الأحد، 6 مايو 2012

لا أريد لهذا الكتاب أن ينتهي .إعداد. نعمان عبد الله الشطيبي

لا أريد لهذا الكتاب أن ينتهي
سيرة ذاتية لعبد الباري عطوان تحاكي تفاصيل السيرة الفلسطينية ، لوطن من كلمات 
ريما شري 
  
لم أكن أريد أن أصل في قراءتي لكتاب عبد الباري عطوان، وطن من كلمات، إلى الكلمة الأخيرة في الصفحة الأخيرة.  فلا بد أن هناك سحر في بواطن سطوره العظيمة، سحر يخدر القاريء ويجرده من كل ما يحيط به بحيث يصبح مدمن على قرائته ناسياً أن لصفحاته حدود ونهاية .
لطالما حلمت بالسفر إلى فلسطين وتمنيت مراراً لو أني ولدت في تلك الحقبة من الزمن ،قبل الإحتلال الإسرائيلي أو بعده بقليل . ولكن رغبتي المستحيلة تحققت ووجدت أني كنت على موعدٍ مع رحلة إلى هذا الحلم عندما بدأت قراءة صفحات حياة عبد الباري عطوان الملخصة في هذا الكتاب والتي تعكس أيضاً الحقبات التاريخية للقضية الفلسطينية وتفاصيل قيمة عن أفكار وآراء أهم زعمائها.   
 وجدت نفسي في عالم آخر فجأة، فقدرة الكاتب الرائعة على السرد والوصف الدقيق للأحداث المتسلسلة ترسم للقارئ صوراً وعالماً مرئياً بالصوت والصورة يأخذك إلى تاريخ يستحق أن يسرد ويشاهد في كل عصر وكل زمان.
 استهليت رحلتي بالتجول على شاطئ البحر في قطاع غزة ومخيم دير البلح حيث ولد عبد الباري عطوان وحيث ترعرع هو وأصدقاء طفولته. فيسرد الكاتب كيف عاش سنوات مراهقته الأولى في الفقر وكيف كان يتسلق أشجار البلح والتين متسللاً في الليل ليجمع بعضاً من الثمار ويتقاسمها مع شركائه اللذين كانوا يحاوطون الأشجارموفرين له طريقاً آمناً.
 رحلتي المتجذرة في سطور هذا الكتاب، تضمنت أيضاً مشاركة اللاجئين الفلسطينيين مأساتهم وأفراحهم المتواضعة . كنت طوال فترة قراءتي استمتع برحلة إلى الماضي التي تنجح بكل تفاصيلها، في إحياء مشاعر جياشة للقضية الفلسطنيية وتاريخ مأساتها.
 اصطحبني الكاتب معه عبر وسائل النقل الورقية  إلى بلدان متنوعة كانت محطات لافتة في بداية مشواره  حيث إستطاع فيها أن يسرد معاناته في حقل العمل الشاق قبل أن يلمع إسمه كصحافي في الإعلام العربي والعالمي. فدرس وعمل في الأردن ومصرومن ثم ذهب إلى ليبيا والسعودية وأخيراً إلى لندن حيث واجه صدمته الثقافية.
يروي الكاتب كيف تنقل من مهنة إلى أخرى منها عمله في مصنع تعليب البندورة حيث جرحت يده بجرح بطول أكثر من 5 سم في الوقت الذي كان يقوم به بلصق الغطاء على العلبة. ثم يسرد كيف إنتقل إلى ليبيا وعمل كسائق شاحنة بأجر بسيط  وغيرها من المهن الشاقة التي يعتز الكاتب بسرد تفاصيلها المضحكة والمبكية أحياناً.  
 يسرد عطوان أيضاً كيف بدأ مشواره الصحافي الذي إستمد خطواته الأولى عندما وصله رد جمال عبد الناصر على رسالته له. ومن ثم عندما بدأ خطابه الأول أمام جمهور كبير في أحدى ساحات مصر وتمكن من تمثيل القضية الفلسطينية على الرغم من صغر سنه. تمكن عطوان بعد ذلك من العمل في عدد من الصحف العربية كان ابرزها صحيفة المدينة السعودية الذي إستطاع  أن يخلق فيها إسلوباً خاصاً به وهوية سياسية متميزة وجريئة. على الصعيد المهني، يروي الكاتب خلال محاور عدة كيف طور مشواره الصحافي إلى أن إستطاع إنشاء صحيفته الخاصة المكونة من فريق متواضع، مؤلف من عشرين موظف خلال ظروف إقتصادية وسياسية صعبة.
من أهم المحاور التي يصطحبك إلى جوفها الكاتب، والتي بدورها تجعل للكتاب أهمية ووزناً كبيراً، هي تلك التي تكشف تفاصيلاً حصرية عن شخصيات عربية هامة مثل الرئيس الراحل ياسر عرفات وعلي عبدالله صالح وادوارد سعيد ومحمود درويش وشخصيات سعودية بارزة. الجميل في هذه المحطات أنها تكشف الجانب الخاص لهذه الشخصيات وتتيح للقارئ معرفة  ما كانت مخططاتهم ونواياهم وخيبات آمالهم وطموحاتهم وتحليلاتهم السياسية غير المعلن عنها، وهذا لأن الكاتب كان مقرباً منها ولطالما إنفرد بأحاديث مطولة معها يكشف معظم تفاصيلها في هذا الكتاب.
هناك أيضاً قضية مهمة للغاية يبرزها كتاب عطوان تتجلى فعاليتها في محوره عن زعيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن. فبالإضافة إلى فضول وحماسة الكثير من القراء لقراءة هذا المحور بهدف معرفة تفاصيل عن الحديث الذي دار بين بن لادن وعطوان خلال زيارة هذا الأخير لجبال تورا بورا للقاء بن لادن، إلا أن هناك زاوية بغاية الأهمية يكشفها عطوان خلال سرده للقاء.
عطوان يكشف للقارئ الجانب الإنساني من شخصية اسامة بن لادن، بالإضافة إلى التعبير عن عمق ايمانه وحبه للوحدة الإسلامية والجهاد في سبيلها، وتبيان كم كان بن لادن متبحراً في الإسلام والشريعة ومجاهداً ضد السوفيات والأمركيين في أفغانستان .وخلص بعد تبيان هذا الجانب إلى التصريح بسبب اعطائه إياه لقب 'شيخ' الأمر الذي حاربه الكثيرون عليه على الرغم من إستحقاق شخص كسعد الحريري باللقب نفسه دون أي انتقادات!  
هذا الشق بالذات تناوله الكاتب بجرأة كبيرة لأن أحداً لم يجرؤ على كتابة هذه الجوانب الإجابية عن شخصية زعيم عرف بالإرهاب وكان مطالباً وملاحقاً من كافة أجهزة الاستخبارات العالمية.
أحد المحاور يتضمن إصطحاب الكاتب أولاده لأول مرة للتعرف على مسقط رأس والدهم ووالدتهم، فلسطين وما تبقى منها، والتعرف على عائلته وأمه ظريفة.الجميل في هذا المحور صراع الماضي والحاضر الذي يعيشه الكاتب عند اصطدامه بالتغييرات الجذرية التي حلت ببلده من المطار حيث المدققة الاسرائيلية التي يصطدم معها بنقاش يلخص الصراع الاسرائيلي الفلسطيني بعبارات مؤثرة تختصر حق العودة وأبعادها الرومانسية، إلى أحد السكان الاسرائليين الذي يستوقفه وهو يتذكر أحد المقاهي التي كان يتردد عليها هو وأصدقائه ليكتشف أنها أصبحت مساحة مهجورة. يسرد الكاتب خلال هذا الوقت نوستالجية وطنية وقومية لزوار هذا المقهى ثم يصطدم بالحاضرتاركاً معه غباراً ورماد. يستفزه إستوقاف تلك المواطن الاسرائيلي، دون إستئذان، وكأنه يقوم ايضاً بتطهير الذاكرة، لا فقط العرق والأرض، فيروح يجادله شارحا له كيف أن هذه الأرض هي ملك له وللأجيال القادمة ولعائلته التي كانت تتفرج على هذه المسرحية المؤثرة من نافذة السيارة. راح يتكلم ويتكلم وكأنه يريد أن يحيي التاريخ في جدران هذا المقهى المهجور ويفرغ غضبه على إسرائيل عبر ذلك المواطن. . 

يسلط  الكاتب الضوء في إحد محاوره  على إختلاف وجهات النظر بين الفلسطنيين المغتربين وبين هؤلاء الذين يعيشون تحت الحصار بخصوص موقف الجهتين من إتفاقية السلام أوسلو. فيكشف ما كان يسعى لتحقيقه ياسر عرفات من خلال تعايشه مع من هم في الداخل.  فطرق التفكير والأهداف السياسية المختلفة بين الذين يعيشون في الخارج وأؤلئك الذين بقوا في فلسطين يمكن أن تكون مؤثرة بشكل كبير على الطريق للوصول إلى تسوية - اتفاقات أوسلو أسعدت الناس في الداخل وأغضبت من هم في الخارج ، لأنهم ببساطة لا يعانون نفس المعناة.. وقد بين الكاتب كيف نجح عرفات في تحسس هذه الحقيقة في تسويق اتفاقات أوسلو الرديئة. 
 يلاحظ في كتاب عطوان عناصر الحنين الوطني والوفاء لذاكرة الماضي، وإصرار الكاتب على ممارستها حتى الآن. مثل قيامه بزرع  شجرة تين وعنب في منزله في لندن لتذكيره بذكرياته في  مخيم دير البلح  وسر حبه للخيار حتى الآن لما يمثله هذا النوع من الخضار من رمز للفاكهة النادرة في مخيم اللاجئين.  هذا عدا عن البلح الذي مازال يحبه لأنه يذكره بالأيام التي كان يتسلق الشجر ليسرق بعض ثماره. وكذلك تبيان علاقة خياله البصري كلما رأى صابوناً، لأنه كان يذكره بالفترة التي كان يحوز فيها على قطعة صغيرة من الصابون توزعها منظمة الانوروا  ويتقاسمها مع عدة أشخاص.
وكذلك حبه المستمر للسردين (طعامه المعتاد في المخيم) وشاطيء غزة الذي كان يشكي له كل معاناته ومازال يشتاقه كلما زار شاطيء في أحدى البلدان الأوروبية خلال عطلته السنوية مع العائلة.
 قد يمثل هذا الكتاب هدية سياسية وروائية سلسة للجيل الجديد المتعطش لمعرفة تفاصل تاريخية عن القضية الفلسطينية ويستصعب قراءة وفهم تعقيدات الكتب التي تشرح هذه القضية بإسلوب تاريخي ممل أحياناً. الجميل في إسلوب الكاتب أنه يشد القاريء إلى متابعة القراءة بطريقة ذكية جداً. فلا يترك مجالاً لقسم سردي طويل إلا ويكسره بموقف مضحك أو تعليق ساخر يطفي على القراءة جواً لطيفاً، وهذا أمر مهم للغاية للجيل الجديد الذي لا يعد الكتاب صديقه الأول بين الانترنت والفضائيات والآيباد.  
 لا بد من الإشارة أيضاً أن الكتاب مكتوب بإسلوب ال post-modern وهو إسلوب يجيد فيه الكاتب التأرجح في الزمن التسلسلي للأحداث وفق إسلوب روائي متماسك يأخذ القارئ إلى الماضي ثم يعيده إلى الحاضر ويتم تكرار هذا التلاعب في السرد في كافة المحاور وهذا يضيف متعة خاصة للقراء عدا عن أن تطبيقه يتطلب مجهوداً وعناية كتابية خاصة. 
مع اقترابي إلى الصفحات الأخيرة من كتاب عطوان، انتابني إحباط شديد، لأن رحلتي كانت تشرف على الإنتهاء. 
لم أكن أريد أن اغادر هذا العالم الذي يصطحبني معه إلى صفحات القضية الفلسطينية التي تسرد من خلال تجربة الكاتب الشخصية. اتمنى أن يكون هناك أجزاء أخرى طالما هناك كلمات تستحق أن تقال،وأخرى لم تقال بعد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق