سنتان مرّتا على انتفاضة محمد البوعزيزي، التي فجّرت «الربيع العربي» وهزّت عروشاً وأسقطت ديكتاتوريّات.. فهل لا يزال الربيع ربيعاً أم صار خريفاً وشتاء؟ وهل لا يزال هذا الربيع يحمل في طيّاته بذور الديمقراطية المنشودة؟
> في مثل هذه الأيام، قبل نحو سنتين، سرى الأمل في عدد من الدول العربية التي عانت طويلاً التوتاليتاريّة والعسكريتاريا، بأن المستقبل واعد، وأنه قد يحمل في طيّاته ما تطمح إليه الشعوب المقهورة من حرّيّة وكرامة وعلم وعمل. حدث ما حدث من ثورات أذهلت العالم بنقائها ونظافتها وسلميّتها، لا سيما في تونس أولاً ثم في مصر، حيث سقط نظامان أمنيّان متجذّران في أرض بأقلّ خسائر ممكنة، ثم ما لبثت هذه الثورات أن امتدت شرقاً وغرباً، لكنها اصطدمت بالدم والدمار والقمع الساحق على يد الأنظمة، خصوصاً في ليبيا واليمن وأخيراً وليس آخراً في سورية حيث شلاّل الدم مستمرّ. وتفيد التجارب التاريخية على مدى الخارطة العالمية، أن التحوّلات الجذريّة في المجتمعات والدول تمرّ بمراحل انتقالية صعبة، قبل أن تستقرّ على حال ينسجم مع طبيعة المجتمعات وتطلّعاتها وثقافتها، ولكن أحداً لم يكن يتوقّع بالتأكيد ما حدث من تطوّرات على أرض الواقع. وإذا كان من الطبيعي أن تتصدّر الحركات الإسلامية المشهد السياسي في بلدان «الربيع العربي»، وذلك أن لها حضوراً قويّاً وتاريخياً في الساحات السياسية العربية، ولا سيما في مصر حيث يزيد عمرها على ثمانين عاماً، مرّت خلالها بمعاناة صعبة وتهميش قسري من الأنظمة المتعاقبة على السلطة في بلادها، ما أكسبها قدرة تنظيمية واضحة، كانت مفتاحها إلى ما حقّقته من إنجازات استخدمت فيها عامل الدين على أوسع نطاق ممكن. لكن ما لم يتوقّعه أحد، هو جموح هذه الحركات، التي حملتها صناديق الاقتراع الى رأس السلطة الجديدة، ورغبتها في الاستئثار بالحكم، بما يناقض منطق ما جرى من تغيّرات وشعارات حملها ثوّار التغيير، فإذا بالضحيّة تتماثل بجلاّدها مباشرة بعد سقوطه، لتقيم نظاماً استبدادياً دينياً محلّ الاستبداد السياسي الذي سقط لتوّه.
وتباينت التجارب في هذا الصدد بين مصر وتونس وليبيا واليمن، وإن مثّلت كلتا الحالتين، التونسية والمصرية، نموذجاً خاصّاً في هذا السياق، نظراً الى أن ظروف البلدين متشابهة إلى حد بعيد قبل الثورة وبعدها. فقبل الثورة عانى البلدان نظامين شديدي الاستبداد، وإن تميّزت مصر بحرّيّة ملحوظة لوسائل الاعلام غير الحكومية، وكذلك تشابه نمطا النموّ الاقتصادي فيهما، بمعنى القدرة على تحقيق نموّ رأسمالي تابع، استفادت بعوائده في الأساس طبقة من رجال الأعمال الكبار، وبدرجة أقلّ، بما لا يقارن مع سكّان العاصمتين، وبعض المدن الكبرى، ما أبقى الغالبية العظمى من الشعبين في حالة فقر مدقع. أما بعد الثورة، فقد حقّق البلدان خطوات على طريق بناء «الدولة الجديدة»، ففي تونس أجريت انتخابات لاختيار الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، وتتولّى السلطة التشريعية في الوقت نفسه، وتمّ التوصّل إلى «ترويكا» تولّى بموجبها رئاسة الوزارة رئيس ينتمي إلى حزب «النهضة» الإسلامي، وذهب منصبا رئيس الجمهورية ورئيس الجمعية التأسيسية إلى ممثّلين لأكبر قوّتين سياسيّتين أخريين أسفرت عنهما انتخابات الجمعية التأسيسية، وهو ما يمثّل اختلافاً واضحاً عن التجربة المصرية التي انتهى بها المآل إلى تولّي رئيس الجمهورية المنتخب السلطة الاشتراعية، إضافة إلى سلطاته التنفيذية الواضحة، فضلاً عن محاولته التأثير في السلطة القضائية أيضاً. ومع ذلك، فقد تمثّل التشابه الواضح بين التجربتين في أن الحزب الإسلامي الأمّ فيهما (النهضة في تونس والحرّيّة والعدالة في مصر) قد حقّق الغالبية النسبيّة في الانتخابات بما يزيد على 40 في المئة من المقاعد في الحالتين.
وإذا ما ركّزنا في التحليل على التجربة المصرية، باعتبار أن مصر الدولة القائدة وتجربتها الثورية هي الأشمل والأكثر وضوحاً، فسنجد أن تصدّر «الإخوان المسلمين» المشهد السياسي كان متوقّعاً بسبب قدراتهم التنظيمية التي لم ينجح النظام في القضاء عليها، وإن تمكّن بوسائل لا تمتّ للديمقراطية بصلة من محاصرة نتائجها المتوقّعة في الانتخابات الاشتراعية بالذات، من دون أن تمتدّ قدرته على محاصرتهم إلى التنظيمات النقابية عموماً. غير أن المفاجأة تمثّلت في إنجازات التيار السلفي في الانتخابات النيابية، حيث حصد ما يقلّ قليلاً عن ربع مقاعد مجلس الشعب، ولم يكن هناك من تفسير معقول لهذه المفاجأة، سوى أن هذا التيار قد تمكّن عبر السنين من بناء قاعدة قوّة يعتدّ بها، من خلال هيمنته على العديد من المساجد التي بثّ منها أفكاره، مستغلاً الوازع الديني وأحياناً ضحالة الثقافة الدينية لدى المواطن العادي.
وكان المنطق يفضي إلى توقّع أن يكون لدى الحركة الإسلامية المصرية القدرة، بعدما يزيد على ثمانين عاماً من العمل السياسي في الساحة السياسية، على تقديم برنامج متكامل ينتشل الواقع المصري مما هو فيه، وتوفير كوادر قادرة على أن تضع هذا البرنامج موضع التطبيق، لا سيما وقد توافر لها على الأقلّ قدر من الخبرة العملية بالحكم وممارساته، من خلال تمثيلهم في مجلس الشعب المصري بين عامي 2005 و2010 بثمانية وثمانين عضواً، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، وبدا أن وظيفة المعارضة غير وظيفة الحكم، وأن الخبرة محدودة، والأداء مرتبك، والقدرة على الخروج من آثار السياسات الماضية منعدمة، إما عجزاً عن تطوير بدائل جديدة، وإما أن تلك السياسات لم تكن تتناقض مع رؤى النخبة الحاكمة الجديدة ومصالحها؛ فعلى الصعيد السياسي أخذت مؤشّرات الاستئثار بالسلطة تتّضح شيئاً فشيئاً، واختفى شعار «مشاركة لا مغالبة»، كما اتّضح بصورة خاصّة في التكوين المعيب للجمعية التأسيسية لوضع الدستور الجديد، وانعكاساته على المضامين المقترحة لهذا الدستور، بما يجعله دستوراً للغالبية وليس للوطن، مع أن قدراً يعتدّ به من المشاركة كان ممكناً من دون إخلال بإمساك «الجماعة» بزمام توجيه المسار في السياسة المصرية ككلّ، ولا يقلّ عن ذلك أهمّيّة ما بدا من محدودية ملحوظة في خبرة الفريق الحاكم، الأمر الذي قاد رئيس الجمهورية إلى إصدار قرارات لا سند لها في القانون، وكادت تجرّ البلاد الى التصادم والانقسام والانفجار الأهلي.
وعلى الصعيد الاجتماعي، بدت النخبة الحاكمة الجديدة عاجزة عن بلورة سياسات حقيقية تجسّد «العدالة الاجتماعية»، أحد الأهداف الأساسية لـ«ثورة يناير» المصرية، الأمر الذي أدّى إلى تفاقم ظاهرة التظاهرات الاحتجاجية ذات الطابع الاجتماعي، التي كان لها تأثيرها السلبي من دون شك في عجلة الانتاج. أما على الصعيد الاقتصادي، فحدّث عنه ولا حرج، ذلك أن السياسات التي دشّنها الرئيس الراحل أنور السادات في سبعينيات القرن الماضي، وجوهرها أن حلّ المعضلة الاقتصادية المصرية يأتي من الدعم الخارجي وليس من الاصلاح الداخلي، والتي استمرّت في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، قد تصدّرت المشهد أيضاً في ظلّ حكم «الإخوان المسلمين»، فسارعت الى السعي لطلب القروض والمساعدات الخارجية من كل الاتّـجاهات على نحو مخيف ينذر بأوخم العواقب بالنسبة لمستقبل الاقتصاد المصري.
وقد ترتّب على كل ما سبق، تصاعد وتيرة المعارضة للسياسات المتّبعة والاحتجاج عليها، وبدلاً من أن يواجه الحكم ذلك بالحوار ومحاولة تصحيح المسار، إذ برئيس الجمهورية يصدر إعلاناً دستورياً جديداً يجعل منه حاكماً مطلقاً على نحو لم يتوافر لأيّ من أسلافه في مصر الحديثة، وعلى الأقلّ منذ ثورة 1919، فقد كان يجمع أصلاً بين السلطتين التنفيذية والاشتراعية، بعد أن انتزع الأخيرة من براثن المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة في آب (أغسطس) ٢٠١٢، فإذا به في هذا الاعلان الجديد يحصّن قراراته ضد أيّة رقابة قضائية، ويمنع السلطة القضائية من أن تمسّ تشكيلات بعينها مطعوناً في دستوريّتها أو سلامة تكوينها القانوني، كمجلس الشورى أو الجمعية التأسيسية للدستور، وأدّى هذا الاعلان إلى اتّساع نطاق المعارضة للحكم على نحو غير مسبوق، بعدما أصبحت هذه المعارضة تستند إلى قاعدة سياسية ـ اجتماعية واسعة، تضمّ القوى المدنية والهيئة القضائية ونقابتي المحامين والصحافيين والكنائس المصرية والعمّال والفلاّحين وغيرهم، وترجم هذا في اشتباكات وأعمال عنف بين معارضي الاعلان ومؤيّديه، تفتح الباب لأسوأ الاحتمالات، وعلى رأسها انقسام حقيقي في الجماعة الوطنية المصرية.
وتشير سيناريوات المستقبل إلى أن تراجع رئيس الجمهورية عما فعله مستحيل، خصوصاً وقد حظي بمساندة غير مسبوقة من كل فصائل التيار الإسلامي، وأن هزيمة المعارضة من ناحية أخرى تبدو صعبة، لأن قاعدتها واسعة وقضيّتها مسألة حياة أو موت بالنسبة لها، وأن حرباً داخلية ممتدّة مستحيلة أيضاً، بحكم أنها تفتح الباب لا محالة أمام تدخّل الجيش، الذي لن يكون هذه المرّة لمصلحة فصيل ضد آخر، ولكنه سيصبح فاعلاً رئيسياً في الصراع الدائر، وهذا يغيّر، إن حدث، من معالم المشهد السياسي المصري تماماً، وقد يجد مساندة شعبية واسعة إذا بدا أن الجيش يتفهّم مطالب المواطنين ويسعى إلى حلّها، ناهيك عن أن يحقّق في هذا درجة من النجاح، لكن هذا السيناريو سيعني إسدال الستار على «الربيع العربي» وبداية مرحلة جديدة من مراحل التطوّر السياسي المضطرب في دوله.
وما ينطبق على مصر ينطبق بدوره على تونس، حيث لم تحمل الانتخابات الى السلطة من قاموا بالثورة وأسقطوا الديكتاتورية، بل جاءت بحركة النهضة الإسلامية الى صدارة المشهد السياسي، ومكّنت المتطرّفين السلفيّين من التسلّل إلى الواجهة. وفي الوقت نفسه، يتشابه البلدان في مواجهة تحدّي السلفيّة المتشدّدة التي يبدو أحياناً أنها تربك الحزب الديني الأمّ، ولكنها أحياناً أخرى تبدو مصطفّة معه، على الأقلّ في مواجهاته الحاسمة مع القوى المعارضة له. وكذلك يتشابه البلدان أيضاً في عدم القدرة، بعد مرور سنتين على الثورة، على الخروج من عنق الزجاجة الاقتصادي، بل إن تجربتهما معاً تشير إلى الاخفاق ـ وربما عدم الرغبة ـ في الانقلاب على السياسات الاقتصادية للنظامين السابقين التي كانت تداعياتها من دون شك واحداً من الأسباب الأصيلة للثورة. وأخيراً وليس آخراً، فإن البلدين يشهدان تزايداً في الفجوة بين الحكم والمعارضة، ويأخذ هذا شكل اللجوء إلى الميدان ـ حيث يمكن إعادة صياغة موازين القوى ـ وليس إلى المؤسّسات التي بات يسيطر عليها الحزبان الدينيّان الحاكمان.
أما اليمن، فلم يزل بعيداً عن البدء في عملية بناء مؤسّسات ما بعد الثورة، ولا يزال الحوار الوطني يدور حول قضايا شائكة، من دون أن تتوافر لأطرافه القدرة على الخروج من هذا المأزق. أما ليبيا فلم تستقرّ الأوضاع فيها بعد، وتبدو الدولة متفكّكة الأوصال إلى حد بعيد، ومهدّدة بفوضى السلاح والصراعات القبلية والجهوية والمطالبات بالانفصال، إضافة طبعاً الى الفساد، نظراً الى ما يوفّره النفط والغاز من عائدات ضخمة في هذه الدولة الغنيّة التي لم تعرف منذ أربعين عاماً معنى المؤسّسات والقانون والعمل السياسي والحزبي. وأخيراً، فإن سورية لم تصل إلى نقطة انتصار الثورة أصلاً، ومن المرجّح أنها ستمرّ بالأعراض نفسها التي مرّت بها «بلدان الربيع» التي سبقتها في لحظة انتشار الثورة. إن نظرة واحدة حالياً على الخارطة السياسية العربية الحالية، كافية لأن تصيب أي مشاهد بقلق عظيم على حاضر هذه الدول ومستقبلها، وإذا بدأنا بـ«بلدان الربيع»، باعتبار أن ما جرى فيها قد أطلق شرارة محاولات التغيير، فسنجد أن الأوضاع في أي منها لم تستقرّ على حال يتلاءم والشعارات التي رُفعت في بداية «موجات التغيير».
ولا يقتصر الأمر على «بلدان الربيع» فحسب، بل إن محاولات التغيير لا زالت تجري في بلدان أخرى، من دون أن تصيب حظّاً من النجاح حتى الآن، كما هو الحال بالنسبة لكل من الأردن والكويت، إلى بلدان تعاني أوضاعاً مضطربة، سواء بسبب تداعيات «الربيع العربي» أو من دونها، وعلى رأسها لبنان الذي تأثرت الأوضاع فيه بشدّة، بسبب انعكاسات ما يجري في سورية منذ قرابة العامين عليه، بالنظر إلى انقسام الشعب اللبناني ـ وفاقاً لاعتبارات طائفية ـ ما بين مؤيّدين للنظام السوري الحالي، على أساس أن ما يجري في سورية ليس إلا مؤامرة خارجية على «سورية الصمود والممانعة»، ومعارضين له انطلاقاً من أن الأحداث السورية تشير إلى ثورة شعبية حقيقية على نظام مستبدّ أمعن في الاستخفاف بالشعب السوري ومقدّراته. أما العراق فهو يعاني حالة عدم استقرار مزمنة يشهد عليها كثير من العنف، منذ الغزو الأميركي وحتى الآن، ولا يوجد ضوء يشير إلى قرب خروجه من هذا النفق المظلم.
ومع ذلك، فإن صورة الوضع العربي بعد سنتين من انطلاقة ربيعه ليست مظلمة، وليست خريفاً كما يحلو لبعضهم أن يصوّرها، فقد جاءت تطوّرات الأسابيع الماضية في تونس الخضراء وأرض الكنانة لتدلّل على جملة أمور جوهرية متّصلة، ومن شأنها أن تبعث الأمل من جديد لدى الطامحين الى تغيير جدّي:
< الأمر الأول أنه بعد مضيّ نحو عامين على الثورتين، كشفت الشواهد أنه لا يمكن القبول، لدى أوسع شرائح المجتمع، بنظام شبه شمولي في البلدين، ليخلف ديكتاتورية مقنّعة وديمقراطية مشوّهة، ويكرّر بصورة أو بأخرى مآسي الماضي، وربما ما هو أسوأ منها. تمّ التوصّل إلى هذه القناعة بعدما دخلت قوى اجتماعية شبابية ونقابية وحزبية عدّة في خضمّ العمل السياسي، وبعدما تحرّر المجتمع السياسي من قيوده وترهّله، وفي ظل إعلام مفتوح شديد الحيوية يعتمد الصورة والصوت بالدرجة الأولى، ويشارك في قيادة الرأي العام وصناعة الحدث.
< الأمر الثاني: أن الاحتجاجات المتجدّدة لم تكن من قبيل الافتئات من الشرعية الجديدة، بقدر ما جاءت تصويباً للمسار واهتداء بروح العدل والمساواة والحرّيّة التي ألهمت الثورتين، والحؤول دون انفراد قوّة سياسية واجتماعية واحدة بتقرير مصير البلاد. ولو لم يكن الحال كذلك، لثارت احتجاجات من قبل على وصول حزب النهضة في تونس إلى البرلمان والحكومة، وعلى نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مصر. لم يحدث ذلك، وجرى الارتضاء ـ على مضض ـ بتلك النتائج. ثم نشبت الخلافات في مصر على الدستور والجمعية التأسيسية والاعلان الدستوري، فيما تتمحور الخلافات على الهويّة الدستورية للنظام الجديد، وعلى إخلال قوى سلفيّة إخلالاً جسيماً بالقانون، وتهديدها السلم الأهلي، ومحاولة حرمان المجتمع من الانجازات التي حقّقها على صعيد الحرّيّات الاعلامية، وحرّيّة البحث العلمي والفنون والثقافة عموماً، علماً بأن تلك القوى ساهمت في إيصال النهضة إلى الحكم.
< الأمر الثالث: إنه من دواعي السخرية، أن توصف القوى المعترضة بأنها تمثّل النظام السابق، سواء في مصر أو تونس، ذلك بأن قوى الاحتجاج الشبابية الحالية هي نفسها تقريباً التي خاضت غمار الثورة، ودفعت بالبلاد نحو التغيير، مضافاً إليها كتل شعبية واسعة متضرّرة من تغليب حزب حاكم على الحياة السياسية والعامّة وعلى الفضاء الاجتماعي. وفي النتيجة، فإن القوى التي تخوض الاحتجاج هي هذه المرّة أكبر وأعرض وأكثر تنوّعاً من القوّة الطليعية التي قادت الثورتين، وهذا يدلّل على اتّساع حجم الضرر ووطنية الاحتجاجات.
< الأمر الرابع: إن هناك مخاوف مشروعة وجدّيّة من انفلات العنف، وخصوصاً في مصر الأكثر كثافة سكانية والأشدّ معاناة لمشكلات اجتماعية. والعنف يتشارك فيه الأهالي، حيث باتوا يرون تجدّد شبح الحزب الوطني الحاكم في حزب آخر يدير الظهر لشريحة كبيرة من المصريين، والقوى المنظّمة الإخوانية والسلفيّة التي تسبّبت بمقتل عدد من المحتجّين، مستخدمة الأسلحة النارية لا السلاح الأبيض فحسب، وأصابت بجروح المئات منهم أمام قصر الاتّـحادية الرئاسي وفي ميدان التحرير. وتتحمّل السلطات المسؤولية الأولى عن وقف العنف واحتوائه، والتحفّظ على المعتدين وإحالتهم على العدالة. وتخطئ السلطات خطأ جسيماً إذا تهاونت في الحد من العنف المنظّم الذي يرتكبه الإخوانيون ومن يدور في فلكهم، إذ إن ذلك يشرّع الأبواب على العنف، وينزع كل شرعية عن النظام الجديد.
< الأمر الخامس: إن هذه التطوّرات كشفت عن دينامية جديدة بات الشارع السياسي مشحوناً بها في البلدين.
لقد كانت المفاجأة الكبيرة الثالثة هي التي فاجأت الجميع؛ إذ كانت المفاجأة الأولى هي اندلاع شرارة «الربيع العربي» بما تحمله من قوّة تغيير جارفة، والمفاجأة الثانية تمثّلت بصعود الإسلاميين في الانتخابات بالحجم الذي صعدوا به، وها هي المفاجأة الثالثة تتمثّل في الدفع نحو إرساء عهد دستوري وعقد اجتماعي قانوني يقطع الطريق على أيّة ديكتاتورية، ويحافظ على كل مكتسبات سابقة >
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق