السبت، 5 مايو 2012

قناة القارة


هل تكون قناة القارة
أياد ممدودة تحلم بالتقاط حبّات أرز، عيون
يتسلقها الجوع والتيه والحرمان، نظرات تلوك
الفراغ، يصفعها القحط والاحتياج، بطون خاوية
كمؤتمرات السلام العربية، وجوه متسكعة في
الفضاء الذي لا يمطر سوى رذاذ من الأحزان تحلم
بفتات رغيف، ولحظة حرية ثمنا لكرامة يرتفع ثمنها
في المزاد، صدور عارية يلدغها البؤس والاحتياج،
أجساد متناثرة على أرصفة الحزن المعتّق، طوابير
من البؤساء تحلم كما يحلم الحرّ بميلاد وطن،
نوافذ قطارات مهترئة تمضغ في طريقها آلاف
المعذّبين والكادحين والمحرومين والفقراء، وسفن
غابت ألوانها مصابة بالربو والسعال تتأوّه من
شدّة ما تحمل من الأجساد الهاربة من منخفضات
الفقر والفارّة من مخالب الجوع والخصاصة، في
رحلات التيه والموت بحثا عن أحلام مؤجّلة حتى
إشعار آخر ...
أفلام محمّضة في مخابر العطش والعري
والخراب
تلك هي بعض الصور الرمادية التي تعوّدنا على
رؤيتها لإفريقيا التي اختزلتها بعض الفضائيات في
طوابير التسوّل والانتظار والأمراض التي تفترس
الأراضي والأجساد والمواشي والأبقار.
فلا تصلنا من أفريقيا سوى ذبذبات مدن يغطيها
غبار الأحلام وأراض غبراء عفراء صفراء جرداء بلا
زرع ولا ماء، وشعوب لا تعرف من يركبها، لا تعرف
من يملكها وتشوى في أفران الحروب والنار، وتشكل
في مطبخ التآمر والتقسيم والدمار.
سنوات طوال لا تصلنا من أفريقيا السمراء سوى
أفلام محمّضة في مخابر العطش والعري والخراب،
تئنّ بين مخالب أشعّة شمس متوترة متوثبة، منفعلة
متأوّهة، تجفّف الآبار والأنهار وتخلّف العطش
والجفاف وأراض يركلها الانجراف.
ليبرز وجه أفريقيا مضرّجة بالذل والهوان، لا
تظهر منها سوى ملامح طوابير الرفس والعفس
من أجل التقاط الصدقات والحسنات، والتناطح
للالتقاط حبّات أرز مبللة بالمنّ والإذلال، وبلدان
ممدودة منذ زمن على طاولات التخدير ومحالة على
غرف الإنعاش.
من ينصف إفريقيا؟
وتطفو فوق سمرة المشاهد المعطوبة وملوحة
الأوضاع اليابسة، الأسئلة المزمجرة والقلقة ؟؟؟ هل
هذا الوجه الكالح هو العنوان اﻟﻤﺨتصر لإفريقيا بكل
تضاريسها وجبالها، وغاباتها وخبراتها ورصيدها
البشري؟. هل هذه الصور الرمادية التي تختزل
جزء من الحقيقة الغائبة تعكس قارّة تنبض تربتها
وأراضيها وكهوفها بثروات طبيعية فوق الأرض
وتحت الأرض؟.
هل هذه الصور الكالحة، وهذه الملامح المكرّرة
واﻟﻤﺠتّرة، والمبثوثة تلقائيا أو عمداً أو قصداً على
ذبذبات بعض الإعلام الذي لم يبصر من أفريقيا
سوى تلك الأجساد السوداء المنتفخة البطون،
والعيون الطفولية التي صارت أعشاشاً للذباب.
لتظل الأسئلة العطشى متماوجة بين ما ينشر
ويسوّق ويقال، وبين حقيقة الميدان؟ ومن المستفيد
من ترويج مثل هذا المظهر القاتم لإفريقيا؟ التي
اختزلت إعلاميا لتصبح قارّة مختصّة في تصدير
الجوع والفقر والحرمان، ومصدرا للبؤس والجوع
ونشر الجريمة والأمراض، ومأوى للجهل والشعوذة
والخرافة والرقص بالبطون. ليقع تجريدها من صفة
المساهم في التنمية إلى مرتبة الحمل الثقيل والعبء
الذي يؤرّق الشمال.. ويبقى السؤال الذي ينطح
السؤال؟ من ينصف إفريقيا ويعيد لها بعضاً من
الحقوق المنهوبة في الإعلام؟
محاولة لتغيير الألوان
لعل هذه القناة المستيقظة من رحم الوجع
،« روندا » و « الجزائر » و « التشاد » الإفريقي في
وغيرها ،« سراييفو » والآتية من مفترق الحرب في
من مناطق الخطوط الأمامية لمعركة البقاء، لم ترض
كما يستدلّ من نهجها التحريري، أن تصطفّ في
أخاديد جغرافية الحزن الأسود العابر للقارّات،
الذي بات حسب بعض الفضائيات منتوجا إفريقياً
معدّاً للتصدير والترويج، وقدرا بين الرماد وبين
الحداد.. فهل تكون هذه الفضائية الوليدة قد تفطنت
إلى أن لإفريقيا وجها آخر غير تلك المدن التي انقطع
عنها التيار الكهربائي وافترسها الظلام؟ وتلك القرى
التي تنتظر ربيعا لا يأتي، وسماء لا تمطر سوى
القحط والجفاف؟ وهل تكون هذه القناة المنبثقة
من رصيد سنوات الالتصاق بالميدان قد آمنت منذ
الانطلاق، أن الإعلام الذي لا يبحث عن التجديد ولا
ينبش عن الجذور يبقى إعلاما سطحيا وأنانيا؟ وأن
الانشقاق عن التصنيف السلبي لإفريقيا يعيد لها
بعضا من الحق المهضوم؟!
النبش في أتربة الواقع المقضوم
هل يمكن القول هنا أن هذه الفضائية كما ابتدأت
من خلال رؤيتها قد اختارت رفض زواج المتعة
الإعلامية وفقا لمتطلبات السوق السياسية وقوانين
العرض والطلب؟، وعدم الاصطفاف وراء الاعلام
الذي لم يبصر من إفريقيا سوى السواد. لتحاول
التقاط الصور الأرضية والنبش في أتربة الواقع
المقضوم، بعيدا عن البث المتجمّد. من أجل إنصاف
هذه القارّة السمراء من خلال إحداث نوعا من
التهوئة، عبر إنجاز حوارات وموائد مستديرة
وتحقيقات ولقاءات أرضية، تزيل اللثام عن
الكفاءات الإفريقية، للتعريف بمساهمة هذه القارّة
في التنمية والعطاء، والتقاط الإشارات الصادرة عن
هذه اﻟﻤﺠتمعات الإفريقية الحالمة بالكرامة والتغيير،
والتي تحتاج إعلاما آخر عنوانه، لكي تكون مدهشا
فلا بد أن تحدث خللا في ترتيب الأشياء والكلمات
والعادات، لأنّ الذاكرة الإعلامية الصاحية هي التي
تصنع عناوين التاريخ. كما أن الاعلام الذي لا يسافر
للآخرين ولا يستطيع مخاطبة زمانه لا يستطيع
مخاطبة الأزمنة الأخرى..
الدخول على صهوة الجرح الإفريقي
حسب طرحها الأفقي « القارّة » لم تكن قناة
والعمودي فضاء منفصلا عن جاذبية الواقع
الإفريقي بكل تضاريسه السياسية والجغرافية، كما
لم تكن كما تصنف نفسها متوارية عن جسّ درجة
الحرارة في أجساد المظلومين والمقهورين والمزارعين
في إفريقيا، الذين يتوقون لصوت آخر، وبث آخر،
وإعلام آخر، كي ينعتقوا من حالات العقم والهزائم
السيكولوجية المسدّدة بالتقسيط، وأحيانا كثيرة
بالفوائض، والتفلت من وضعية الإقامة المفتوحة مع
الإذلال، وعدم الرضاء بعقد صلح دائم مع الهوان،
التي تعنونها على جباهم الرأسمالية الإعلامية، فهل
تكون هذه التجربة الوليدة كوّة في اتجاه فتح نوافذ
تخترق مرحلة السكون التاريخي، والتجاوز؟ من
أجل استعادة الوجه الإفريقي المسلوب. بعيدا عن
استنساخ مرويات مدن البؤس، وبعيدا عن تأميم
لغة الجراح والانتظار على أرصفة الصبر. للتحرّر
من كساد لغة بعض الجهات الإعلامية اﻟﻤﺨصّبة
بالاستنقاص والدونية للإنسان الإفريقي،
الذي بات عنوان كل ما هو
وضيع وقبيح. والارتقاء عن
كل مظاهر الإيحائية والإيماء
بأن إفريقيا كرنفال من القبح،
وكل ما فيها مواطن بلا أدنى
ضوابط، وبشر يقترب من
حدود الفضيحة.
الانفصال عن أدوات الغيبوبة
الإعلامية
القارّة » انبعثت فضائية
المنبلجة من تجربة حوالي «
ربع قرن من الرصد الميداني،
ومحاكاة الواقع الإفريقي في
تجلياته السوسيولوجية
والبيئية، لتحاول أن تكون كما
تطرح على عاتقها وتطمح أن تكون إحدى المساحات
التي تسعى أن تصبح نقطة عبور، لمحاولة تمشيط
المعلومات التاريخية والجغرافية والسياسية،
لنفض الغبار عن الجالية العربية بإفريقيا، التي لها
إسهامات وبصمات متميّزة في العديد من اﻟﻤﺠالات
بيد أنها ظلت تعيش الغبن الإعلامي، يفصلها جسر
من الصمت، ويواريها جدار إعلامي عازل، يحجب
انجازاتها، ويعطل امتدادها وتواصلها مع محيطها.
فقد أيقنت هذه الفضائية مند تأسيسها سنة 2010
ومن خلال خطها البياني بضرورة ربط إفريقيا
بشمالها المغاربي، وتجسير العلاقة بينها وبين العالم
العربي، من أجل محاولة ضخّ الدم في الشرايين،
وإحداث نوعا من التهوئة الاقتصادية والاجتماعية،
للتنفس بحجم سنوات الجفاء، وبطعم هذيان
الحرية السياسية.
بعض دوافع الانحياز للشأن الإفريقي
إذا حاولنا التعريج بطريقة جيومترية على
تنحاز للشأن « القارّة » الدوافع التي جعلت فضائية
الإفريقي، في أبعاده الايجابية، يتراءى لنا أن هذه
القناة تطمح إلى الانفصال عن أدوات الغيبوبة
الإعلامية، والهروب من بيت الطاعة، قصد التجديد
من أجل التفرّد والتمايز عن السائد المعطوب،
والواقع المهزوم. متكئة على امتلاكها لرأسمال رمزي
وتاريخي في معرفة الجغرافيا السياسية للعديد من
البلدان الإفريقية، بحكم سنوات الرحيل والترحال
مراسلا حربيا متوغلا » مديرها العام » التي قضاها
في أدغال السياسة الإفريقية، إلى جانب أن مشاهد
البؤس المكرّرة والملتصقة آليا بإفريقيا لم تعد تحض
بالمصداقية لدى المشاهد، الذي بات يدرك بعضا من
ميكانيزمات سوق الاستهلاك الإعلامية الخاضعة
للمزاد العلني في ميادين التوظيف السياسي
لصالح الرأسمالية الإعلامية، كما أن تراكم الصور
الموضوعة أو المركّبة، التي تبشّع فيزيولوجية المشهد
الإفريقي، أصبحت تطرح الاشمئزاز من هذه الطرق
المتجنّية والراسبة في التحقير للإنسان الإفريقي،
المتلبّس عمدا بالانحياز إلى أولئك الحالمين بالبحر
وهم مستلقون في المستنقع، والمنتمي لبلدان يدير
فيها الرشاش شكل الحوار. إلى جانب أن هناك حالة
من الامتعاض من واقع الاحتكارية الإعلامية، في
اتجاه تأبيد مظاهر الخمول الاجتماعي، والانحدار
القيمي للمجتمعات الإفريقية، التي اختير لها أن
تكون فريسة للنهب الحضاري، والإقطاع الفكري،
والإغماء التاريخي.
ليطفو فوق حالات المدّ والجزر الفضول حول
مفاصل هذه التجربة الناشئة، فهل تنجح هذه
الفضائية الوليدة في تضميد الجرح الإفريقي؟
وتعديل الميزان السياسي للقارّة السوداء؟ وتساهم
بذلك في نحت وعي إعلامي، مستندا إلى أحد الأمثال
أن تموت جوعا وأنت، حرّ » : الانجليزية التي تقول
أم أن هذه ،« خير لك أن تعيش عبدا وأنت سمين
الفضائية ستكون صداعا آخر ينضاف إلى الوجع
الإفريقي؟!..
الطاهر العبيدي
٭ صحفي وكاتب تونسي مقيم بباريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق