الأربعاء، 1 مايو 2013

مع كتاب " كشف الشبهات " (2)


قلنا إن البدع التي واجهها الشيخ - خصوصاً بدع المتصوفة - لم تكن جديدة ، كما أنها كانت منتشرة خارج حدود الجزيرة العربية بصورة تفوق كثيراً ما هو موجود ضمن أرجاء الجزيرة . وقد كانت موضع استنكار ورفض من قبل عموم علماء المسلمين المعتبرين ، ونظر إلى بعضها على أنها أعمال شركية وكفرية ، إلا أنه لم يتم الوصول بذلك الكفر إلى درجة الإخراج من الملة ، بل كان يتم الإعذار بالجهل والتأويل ، وحتى من اعتبروها كفراً مخرجاً من الملة فإن مواقفهم ظلت نظرية ومحاطة بالكثير من الضوابط والشروط والقيود ، أما الشيخ محمد بن عبدالوهاب فقد اعتبرها كفراً مخرجاً من الملة وانتقل من التوصيف إلى التعيين .
لقد بنى الشيخ كل نظريته حول التكفير والعنف على أساس القول بالتماثل بين أهل البدع في زمانه وبين المشركين الذين واجههم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فما الذي كان يريد أن يصل إليه من القول بوجود ذلك التماثل ؟
هذا هو موضوع الفقرة التالية من كتاب الشيخ ، والتي وضعها تحت عنوان " لماذا قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين " ؟
يقول الشيخ " فإِذَا تَحَقَّقْتَ أنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِهَذَا – أي بتوحيد الربوبية - وَأَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْهُمْ في التَوُحِيدِ الَّذِي َدَعَاهُمْ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَعَرَفْت أن التَّوحِيدَ - الَّذِي جَحَدُوهُ - هُوَ تَوْحِيدُ العِبَادَةِ ، الَّذِي يُسَمِّيهِ الْمُشْرِكُونَ فِي زَمَانِنَا الاعْتِقَادَ ، وَكَانُوا يَدْعُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْلاً وَنَهَاراً ...... ، وَعَرَفْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاتَلَهُمْ عَلَى هَذَا الشِّرْكِ وَدَعَاهُمْ إِلَى إِخْلاَصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وحده ...... ، وَتَحَقَّقْتَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاتَلَهُمْ لِيكُونَ الدُّعَاءُ كُلُّهُ لِلَّهِ ، وَالذَّبْحُ كُلُّهُ لِلَّهِ ، وَالنَّذْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ ، وَالاسْتِغَاثَةُ كُلُّهَا بِاللَّهِ وَجَمِيعُ أنْوَاعِ الْعِبَادَةِ كُلُّهَا لِلّهِ ، وَعَرَفْتَ أنَّ إِقْرَارَهمْ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لَمْ يُدْخِلْهُمْ فِي الإِسْلاَمِ ، وَأَنَّ قَصْدَهُم الْمَلائِكَةَ ، أَوْ الأنْبِيَاءَ ، أَوْ الأَوْلِيَاءَ يُرِيدُونَ شَفَاعَتَهُمْ وَالتَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ بِذَلِكَ هُوَ الَّذِي أَحَلَّ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ عَرَفْتَ حِينَئِذٍ التَوْحِيدَ .... "
هنا يصل الشيخ إلى النتيجة التي تقود إليها المقدمة التي وضعها ، وهي أن حرب المشركين واستحلال دمائهم وأموالهم كانت بهدف أن يكون " الدُّعَاءُ كُلُّهُ لِلَّهِ ، وَالذَّبْحُ كُلُّهُ لِلَّهِ ، وَالنَّذْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ ، وَالاسْتِغَاثَةُ كُلُّهَا بِاللَّهِ وَجَمِيعُ أنْوَاعِ الْعِبَادَةِ كُلُّهَا لِلّهِ "
هذه النتيجة – استحلال الدماء والأموال – سينقلها الشيخ لاحقاً إلى أهل البدع العقائدية من أهل الجزيرة العربية ممن يسميهم الشيخ " مشركي زماننا " !!. بعد ذلك سيصبح تطبيق الفكرة أمراً متاحاً للسياسيين والمحاربين البسطاء والأتباع شبه الأميين !!
هذا الموقف العملي هو أمر خرج به الشيخ على إجماع الأمة . فالبدع التي أنكرها كانت موجودة على مدى قرون قبل ظهور دعوته ، ورغم ذلك فإنه لا أحد من العلماء المعتبرين دعم أو أقر إخراج مرتكبيها من الملة واستحلال دمائهم وأموالهم .
وقبل أن نواصل عرض هذا التأسيس لوجوب تكفير وقتل مشركي زمان الشيخ نود التعريف بدقة بمجمل المقدمات التي وضعها الشيخ والتي أوصلته إلى هذه النتائج .
لقد بنى الشيخ كل أفكاره عن التكفير والعنف استناداً إلى أربع مقدمات معرفية هي :
- الفصل التام - وليس فقط التمييز - بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية .
- الاعتقاد بأن مشركي عصر البعثة كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ولكنهم يرفضون توحيد الألوهية من خلال اتخاذهم الأصنام وسائط إلى الله تعالى .
- القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاتل المشركين و " استحل دماءهم وأموالهم " لرفضهم الإقرار بتوحيد الألوهية .
- المساواة بين مشركي عصر البعثة وبين أهل البدع العقائدية في زمان الشيخ .
هذه المقدمات هي عصب رؤية الشيخ التي بنى عليها رؤيته حيال مسائل التكفير والعنف .
الآن ، ماذا لو كانت هذه المقدمات غير صحيحة أو غير دقيقة ، خصوصاً وأنها توضع للتأسيس لمسألة في غاية الخطورة وهي تكفير المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم ؟! هذه المسألة لا تصح فيها المقدمات غير الصحيحة ولا القياسات غير الدقيقة ولا التعميمات غير المنصفة .
هل كان المشركون بالفعل كما قرر الشيخ " يَتَعَبَّدُونَ ، وَيَحُجُّونَ ، وَيَتَصَدَّقُونَ ، وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ .... " و " يَشْهَدُونَ أنَّ اللَّهَ هُوَ الخَالِقُ - وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّهُ لا يَرْزُقُ إِلاَّ هُوَ، وَلا يُحْيِي وَلا يُمِيتُ إِلاَّ هُوَ، وَلا يُدَبِّرُ الأَمْرَ إِلاَّ هُوَ ، وَأنَّ جَميع اَلسَّمَاوَاتِ السَّبْعِ ، وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَالأَرَضِينَ السَّبْعِ وَمَنْ فِيهَن كُلَّهُمْ عَبِيدُهُ ، وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَقَهْرِهِ " ؟!
الواقع أن هذه التقريرات مليئة بالاختزال وعدم الدقة والاكتفاء بالعناوين دون الغوص في المضامين واستبعاد الجوانب المناقضة للصورة التي تم انتقاؤها من أحوال المشركين .
إذا كان الشيخ يريد قياس أهل البدع الاعتقادية في زمانه على المشركين - وهذا هو هدف الشيخ بالفعل - فينبغي أن يكون القياس دقيقاً ومحكماً وأن تكون الحالتان متطابقتين تمام التطابق ، خصوصاً وأن نتيجة القياس ستكون الخلوص إلى مشروعية التكفير والقتل ، وهما أمران خطيران ينبغي التحوط بشأنهما والتأكد من انتفاء الموانع وارتفاع الشبهات وامتناع التأويلات وحدوث الشرك المخرج من الملة دون أدنى شك .
كما قلنا فإن الصورة التي تم تقديمها عن المشركين مليئة بالاختزال والانتقاء وعدم الدقة والاكتفاء بالعناوين دون المضامين .
الآيات القرآنية التي أشارت إلى إقرار المشركين بتوحيد الربوبية ليست على النحو الذي ذكره الشيخ . فالقرآن كان يعرض لقطات متفرقة ومتنوعة من أحوالهم ويصور بعض الأوضاع المحتملة التي قد يتعرضون لها ، ومن بينها لحظات الخشية من الغرق في البحر .
هذه اللقطات المتفرقة حول الأوضاع الواقعية أو الاحتمالية التي قد يتعرضون لها توجد إلى جوارها لقطات أخرى مختلفة ، فالقرآن ينسب إلى المشركين الإلحاد ، كما في قوله تعالى ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ..... ). أما القول بأنهم يتخذون الأصنام وسائط إلى الله فهذا تصوير يعكس بعض أوضاعهم ، إلا أنه يوجد أوضاع أخرى أكثر وأوسع تؤكد بأن الحالة الغالبة لهم هي الاعتقاد بأن تلك الأصنام هي الآلهة وليست فقط وسائط إلى الله .
الأهم من ذلك أن الآيات التي أشارت إلى إيمان المشركين بتوحيد الربوبية لم تساو أبداً بين إيمانهم وبين إيمان المسلمين أو إيمان أهل الكتاب ، بل يتضح من مجمل الآيات التي صورت عقائدهم أن ذلك الإيمان كان استثنائياً وهلامياً وغائماً وغير مباشر .
وبالتالي فإنه حتى على صعيد الإيمان بتوحيد الربوبية فإن هنالك فوارق وتفاوتات كبيرة وعميقة ، ليس فقط بين إيمان المشركين وإيمان المسلمين ، بل حتى بين إيمان المشركين وإيمان أهل الكتاب .
وهكذا فالصورة التي قدمها الشيخ حول إقرار المشركين بتوحيد الربوبية ليست صورة كاملة ولا دقيقة ولا شاملة ، بل هي مجرد أجزاء منتقاة ومختزلة ومبتورة .
ترتيباً على ذلك فإن حديث الشيخ عن أن المشركين كانوا يتعبدون ويحجون ويتصدقون ينبغي أن توضع في إطار هذه الصورة الواسعة حول معتقداتهم المتنوعة وغير المطابقة لاعتقادات المسلمين الذين كانوا يقعون في بعض البدع العقائدية ، بل وغير المساوية حتى لاعتقادات أهل الكتاب .
لاحقاً بمشيئة الله سنواصل قراءة كتاب الشيخ حول " كشف الشبهات ".
ما هي الشبهات التي يود الشيخ كشفها أو الرد عليها ؟!
إنها تحفظات وتشكيكات وشبهات غير المنتمين إلى دعوته ، ومن بينها مواقف الراغبين في القبول بدعوته ولكنهم يتحفظون حيال وجوب تكفير أهل البدع العقائدية واستحلال دمائهم وأموالهم !!
سنرى لاحقاً كيف يرد الشيخ على تحفظاتهم ومقدار الحسم الذي كان يعتقده حول وجوب تكفير وقتل أهل البدع العقائدية في زمانه ، فإلى لقاء قريب بمشيئة الله ،،،،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق