الأحد، 6 مايو 2012

وطن من كلمات.عبد الباري عطوان.إعداد. نعمان عبد الله الشطيبي

الشخصية والمضمون يحفزان على القراءة
"وطن من كلمات".. انطباعات وملاحظات
بكر عويضه


عندما صدرت الطبعة الانكليزية من كتاب عبد الباري عطوان "وطن من كلمات.. رحلة لاجئ من المخيم  الى الصفحة الأولى"،  قبل اربع سنوات (فبراير2008) أثارت على الصعيد العربي ردود فعل تناسبت مع اختصار في السرد، واقتصاد في التفاصيل (285 صفحة) فضلا عن حصرية الجمهور في قراء الانكليزية من العرب.
إنما على صعيد قراء الإنكليزية أنفسهم، الجمهور المتوجه اليه أساسا المؤلف، داخل بريطانيا وخارجها، فقد جاء تلقي الكتاب بما يستحقه، بل على نحو أفضل مما توقعه الكاتب نفسه، سواء من جهة العروض التي تناولته في الصحافة العالمية، او لجهة عروض ترجمته الى لغات اضافية، وإصدار طبعة منه بغلاف ورقي في عدد من الدول.
***
مع صدور الطبعة العربية (471 صفحة) بمزيج من سرد روائي في الشأن الخاص، اعتمد اسلوبا جاذبا للقارئ، وتوسع معلوماتي في تفاصيل تخص الشأن العام، سلط أضواء كان بعضها صادما في ما كشفه من جوانب خفية لشخصيات وتطورات عربية، من الطبيعي ان يثير الكتاب جدلا يتناسب مع ما اثارته الكتابات الصحافية للمؤلف، ومواقفه الإعلامية ـ السياسية، من جدال.
***
في السياق نفسه، ليس مدهشا ان يحقق "وطن من كلمات" أعلى نسبة مبيعات في معرض بيروت الدولي للكتاب، كما بلغني من المؤلف وهو في طريقه الى العاصمة الأردنية لتوقيع نسخة من الكتاب هناك ايضا، فالجمهور العربي الذي يتابع آراء عطوان ومواقفه، إن في كتاباته أو عبر مداخلاته التلفزيونية، سيشده كتاب يتناول السيرة الذاتية للشخص نفسه. ومن الإنصاف القول ان سحر مغنية نجحت في تصميم غلاف، لعب دوراً مهما في شد أعين القراء الى الكتاب ومؤلفه، مستفيدةً من لقطة فوتوغرافية معبرة هي أيضا للمصور بيتر سيرل.
***
لست أضيف جديدا، إنما أضم رأيي إلى الرأي القائل إن توثيق السيرة الذاتية في كتاب هو جهد مرهق جدير بالتقدير، ويستحق احتسابه في رصيد كل مَنْ يخوض غمار كتابة ما يُعرَف بالانكليزية بـ "أوتوبيوغرافي". التقدير مُستَحق، بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع صاحب السيرة، إن لجهة آرائه كشخصية عامة، او لجهة ما أورده في كتابه.
كذلك، ليس الأمر سهلا لمن يأخذ على عاتقه وضع كتاب عن غيره، "بيوغرافي"، يقدم للجمهور سيرة شخصية عامة ذات حضور في مجالها. الحالتان تستغرقان وقتا معتبراً، وتستنفدان جهدا مضنياً. في تقديري، ان الحالتين تقمصتا عبد الباري عطوان في وضع كتابه، بالانكليزية أولا، ثم بالاضافات التي ضمنها المؤلف للطبعة العربية، تعزيزا لترجمة الكاتب حسام الدين محمد للطبعة الانكليزية.
في حالة "الأوتوبيوغرافي"، يجد كاتب سيرته الذاتية نفسه غارقاً في البحث بين وثائق، مفكرات، رسائل، وملاحظات دونها على مر السنين، بهدف التثبت من كل ما سيورده في سيرته من اسماء، تواريخ، وأمكنة. أقول هذا عن تجربة أمر بها منذ أكثر من عامين، وما أزال أحاول. ثم المهمة الأصعب، في تقديري، استحضار الذاكرة، فغربلتها، واستنطاقها، ليس فقط بغرض تقديم ذاته كشخص، وانما ايضا لتقديم مراحل مفصلية عاشها "وطن" ينتمي اليه الكاتب، "من كلمات" ضمنها ضفتي كتابه.عبد الباري نجح في تحقيق هذا.
في حالة "البيوغرافي" المُتَفَق عليها بين الكاتب ومن يكتب عنه، تبوح الشخصية المعنية للمؤلف بما تريد البوح به. هذا ما فعله عبد الباري عطوان نفسُه مع نفسِه. فهو يودع قراءه باعتراف انه لم يبح بكل شيء: "... وبقيت هناك فصول تستحق ان تُروى، مع رواية ما تعذرت روايته في فصول سابقة من هذا الكتاب، لأسباب عديدة، لا تخفى عليكم".
وكما يعتمد كاتب "البيوغرافي" اسلوب البحث العلمي بالرجوع الى المراجع  ذات الصلة بالشخصية المعنية، فيلتقي عشرات الاشخاص، يستمع، يحاور، ويعتمد على ذاكرات عايشت الشخصية، سواء لأفراد في العائلة، دائرة اصدقاء قريبين، أو اوساط علاقات مِهَنية، يعتبرهم الكاتب مرجعيات موثوقة، فقد بذل عبد الباري عطوان ايضا جهدا ملحوظا على هذا المستوى، إذ استنطق ذاكرات افراد في عائلته، وبحث في أرشيف معلومات، وفرتها له مهنته كصحافي ناجح أولا ـ هو يمارس دور الصحافي وهو يضع اللمسات الأخيرة لكتابه، إذ يلحظ تطورات جارية في بعض الدول العربية ـ ثم موقعه الإعلامي المتقدم عبر رئاسة تحرير صحيفة لها موقعها المتميز على خارطة الصحافة العربية الدولية، "بان آراب برس"، فكانت النتيجة مُؤلَفا يُضاف الى قائمة السير الذاتية ذات الصفة المرجعية التوثيقية، بصرف النظر، تكراراً، عن ردود الفعل تجاه ما يتضمنه الكتاب، ففي تقديري، ليس مطلوباً من كتابة السيرة الذاتية إرضاء كل من يقرأها. بل هي، من حيث المبدأ، يُفْتَرَض ألا تُكْتَب بغرض الإرضاء، وإنما بهدف التأريخ.
***
عرض الكتب فن إبداعي في حد ذاته، لست من ذوي الخبرة فيه، واذا كان ناقداً بخبرة جورج جحا، المحرر الأدبي لوكالة "رويترز" العالمية، يرى انه "لا بد من الاعتراف بأن الكتابة عن كتاب الصحافي الفلسطيني المقيم في لندن، عبد الباري عطوان، أمر صعب، بعض الصعوبة كائن في انك اذا كتبت بموضوعية انطباعاتك عن الكتاب الضخم، فهناك خشية ألا تبدو موضوعيا، بل منحازا الى نوع متميز من الأعمال، فكرا وكتابة".
مع ذلك، لست أجد صعوبة في الانحياز الى كتاب "وطن من كلمات" فاعتبره، في كثير من مشاهده، مرآة لسيرتي ذاتها، وإن لم تكن الصورة متطابقة تماما. الطفولة، الصبا، المراهقة، فورة الشباب، تبدو متشابهة، رغم وجود الفوارق بين مخيم اللاجئين في دير البلح وحارة الزيتون في مدينة غزة. الرسالة الموجهة الى جمال عبد الناصر، والرد الآتي مع صورته وهي تحمل الإهداء الخاص بك، بإسمك، والموقع من زعيم الأمة العربية بلا منازع، آنذاك، وما تثيره من أثر نفساني ومعنوي. بواكير الممارسة السياسية في المدرسة ومشاغباتها التي تميزك عن الشغب العبثي الذي يمارسه غيرك من أترابك. الفقر الذي لا تراه عيبا، بل حاجة لاختراع أوجه المساهمة في سد حاجات أسرة كبيرة العدد، كثيرة الطلبات. ثم الانطلاق في ما وراء حدود المخيم، او المدينة، والتحليق مع مهنة الصحافة، بدءا من القاهرة وانتهاء بلندن. كل هذه أوجه شبه تجعلني أرى في "وطن من كلمات"، جوانب مني، وأحسب ان كثيرين غيري، خصوصا بين الفلسطينيين، إعلاميين وفي مجالات مختلفة، سيجدون أيضا في الكتاب جوانب من حيواتهم وتجاربهم، في الوطن وفي الغربة.
كذلك، لا بد أن قراء "وطن من كلمات"، على اتساع الوطن العربي، ومن اجيال مختلفة، سيجدون في الكتاب إشارات لافتة، بل صادمة، كما أشرت، تتعلق بزعماء وشخصيات وتطورات عربية مهمة. ليس ثمة ضرورة للتفاصيل هنا. أولا لأنها كثيرة، وثانيا لأن عروضا أخرى للكتاب تضمنت معظمها، خصوصا عرض حسام الدين محمد، إنما ـ على سبيل المثال ـ صدمني فقدان الإحساس بالأمان عند زعيم في وزن ياسر عرفات، عبر همسة له في أُذن المؤلف، خلال اصطحابه له في طائرة الى الهند.
شخصيات كثيرة، وتطورات عدة، ورد ذكرها في الكتاب بما يلفت النظر لجهة تسليط ضوء كاشف على جوانب غير معروفة عنها، وهذه وحدها ميزة تتجاوز بكتاب "وطن من كلمات" حدود سيرة عبد الباري عطوان الذاتية، لتضيف اليها صفة المرجعية التوثيقية لمراحل عربية مفصلية، إعلامياً وسياسياً، في الوطن وفي الغربة، ومن ثم تضع الكتاب في مصاف الكتب الواجبة القراءة.
الثلاثاء 21 فبراير2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق