تخيلوا عندما يتحقق هذا في بلادنا. فيسير هذا الشخص وعلى يده وشم كلمة مرتش باللغة العربية، فيذهب إلى البقال، ويمد له يده ممسكاً بالنقود، فيرى البقال هذه الكلمة بوضوح، ماذا تظن سيفعل البقال؟ سيضحك، أو يبتسم، أو يتمتم بكلمات لا يسمعها هذا الموشوم.
أعتقد أن البقال سيأخذ النقود من الرجل، وسيرفع يده له محيياً باحترام شديد، لسببين، أولهما أن البقال لم يفاجأ بهذا الوشم، فمعظم زبائنه يملكونه، ويُظهرونه بوضوح وهم سائرون.
ثانيهما، أن هذا الرجل ما دام مرتشيا فهو غني، وسيشتري منه بضائع كثيرة، ولن’يدقق’ في الثمن.
يقول صديق لي بأن الموظف الذي لا يقبل رشوة الآن، هو عاجز وضعيف ولا تقدم إليه رشوة، بمعنى أنه شريف بالاضطرار، ‘مرغم أخاك لا بطل’، فهل من المعقول أن يوجد من تقدم الرشوة إليه فيرفضها؟ وأعارضه في كل مرة، قائلا: لم تصل الأمور إلى هذه الدرجة من السوء، فهناك قلة شريفة.
فيذكر لي الأمثلة الكثيرة، شقيقه التاجر الكبير الذي ذهب لقضاء مصلحة في حي من أحياء الإسكندرية، فدس مبلغاً من المال في درج مكتب الموظف الكبير الذي يجلس في مواجهة عدد من موظفيه، لكن الموظف أمسك بالمبلغ، وفرده أمام موظفيه، قائلاً بصوت مرتفع، سمعه من في الحجرات الأخرى:
بتخبي الفلوس في الدرج ليه، هو أحنا بنسرق؟!.
ثم وضع النقود على المكتب وصاح:
ناقصين، لسه كذا.
وأتذكر ما حدث منذ سنوات طويلة، عندما ذهبتُ إلى مكتب صحة في شارع الخديوي، بالقرب من مستشفى الولادة التي ولدت فيها زوجتي، لكي استخرج شهادة ميلاد لابنتي، سمعت الموظفين، يذكرون اسم ‘عديلي’، فهو مدير استحقاقات في مديرية الصحة التابعين لها، (يستخرج لهم مرتباتهم ومكافآتهم) قلت في فخر:
إنه عديلي. لو أردتم منه شيئاً، أستطيع أن أبلغه به بعد أن أعود إلى البيت.
فابتسم لي رئيس الموظفين، فقلت في نفسي: ‘لن يأخذوا مني رشوة هذه المرة بعد أن علموا بأنني قريبه، خشيت أن أبلغه بما يحدث’ وقدمت النقود وكلي ثقة بأنهم سيعتذرون عن تقبلها، لكنهم أخذوها مبتسمين شاكرين.
وحكيت هذا لعديلي، فضحك قائلا:
لقد ذهبت مع أخي لاستخراج شهادة ميلاد لمولوده الجديد، فأخذوا منه الرشوة أمامي.
الحكايات كثيرة، الرجل الملتحي الذي أصبح مالكاً لشركة ورق، بعد أن كان مجرد عربجي يحمل الورق على عربته وحصانه ويسلمها لشركتنا ـ شركة الورق- سمعته يتحدث في التليفون قائلاً لرجل يعمل معه عنده مشكلة مع الجمارك:
ما لكش دعوة، جيب له اسمه وعنوانه وأنا حاتصرف.
الرجل يتحدث بثقة، أي مسؤول سيقبل الرشوة.
وموظف متدين، كان يعمل معي، ويعمل بعد الظهر في شركة قطاع خاص، بأنه ذهب مع صاحب الشركة لتقديم هدايا (نتائج وأجندات وأقلام.. إلخ) في أول السنة المالية لمصلحة حكومية يتعاملون معها، قال لي بكل الأسى:
تصور، لم أجد موظفا واحدا يرفض الهدية، الكل قبلها شاكراً وممتناً.
كان من المعروف أن هناك فئات في المجتمع لا تقبل الرشوة منها السيدات، ولو ان مواطنا له مصلحة في جهة حكومية أو شركة، يخاف أن يدس مبلغاً في يد أو مكتب موظفة، فهي لن تقبله، لكن في السنوات الأخيرة تجرأت المرأة ودخلت هذا الميدان، ونجحت فيه، وحققت ‘مكاسب’ كبيرة، فنسبة كبيرة من مهندسي التنظيم من النساء، وبعضهن يتعاملن مع أصحاب العمارات المخالِفة، ويوافقن على طلباتهم، ويحققن أغراضهم، ويخالفن اللوائح والقوانين من أجلهم. وذلك بسبب تفشي الفساد وانتشاره.
وعندما اقرأ في الجرائد عن وقوع مرتش وضبطه وهو يتسلم الرشوة، أندهش وأتساءل: ‘كيف وقع هذا الإنسان؟، الرشوة علناً، وأمام الجميع، ولا أحد يحاسب أو يحاكم؟ وأفكر في هذا، أتراه قد تمادى وبالغ واخترق قانون الرشوة المتبع، أو أنه اختلف مع رؤساء له أقوى منه أو أنه غير مرضي عنه من الدولة؟!.
وماداموا غير قادرين على حل هــــذه المشــــكلة، فعليهم التصالح معها، وذلك يذكرني بما حدث عندما كنت في السنة الثالثة بمدرسة العطارين الإعدادية، بأن جاء إلى المدرسة بائع ســندوتشات فول وفلافل، يقف بجوار السور القصير ويشتري التلاميذ منه، وفي آخر اليوم الدراسي، يكتشف المشرفون على مقصف أو كانتين المدرسة، أن سندوتشاتهم بارت عليهم، ولابد من رميها في الزبالة، حاولوا منع هذا البائع بشتى الطرق، وفي كل مرة يفشلون، وأخيرا، توصلوا إلى نتيجة ناجحة، وهي التصالح معه، بأن يأخذوا منه السندوتشات بثمن أقل ويبيعونها في المقصف.
وقد اقترح البعض تقنين الرشوة، فبعد أن أصبحت حقيقة لا تقبل جدالاً، وبعد أن أصبحت أقوى من القانون ومن الرقابة ومن كل شيء، فلماذا لا يصدر بشأنها قانون ينظمها، بأن يجعلوها تُدفع بنسبة معينة، كل من له شيك بمبلغ كذا، يدفع عنه نسبة كذا للموظفين، وهذه الطريقة معمول بها في بعض المصالح، بأن يحصل الموظف على نسبة معينة مقابل تحصيله مبالغ لصالح جهة ما، فبعض الشركات تخصم لموظفيها نسبة محددة من مستحقات التأمينات الاجتماعية، وتورد الباقي لها، أو أن يخصم من كل مشتر لمنتجات شركة معينة نسبة كذا في المئة لصالح صندوق الزمالة الذي يفيد العاملين عند خروجهم على المعاش، أو جمعية أو ناد يعطي الحق لمحصلي اشتراكات الأعضاء، يأخذ 20′ أو 10′ من المبالغ المحصلة. وهي تشبه نسبة الـ10′ الخدمة المحصلة من زبائن الفنادق والمحلات العامة. وبعض المحلات تضع صندوقاً للعاملين فيه يوضع فيه مبالغ الإكراميات التي يدفعها الزبون للجرسون، أو البائع، ثم يقتسمونها في ما بينهم في آخر اليوم.
تخيلوا المنظر، رجل يدخل حجرة الموظفين في مصلحة حكومية، ويقدم أوراقه، مرفقاً بها مبلغ الرشوة، فيقوم الموظف ويضعه في صندوق موضوع في منتصف الجدار، في مكان ظاهر لكل الموجودين، وفي آخر اليوم، أو كل أسبوع (حسب الاتفاق) يقومون بعد هذه النقود، وتقسيمها بينهم بحضور المدير الذي أعتقد بأنه سيأخذ النسبة الأكبر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق