لقد أحرزت
الحداثة في معركتها مكسباً نظرياً ضخماً في ميدان نقد الشعر، فرأته فناً
لغوياً (بنية لغوية معرفية جمالية معاً) تتحدّد فنيَته بكيفية استخدامه
للغة لا بمحمولاته الأخلاقية أو الاجتماعية أو السياسية أو سواها.
ولكن هذه
الكيفية لا تحول دون وجود هذه المحمولات في الشعر، بل إن وجودها مشروع إن
لم يكن ضرورياً، فلكي يحقق النص الشعري وظيفته الجمالية ينبغي أن يحقق
وظيفة إضافية أو أكثر "فمزج الدلالة الفنية بغيرها من الدلالات... يمثل
الملمح الأساسي في عملية التوظيف الاجتماعي لهذا النص الأدبي أو ذاك، ومن
هنا فإننا نواجه بعلاقة مزدوجة البناء، فلكي يحقق النص غايته الجمالية يجب
أن يحمل في نفس الوقت عبء وظيفة أخلاقية أو سياسية أو فلسفية أو اجتماعية،
وبالعكس، فهو لكي يحقق دوراً سياسياً معيناً ـ على سبيل التمثيل ـ ينبغي أن
يؤدي وظيفة جمالية"([1">). "ومن الطبيعي أنه في بعض الأحيان قد لا
تتحقق بالنص سوى وظيفة واحدة"([2">).
وقد انبثقت من
هذه النظرة إلى "مفهوم الشعر" نظرة جديدة إلى "نقده"، فغدت دراسة الشعر من
منظور لغوي منهجاً نقدياً بارزاً يشيّد علميته على دعامتين أولاهما:
ملاءمته لتفسير المادة التي يدرسها ـ وهي شرط لا غنى عنه لقيام أي
علم([3">)، وتنجم هذه الملاءمة من انبثاق المنهج والمادة من مفهوم لغوي
معاصر. وثانيتهما أدوات نقدية مرهفة ذات كفاية عالية. بيد أننا ينبغي أن
نقيّد القول قليلاً، وألاّ نسرف في الظن فنتوهّم أن كل شيء قد أصبح محكوماً
فكأنما هو في قبضة اليد، وأن الطريق إلى جوهر الشعر قد غدَت قاصدة موطّأة
الأكناف. إن بعض هذا الظن يكفي، فليس يملك المنهج ـ مهما تكن كفايته ـ أن
يتغلغل في شعاب الشعر المرجانية، وأن يصل إلى جوهره إذا لم يكن الناقد نفسه
خبيراً مدرباً وذواقة كأنما نبعة الشعر بين جوانحه. وإلاّ فما أيسر أن
ينقلب المنهج إلى منهج رجيم يفتك بالشعر، ويذبحه من الوريد إلى الوريد.
ويقتضى الحديث
عن "اللغة في شعر شاعر ما" أن نحدّد ـ قبل الشروع في هذا الحديث ـ المقصود
بـ "اللغة في الشعر" فما المقصود بها؟
إن اللغة ـ
كما هو معروف ـ نظام متكامل متعارف عليه من الرموز التي يتفاهم بها الناس.
ومن الواضح أننا لا نقصد هذا النظام بل نقصد أمراً يتجاوزه، نقصد القول
الشعري، أي صورة اللغة المتحققة في شعر هذا الشاعر، وهي صورة تتميز عن
غيرها من الصور بسمات كثيرة كالمعجم اللغوي والطريقة الخاصة في بناء الجمل
والربط بينها وسوى ذلك كثير، وهي السمات التي تكوّن "الأسلوب". وإذاً نقصد
بـ "اللغة في شعر فلان" أسلوبه الشعري، وهذا الأسلوب هو الذي يجسّد التجربة
الشعرية بالكلمات التي تستخدم استخداماً كيفياً خاصاً، وهو الذي يمنح
القصيدة طاقاتها الثَّرة.
وبعبارة أوضح
إن لغة الشعر هي مكوّنات القصيدة من الألفاظ والتراكيب والخيال والموسيقا
والموقف الإنساني.
وفي ضوء ما
تقدّم سوف نحاول دراسة اللغة في شعر الأمير عبد القادر الجزائري
(1807ـ1883م).
اللغة
والدلالة والإيقاع:
يذكر د/
إبراهيم السامرائي أن الأصمي قد "تحرج في استخدام لغة الشعر في شرح لغة
التنزيل على نحو ما فعل غيره من علماء اللغة كأبي عبيدة مثلاً في كتابه
"مجاز القرآن"([4">)، ويعلل ذلك بقوله "ولعله قد فهم أن لهذا الفنّ لغته
الخاصة"([5">). وليس يريد د/ السامرائي بهذا الذي ذكره أن للشعر ألفاظه
الخاصة، بل يريد أن اللفظ في الشعر مختلف عنه في غيره، فهو في الشعر يكتسب
إضافية، حتى لتبدو ألفاظ كثيرة ذات رصيد دلالي ضخم، ولعلّ الناظر في
معاجمنا المطوّلة يدرك هذه الحقيقة، فهي معاجم ذهبت معاني ألفاظ الشعر
بشطرها الأعظم حتى أوشكت أن تكون معاجم شعرية. وما أكثر ما شكا الشعراء من
الكلمات التي تسكنها أصوات الآخرين! وما أكثر ما فتشوا عن الكلمة العذراء!
إنهم يريدون أن يجدّدوا شباب اللغة، وأن يفجّروا طاقاتها، وما ذلك إلا لأن
الشعر ذو طبيعة ازدواجية، كما يرى لوتمان، "وتنبع هذه الازدواجية من كونه
يعني تتالي الكلمات، كما يعني الكلمة في ذات الوقت"([6">). ويزيد
المسألة وضوحاً، فيقول: "فالكلمة في الشعر هي في الأصل كلمة تنتمي إلى لغة
ما، هي وحدة في متن يمكن أن نجده في القاموس، ومع ذلك فإن هذه الكلمة تبدو
وكأنها ليست معادلة لنفسها، ومن ثم يغدو تشابهها، أو حتى تطابقها، مع
الكلمة "القاموسية" سبباً في الإحساس الواضح بالاختلاف بين هاتين الوحدتين:
المتباعدتين المتقاربتين، المستقلتين المتوازيتين، نعنى الكلمة في مفهومها
اللغوي العام، والكلمة عنصراً في القصيدة الشعرية"([7">) ثم يتابع:
"فالكلمة في الشعر أكثر قيمة من تلك التي في نصوص اللغة العامة، وليس صعباً
أن نلاحظ أنه كلما كان النص أكثر أناقة وصقلاً كانت الكلمة أكثر قيمة،
وكانت دلالتها أرهب وأوسع"([8">).
فإذا صرنا إلى
"التركيب" صارت القضية أعقد وأخصب، فعلى المستوى التركيبي يتجلى جوهر
الشعر تجلياً باهراً، وفيه يمارس الشاعر كل شعائره السحرية محاولاً أن يعيد
إلى اللغة وظيفتها السحرية القديمة، إن التركيب بناء، وبناء لغة الشعر
يختلف اختلافاً عميقاً عن بناء لغة النثر، فالشعر قياساً إلى النثر انحراف
(مجاوزة، عدول، انزياح)، "وخاصية الخروج على قواعد التركيب هي الخاصية
الوحيدة التي يتفق فيها الشعر التقليدي والشعر الحر، وإذاً فهي الخاصية
الوحيدة التعريفية لأنها توجد في كل أجزاء المعرَّف"، كما يقول جون
كوهين([9">). والانحراف إذاً هو الشرط الضروري لكل شعر. وبعبارة أخرى إن
بناء الشعر يتحقق بطريقتين أو مقياسين "أما المقياس الأول أو الطريقة
الأولى فباعتباره نظاماً لتطبيق عدد من القواعد، وأما الثاني فباعتباره
نظاماً لصدع أو تجاوز هذه القواعد، مع مراعاة أن "جسم" النص ذاته لا يمكن
أن ينطبق على أيّ من هذين المقياسين معزولاً عن الآخر ومستقلاً بنفسه،
فبالعلاقة بين ذينك التصورين، وبالتوتر البنائي، وبالمزج بين ما ليس
ممتزجاً، بهذا، وبهذا فقط، يتم إبداع النتاج الفني"([10">). وإذا
فالمعنى "في النص الأدبي ينبثق، ليس فقط من تطبيق القواعد البنائية
المعينة، بل وينبثق كذلك من خلال الانحراف عنها"([11">). وإذا كان النثر
يحتفل بجوهر المحتوى (أي المعنى)، فإن الشعر يحتفل بشكل المعنى،، و"شكل
المعنى هو الأسلوب"([12">). فالأسلوب ـ إذاً ـ
هو الذي يجعل الشعر شعراً، وعليه تنعقد آمال الشعراء وأحلامهم. وهو التشكيل
الفني للغة، أي هو بنية مكوّنه من عناصر شتى تتآزر متفاعلة لتحقق شكل
المعنى. لنقل ـ بعبارة أوضح ـ إنها بنية عضوية.
وهذا يعني أن
أي تغيير في أي عنصر من عناصرها سيحدث تغييراً في بقية العناصر من جهة،
وتغييراً في شكل المعنى من جهة أخرى. فإذا نظرنا في وحدات الأسلوب
(التراكيب) وجدنا أن ما قلناه في الأسلوب يصح قوله في التراكيب من حيث كون
كلّ منها بنية صغرى تتآزر عناصرها متفاعلة، ومن حيث التغير الذي يصيب
عناصرها البنائية جميعاً إذا تغير أي عنصر من هذه العناصر. ولقد تحدث
البنيويون ـ على اختلاف اتجاهاتهم ـ طويلاً عن محوري التعاقب والاستبدال
(أو: الانتخاب والتركيب، الموقعية والسياق، الآني والزماني...)([13">)
في دلالة واضحة على عضوية البنية الصغرى (التركيب)، كما تحدثت عن هذه
البنية حديثاً يثير الإعجاب البلاغة العربية القديمة، ولعلّ نظرة متأنية في
"دلائل الإعجاز" لعبد القاهر الجرجاني تكشف عن جلال هذه البلاغة وعن عظمة
هذا الناقد الكبير. وقد دفعت هذه البلاغة مثقفاً وناقداً كبيراً كالدكتور
شكري عياد ـ طيّب الله ثراه ـ إلى قدر واضح من الاستخفاف بالجهود البنيوية
في هذا المجال([14">) ولست أريد أن أعقد مقارنة بين البلاغة والبنيوية،
أو بين البلاغة وعلم الأسلوب، فليس هذا وقت المقارنة، ولا السياق سياقها،
ولكنني أريد أن أحترز لما قد يراه القارىء في الصحف القادمة من تعويل على
البلاغة والبنيوية وعلم الأسلوب جميعاً، فليس هذا الجمع جمع حاطب ليل،
ولكنه جمع بصير وقت ارتفاع النهار. ولم أرد بهذه المدخل النظري أن أفصّل
القول في بناء لغة الشعر، بل أردت أن أضع صوى على أول الطريق لعلّها تجمع
الجهد وتسدّد الوجهة، وتعصم من السير في معادل الدرب وبُنيانه، فإذا فرغت
من هذين الاحترازين المنهجيين بدت السبيل إلى اللغة في شعر عبد القادر
الجزائري لاحبة قاصدة.
إن أول ما
يلفت النظر في شعر عبد القادر هو "التكرار" على مستوى الإيقاع والتركيب،
وهو "تكرار" متعدد الأنماط، يعقبه تبدل وتغيّر ملحوظان، وهذا ملمح شعري
أصيل، فالبنية الشعرية ذات طبيعة تكرارية على المستويين الشكلي والمعنوي.
وأول هذه
الأنماط تكرار "صيغة" مفردة:
* فلا زال في
أوج الكمال مخيّماً يضيء
علينا نوره وشعاعه
ولا زال من
يحمى الذمار بعزّة ولو
جمعوا ما يستطاع دفاعه
ولا زال محجوج
الأفاضل كعبة وممدوحة
أفضاله وطباعه
ولا زال
سيّاراً إلى الله داعياً
بعلم وحلم ما يضّم شراعه
ولا زال
للعلياء أرفع راية
وبشراه مبذول لنا وطباعه
فأبقاه من
رقَاه عين زمانه و.......................([15">)
** كم نافسوا،
كم سارعوا، كم سابقوا من سابق لفضائل وتفضل
كم حاربوا، كم
ضاربوا، كم غالبوا أقوى العداة بكثرة وتمول
كم صابروا، كم
كابروا، كم غادروا أعتى أعاديهم كعصف مؤكل
كم جاهدوا، كم
طاردوا، وتجلدوا للنائبات
بصارم وبمقول
كم قاتلوا، كم
طاولوا، كم ماحلوا من جيش كفر باقتحام
الجحفل
كم أولجوا كم
أزعجوا، كم أسرجوا بتسارع للموت لا بتمهل
كم شردوا، كم
بددوا، وتعودوا تشتيت
كل كتيبة بالصيقل
يوم الوغى يوم
المسرة، عندهم عند
الصياح.............([16">)
*** اسكن
فؤادي وقر الآن في جسدي فقد وصلت بحزب الله
أحيالا
هذا المرام
الذي قد كنت تأمله فطب
مآلا بلقياه وطب حالا
وعش، هنيئا
فأنت اليوم آمن من حمام
مكة إحراما وإحلالا
فأنت تحت لواء
المجد مغتبط في
حضرة جمعت قطبا وأبدالا
وته دلالا،
وهز العطف من طرب وغن
وارقص وجر الذيل مختالا
أمنت من كل
مكروه ومظلمة فبح
بما شئت تفصيلا وإجمالا
هذا مقام
التهاني قد حللت به فارتع
ولا تخش بعد اليوم أنكالا
أبشر بقرب
أمير المؤمنين ومن قد
أكمل الله فيه الدين إكمالا
عبد المجيد
حوى مجدا وعز على وجل
قدرا.............([17">)
**** فيا قلبي
المجروح بالبعد واللقا
دواك عزيز ليس تنفك ولهانا
ويا كبدي ذوبي
أسى وتحرقا ويا
ناظري لازلت بالدمع غرقانا
أسائل عن نفسي
فإني ضللتها وكان
جنوني، مثل ما قيل، أفنانا
أسائل من
لاقيت عني والها ولا
أتحاشاهم رجالاً وركبانا([18">)
لا نريد أن
نستكثر من هذا النمط من التكرار، فهو يملأ شعاب الديوان وأوديته، وأينما
يممت وجهك طالعتك صفوف متلاحقة منه حتى ليغدو النص عليها نافلة. ولكننا
نريد أن ننظر في هذه النصوص بعض النظر.
تهيمن صيغة
"لازال" على الأبيات في النص الأول، وهي صيغة "دعاء". وقد رد الأمير بهذه
القصيدة التي اجتزأنا منها هذه الأبيات على صديقه الشيخ "أبي النصر
النابلسي" الذي أرسل إليه قصيدة مدحه بها. ونهج الأمير في هده القصيدة نهجه
المألوف في الرد على من يرسل إليه بمدح، فقسم القصيدة قسمين وقف الأول
منهما على تقريظ القصيدة، ووقف ثانيهما على الدعاء له. وتشكل صيغة الدعاء
ركيزة بنيوية تفرض دلالتها على السياق في الأبيات جميعاً، فتعزز الإحساس
بموقف الشاعر وتعمقه، وتجمع مضمون الدعاء المتفوق بين الكمال والعزة والعلم
والحلم والفضل والطاعة والعلو في "بؤرة دلالية" واحدة تفيض منها تجليات
دعائية شتى، وتنهض أداة الربط الصريحة "الواو" في أول كل بيت بوظيفة العطف
بين صيغ الدعاء الموحدة لا بين مضامينه، وتجعل من الأبيات جملة دلالية
واحدة، فتقوي بذلك مفهوم "البؤرة الدلالية" وتغنيه.
________________________________________
* جامعة دمشق،
قسم اللغة العربيّة.
([1">) تحليل النص الشعري، يوري لوتمان، ص22.
([2">) المرجع السابق، ص22.
([3">) مقدمة في نظرية الأدب، عبد المنعم ـ تليمة، ص أ.
([4">) لغة الشعر بين حيلين، إبراهيم السامرائي، ص8.
([5">) المرجع السابق، ص125.
([6">) انظر تحليل النص الشعري، ص133.
([7">) المرجع السابق، ص125.
([8">) المرجع السابق، ص126.
([9">) بناء لغة الشعر، جان كوين، ص90 ترجمة الدكتور أحمد
درويش.
([10">) تحليل النص الشعري ريموتمان، ص67.
([11">) المرجع السابق، ص171.
([12">) بناء لغة الشعر ص48.
([13">) المرايا المحدبة، عبد العزيز حمودة، ص258، وانظر
لوتمان، المرجع السابقص38، ياكبسون، ص33 قضايا الشعرية.
([14">) موقف من البنيوية، فصول، ص99، نقلاً عن المرايا المحدبة
ص264.
([15">) ديوان الأمير عبد القادر، ص82.
([16">) الديوان، ص92.
([17">) الديوان، ص105.
([18">) الديوان، ص157.
وتهيمن صيغة
"التكثير" المكونة من كم الخبرية يليها فعل ماض متصل بواو الجماعة هيمنة
طاغية على أبيات النص الثاني، فتتلاحق كقصف الرعد المتصل محدثة ضوضاء لفظية
عالية تسعفها في ذلك أمور، أولها هذا الجناس الذي يتوالى صفوفاً كصفوف
الخيل كلما تقدم منها صف لحق به صف آخر. وثانيها غياب أدوات الربط فكأن
الشاعر تحت وطأة مشاعره الجياشة المتدفقة كالسيل لا يجد وقتاً للتأمل
والتقاط النفس، ولا يريد لنا أن نتأمل أو نلتقط الأنفاس. وثالثها هذه
الألفاظ المستمدة من عالم الحرب، والمشحونة برصيد دلالي ضخم في النفس
العربية (الحرب، الضرب، السباق، الصبر، المكابرة، الجهاد، المطاردة،
التجلد، القتال، المطاولة، الادلاج، الإسراج، التشريد، التبديد). فإذا
نظرنا في القصيدة كاملة رأيناها يتصدرها أسلوب وجداني رقيق عبر به الشاعر
عن مشاعره العذبة الشجية المثقلة بالوجع والشكوى في استغراق بديع في مناجاة
ريح الجنوب، وهو استغراق قل أن نجد لـه نظيراً في شعرنا القديم حتى في
الشعر العذري. وقد امتلأ هذا القسم بالألفاظ العاطفية الانفعالية ذات
الرصيد النفسي الضخم (الغرام، التجمل، الحرقة، التبلبل، السهاد، البين،
التحسر، الشقاء، التململ، السهر، الحزن، تطاول الليل، الأحباب، الطيف،
الهوى....)، وبتكرار صيغة "الأمر" الذي يخرج إلى التوجع والرجاء، وبالأسئلة
المتلاحقة دون انتظار الجواب، وبصيغة التصغير البديعة (أهيل ودي)،
وبالملامح البدوية (ريح الجنوب، الخيام، ريح القرنفل، الطيف إقراء السلام)،
وببناء الجملة الشعرية بناء عذباً منساباً على نحو ما يظهر في هذا المقطع:
يا أيها الريح
الجنوب تحملي مني
تحية مغرم وتجملي
واقر السلام
أهيل ودي وانثري من
طيب ما حملت ريح قرنفل
خلي خيام بني
الكرام وخبري أني
أبيت بحرقة وتبلبل
جفناي قد ألفا
السهاد لبينكم فلذا
غدا طيب المنام بمعزل
كم ليلة قد
بتها متحسرا كمبيت أرمد في شقا وتململ
سهران ذو حزن
تطاول ليله فمتى
أرى ليلي بوصلي ينجلي؟
ماذا يضر
أحبتي لو أرسلوا طيف
المنام يزورني بتمثل
كل الذي ألقاه
في جنب الهوى سهل
سوى بين الحبيب الأفضل
أدي الأمانة
يا جنوب وغايتي في
جمع شملي يا نسيم الشمأل
واهدي إلى من
بالرياض حديثهم أزكى
وأحلى من عبير قرنفل
تفديهم نفسي
وتفدي أرضهم أزكى
المنازل. يا لها من منزل([1">)
من يصدق أن
هذه المناجاة الشجية العذبة تنقلب إلى هذه الضوضاء التي تصم الآذان؟ ومن
يصدق أن هؤلاء الذين يتحدث عنهم في هذا المقطع هم هؤلاء أنفسهم الذين كان
يتحدث عنهم في المقطع الذي سيطرت عليه صيغة التكثير؟ باختصار نحن أمام تحول
أسلوبي يكشف عن تحول في زاوية الرؤية، فهو حين يتحدث عن علاقته بهم يجنح
إلى الأسلوب العاطفي، وهو حين يتحدث عن علاقتهم بالآخر يتحول إلى أسلوب
الفخر المدوي. ولا يلبث سياق "التكثير" الإنشائي هذا السياق، ويتحول
الأسلوب مرة أخرى للتعبير عن رؤية دينية عميقة تتجلى في الابتهال والضراعة
والتوسل والاستغاثة.
ويهيمن على
هذا القسم من النص نمط آخر من التكرار هو نمط المزاوجة بين صيغتين هما:
صيغة النداء، وصيغة الأمر، وكلتاهما تخرج إلى التعبير عن هذه الروح الدينية
العميقة، وتتكرر كلمة "الرب" ومرادفاتها تكراراً يشيع في النفس إحساساً
بأنها قد غادرت عالم الشعر، وصارت في رحاب العتبات المقدسة على نحو ما يظهر
في هذا المقطع:
يا رب، يا رب
البرايا زدهم صبراً
ونصراً دائما بتكمل
وافتح لهم
مولاي فتحا بينا واغفر
وسامح يا إلهي عجل
يا رب يا
مولاي وابقهم قذى في
عين من هو كافر بالمرسل
وتجاوزن مولاي
عن هفواتهم والطف
بهم في كل أمر منزل
يا رب لا تترك
وضيعاً فيهم يا
رب واشملهم بخير تشمل([2">)
لقد نفض يديه
كلتيهما من نضار الشعر، وضم بهما جميعاً إلى صدره يواقيت الدعاء!!
وفي النص
الثالث يسترسل الشاعر في مناجاة فؤاده استرسالاً يلفت النظر. وحقاً كان
الشاعر العربي القديم يلتفت إلى قلبه ويناجيه أحياناً. ولكنه لم يكن يستغرق
في ذلك كل هذا الاستغراق الذي نراه في نص الأمير عبد القادر. بل كان يكتفي
باللمحة الدالة والإشارة الخاطفة، فإذا استرسل لم يزد على البيتين أو
الثلاثة الأبيات. وربما وجدنا في النص القديم مفارقة بين موقف صاحب النص
وقلبه، وسمعنا أكثر من صوت، ولسنا نجد مثل ذلك في نص الأمير عبد القادر،
فهو نص يهيمن عليه صوت واحد متفرد، فينأى به عن الحوار أو البناء الدرامي،
ويمنحه طابعاً غنائياً صرفاً، ويتحول به إلى بوح عميق ممتد تتجلى فيه صورة
العالم من حوله كما هي في وجدان الشاعر لا كما هي في الواقع. ولهذا السبب
تخرج صيغة "الأمر" المهيمنة في النص من غرضها الأصلي إلى غرض تعبيري صرف،
فالشاعر ـ في حقيقة الأمر ـ لا يأمر فؤاده ـ بل يعبر عما يحسه حقيقة،
ويستعين بهذا الفؤاد في هذا التعبير، أو قل ـ بعبارة أدق ـ يتخذه وسيلة
للتعبير عن عالمه الداخلي الموار بالغبطة العميقة والرضا المستطاب. وتظهر
هذه الغبطة وذلك الرضا في مضامين صيغة الأمر "السكينة، الاطمئنان، طيب
الحال وطيب المآل، العيش الهانىء، التيه والدلال، الطرب، الغناء، الرقص،
الاختيال، الأمن، البوح بما يشاء كيف يشاء، اللهو والنعيم أو الخصب والسعة
(ارتع)، البشرى". ويعزز السياق الذي ترد فيه أفعال الأمر هذه الغبطة وذلك
الرضا (اتصال حبله بحبال حزب الله، تحقيق المرام، حمام مكة الآمن الذي يحرم
صيده حرمة مطلقة، إحساسه بالغبطة تحت لواء المجد، أمنه من كل مكروه وظلم،
حلوله في مقام التهاني، القرب من أمير المؤمنين". وليس يخفى ما في هذا
السياق من عناصر دينية تطمئن القلب، وتغمره، بفيض روحي شفيف، فيورق في
النفس حبورها، وتؤدي أدوات الربط التي يحرص عليها الشاعر وظيفتها على أتم
وجه نظراً لتجانس المعطوف والمعطوف عليه (كلها جمل فعلية مكونة من فعل أمر
مسند إلى ضمير المخاطب)، فتضم كل جملة إلى أخواتها ضماً وثيقاً، وتكون منها
جميعاً جملة كبرى واحدة ذات وحدات صغرى متجانسة، وبذلك تكسب النص تماسكاً
وصلابة، وتعصمه من التصدع أو التشتت، كما تكشف ـ في الوقت ذاته ـ عن غنى
الدلالة وتنوعها ووحدتها في آن. وقد تتلاحق أحياناً هذه الجمل القصيرة
المتجانسة المترابطة تلاحقاً مدهشاً يكاد يجسد في سرعته وانتظامه دلالة هذه
الجمل:
وته دلالا،
وهز العطف من طرب وغن،
وارقص، وجر الذيل مختالا
لقد هبت الريح
رخاء على الأمير عبد القادر بعد أن كانت عاصفة نكباء، فقد أطلقت فرنسا
سراح الأمير الأسير، "وخيرته في البلد الذي يطيب له، فاختار "بروسه" من
أعمال الأناضول إلى جانب استانبول ليعيش في حمى الخلافة الإسلامية بظل
السلطان عبد المجيد. ووصل إلى "فروق" فتقدم للسلطان بالقصيدة التالية [التي
اجتزأنا النص منها">([3">). وإذاً ليس عجيباً أن يبتهج الشاعر
ويغني، ويصدر في هذه القصيدة عن نفس تظللها الغبطة ويملأ أرجاءها الحبور.
وتتكرر في
النص الرابع صيغة النداء، ويعقبها تكرار كلمة "أسأل".
فما دلالة كل
من التكرارين (النداء، المساءلة)؟ وما علاقة أحدهما بالآخر؟ وما علاقتهما
معاً ببقية القصيدة؟
إن أول ما
يلفت النظر في تكرار النداء هو المنادى، فالشاعر يشخص أبعاضاً من ذاته
وينادي كلا منها على حدة، ويناجيه، ويصف حاله البائسة في توجع قانط،
واستسلام يخالطه شجن عميق. وهذا يعني أننا أمام ضرب مخصوص من النداء يفيض
منه معنى الندب والاستغاثة، فمن يندب؟ وبمن يستغيث؟ "فيا قلبي
المجروح...."، "ويا كبدي ذوبي أسى..." "ويا ناظري لازالت بالدمع...". إنه
يندب أبعاض ذاته، فهل نستغرب ـ والحال هذه ـ أن يسترسل في نجواه مكرراً هذا
الضرب من النداء تكراراً متلاحقاً يقوي إحساسنا بحالته النفسية، ويكشف عن
بلبلته واضطرابه، وعن كثافة المادة العاطفية التي يرزح تحت وطأتها حتى
لتكاد النفس تنوء بحملها؟ ويؤازر هذه النجوى القائمة على التشخيص عنصر
بنائي قادر على التعبير عن المشاعر الغامضة المختلطة، وليس هذا العنصر سوى
الألفاظ العاطفية الانفعالية ذات القدرة العالية على الإيحاء بهذه المشاعر
بمالها من رصيد تاريخي في الوجدان العربي (القلب، الجرح، اللقا، البعد،
الوله، الكبد، الذوبان، الأسى، الحرقه، الدموع). ويأتي التكرار الثاني
(أسائل) حاملاً في سياقه معاني الضياع والضلال والفقد والجنون والوله،
فيكمل دلالات التكرار السابق ويعمقها في النفس. بيد أن الشاعر ـ على الرغم
من ذلك كله ـ يظل معتصماً بذاته التي تكاد تتبدد، ويظهر هذا الاعتصام جلياً
بحركة الضمائر ـ والضمائر عصب حي في الشعر ـ فإذا هو يحرص على ضمير
المتكلم في الحديث عن نفسه لا يفارقه، ولا يسمح لضمير الخطاب أو الغياب أن
ينوب أحدهما أو كلاهما عن ضمير المتكلم، فينكشف بذلك تشعث الذات وتبددها!!
فأية ذات هذه الذات التي تبدو عصية على التبدد والتلاشي وهي ترى أبعاضها
مفرقة في كل صوب؟! إن الذات في الشعر العذري ذات منهوكة يكاد يقتلها الظمأ
وامتناع الري، ويكاد يمزقها التوزع بين الإقدام والإحجام، ويكاد يتلفها
المجتمع بحصاره الصارم فتحاول الفرار منه والاغتراب في مجتمع لا إنساني،
ويقترن إحساسها باللوعة واليأس والحرمان والفقد والغربة بحنين آسر عذب إلى
البادية، حيث مدارج الطفولة وملاعب الصبا، وما أكثر ما يقترن الحب بالموت
في سياق حديث هذه الذات عن نفسها. وكثير من هذه العناصر العذرية وغيرها
مبثوث في أرجاء هذه القصيدة، بل إن الشاعر يحوم حول أبيات لـ "عبد الله بن
الدمينة" ـ وهو يسلك في العذريين عادة ـ في "تناص" شديد الوضوح يحمل معه
السياق العذري إلى القصيدة([4">). ولكن ذات الأمير عبد القادر تختلف عن
"الذات العذرية ـ وإن جمعتهما قمسات كثيرة مشتركة ـ في اعتصامها بنفسها
وتأبيها على التبدد،وفي ملمح "العرفان" ولفظ "لعشق" (وفي قربنا عشق..)،
و(ويزداد وجدي كلما زدت عرفانا)، وفي هيامها بنفسها وعشقها لها، وفي التوحد
بين العاشق والمعشوق، بل بين الذوات والمعاني (المحب
والمحبوب والحب)، وفي تساوي السر والعلن:
ومن عجب ما
همت إلا بمهجتي ولا
عشقت نفسي سواها وما كانا
أنا الحب
والمحبوب والحب جملة أنا
العاشق المعشوق سراً وإعلانا
نحن إذاً أمام
ذات "متصوفة" لا ذات "عذريّة"، ذات تستعير تقاليد الشعر العذري وملامحه
ورموزه، وتعيد توظيفها، فتلج بها مجالات وظيفية جديدة. وهكذا تغدو ألفاظ
كالشوق والحب والعشق والقرب والبعد رموزاً صوفية ترمز إلى تجربة الوجد
الصوفي، وتغدو ظاهرة الظمأ رمزاً صوفياً، وقل مثل ذلك في أسماء المواطن
(نجد وروض الرقمتين ونعمان)، وتظهر "وحدة الوجود" جلية في الأبيات الأخيرة
من القصيدة، وينتهي منها إلى أسماعنا صوت "الحلاج" ما في الجبة غير الله"
وإذا ليس غريباً ـ تأسيساً على ما نحن فيه ـ أن تكون ذات الشاعر موحدة/
موزعة معاً في آن على نحو ما لاحظنا في حديثنا عن التكرار والضمائر في
الأبيات التي اجترأناها من هذه القصيدة، وأن تكون صلة تلك الأبيات ببقية
القصيدة صلة رحم واشجة.
والنمط الثاني
من أنماط التكرار على مستوى الإيقاع والتركيب هو "تكرار نسق لغوي" ويستفيض
هذا النمط كسابقه في شعر الأمير عبد القادر:
* والضاربون
ببيض الهند مرهفة تخالها
في ظلام الحرب نيرانا
والطاعنون
بسمر الخط عالية إذا
العدو رآها شرعت بانا
والمصطلون
بنار الحرب شاعلة مطلوبهم
منك يا ذا الفضل رضوانا([5">)
والراكبون
عتاق الخيل ضامرة تخالها
في مجال الحرب عقبانا
جيش إذا صاح
صياح الحروب لهم طاروا
إلى الموت فرسانا ورجلانا([6">)
**عج بي فديتك
ـ في أباطح دمرـ ذات الرياض الزاهرات النضر
ذات المياه
الجاريات على الصفا فكأنها
من ماء نهر الكوثر
ذات الجداول
كالأراقم جريها سبحانه
من خالق ومصور
ذات النسيم
الطيب العطر الذي يغنيك
عن زبد ومسك أذفر
والطير في
أدواحها مترنم برخيم صوت فاق نغمة مزدهر([7">)
*** وما كان
شهم يدعي السبق صادق إذا سيق للميدان بان له
الخسر
وعند تجلي
النقع يظهر من علا على
ظهر جردبل ومن تحته حمر
وما كان من
يعلو الجواد بفارس إذا
ثار نقع الحرب والجو مغبر
فيحمي ذمارا
يوم لا ذو حفيظة وكل
حماة الحي من خوفهم فروا
ونادى ضعيف
القوم من ذا يغيثني؟
أما من غيور؟ خانني الصبر والدهر
وما كل سيف ذو
الفقار بحده ولا
كل كرار عليا إذا كروا
وما كل طير
طار في الجو فاتكا وما
كل صياح إذا صرصر الصقر
وما كل من
يسمى بشيخ كمثله وما
كل من يدعى بعمرو إذا عمرو
وذا مثل
للمدعين ومن يكن على
قدم صدق....([8">)
**** تميد بهم
كاس بها قد تولهوا فليس
لهم عرف، وليس لهم نكر
حيارى فلا
يدرون أين توجهوا فليس
لهم ذكر، وليس لهم فكر
فيطربهم برق
تألق بالضحى ويرقصهم
رعد بسلع لـه أزر
ويسكرهم طيب
النسيم إذا سرى تظن
بهم سحرا وليس بهم سحر
وتبكيهم ورق
الحمائم في الدجى إذا
ما بكت من ليس يدرى لها وكر
وتسبيهم غزلان
رامة إن بدت وأحداقها
بيض وقاماتها سمر
وفي شمها حقا
بذلنا نفوسنا فهان
علينا كل شيء له قدر([9">)
لقد آثرنا ـ
كما فعلنا سابقاً ـ أن نختار أربعة نصوص يتكرر في كل منها نسق لغوي مختلف
عن الانساق المتكررة في النصوص الأخرى.
يتكون النسق
اللغوي المهمين في النص الأول من اسم فاعل (جمع مذكر سالم ) + جار ومجرور +
مضاف إليه + حال. ويشذ عن ذلك شذوذا طفيفاً البيت الأخير فيتكون النسق من:
اسم فاعل (جمع مذكر سالم) + مفعول به + مضاف إليه + حال. ولا تظهر هيمنة
النسق في تكراره فحسب بل تظهر أيضاً في توظيف الشطر الثاني من كل بيت ـ ما
عدا بيتاً واحداً سنقف عنده لاحقاً ـ في تغذية دلالة النسق. وتقوم أداة
الربط "الواو" بوظيفتها على أكمل وجه، فتجمع هذه المتجانسات جمعاً وثيقاً
في سلسلة لغوية واحدة متعددة الحلقات. ويؤازر هذه السلسلة نسق إيقاعي مطابق
للنسق اللغوي فيعزز تلاحم مستويات النص، ويحكم بناءه إحكاماً قوياً،
فيتأهل النصّ ببنائه المحكم وبمجمعه اللغوي ـ وهو معجم الحرب بسيوفها
المرهفة ورماحها العالية ونارها المشبوبة وخيلها الضامرة العتاق وفرسانها
العقبان، وكل هذه الألفاظ والصور أكسبتها نصوص شعر الحماسة والفروسية
القديم طاقات ثرية ادخرتها الذاكرة العربية وتأصلت في الوجدان ـ لإنتاج
دلالة صارمة شديدة الوقع في النفس، دلالة لا اهتزاز فيها ولا خلخلة، ولا
يكاد النص ينتج هذه الدلالة ويبثها حتى تتخرم، فتهتز وتضطرب ويتشعث أثرها
في النفس، يخرمها هذا الشطر الذي أشرنا إليه سابقاً (مطلوبهم منك يا ذا
الفضل رضوانا)، فهو يكسر السياق، وينحرف به إلى سياق التوسل والضراعة.
ويشكل هذا الانحراف "وحدة طفيلية" تضعف نبرة الخطابة والفخر، وتتحول بها ـ
ولو مؤقتا ـ إلى نقيضها.
وحقاً قد تبدو
هذه الوحدة إضافة فائضة وعبئاً على النص، ولكن من قال إن الزيادة في الشعر
ذات قيمة سالبة دائماً؟ إن هذه الوحدة الطفيلية مثقلة بالدلالة على عكس ما
يوحي به اسمها وموقعها، فهي ـ أولاً ـ تكشف عن عمق الرؤية الدينية للشاعر،
وهي ـ ثانياً ـ تعيدنا إلى بؤرة القصيدة ونواتها، وبذلك تثبت عراقة
انتسابها إلى القصيدة وغربة أبيات الفخر والحماسة عنها أو ضعف صلتها بها.
إن بنية القصيدة بنية استغاثة وتوسل وضراعة، وليس هذا الفخر بجيوش المسلمين
في هذه الأبيات وأبيات أخرى تليها سوى كسر لسياق القصيدة لا تلبث بعده أن
تعود إلى سياقها الأول. "لقد اشتبكت روسيا بحرب مع الدولة العثمانية في شبه
جزيرة القرم عام 1823، وعرفت الحرب باسم هذه الجزيرة من بعد. وتدخلت فيها
الدول الغربية كل لمصلحتها....... أما المسلمون من جميع جهات الأرض فقد
أمدوا الدولة العلمية بالدعاء.... والقصيدة الثانية [أي القصيدة التي نتحدث
عنها"> توسلات للباري تعالى نظمها الأمير الشاعر كي ينصر الله الدولة
العلية العثمانية"([10">).
يا رب! يا رب!
يا رب الأنام! ومن إليه
مفزعنا سراً وإعلانا
يا ذا الجلال
وذا الإكرام، مالكنا يا
حي يا موليا فضلا وإحسانا
يا رب أيد
بروح القدس ملجأنا عبد
المجيد........
وتمضي القصيدة
على هذا النمط من الاستغاثة والتوسل والضراعة سواء أعبر الشاعر عن هذه
الرؤية الدينية بتكرار صيغة الاستغاثة كما نرى في هذه الأبيات أم عبر
بتكرار صيغة الأمر كما رأينا في نص سابق أم زواج بين هذين الضربين من
التكرار كما يفعل في جزء من هذه القصيدة.
فإذا أعدنا
النظر قليلاً في مسلك الشاعر اللغوي رأيناه يكرر نسقاً لغوياً بعينه حتى
إذا استقرت صورة هذا النسق في خلد المتلقي، وصار يتوقع تكراره عدل عنه
عدولاً واضحاً، ولكنه لا يلبث بعد عدة أبيات أن يكرر نسقاً آخر أو صيغة حتى
إذا أصبحت متوقعة مضى فيها قليلاً ثم عدل عنها، وهكذا... وبذلك تبدو
القصيدة كأنها مبنية على نهج شبه دقيق من التعاقب بين إرساء نظام ما وصدعه
ثم إرساء نظام آخر وصدعه، وهذا النهج سمة عضوية في النص الشعري عامة. ومما
لا ريب فيه أن "تغير قواعد الانساق البنائية يمثل أقوى وسيلة لتقليل حجم
اللغو في النص الفني، إذا ما يكاد القارىء يكيف نفسه مع توقع معين، ويضع
لنفسه نظاماً ما للتنبؤ بما لم يقرأه بعد من أجزاء النص حتى تتغير القاعدة
البنائية مخادعة كل توقعاته، ومن هنا يكتسب ما كان لغواً وفضولاً قيمة
إعلامية في ضوء البنية المتغيرة"([11">).
وفي النص
الثاني يبني الشاعر نسقه اللغوي المكرر من متضايفين أولهما صفة لموصوف خارج
النسق تليهما صفة للمضاف إليه، فكأنه يبنيه على تراكم الصفات أو حشدها.
ويكرر في هذا النص ما فعله في النص السابق، فما يلي النسق من البيت يقع في
سياق النسق ويغذي دلالته، ويشذ عن ذلك البيت الثالث. والنص ـ في حقيقته ـ
احتفاء وقور بجمال طبيعة "دمر"([12">)، ولعل هذا النسق اللغوي الذي
تتراص فيه الصفات دون أن تجور واحدة على أختها يكشف عن جانب من هذا الوقار،
فالشاعر لا يعيد ترتيب عناصر الطبيعة، ولا يعبث بها، بل يصورها على ترتيب
وقوعها في نفسه، ويعطي كل مظهر من مظاهر جمالها حقه، وهل أبلغ دلالة على
الوقار وعدالة القسمة من استخدام نسق لغوي واحد متبوع بوصف مفرد أو جملة
واصفة لكل مظهر؟! والنص ـ بعدئذ ـ جملة كبرى واحدة تقوم فيها كلمة "ذات"
المتكررة بدون الربط بين وحداتها الصغرى، فتربط هذه المظاهر كلها (الرياض
والمياه والجداول والنسيم) برباط وثيق، وتردها جميعاً بالطريقة نفسها إلى
مرجعها، أو بعبارة مجازية إلى حضن أمها، "دمر". وقد كان خليقاً بهذا النص
بنسقه اللغوي المتكرر، وببنائه شبه المحكم، وبمعجمه اللغوي، أن ينتج دلالة
صافية مشبعة بالحبور النقي لولا أن الشاعر كسر سياق النص، وانحراف به إلى
سياق ديني (سبحانه من خالق ومصور)، فخلخلت هذه الوحدة الغريبة عن السياق
طيف الدلالة وشعثته، وذهبت ببعض صفائه وببعض قدرته على إشباع الإحساس
بالجمال. وكان الشاعر قد رشح لهذا الانحراف ترشيحاً مضمراً في صورة ماء نهر
الكوثر.
وحقاً إن هذه
الوحدة الغريبة الطارئة لا تخدم وحدة الأبيات، ولا تغذي دلالتها، بل تخرم
هذه الوحدة وتشعث هذه الدلالة وتضعفها، وتبدو إضافة فائضة أو وحدة "طفيلية"
في سياق الأبيات، ولكنها جوهرية في سياق القصيدة لأنها تكشف عن رؤيتها
الدينية العميقة، فليس هذا الجمال الآسر سوى بعض ما أبدعه الخالق. ولعلنا
لا نستغرق بعدئذ إذا سمعنا الشاعر وهو يتأمل هذا الجمال يقول:
مغنى به
النساك يزهو حالها ما
بين أذكار وبين تفكر
ألا يبدو
تداعي المعاني على هذا النحو غريباً بل غريباً جداً؟! ولكنه ـ على غرابته
أو بسبب منها ـ يكشف عن رؤية دينية عميقة للكون والحياة.
ويهيمن في
النص الثالث نسق لغوي مكون من حرف عاطف هو "الواو وأداة نافية هي "ما" أو
"لا"، ومتضايفين أولهما لفظ "كل" وثانيهما متغير
الدلالة. وإذا نحن أمام نسق لغوي واحد ذي مضامين مختلفة باختلاف المضاف
إليه. وأنا أحب أن أنظر في هذا العنصر المتغير الدلالة في النسق قبل النظر
في غيره لعلي أرى فيه رأياً. إنه ـ على الترتيب ـ الشهم الذي يدعى السبق في
ميدان الحرب، والشخص الذي يعلو الجواد في الحرب، والسيف، والبطل الكرار في
الحرب، والطائر الذي يطير في الجو فيتوهم الرائي أو يظن فيه قدرة الفتك،
والصياح الذي يلتبس صوته بصوت الصقر، والشيخ العين، ومن يدعى بعمرو. وأحب
أن تعيد النظر معي كرة أخرى في هذا "المتغير" فإن له شأناً فيما أحسب. فهو
في الانساق الأربعة الأولى يحمل دلالة واحدة هي دلالة القوة والحرب، وهو في
النسقين الخامس والسادس يحمل دلالة التباس القوة بغيرها، وهو في النسق
السابع يحمل دلالة دينية، ويحمل في النسق الأخير دلالة عامة تصلح لاحتضان
دلالات شتى.
ولعل نظرة
أخرى إلى هذه الدلالات تستطيع أن ترد دلالات الانساق الستة الأولى إلى
دائرة دلالية واحدة هي "دائرة الحرب" وما ينبثق منها. ويؤكد هذه النظرة هذا
الحديث الصريح عن النقع والحصان في البيت الذي تلا أول نسق لغوي، وعن
حماية الذمار، وصاحب الحمية، وحماة الحي، وإغاثة المستغيث في البيتين
اللذين يتلوان أول تكرار للنسق اللغوي. وإذا نحن في سياق الحرب، ومعجم النص
هو معجم الحرب المألوف بألفاظه وإعلامه (الميدان، النقع، الجواد، الفارس،
الحمية، الفتك، الصقر). وفي ضوء هذا الاستنتاج يبدو النسق اللغوي المتكرر
مهيمناً على المستويين اللفظي والدلالي معاً، أي إن دلالة كل نسق من هذه
الانساق اللغوي هي كدلالة الانساق الأخرى، وبعبارة أوضح نحن أمام "تكرار
معنوي"، وسبق أن قلنا إن البنية الشعرية ذات طبيعة تكرارية على المستويين
الشكلي والمعنوي. وقد قلنا منذ قليل إن المتغير في النسق الأخير يحمل دلالة
عامة تصلح لاحتضان دلالات شتى، أي إن دلالته تكرار بصورة ما لدلالات ـ أو
لدلالة ـ الانساق التي تحدثنا عنا. ولم يبق أمامنا إلا الدلالة الدينية في
النسق السابع، فلنرجىء الحديث عنها قليلاً...
إن معرفة
الجنس الأدبي أو معرفة الغرض الشعري ـ ولا مناص من استخدام مصطلح "الغرض"
ههنا أو استخدام مصطلح محتوى فيه هو مصطلح "الموضوع" ـ تحدد إلى مدى بعيد
قواعد إنتاج النص وقواعد تلقيه معاً، وتقلل من دور المصادفة([13">). فهل
نحن الآن أمام موضوع شعري هو موضوع الحرب؟ هذا ما يقوله النص صراحة. ولكن
من قال إن الصراحة هي من وظائف الشعر دوماً أو غالباً؟ لنعد إلى القصيدة
لعل فيها ما ينقع الغلة ويبدد الشك. عنوان القصيدة "استاذي الصوفي"،
ونستطيع بيسر أن نتبين وحداتها الموضوعاتيه، فهي: حياة الشاعر قبل لقاء
أستاذه، الرحلة إلى أستاذه، مكان اللقاء، لقاء الأستاذ والحديث عنه، وهي
وحدة مسرفه في الطول (28 بيتا) ـ وحدة الحرب، عودة إلى الأستاذ، وحدة
الخمرة..... لقد جاءت وحدة الحرب استطراداً لقوله:
أبو حسن لو قد
رآه أحبه وقال
لـه: أنت الخليفة يا بحر
وما كل
شهم.... ............................
وقد علمنا
تاريخ الشعر العربي القديم أن بين الاستطراد الطويل والموضوع الذي خرج عليه
الاستطراد علاقة ما ظاهرة، ولكن هذه العلاقة، سواء أكانت علاقة مشابهة أم
علاقة أخرى، هي أهون ما في الاستطراد وأيسره([14">)ما أكثر ما يمكر
الشعراء بنا! إن فهم الاستطراد فهماً دقيقاً يقتضي
النظر إليه في سياق القصيدة أولاً، والنظر إليه في ذاته ثانياً ثم محاولة
ربطه بالرؤية أو الموقف.
لقد تبين لنا
من سياق القصيدة أن وحدة "الحرب" طارئة على السياق، أي هي وحدة طفيلية
استطرد إليها الشاعر في معرض الحديث عن شيخه الصوفي، وأطال فيها، فكسرت
سياق القصيدة، وانحرفت بها عن سياقها، وأحدثت تحولاً أسلوبياً، فظهر سياق
الفخر والحماسة بجلاله المعروف، ورنينه الموسيقي العالي. وحين ننظر في هذه
الوحدة نحسّ أن الشاعر قد راض هذا السياق الوعر من قبل طويلاً، فهو يجري
فيه طلقاً لا يلوى له عنان حتى لكأنه يأخذه بالناصية، ويروز فيه نفسه بعد
زمن شوطاً أو أشواطاً، فيعرف من نفسه ما ألفه فيها من قبل. فهل نصدق ـ
بعدئذ ـ ما زعمه الشاعر؟ لقد أوهمنا أنه يريد أن يقول إن الخليفة الحق هو
شيخه لا سواه ولو تشبهوا به "أنت الخليفة يا بحر"، وتعريف الخبر ههنا يفيد
الحصر، وإن ما استطرد إليه إن هو إلا توضيح وتوكيد لهذه القضية ـ وهذه هي
العلاقة الظاهرة بين الموضوع والاستطراد التي أشرت إليها سابقاً ـ ولكن هذا
الإيهام تبدد حين استطال باستطراده كل هذه الاستطالة، وبدا الاستطراد
مقصوداً لذاته، فهو يستمتع بتكرار نغمة الحماسة وعرضها في معارض حماسية
شتى، ويكشف بذلك كله عن روح الحماسة البدوية المتأصلة في نفسه وهي الروح
التي تكشف عنها قصائد شتى في الديوان.
وإذا ًنحن ـ
مرة أخرى ـ أمام وحدة طفيلية قادرة على الكشف عن جانب من موقف الشاعر أو
رؤيته هو جانب الفروسية البدوية. فإذا ضممنا إلى هذا الجانب من شخصية
الشاعر الملمح الديني الذي أبرزناه سابقاً بدت ملامح الشخصية كاملة. إنها
شخصية فارس بدوي مؤمن يرى الحياة والكون من حولـه رؤية دينية بطولية في آن.
ولعل الدلالة الدينية التي نصصت عليها في النسق السابع، وأرجأت الحديث
عنها، قد اتضحت وظيفتها الآن، فهي تنافس الدلالة البطولية فتظهر في سياقها،
وتتكامل معها فتكتمل صورة الفارس البدوي المؤمن، كما أنها ترشح للعودة إلى
السياق الديني واستئناف ما انقطع من الحديث عن الشيخ.
وفي النص
الأخير ـ وهو جزء من وحدة "الخمرة" في قصيدة "أستاذي الصوفي" ـ يتكرر نسقان
لغويان. يتكون أولهما من حرف رابط وفعل ناقص وجار ومجرور واسم الفعل
الناقص، ويتكون الثاني من حرف ربط، وفعل مضارع يتصل به ضمير نصب مقدم،
وفاعل ومضاف إليه. وتقوم بين النسقين علاقة "تضاد" واضحة، فالنسق الأول
ينفي ويعمق بتكراره مفهوم النفي في النفس، والنسق الثاني يثبت ويعمق
بتكراره مفهوم الإثبات في النفس. ومن عجب حقاً أن يتساوى هذان النسقان في
الدلالة، فيعمل كلاهما في اتجاهين متضادين، فأولهما يكاد يثبت وهو ينفي،
وثانيهما يكاد ينفي وهو يثبت، فكأن النسقين يقومان بوظيفة واحدة هي إنتاج
دلالة ملتبسة حائرة أو شبه غامضة!! فهؤلاء الذين يتحدث عنهم "ليس لهم عرف"،
ولكنهم أيضاً "ليس لهم نكر". ويراهم الرائي فيظنهم مسحورين، ولكنهم "ليس
بهم سحر". ألست ترى كيف يكر النسق على ما قبله ويبطله؟!
وهؤلاء قوم
"يسكرهم طيب النسيم"، "وتبكيهم ورق الحمائم" و"تسبيهم غزلان رامة!! وما
قولك في هذا "السكر" الذي يذهب بالعقل، وفي هذا "البكاء" الذي يذهب
بالمسرة، وفي هذا "السبي" الذي يذهب بكل شيء؟ ألست ترى أن الفعل يكاد ينفي
وهو يثبت؟! نحن أمام دلالة غير صافية، دلالة مشوشة أو حائرة أو شبه غامضة.
ويتألق "البرق" فيزيد الدلالة اختلاطاً بغيرها وغموضاً "فيطربهم برق تألق
بالحمى" والبروق في الشعر العربي القديم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمشاعر
المختلطة والأحلام الغامضة، وتعزز ألفاظ النص هذه الدلالة (تميد أي تضطرب
وتدور، الوله، الحيرة، عدم الدراية..)، فإذا أبحنا لأنفسنا أن نتأمل قليلاً
أبياتاً قليلة سبقت هذا النص ـ وهي إباحة مشروعة علمياً ـ وجدنا (العقول
الهائمة، والسكر المخامر، والتيه)، ورأينا عبثاً غريباً بعناصر الكون (وشمس
الضحى من تحت أقدامهم عفر)، فهم يبعثرون هذه العناصر، ويسرفون في بعثرتها،
ويصفونها حسب موقعها في نفوسهم لا حسب موقعها في العالم. وإذا فالدلالة
التي أنتجها النسقان اللغويان المذكوران متجانسة مع الدلالة التي أنتجتها
العناصر البنائية الأخرى بل متحدة بها، أو قل هما هذه التمتمة السحرية
المبهمة التي تفضي بنا إلى عالم النص. أليس الشاعر ساحر كلمات؟! هل عرفت
الآن العالم الذي يتحدث عنه الشاعر؟ إنه عالم الوجد الصوفي الذي تضيع فيه
الحدود، وتتماهى فيه المخلوقات، ويستوى فيه السر والعلن، والتصريح
والكناية، تتبوأ فيه "الخمرة" ـ وهي رمز صوفي خصب الدلالة أثير على قلوب
المتصوفة جميعاً ـ مقاماً رفيعاً:
إذا صرح
الحادي بذكر صفاتها وصرح ما كنى ونادى، نأى الصبر
وقال: اسقني
خمراً وقل لي هي الخمر
ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر
وصرح بمن تهوى
ودعني من الكنى فلا خير في اللذات من دونها ستر
ترى سائفيها
كيف هامت عقولهم ونازلهم بسط، وخامرهم سكر([15">)
أليس هذا
التأرجح بين السر والجهر، وبين التصريح والتكنية ينتج هو الآخر بدلالة
مختلطة شبه غامضة، أو دلالة حائرة، بل قل: دلالة غير صافية؟ وينبغي أن
نتذكر أن "الخمرة" هي موضوع هذه الوحدة ونواتها، وهي خمرة لا تقل صفاتها في
دلالها بلبلة واضطراباً واختلاطاً عن الدلالات السابقة في النص، ففيها من
صفات "الخمرة" العادية مقادير، وفيها من الصفات المفارقة لهذه الصفات
مقادير أيضاً. إنها خمرة العرفان الإلهي، أو خمرة المتصوفة وكفى بذلك
التباساً.
وإنه لمِمّا
يلفت النظر في هذا النص أن يضمن الأمير عبد القادر قصيدته بيتين مشهورين من
شعر أبي نواس: (ألا فاسقني خمراً وقل لي، والبيت الذي يليه)، فيفرض ـ بسبب
ذلك ـ النسق النواسي بإشكالاته والتباساته حضوراً كثيفاً، ويجد القارىء
نفسه وقد زج به الشاعر في منظومة من العلاقات الثقافية والفكرية المعقدة.
لقد جعل أبا نواس خادما ًلهذه الرحلة الروحية ـ والرحلة في الأدب العربي
القديم مرتبطة بالبحث عن المعرفة ـ، فهل كان حاديه ودليله إلى العرفان
الإلهي، أو إلى العلم "كل العلم" ـ على حد تعبير الأمير نفسه ـ، لقد تماهى
معه، فهل كان يرى فيه متصرفاً كبيرا؟
ويستفيض
التكرار في هذه القصيدة ـ وهي درة الديوان ـ استفاضة تستوقف القارىء
العجلان، فهو تكرار نسق لغوي على نحو ما رأينا ـ وهو أكثر ضروب التكرار
شيوعاً، وهو تكرار نداء، وتكرار كلمة، وتكرار استفهام، وسوى ذلك على نحو ما
نرى في هذه الأبيات:
ـ وشتان ما
بين الحجيجين عندنا
فهذا لـه ملك وهذا لـه أجر
ـ ويلقى
رياضاً أزهرت بمعارف فيا
حبذا المرأى ويا حبذا الزهر
ويشرب كأسا صرفة من مدامة فيا حبذا كأس ويا حبذا خمر
ـ فلا عالم
إلا خبير بشأنها ولا جاهل إ لا جهول به غر
ـ عياذي ملاذي
عمدتي ثم عدتي وكهفي
إذا أبدى نواجذه الدهر
ـ تضوع طيباً
كل زهر بنشره فما
المسك؟ ما الكافور؟ ما الند؟ ما العطر؟
وما حاتم؟ قل لي، وما حلم أحنف؟ وما
زهد إبراهيم أدهم؟ ما الصبر؟
وليس يكتفى
الشاعر بالتكرار، ولكنه يضم إليه ـ كما ترى ـ أنواعاً بلاغية كالتقسيم في
الأبيات الثلاثة الأولى، وكمراعاة النظير في البيت الرابع والبيت الأخير.
ويطول بنا الحديث لو مضينا نتقصى كل ضروب التكرار، ونبحث عن دلالاتها،
ووظائفها الفنية في كل قصيدة، وهو حديث لا يسمح به الموقف، وربما كان فيما
قيل في الصحف الماضية بعض الغناء.
ويكثر الشاعر
من الجناس والطباق والمقابلة، بل إن المقابلة ـ في عدد من القصائد ـ هي
بؤرة القصيدة ونواتها، فعلى حديها تنهض بنية القصيدة، وبها تنتج دلالتها
الكبرى، فإذا نحن أمام مفارقة كبرى كما في قصيدة "ما في البداوة من
عيب"([16">)، التي استهلها الشاعر بمقابلة ثم أردفها بأحرف ثم أردف
الثانية بثالثة:
يا عاذرا
لامرىء قد هام في الحضر
وعاذلا لمحب البدو والقفر
لا تذممن
بيوتاً خف محملها وتمدحن
بيوت الطين والحجر
لو كنت تعلم
ما في البدو تعذرني لكن
جهلت وكم في الجهل من ضرر
ثم مضى يستكمل
بناء قصيدته متخذاً من بنية المقابلة البنية الأساس لها، ولهذا كثرت
المقابلات والطباقات فيها، كما ظهر فيها "المدح بما يشبه الذم"، وهو لون
بلاغي يقوم على المفارقة بين ما يرشح له السياق وبين ما يدل عليه، ومن هنا
كان هذا اللون قريب النسب من المقابلة، على نحو ما نرى في الأبيات الثلاثة
الأولى، وما نرى في هذه الأبيات:
قال الألى قد
مضوا قولاً يصدقه نقل
وعقل وما للحق من غير
الحسن يظهر في
بيتين رونقه بيت
من الشعر أو بيت من الشعر
سفائن البر بل
أنجى لراكبها سفائن
البحر كم فيها من الخطر
لا نحمل الضيم
ممن جار نتركه وأرضه
وجميع العز في السفر
نبيت نار
القرى تبدو لطارقنا فيها
المداواة من جوع ومن خصر
عدونا ماله
ملجا ولا وزر وعندنا
عاديات السبق والظفر
مافي البداوة
من عيب تذم به إلا
المروءة والإحسان بالبدر
وصحة الجسم
فيها غير خافية والعيب
والداء مقصور على الحضر
وهكذا تقوم
بنية القصيدة على مفارقة تصويرية كبرى تظهر فيها صورة البداوة في جانب
وصورة الحضر في جانب آخر، ولهذا السبب قلنا إن بنية المقابلة هي نواة
القصيدة. ويتضح من مقابلة الاستهلال والمقابلة التي تليها تعصّب الشاعر
للبداوة وتفضيلها على الحضر، وقد ترك هذا التعصب أو الانحياز أثره الواضح
في القصيدة، فقد أنكر الشاعر على الحياة الحضرية أن يكون فيها سوى العيوب،
وجمع للبداوة الفضائل من كل صوب. وأدى ذلك إلى التفصيل والبسط في صورة
البداوة، وإلى الإيجاز والاقتضاب في صورة الحياة الحضرية. ويبدو تصوير
الشاعر للبادية تصويراً شاعرياً عذباً يفيض بالبهجة والحبور، ويمتلىء
بالحركة والحياة، ويخرج فيه الشاعر ـ على عادة الشاعر القديم ـ إلى ضروب من
التفتي، وتتردد في أجزاء من هذا التصوير أصوات زهير بن أبي سلمى، والمثقب
العبدي، وعمر بن أبي ربيعة في "تناص" صريح على نحو ما نرى في هذين البيتين:
يوم الرحيل
إذا شدت هوادجنا شقائق عمها مزن من المطر
فيها العذارى
وفيها قد جعلن كوى مرقعات
بأحداق من الحور([17">)
ولعل هذا الحب
العميق للبادية، وهذا التعلق الشديد بها، وهذا الوقوف المتأني على
مظاهرها، ووصفها على ترتيبها، في الواقع دون عبث بها، وهذا التصور لها
"ترابها المسك أو أنقى" الذي يكشف عن موقعها في نفسه، لعلّ ذلك كله ـ وربما
سواه أيضاً ـ هو الذي لفتنا إلى الملمح الأصيل في شخصية الأمير عبد
القادر، فزعمنا زعماً يقيناً أنه "فارس بدوي".
وتهيمن بنية
المقابلة على قصيدة "بنت العم" هيمنة شديدة الوطأة، فتتوالى المقابلات
صفوفاً متلاحقة مكونة مفارقة تصويرية كبرى. ويترابط النصف الأول من القصيدة
ترابطاً وثيقاً، فيكون جملة كبرى واحدة بفضل أداة الربط التي تجمع بين
معطوفات بينها تناسق شكلي يفرضه النحو، وتناسق معنوي يفرضه المنطق على نحو
ما نرى من هذه الأبيات([18">):
أقاسي الحب من
قاسي الفؤاد وأرعاه
ولا يرعى ودادي
أريد حياتها
وتريد قتلي بهجر أو بصد أو بعاد
وأبكيها فتضحك
ملء فيها وأسهر
وهي في طيب الرقاد
وتهجرني بلا
ذنب تراه فظلمي قد رأت دون العباد
وأشكوها
البعاد وليس تصغى إلى
الشكوى وتمكث في ازدياد
وأبذل مهجتي
في لثم فيها فتمنعني
وأرجع منه صاد([19">)
وأغتفر العظيم
لها وتحصي علي
الذنب في وقت العداد
وأخضع ذلة
فتزيد تيها وفي هجري أراها في اشتداد
فما تنفك عنى
ذات عز وما أنفك في ذلي أنادي
وتجسد بنية
المقابلة اللفظية مقابلة معنوية بين موقف الشاعر وموقف ابنة عمه، وتغري
الألفاظ العاطفة الانفعالية التي تملأ أرجاء النص، والملامح العذرية فيه
بافتراض تجربة عاطفية خاصة يحياها الشاعر، ولكنني لا أجد في نفسي ميلاً إلى
مثل هذا الافتراض، فأنا لا أكاد أرى في النص ملامح ذاتية تميز هذه
التجربة، بل هي ملامح عامة تصور تجربة عاطفية نمطية، فالشاعر يدور حول
المعاني التجريدية الكبرى في تجربة الحب، ويستخدم الألفاظ المألوفة في
التعبير عن تلك المعاني، فكأنه يستعير من القدماء عوالمهم الشعورية،
واللغوية معاً. ولعل ما يعزز هذا الانطباع في نفسي هو هذا الخمول الذي أصاب
بنية المقابلة نظراً للإسراف في تكرارها حتى أوشكت أن تورث النفس مللاً.
لقد كان من حق الشعر والحب على الشاعر أن ينشط بنيته اللغوية بطريقة ما،
ولكنه لم يفعل!! انظر إليه ماذا فعل في موطن آخر وقد أحس أن لغة الشعر
أوشكت أن تذبل ويصيبها النعاس:
يروعني الصبح
إن لاحت طلائعه يا
ليته: لم يكن ضوء وإصباح
انظر إلى هذا
القطع البديع الذي تظهر فيه رشاقة الشعر وحيويته، وإلى هذا التمني الذي
يأتي في سياقه انتفاء الضوء والصباح، فيعزز فكرة "الروع" التي لاحت في أول
البيت. ما أجمل ما قال!
وأحب أن أقف
عند نص آخر يظهر فيه "الطباق" ظهوراً قوياً([20">):
أنا حق، أنا
خلق أنا رب،
أنا عبد
أنا ماء، أنا
نار
وهواء، أنا صلد
أنا كم، أنا
كيف أنا وجد،
أنا فقد
أنا ذات، أنا
وصف أنا قرب،
أنا بعد
هذا طباق غريب
يقوم بوظيفتي "المحو والإثبات" في آن، أو قل ـ بعبارة أدق ـ إنه طباق لا
يقوم بوظيفته البلاغية، ما أكثر الوظائف المعطلة في الشعر! فتندثر الحدود
بين طرفي الطباق، ويدخل كلاهما في الآخر، فيعبثان معاً بترتيب الكون
ونواميسه، ويعيدان هذا الترتيب على نحو خاص جداً. ومما يلفت النظر في هذا
النص بنيته اللغوية، فهو من أوله إلى آخره ذو تركيبه لغوية واحدة هي جملة
اسمية مكونة من مبتدأ وخبر، وأن المسند إليه هو لفظ واحد لا يتغير، إنه
ضمير المتكلم مرفوعاً "أنا". ومن الواضح هنا أن ذات المتكلم تفرض سلطة
صارمة على دلالة النص، فهي القطب الذي تتمحور حوله الدلالات في غير التباس.
ومن الواضح أيضاً أن هذه الجمل الاسمية القصيرة ببنيتها المذكورة،
وبتلاحقها وغزارتها تكشف عن طبيعة الموقف الصادرة عنه، فهو موقف يقيني صلب.
فما حقيقة هذا الموقف الذي تتماهى فيه الربوبية والعبودية، والماء والنار
والهواء، والكم والكيف، والوجد والفقد، والذات والوصف، والقرب والبعد؟!
أليس هذا هو موقف المتصوف الذي يؤمن بوحدة الوجود كما لاحظنا في موطن سابق؟
ويقتضي هذا
الحديث عن التركيب الوقوف على عدد من قضاياه الأخرى كالحذف، والفصل والوصل،
والتقديم والتأخير وسواها.
تحدث عبد
القاهر في "دلائل الإعجاز" عن الحذف، قال: "هو باب دقيق المسلك، لطيف
المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى فيه ترك الذكر افصح من الذكر،
والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما
تكون بياناً إذا لم تبن"([21">) وإذا الحذف خاصة شعرية تقوم على
"الاقتصاد في اللغة"، فتمنح البنية الشعرية حيوية وفيض دلالة، أو قل هو
علاقة معنى لا علاقة تشكيل. وحين ننظر في شعر الأمير عبد القادر نجد ضروباً
من هذا الحذف تزيد على أصابع اليدين عدداً، فهو يحذف المبتدأ والفاعل
والخبر الحال والمفعول به وأداة النداء والفعل والجار والمجرور، وقد يحذف
جملة، وسوى ذلك كثير على نحو ما يظهر في هذه الأبيات التي نسوقها تمثيلاً
لا حصراً:
ـ يثقن النسا
بي حيثما كنت حاضرا ولا تثقن في زوجها ذات
خلخال
أمير إذا ما
كان جيشي مقبلا وموقد
نار إذ لم يكن صالي([22">)
ـ وهذا الظبي
لا يرعى ذماما ولا
يرضى مؤانسة لجار
يتيه بدله
ويصول عمدا غني بالجمال فلا يداري([23">)
ـ بطيبة طاب
العيش ثم تمررت حلاوته
فالنحس أربى على السعد
أردد طرفي بين
وادي عقيقها وبين
"قباها" ثم ألوي إلى أحد
منازل من
أهواه طفلا ويافعا وكهلا
إلى أن صرت بالشيب في برد([24">)
هذه نماذج من
حذف "المبتدأ"، فأين دقة المسلك، ولطف المأخذ؟ وأين هذا الذي هو "شبيه
بالسحر" على حد تعبير عبد القاهر؟ أرجو أن تنحي ما تراه في النص الأول من
الإضمار قبل الذكر، فهذه مخالفة نحوية أشرت سابقاً إلى أن في شعر عبد
القادر عدداً غير يسير منها، كما أرجو ألا ينافس صوت "جرير" في مدحه
"للحجاج" صوت عبد القادر في نفسك، فقد أغار عبد القادر على بيت جرير:
أم من يغار
على النساء حفيظة إذ
لا يثقن بغيرة الأزواج
قلت أرجو أن
تضرب صفحاً عن هذا الذي ذكرت، وأن تنظر إلى السياق الذي حذف فيه المبتدأ،
فهو سياق البطولة والفخر العريض بالذات، فإذا ظهرت كلمة "أمير" في هذا
السياق صرفت الأذهان عن الناس جميعاً إلا عن الشاعر، وإذا ما نفع الإتيان
بالمبتدأ؟ بل حاول أن تذكر المبتدأ المحذوف، فتقول: أنا أمير... الآن عرفت
أن العبارة قد خرجت إلى الغثاثة واعتلال الذوق، وعرفت أن في هذا الحذف
مسلكاً دقيقاً ومأخذاً لطيفاً وسحراً.
وسياق النص
الثاني سياق عاطفي بدوي ينفرد به هذا الظبي برشاقته، وإخلافه الموعد،
وصدوده عن سواه، ودلاله وغنجه، وليس بمنكر في هذا السياق سوى أن تذكر
المبتدأ المحذوف، فتقول، هو غني بالجمال أو: وهو غني... لأن السياق كله
مرصود لهذا المبتدأ، فذكرك له إفساد للشعر لا محالة لأنه يجعل الشطر الأخير
تتمة لما سبقه، والحال أن العكس هو الصحيح، فهذا الجمال هو سر ما سبقه من
دلال وصدود وإخلاف وعد.
وسياق النص
الثالث سياق ديني تملؤه أسماء أماكن مقدسة (طيبة ـ المدينة المنورة ـ وادي
العقيق، قبا، جبل أحد) تحمل معها سياقاً تاريخياً روحياً جليلاً. بعبارة
أخرى إن أسماء الأماكن تلج مجالا ًوظيفياً جديداً، فتغمر السياق بفيض روحي
نابع من ذاكرة الأمة ووجدانها، فأية جدوى من ذكر مبتدأ لا وجود للسياق
لولاه؟ ثم ألا ترى في هذا الحذف ما يشعرك بقربها من النفس، فهي في القلب
حيث الهوى؟ أما أن تقول: هذه منازل من أهواه، فتلك لعثمة لا يعرفها الشعر.
وقد يحذف
الشاعر "أداة النداء"، فيكشف عن ملاحة الحذف، ورغبة النفس فيه:
ـ بني لئن
دعاك الشوق يوما وحنت
للقا منا القلوب([25">)
ولن تتذوق
ملاحة هذا الحذف حتى تعرف أن هذا البيت من مقطوعة بعث بها الشاعر إلى ابنه
الأكبر وهو بعيد مشغول عن أهله بالجهاد، وقد استدار العام على غيبته أو
كاد. أفليس يعبر هذا الحذف الجميل عن الإحساس بالقرب النفسي على الرغم من
البعد المكاني؟ وأرجو أن تضم إلى دلالة هذا الحذف دلالة هذا التصغير (بني)
وما فيها من الحنو والإحساس بالقرب حتى يكاد يطوقه بيديه، وأن تضم إليهما
جميعاً هذا الالتفات البديع من المخاطب إلى المتكلمين "منا" عادلاً عن ضمير
الخطاب، ومتحدثاً عنه وعن أسرته جميعاً بضمير واحد، وماذا يضيرك لو ضممت إلى النداء المحذوف والتصغير والالتفات هذا "القصر"
الجميل في كلمة "اللقا" فكأنه يستعجله فيعدل عن مده ويقصره؟!!
وقد يحذف
"الفعل والفاعل أو نائبه والمفعول به معاً كما في قوله:
ـ وإنا بنو
الحرب العوان لنا بها سرور
إذا قامت وشانئنا عوى
لذاك عروس
الملك كان خطيبتي كفجأة
موسى بالنبوة في طوى([26">)
ـ فمنوا
بلقياكم، وإلا فلا بقا وريح
الفنا تسفي علينا إذا سفا([27">)
ـ أريد كتم
الهوى حينا فيمنعنى تهتكي.
كيف لا؟ والحب فضاح([28">)
لقد فوجىء
الأمير بالإمارة، فجاءته على غير انتظار، كما فوجىء موسى بكلمة من ربه في
الوادي المقدس طوى، فعبر عن هذه المفاجأة بإيجاز الحذف ـ كما ترى ـ ففجأنا
به كأنما يريد للغة أن تجسد المفاجأة!
ويبدو الحذف
في الموطن الثاني أدق وأبلغ، فالشاعر يمني النفس بلقاء الأحباب، ويرى بقاءه
مرهوناً بهذا اللقاء، ولذلك يطلب اللقاء صراحة "فمنوا بلقياكم" ثم يعمد
إلى هذا الحذف البديع "وإلا فلا بقا"، يريد "وإلا تمنوا فلا بقاء لي"،
فكأنما جزع من ذكر اللقاء في سياق النفي فحذفه ثم قصر الممدود وحذف الجار
والمجرور، فتضافر هذا الحذف كله للتعبير عن جزعه الشديد من عدم اللقاء،
وجاء الشطر الثاني من البيت مصوراً لهذا المعنى، فأدرك من دقة التعبير
وبلاغته ما لم يكن ليدركه لو ذكر المحذوف ومد المقصور.
ويأتي البيت
الأخير في سياق عاطفي هو سياق الحب الصوفي حيث "لا خير في اللذات من دونها
ستر"، فالشاعر عاشق يريد أن يصرح بحبه "فصرح بمن تهوى ودعني من الكنى"، وأن
يعلنه على الملأ. وفي هذا السياق المفعم بالرغبة الجارفة في الإعلان يأتي
حذف منع الإعلان "وكيف لا يمنعني" ليوائم مواءمة ساحرة سياق الرغبة، بل إن
الشاعر يسوق هذا الحذف في سياق أصغر هو سياق الاستفهام الإنكاري، ويردفه
بما يعزز رغبته فكأنها من طبيعة الحب ومعدنه "والحب فضاح". ولو أنك فليت
نفسك في غير استعجال لرأيت هذا الحذف "شبيهاً بالسحر" على حد تعبير عبد
القاهر.
ويطول بنا
الحديث لو مضينا نتتبع تفاريق هذا الحذف، ونحن نريد أن نمضي على اجتزاء
القول وطيه، فلنضرب عما نحن فيه بعد وقفة عجلى على قوله:
فما نسج داود
كنسج عناكب ولا
الغادة الهيفاء تزهو بخلخال
وما عيبها إلا
التغرب... ..............................([29">)
لقد مكر
الشاعر بالمتلقي مكراً جميلاً، فرفع القدرة على "التنبؤ" في الشطر الأول
إلى ذروتها، ثم قوضها، وأعادها إلى درجة "الصفر" بهذا الحذف الذي لم يكن
متوقعاً قط تاركاً للمتلقي أن يملأ هذا الفراغ النفسي والمعنوي الذي أحدثه
الحذف بما يحقق التناظر والمماثلة بين شطري البيت.
وتحدث عبد
القاهر في "الدلائل" عن الفصل والوصل، قال: "واعلم أنه ما من علم من علوم
البلاغة أنت تقول فيه: إنه خفي غامض، ودقيق صعب إلا وعلم هذا الباب أغمض
وأخفى وأدق وأصعب"([30">) وتحدث نقاد الشعر المعاصرون عن "الربط"
وأدواته وشروطه، وعن سوء الربط أو "عدم الاتساق" كما سماه جان
كوين([31">). ولا تنجم صعوبة دراسة "الربط" من وعورة المسلك ودقته
وغموضه فحسب بل تنجم أيضاً من انتشاره الواسع في الشعر، بيد أن التمثيل لا
الاستقصاء، قد يذلل طرفا ًمن هذه الوعورة. فنحاول النظر في هذه الأبيات:
ـ ما زلت
أرميهم بكل مهند وكل
جواد همه الكر لا الشوى
وذا دأبنا فيه
حياة لديننا
وروح جهاد بعدما غصنه ذوى([32">)
ـ كساه رسول
الله ثوب خلافة له
الحكم والتصريف والنهي والأمر([33">)
ـ يا عابد
الحرمين لو أبصرتنا لعلمت
أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب
خده بدموعه فنحورنا
بدمائنا تتخصب
أو كان يتعب
خيله في باطل فخيولنا
يوم الصبيحة تتعب([34">)
لا جناح على
الأمير إذا تناص مع "عنترة" في النص الأول، فالسياق سياق فخر وحماسة.
فلنضرب عن هذا التناص، وننظر إلى مافي البيتين من فصل ووصل. لقد عطف الشاعر
الجواد على المهند لما بينهما من علاقة ظاهرة، فكلاهما من عدة الفارس،
وعطف روح الجهاد على حياة الدين لما بينهما من علاقة حميمة، فحياة هذا
الدين تكاد تكون مقترنة بهذه الروح الجهادية. وهذا العطف ـ كما ترى ـ عطف
اسم على آخر، ففي الوصل اتساق يقوي دلالة التراكيب. ولكن الشاعر فصل حين
قال: "وذا دأبنا فيه حياة..." ولم يقل "وفيه...." فأين الدقة والجمال فيما
فعل؟ ولا يذهبن بك الظن إلى أن الوزن قد ألجأه إلى ذلك، فما أيسر أن يتصرف
الشاعر لو أحب الوصل! ولكن الذي ألجأه إليه هو الرغبة في تحديد وظيفة
الدأب، فلو أنه وصل لكان معنى ذلك أن الحرب دأبه، وأن فيها حياة الدين،
فكأن للحرب غايات شتى وحياة الدين واحدة منها، ولم يرد الشاعر ذلك قط بل
أراد أن الحرب دأبه لسبب واحد لا غير هو "حياة الدين" كاشفاً بذلك عن رؤيته
الدينية العميقة، فتأمّلْ دقة هذا الفصل وغموضه، وما فيه من أسرار.
ويتحدث الشاعر
عن أستاذه الصوفي، فيقول:
كساه رسول
الله ثوب خلافة له
الحكم والتصريف والنهي والأمر
فلماذا عدل عن
الوصل إلى الفصل، فقال: له الحكم، ولم يقل: وله الحكم؟ وعلة ذلك واضحة
للمتأمل، فالجملة الثانية متصلة من ذات نفسها بالجملة الأولى لأنها مؤكدة
ومبينة لها، ولذا فهي مستغنية عن ربط يربطها بها، وهذا شأن الجمل التفسيرية
عامة لأنها ـ كما يقول عبد القاهر ـ "كالصفة التي لا تحتاج في اتصالها
بالموصوف إلى شيء يصلها به، وكالتأكيد الذي لا يفتقر كذلك إلى ما يصله
بالمؤكد"([35">).
ويبدو
الاستئناف أغمض وألطف في النص الثالث، ففي كل من البيتين الثاني والثالث
سياق شرط جزاؤه محذوف، ولا يجوز أن يكون الشطر الثاني من أحدهما أو من
كليهما جزاء، وتكون الفاء رابطة، لأن الشاعر لم يرد الجزاء بل أراد
المقابلة والمفارقة، فكأنه قال: من كان يخضب خده بدموعه فله ما يشاء ـ أو
شيئاً من هذا القبيل ـ أما نحن فنحورنا بدمائنا تتخضب، ومن كان يتعب خيله
في باطل فهو وما يفعل، أما نحن فخيولنا يوم الصبيحة تتعب، وبذلك ينكشف معنى
"اللعب" في البيت الأول، وتتم المفارقة، فشتان بين رجل هادىء مطمئن يتعبد
الله، ويذرف دموعه، وآخرين يخوضون غمرات القتال فكأنهم في جفن الردى النائم
على حد تصوير أبي الطيب.
وليس كل وصل
الأمير وفصله من هذا الطراز، فقد يقع في شعره من سوء الربط أو عدم الاتساق
ما يعيا دونه النحاة والنقاد، وعلى نحو ما نرى في قوله:
صلى عليه الله
ما سح الحيا والآل،
ما سيف سطا في الجحفل([36">)
ـ مما عراكم
عسى فيه أقاسمكم أو
حمله كله لو كان يمكنني([37">)
ـ ومجي رفاتي
بعد أن كنت رمة وأكسبني
عمرا لعمري هو العمر([38">)
فأنت ترى أنه
قد عطف "الآل" على "الحيا"، وهو عطف بين متباعدين، وإنما أراد: وما اضطرب
الآل (السراب) إلاّ إذا أراد بـ "الآل" آل الرسول ()،
وقديماً التمس أهل الصناعة لجرير العذر في قوله: "وزججن الحواجب والعيونا"،
فقالوا: أراد وكحلن العيون لأن التزجيج لا يكون للعيون، ولعل الذي ساعدهم
على ما قالوا هو العلاقة الوثيقة بين الحواجب والعيون، وليس بين المطر
والسراب ما يعين على التماس العذر.
وهو في
البيتين الثاني والثالث يعطف جملة اسمية على جملة فعلية في تنافر فظ تزوّر
دونه الأسماع!!
وتحدث عبد
القاهر عن التقديم والتأخير، قال: "هو باب كثير الفوائد، جم المحاسن، واسع
التصرف. بعيد الغاية"([39">)، ثم قال: "وقد وقع في ظنون الناس أنه يكفي
أن يقال إنه قدم للعناية، ولأن ذكره أهم، من غير أن يذكر من أين كانت تلك
العناية؟ وبم كان أهم"([40">) وأفاض البلاغيون في الحديث عن وظائف
التقديم والتأخير. وفعل مثل ذلك نقاد الشعر والأسلوبيون، فقد عد "جان كوين"
التقديم والتأخير مجاوزة شعرية (انحرافا) بالقياس إلى لغة
النثر)([41">) ، وذكر أن البلاغيين "عرفوا مبحث التقديم والتأخير
باعتباره الصيغة الخاصة بالعاطفة([42">)، وتحدث الأسلوبيون حديثاً
طويلاً عن "التعبيرية"، ورأوا مفهوم "الاختبار" وثيق الارتباط بها، وتحدثوا
عن وظائف التقديم والتأخير كالتأكيد، والارجاء والتشويق، والشحنة
العاطفية، والتأثرية وسواها([43">). وإذاً لا مناص من الوقوف ـ ولو
قليلا ـ على "التقديم والتأخير" في شعر الأمير عبد القادر لعلنا نرى بعض ما
فيه من محاسن.
ـ إلى الله
أشكو ما ألاقي من النوى
وحملي ثقيل لا تقوم به الأيدي
بطيبة طاب
العيش ثم تمررت حلاوته فالنحس أربى على السعد([44">)
ـ وتاهوا فلم
يدروا من التيه من هم
وشمس الضحى من تحت أقدامهم عفر
وفي شمها حقاً
بذلنا نفوسنا فهان علينا كل شيء لـه قدر
هجرنا لها
الأحباب والصحب كلهم
فما عاقنا زيد ولا راقنا بكر
ولا ردنا عنها
العوادي ولا العدى
ولا هالنا قفر ولا راعنا بحر
وفيها حلالي
الذل من بعد عزة فيا حبذا هذا ولو بدؤه مر([45">)
ـ ألا أن قلبي
يوم بنتم وسرتم غدا حائماً خلف الظعون
يطير([46">)
فلو أنكم يوم
الفراق أعرتم قلوبكم لي إنني لصبور
النص الأول من
قصيدة يناجي بها الشاعر "جبل أحد"، وقد رد عليه غوابر الشوق، فتذكر الغزوة
التاريخية، والمسلمين الأوائل، ونازعته النفس إليهم، فذكر البين الوشيك،
ودموعه ونيران قلبه، وعري قلبه من الصبر...
وإذا فالسياق
سياق وجداني ديني. فإذا نظرنا في البيتين المذكورين من هذه القصيدة رأينا
تقديم "الجار والمجرور: إلى الله، بطيبة"، ولست أظن هذا التقديم إلا
استجابة للسياق وتتميماً للجو الديني الذي تتحرك فيه القصيدة، ومن غير
المنتظر في هذا السياق أن يقدم الشكوى من النوى على من ترفع إليه هذه
الشكوى، أو أن يقدم طيب العيش على ذكر مدينة الرسول .
وفي البيت
الأول من النص الثاني يتحدث الشاعر عن تجربة "الوجد الصوفي" حيث يستحكم
التيه بالمتصوفة فتتماهى الأشياء، وتختلّ نواميس الكون، ونرى الشاعر في هذا
البيت قدم الجار والمجرور "من التية، من تحت أقدامهم" فكان تقديم "التيه"
تقوية لكلمة "تاهوا" في أول البيت، تعبيراً عن سطوة هذا التيه على عقولهم
وأفئدتهم، وكان تقديم "من تحت أقدامهم" ملائماً لكلمة "عفر"، ومعبراً عن
اختلال نواميس الكون، وإلا فكيف تكون شمس الضحى معفرة بالتراب؟! وبذلك
تتجانس دلالات البيت وتتآزر، وتغدو الحياة بقبضة التيه الصارمة. وفي
الأبيات التي تلي البيت الأول يتحدث الشاعر عن الخمرة الصوفية ـ وهي أكثر
الرموز الصوفية ثراء وتكراراً ـ ويقدم الجار والمجرور وما يتبعه في بيت
"وفي شمها..." ويقدم الجار والمجرور في الثلاثة الأبيات الأخرى (هجرنا لها
الأحباب...، ولا ردنا عنها العوادي...، وفيها حلالي الذل...). وحين ننظر في
هذه الضمائر المجرورة (شمها، لها، عنها، فيها) نعلم أنها جميعاً تعود إلى
"الخمرة" التي تنزل من نفس الشاعر منزلة لا تدانيها أخرى. وإذا هي أحق
بالتقديم من سواها، فإذا تأخرت بها الرتبة النحوية فلا مناص من الانحراف عن
مقتضيات "النحو" للتعبير عن مقتضيات "الإحساس" ومتى كان الشعر يذعن
لمقتضيات النحو كأنما قصت خوافيه وقوادمه؟!!
وسياق النص
الثالث سياق عاطفي ريان، تترقرق فيه المشاعر والانفعالات، وتملأ أرجاءه
الكلمات التي ترشح منها العاطفة حتى تكاد تسيل كالقلب والبين والظعون ويوم
الفراق والصبر... وتحف بهذا السياق ملامح بدوية مثقلة بالشجن (الظعون)،
وملامح عذرية ريا بالعاطفة (القلب الحائم، واستعارة القلب و...)، وتتآزر
هذه الأمور جميعاً للتعبير عن موقف إنساني أصيل، هو موقف الفراق بمواجعه
وأحزانه، فإذا نظرنا في النص مرة أخرى رأينا الشاعر يقدم يوم البينونة ويوم
الفراق (يوم بنتم، يوم الفراق)، أو قل ـ بعبارة أدق ـ يكرر تقديم يوم
الفراق، فيكشف عن مكانته في نفسه، وعن شدة وطأته عليها. ويقدم الظرف
المتعلق بالمفارقين (خلف الظعون يطير)، فيكشف مرة أخرى عن جزعه من هذا
الفراق، وانصداع نفسه له. هل نكرر مرة أخرى: لابد من الانحراف عن مقتضيات
"النحو" للتعبير عن مقتضيات "الإحساس والعاطفة"؟
ولقد آثرت حتى
الآن ألا أخلط الحديث إلا في النادر اليسير الذي لا يستقيم القول بغيره،
فجعلت لكل ظاهرة من ظواهر التركيب مقداراً من القول، ولكنني كنت حريصاً على
أن أضم المقدار إلى أخيه، وأشد بينهما الوثائق للكشف عن مفهومين "للرؤية"
في القصيدة هما زاوية الرؤية ودرجة نفاذها، أو امتدادها وعمقها. وقد بدت
لنا شخصية الشاعر "شخصية بدوية بطولية مؤمنة"، أي بدا لنا أن الرؤية في
القصيدة رؤية داخلية تقدم تصور الشاعر للحياة وللكون من حوله. ولئن كانت
رؤيته للبداوة رؤية عاشق لها مشغوف بها، إن رؤيته للبطولة رؤية عميقة
موصولة برؤيته الدينية أو مشتجرة بها، أو على حد تعبيره في سياق الفخر
ببطولته: "وذا دأبنا فيه حياة لديننا..." ولعل من تمام القول أن أصل طرف
هذا الحديث بمقدار من القول على "الموسيقا" في ديوان هذا الشاعر.
لقد علمنا
تاريخ الشعر العربي أن التغير في الشكل تغير بطيء أو شديد البطء، فقد ظلت
القصيدة العربية محافظة على شكلها الجاهلي حتى ثورة الشعر الحديث باستثناء
محاولات يسيرة لم يكتب لها الذيوع والانتشار كالموشحات وغيرها. وقد أخفقت
جهود طيبة كثيرة في استنباط أحكام دقيقة حول علاقة كل بحر من بحور الشعر
بألوان عاطفية بأعيانها، ولكن هذه الجهود كشفت في كثير من الأحيان عن قدرة
عالية على تذوق النصوص تذوقاً حاراً على مستوياتها اللفظية والتركيبية
والدلالية والموسيقية معاً، وتأسيساً على ذلك سنحاول الوقوف على موسيقا شعر
هذا الشاعر معتمدين على بعض المفاهيم العامة، وعلى ما يسعفنا به الذوق
والخبرة.
تغن بالشعر
إما أنت منشده إن
الغناء لهذا الشعر مضمار
هكذا فهم
الشاعر القديم تلقي الشعر العربي، ومن أجل هذا وغيره بات بأبواب القوافي
يحوكها، ويقوم منآدها، وإذا كان الغناء مضماراً لهذا الشعر كان لابد أن
يكون فيه مقادير من الإيقاع أو الوزن النابع من تردد زمني يمتع السامع
والمنشد معاً. ولكن هذا الوزن ليس عنصراً خارجياً يضاف إلى المعنى بل هو
جزء من سياق المعنى، أو بعبارة جان كوين "لا وجود للوزن إلا باعتباره علاقة
بين المعنى والصوت، وهو إذا بناء صوتي معنوي"([47">). ويضيف "وإذا وجد
صراع بين البحر والتركيب فإن البحر دائماً هو الذي ينتصر"([48">).
والقافية عنصر مهم في موسيقا الشعر، وهي الأخرى ليست عنصراً خارجياً يضاف
إلى الشعر، بل هي جزء من سياق المعنى، "ووظيفتها الحقيقية لا تظهر إلا إذا
وضعت في علاقة مع المعنى"([49">)، وهي القاعدة التي يبنى عليها البيت
وربما وجهت مساره. وإذا كان قطع التوازي الصوتي المعنوي عنصراً إيجابياً في
الشعر، فإن القافية في الأبيات المتتابعة تنهض بهذه الوظيفة فتحدث تشابهاً
في الصوت وعدم تشابه في المعنى، وتظهر مدلولات مختلفة من خلال دوال
متشابهة([50">). وكلما كانت القوافي "شديدة الاتفاق فيما بينها في
الصوت، وشديد الاختلاف فيما بينها في المعنى"([51">) كانت أقدر على
القيام بهذه الوظيفة على نحو ما نرى في لزوميات أبي العلاء المعري مثلاً.
ويرى لوتمان
"أن وقع القافية في نفسية المتلقي يرتبط مباشرة بحظها من المباغتة أو عدم
التوقع، وهذا يعني أنها ذات طابع دلالي أكثر مما هي ذات طابع نطقي أو صوتي،
وليس من الصعب الاقتناع بهذه الحقيقة إذا قارنا ما بين القوافي التي تعتمد
على التكرار لفظاً ومعنى والقوافي التي تشترك لفظاً وتختف معنى، ففي كلتا
الحالتين نرى التطابق الصوتي والإيقاعي واحداً غير أن اختلاف المعاني، بل
انبتات ما بينها في حالة المشترك اللفظي يجعل القافية تبدو أكثر غنى، وأما
في حالة تكرار القوافي لفظاً ومعنى فإنها تترك في النفس انطباعاً ضئيلاً،
بل لا يكاد يعترف بها قوافي على الإطلاق"([52">).
وأنا أظن أن
الأمير عبد القادر اعتنى بقوافيه عناية تلفت النظر، بل لعله أعنت نفسه في
عدد منها انسجاماً مع روح العصر، ورغبة منه في إبراز تفوقه، فكأنما أراد ـ
كما أراد عنترة من قبل ـ أن تسري دماء الفروسية في عروق الشعر، فلا ينقاد
جواده الشامس إلا لفارس عركته مضائقه. ولست أريد بذلك أنه يتحامى عيوب
القافية، فهذا أيسر مطالبه، ولكنني أريد ما يحمل نفسه عليه من "لزوم ما لا
يلزم"، ومن قيود ثقيلة أخرى يكبل شعره بها حتى يبدو كأنما قطعت يداه من
المعصمين!! وأي كبل أثقل على الشعر من أن يبني الشاعر قصيدته كاملة على
كلمة واحدة بعينها تتكرر في نهاية كل بيت؟!! هاهو ذا يرد على صديق أرسل
إليه قصيدة مثقلة بالمحسنات البديعية، فإذا هو يجنح إلى هذه القصيدة
"الخالية" تدفعه إلى ذلك دفعاً روح العصر، والرغبة في التفوق:
خليلي وافت
منكم ذات خلخال تتيه
على شمس الظهيرة بالخال
تميس فتزري
بالغصون تمايلا تروح
وتغدو في برود من الخال
لها منطق حلو
به سحر بابل رخيم
الحواشي وهو أمضى من الخال([53">)
وتمضي القصيدة
على هذا النحو لا تفارقه ولا تحيد عنه، فيتكرر "الدال" عينه في نهاية كل
بيت، ولكن "المدلول" يختلف كلَّ مرة!! ومما لا ريب فيه أنّ القافية هنا
تؤدي وظيفتها على أتم وجه، فتقطع التوازي بين الصوت والمعنى بل تبتره بترا.
ولكنني ـ على الرغم من ذلك ـ لا أستملح هذا التصنيع لأنه يرفع درجة
"التنبؤ" إلى درجة "اليقين"، وبذلك يلغيها، ويورث النفس قدراً من الملالة
لا يدفع، ويتحول بالشعر من نشاط خلاق إلى مهارة لغوية خاملة.
وقد يخفف من
وطأة هذا القيد، فيسترد الشعر بعض روحه، وينهض مرفوفاً يروض جناحيه كما نرى
في هذه الأبيات:
إلى الصوت مدت
تلمسان يداها ولبت
فهذا حسن صوت نداها
وقد رفعت عنا
الإزار فلج به وبرد
فؤاداً من زلال نداها
وذا روض خديها
تفتق نوره فلا
ترض من زاهي الرياض عداها
ويا طالما
صانت نقاب جمالها عداه
وهم بين الأنام عداها([54">)
فقد حقق
الجناس هنا وظيفة القافية دون أن يفسد الشعر، بل لعله منحه بعضاً من
الرونق. وقد يجنح إلى "لزوم ما لا يلزم" ولكنه لا يلتزمه على امتداد
القصيدة، بل يحسو منه نغبة أو أكثر ثم ينصرف عنه كما في هذه الأبيات:
تسائلني أم
البنين وإنها لأعلم من تحت السماء بأحوالي
ألم تعلمي يا
ربة الخدر أنني أجلي
هموم القوم في يوم تجوالي
وأغشى مضيق
الموت لا متهيباً وأحمي
نساء الحي في يوم تهوال([55">)
ولا ريب في أن
هذا السياق الذي يقترن فيه الحب بالبطولة سياق فخم جليل، وهو سياق عريق في
شعر البطولة القديم (عنترة في المعلقة على التمثيل لا الحصر)، ولا ريب
أيضاً في أن البحر الطويل بإيقاعاته الرصينة يلائم هذا السياق، ويزيده
رصانة وجلالاً. وحقاً تقوم القافية في الأبيات المتتالية بقطع التوازي
الصوتي المعنوي، ولكنها في كل بيت على حدة تؤدي وظيفة مناقضة لأنها تمثل
وقفاً صوتياً ومعنوياً في آن نظراً لعدم ارتباط البيت تركيبياً بالبيت الذي
يليه، وهي بتقارب عنصريها البنائيين (الصوت والمعنى) تزيد من قدرة الرسالة
على التوصيل أو الإبلاغ. وهذا ملمح عريق في الشعر العربي القديم، وشعر عصر
النهضة.
وقد يحرص
أحياناً على المجيء في نهاية البيت بكلمتين متجانستين أو متضادتين في
الدلالة، ثم يشفعه ببيت ـ أو أكثر ـ في نهايته كلمتان على وزن الكلمتين في
البيت السابق، وهذا هو "التطريز" الذي تحدث عنه أبو هلال أو هو قريب منه،
فيزيد بذلك موسيقا النص وفرة، ثم تأتي ألف الإطلاق فتحدث إشباعاً موسيقياً
بامتداد النفس. وأكثر ما يظهر هذا الصنيع في القصائد الدينية التي نجتزىء
منها هذه الأبيات تمثيلاً لا حصراً:
ـ يا ربّ يا
رب يا ربّ الأنام ومن
إليه مفزعنا سراً وإعلانا
يا ذا الجلال
وذا الإكرام مالكنا يا حيّ يا مولياً فضلاً وإحسانا
يا ربّ أيّد
بروح القدس ملجأنا عبد المجيد ولا تبقيه حيرانا([56">)
ـ الحمد لله
تعظيماً وإجلالاً ما أقبل اليسر بعد العسر إقبالاً
وما أتت نفحات
المسك ناسخة من المكاره أنواعاً وأشكالاً
فالله أكرمني
حقاً واسعدني وحطّ عني أوزاراً وأثقالاً
قد طال ما
طمحت نفسي وما ظفرت لكن
لوصل أوقاتاً وآجالاً([57">)
ونحن نحس في
هذين المقطعين وأشباههما توازياً إيقاعياً متكرراً يحدث بتآزره مع القافية
وألف الإطلاق انسجاماً صوتياً عميق الأثر في النفس (سراً وإعلاناً، فضلاً
وإحساناً// أنواعاً وأشكالاً، أوزاراً وأثقالاً، أوقاتاً وآجالاً)، ولسنا
نبعد عن الحق إذا قلنا: إن هذا الانسجام الصوتي يتواءم مع الانسجام النفسي
في القصيدة، ولعله نابع منه، ويكمله.
وإذا لم تكن
سمعة "التضمين" في نقدنا القديم طيبة ـ وهو تعلق معنى بيت ببيت يليه ـ وكان
يحسن بالشاعر أن يتحاماه، فإن نقاد الشعر المعاصرين يعدونه فضيلة حتى إن
الشعراء المعاصرين قد ولعوا به وهاموا.
ويرى "جان
كوين" أن في التضمين "لونا من انقطاع التوازي بين الصوت والمعنى وهو تواز
يؤكد عادة قوة بناء العبارة"([58">). وأنا أعتقد أن علينا أن ننظر إلى الشعر العربي في ذاته، وألا نقيسه ببنية شعرية أخرى
تحققت في سياق تاريخي اجتماعي مختلف عن السياق التاريخي الاجتماعي للشعر
العربي. ولكن هذا الاعتقاد لا يحول دون النظر في شعر الآخر ونقده والإفادة
منهما. وفي ضوء هذه النظرة لا أعد التضمين عيباً، ولا أعده فضيلة، ولكنني
أحتكم في أمره إلى السياق، فإذا كان السياق يستدعيه أو يقبله رضيت به، وإلا
فلا. وفي شعر الأمير عبد القادر مقدار غير يسير من التضمين، ولكن جله جاء
في سياق وجداني عاطفي أو في سياق ديني روحاني حيث شبوب العواطف والمشاعر
وتدفقها، فكأن البيت يضيق على احتواء هذا التدفق فيمتد إلى البيت التالي
ويغمره كما في هذا المقطع:
أيا سامع
الشكوى ويا دافع البلا ويا
منقذ الغرقى ويا واسع البر
تجهت لكم وجهي
بأكرم شافع محمد
المبعوث للعبد والحر
لترسل لي عند
الوفاة مبشرا برضوانك
الأوفى وفوزي في الحشر([59">)
وليس يخفى ما
في هذا المقطع من عمق العاطفة الدينية وتدفقها، ومن ضراعة الشاعر الملتاعة
ولهفته الضارعة، فهل يقوى بيت واحد على النهوض بهذا العبء العاطفي الثقيل؟
لقد شكلت الأبيات جميعاً جملة كبرى واحدة ربط بين وحداتها (أبياتها)
التضمين، فكشف عن وحدة الموقف النفسي وجلاها. وأرجو أن تنظر إلى جمل النداء
ذات البنية الواحدة (أداة نداء أو استغاثة + منادى اسم علم مضاف إلى
مفعول)، وذات الإيقاع الواحد، ولعل وحدة التركيب ووحدة الإيقاع المتكررتين
أربع مرات تدلان دلالة عميقة على موقف الشاعر من ربه، فهو موقف ثابت لا
يخامره الشك، ولا يعتريه التغير، ألم نقل إن الإيقاع ذو علاقة وثيقة
بالمعنى؟ وانظر إلى هذه القافية (البر)، ثم قارنها بالمضاف إليه في جمال
النداء السابقة تر أن هذا "البر" ينقذ من الغرق والبلاء والشكوى، فتأمل!!
ألا ترى أن هذه القافية تنتمي إلى أنظمة مختلفة صوتية وإيقاعية ودلالية
معاً؟ إنها ـ كما قلنا ـ ذات علاقة وثيقة بمستوى المعنى في النص. وقريب من
هذا قوله:
يا سواد العين
يا روح الجسد يا
ربيع القلب يا نعم السند
كنت لي قرة
عين وبها هام قلبي لا بمال وولد([60">)
تكرار إيقاعي
يوائم هذا السياق العاطفي الصافي النقي، ويعمقه في النفس، وقافية ثرية
الدلالة، فسند الإنسان هو ربيع القلب وروح الجسد وسواد العين.
وقد مر بنا في
مطلع هذا البحث أنماط من التكرار شتى، ولو أعدت النظر فيها لرأيت أن شطرا
غير يسير منها يشكل تكراراً إيقاعياً يمكن ربط دلالته بالسياق بيسر، ولا
ضير في أن نعود إلى ضرب من هذا التكرار، ونبين دلالته:
كم نافسوا كم
سارعوا كم سابقوا من
سابق لفضائل وتفضل
كم حاربوا كم
ضاربوا كم غالبوا أقوى العداة بكثرة وتمول
كم صابروا كم
كابروا كم غادروا أعتى
أعاديهم كعصف مؤكل
كم جاهدوا كم
طاردوا وتجلدوا للنائبات بصارم وبمقول
إن هذا
الإيقاع المتكرر لا يحتاج إلى فطنة لملاحظة صلته بسياق الحرب، وتعبيره عن
أجوائها، فهو في قصره ونبرته القوية الصاخبة وتلاحقه أشبه بقرع طبول الحرب،
وإذا فالإيقاع هنا ـ كما هو في مواطن أخرى ـ ذو دلالة تكمل دلالات النص
الأخرى، وتكشف عن انسجام العناصر البنائية وتضافرها.
وقد يعمد
الأمير عبد القادر أحياناً إلى قوافٍ ضئيلة القيمة الفنية نسبياً، وهي ضآلة
ناجمة من معرفة جزء من المعنى قبل سماع القافية كما في هذا المقطع:
ليتهم إذا
ملكوني أسجحوا ليتهم
إذا ما عفوا أن يصفحوا
رحلوا العبس
ولم أشعر بهم ليت
شعري أي واد صبحوا؟
أخذوا قلبي
وماذا ضرهم أن يكونوا بجميعي جنحوا؟([61">)
فالمتلقي يعرف
سلفاً جزءاً من معنى القافية هو هذا الجزء الذي تدل عليه واو الجماعة،
ولذا فإن حظ هذه القافية من المباغتة أو عدم التوقع ضئيل. ولكن هذا النوع
من القوافي ـ كما ذكرت ـ نادر في ديوان الشاعر حتى يكاد يحسب على أصابع
اليد الواحدة.
ونخلص من هذا
كله إلى أن الإيقاع والقافية عنصران أصيلان في البنية الشعرية، وليسا
عنصرين خارجيين مضافين إليها، وأن وظيفتهما لا تظهر إلا بالنظر إلى المستوى
الموسيقي في القصيدة بوصفه بناء صوتياً معنوياً. وقد استطاع الأمير عبد
القادر أن يوائم بين هذا المستوى والمستويات الأخرى في القصيدة مواءمة طيبة
في جانب غير يسير من شعره.
المصادر
والمراجع :
1 ـ اتجاهات
البحث الأسلوبي: د/ محمد شكري عيّاد. دار العلوم/ الرياض 1985م.
2 ـ المرايا
المحدّبة: د/ عبد العزيز حمودة. سلسلة عالم المعرفة/ الكويت 1998م.
3 ـ المقامات:
ط1: عبد الفتاح كيليطو. ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي. دار توبقال 1993م.
4 ـ بناء لغة
الشعر ط3: جان كوين. ترجمة د/ أحمد درويش. دار المعارف بمصر 1993.
5 ـ تحليل
النص الشعري: يوري لوتمان. ترجمة د/ محمد فتوح أحمد. دار المعارف بمصر
1995م.
6 ـ دلائل
الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني. قرأه وعلّق عليه: محمود ومحمد شاكر. مكتبة
الخانجي بالقاهرة. بلا تاريخ.
7 ـ ديوان
الأمير عبد القادر الجزائري: ط1: شرح وتحقيق د/ ممدوح حقي. بلا تاريخ.
8 ـ شعرنا
القديم والنقد الجديد: د/ وهب روميه. سلسلة عالم المعرفة/ الكويت 1996م.
9ـ قضايا
الشعرية: يا كبسون. ترجمة: محمد الولي ومبارك حنون. دار توبقال النشر
1999م.
10 ـ لغة
الشعر بين جيلين: د/ إبراهيم السامرائي. دار الثقافة/ بيروت، بلا تاريخ.
11 ـ مقدمة في
نظرية الأدب ط2: د/ عبد المنعم تليمة. دار العودة / بيروت 1979م.
12 ـ موقف من
البنيوية: د/ محمد شكري عياد. مجلة فصول. المجلد الأول/ العدد الأول 1979م.
________________________________________
([1">) الديوان، ص92.
([2">) الديوان، ص92.
([3">) الديوان/ ص51.
([4">) أبيات ابن الدمينة:
وقد زعموا أن
المحب إذا دنا يمل،
وأن النأي يشفي من الوجد
بكل تداوينا
فلم يشف ما بنا على
أن قرب الدار خير من البعد
علماً أن قرب
الدار ليس بنافع إذا
كان من تهواه ليس بذي ود
وأبيات الأمير
عبد القادر:
وإن قلتُ
يوماً: قد تدانت ديارنا لأسلو
عنهم زادني القرب أشجانا
فما القرب لي
شافٍ ولا البعد نافع
وفي قربنا عشق دعاني هيمانا
فيزداد شوقي
كلما زادت قربه ويزداد
وجدي كلما زدت عرفانا
([5">) كان حقه كلمة "رضوان"
أن تكون مرفوعة، وفي ديوان الشاعر عدد غير قليل من هذه المخالفات النحوية.
([6">) الديوان، ص109.
([7">) الديوان، ص127.
([8">) الديوان، ص135.
([9">) الديوان، القصيدة السابقة.
([10">) الديوان، ص109.
([11">) تحليل النص الشعري، يوري لوتمان، 174.
([12">) دمر: ضاحية من ضواحي مدينة دمشق.
([13">) المقامات، عبد الفتاح كيليطو، ص127.
([14">) الاستطراد إلى لوحة الصيد في القصيدة الجاهلية مثلاً،
انظر وهب رومية: شعرنا القديم والنقد الجديد.
([15">)
الديوان، ص135، وقد أثبت محقق الديوان كلمة "سائِفها" بالقاف بدلاً من
الفاء في طبعتي الديوان ولعل الذي أدخله في هذا الوهم هو ذكر الحاوي، وقد
أثبتنا الصواب.
([16">) الديوان، ص22.
([17">) زهير بن أبي سلمى:
علون بأنماطٍ
عتاق وكلّة ورادٍ
حواشيها مشاكهة الدم
المثقب
العبدي:
علونَ بكلةٍ
وسدلن أخرى وثقبِّنَ
الوصاوص للعيون
عمر بن أبي
ربيعة:
وكنَّ إذا
أبصرنني أو سمعنني سعينَ
فرقعنَ الكوى بالمحاجر
([18">) الديوان، ص41.
([19">) كان حقّ هذه الكلمة النصب على الحال، ولكنه جاء بها على
هذا النحو متابعة لرأي ضعيف أو مخالفة للقاعدة.
([20">) الديوان، ص162.
([21">) دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، ص146، قرأه وعلق
عليه: محمود محمد شاكر.
([22">) الديوان، ص20.
([23">) الديوان، ص40.
([24">) الديوان، ص126.
([25">) الديوان، ص65.
([26">) الديوان، ص28.
([27">) الديوان، ص40.
([28">) الديوان، ص152.
([29">) الديوان، ص 48.
([30">) الدلائل، عبد القاهر الجرجاني، 231.
([31">) بناء لغة الشعر جان كوين، انظر الباب الخامس، المستوى
المعنوي: الربط.
([32">) الديوان، ص28..
([33">) الديوان، ص135.
([34">) الديوان، ص56، وقد ذكر هذه الأبيات الدكتور شوقي ضيف
ونسبها إلى عبد الله المبارك، انظر كتابه: العصر العباسي، ط9: ص404.
([35">) الدلائل: عبد القاهر، 227.
([36">) الديوان، ص92.
([37">) الديوان، ص64.
([38">) الديوان، ص135.
([39">) الدلائل، الجرجاني، 106.
([40">) الدلائل الجرجاني، 108.
([41">) بناء لغة الشعر، جان كوين، ص215.
([42">) بناء لغة الشعر، جان كوين، ص222.
([43">) اتجاهات البحث الأسلوبي، شكري 37 ـ عياد.
([44">) الديوان ص126.
([45">) الديوان ص135.
([46">) الديوان ص114.
([47">) بناء لغة الشعر، جان كوين، 66.
([48">) بناء لغة الشعر، جان كوين، 73.
([49">) بناء لغة الشعر، جان كوين، 98.
([50">) بناء لغة الشعر، جان كوين، 100.
([51">) بناء لغة الشعر، جان كوين 102.
([52">) تحليل النص الشعري: يوري لوتمان، ص92، 93.
([53">) الديوان، ص48.
([54">) الديوان، ص20.
([55">) الديوان، ص20.
([56">) الديوان، ص109، وفي البيت الثالث مخالفة نحوية، وقد
ذكرت غير مرة أن في الديوان عدداً غير يسير من هذه المخالفات أو الضرائر
الشعرية.
([57">) الديوان ص105.
([58">) بناء لغة الشعر، جان كوين، ص74.
([59">) الديوان، ص150.
([60">) الديوان، ص89.
([61">) الديوان، ص162.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق