد ، فهددت علياً بالقتل ، وشرعت بحرق بيت فاطمه على من فيه وفيه ابناء الرسول الحسن والحسين ، وحرمتهم من ميراث النبي وتركته وصادرت ممتلكاتهم ، ثم سمت الحسن ، ثم قتلت الحسين ، وأبادت أهل بيت النبوة ، وتجاهلت ومعها الأكثرية الساحقة من المسلمين نداءات النبي التي لم تتوقف ، ووصاياه المتلاحقة : « اتقوا الله في أهل بيتي » ، وقد عبر الإمام زين العابدين عن هذا الهول بقوله : « لو أن رسول الله قد حرض المسلمين علينا ما زادوا على ما فعلوا .. ».
وهكذا تم استبعاد أهل بيت النبوة ، وحرمانهم ، والتنكيل بهم وإذلالهم ، ومعاقبة أوليائهم ، فقد مر على المسلمين حين من الدهر كان فيه حب آل محمد أو موالاتهم من جرائم الخيانة العظمى التي عقوبتها القتل وهدم الدار ، والحرمان من العطاء ، والتجريد من كافة الحقوق المدينة ، بحيث لا تقبل وشهادة من يحب آل محمد ، [ راجع كتاب الأحداث للمدائني برواية ابن أبي الحديد في شرح النهج ج‍ ٣ ص ٥٩٥ تحقيق حسن تميم ].
فإذا عرفت أن أهل بيت النبوة هم أحد الثقلين بالنص الشرعي ، وأن الهدى لن يدرك إلا بالتمسك بهما : « كتاب الله وعترة النبي أهل بيته » تكتشف بيسر بأن كافة عرى الإسلام قد حلّت بالفعل ، وأن الذين حكموا بأسم الإسلام كانوا يصيبون
٤١
من الإسلام المقاتل ، ويجردونه من كل مضامينه ، ويهدمون كل أركانه ، ولا يبقون منه إلا الشكليات اللازمة للمحافظة على الملك!!!
والمدهش بالفعل ، أن أهل بيت النبوة قد استغاثوا فلم يُغثهم أحد ، واستنصروا فلم ينصرهم أحد ، وشرعت السلطة بحرق بيت فاطمة على من فيه وفيه ابنا الرسول ، وحرمت السلطة أهل البيت من ميراث النبي ، ومن تركته ، وجردتهم من ممتلكاتهم. ومع هذا لم يُنكر على السلطة مُنكر ، ولم يأمرها أحد بمعروف ، ولم ينهها عن منكر ، والمدهش أيضاً أن تجنّد السلطة مائة ألف مقاتل لقتال الحسين ومن معه ، وهم لا يزيدون عن مائة رجل ومع هذا لم ينكر عليها منكر ، ولم يأمرها أحد بمعروف أو ينهها عن منكر ، وبعد أن قتل كل من كان مع الحسين وبقي وحيداً شن جيش الخلافة هجوماً شاملاً على رجل واحد!! ولهم غاية محددة وهي قتله ، والتمثيل به ، ومع هذا لم ينكر على الخليفة أو جيشه منكر ، ولم يُؤمروا بمعروف أو يُنهوا عن منكر!! وهذا ما لم يحدث حتى في مجتمع الفراعنة!!! وهكذا حدث ما أخبر به الرسول ، وحذر منه. ولاقى أهل بيته القتل والتشريد والتطريد واقترف هذه الجرائم زعماء القوم الذين سمعوا النبي وهو يخبر بما كان ، وما هو كائن ، ويحذر ، وشاهدوه وهو يبكي على ما يفعل القوم بأهل بيته من بعده ، وبعد موت النبي تذكرت زعامة القوم تحذيرات النبي ، واستذكرت دموعه الشريفة ، ولكن تلك الزعامة ارتكبت جرائمها مع سبق الترصد والإصرار ، وهي نفس الجرائم التي حذرها النبي منها.

٣ ـ غربة الإسلام والايمان

بعد أن حُلت عرى الإسلام كلها بدءاً من الحكم وانتهاء بالصلاة ، أصبح الإسلام الحقيقي الذي جاء به محمد غريباً على المجتمع ، إذا لم يبق من الإسلام إلا الشكليات الضرورية لبقاء الملك ، والسيطرة على البلاد المفتوحة باسمه ، والمسلمون المؤمنون الحقيقيون الذي بنيت دولة النبي على أكتافهم صاروا فئة قليلة معزولة غريبة غربة تامة عن مجتمع دولة الخلافة ، لأن هذه الفئة تمسكت بالقرآن ووالت أهل بيت النبوة ، كما أُمرت وشكلت مع أهل بيت النبوة الشيعة المؤمنة التي تحمل إرث الأنبياء والتي عاشت معزولة طوال التاريخ البشري ،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق