الأربعاء، 16 مايو 2012

جزيرة صقلية

تقع جزيرة صقلية على البحر الأبيض المتوسط .. وهي بالضبط .. تحت أيطاليا ..وصقلية الأن تعتبر جزء من إيطاليا
وظلت تحت الإسلام مدة 472 سنة عامرة بالحضارة والإزدهار .. وهي صفحه مشرقة في الدولة الإسلامة والأوربية.

ترجع صلة العرب بصقلية إلى عهد معاوية بن أبي سفيان، فقد أرسل إليها سميّه معاوية بن خديج الكندي، فكان أول عربي غزاها، ثم لم تزل تغزى حتى فتحها الأغالبة، وكان معاوية بن أبي سفيان، كما قال البلاذري، يغزو براً وبحراً، وهو أول من أسس أسطولاً إسلامياً، ووجه إلى صقلية أيضاً عبد الله بن قيس بن مخلد الدزقي فأصاب منها أصنام ذهب وفضة مكللة بالجواهر، ووجه بها معاوية إلى البصرة ثم إلى الهند لتباع هناك، وأغزى جنادة بن أمية الأزدي أيضاً جزيرة رودس ففتحها، وأقام المسلون بها سبع سنين في حصن اتخذوه لهم. وقد استرد يزيد بن معاوية جيش المسلمين وعادت الجزيرة الكبرى صقلية وما حولها إلى الحكومة البيزنطية. وكان من حسنات معاوية أنه أقام في الجزر التي فتحها جاليات إسلامية، وبنى فيها مساجد، وترك مقرئين يعلمون ويقرئون القرآن، هذا مع أن فتوحه كانت جزئية.

وتوقفت غزوات المسلمين البحرية بعد معاوية، وشغلت الدولة بحروب داخلية مدة كبيرة، ولما هدأت الأحوال بها لم يكن غزوها البحري نشيطاً، وكانت نهاية موسى بن نصير نهاية له وللإسلام وللدولة الإسلامية، ولكن البحريين من المسلمين في الشرق وفي إسبانيا ناوشوا جزر البحر الأبيض وشواطئ أوروبا، ولم تأت أعمالهم بفتوح ذات قيمة تاريخية ولكنهم لفتوا أنظار هذه البلاد إلى قوة العرب..

فتح صقليّة:

كان قد مضى على صقلية ثلاث قرون وهي تحت حكم الدولة البيزنطية، وكانت سنين عجافاً سادها الفقر الفكري، وترتب على سيادة الجهل وجمود الأذهان: تفرق بين السكان، فكان كبار الملاك والتجار يتبادلون المكايد وينشطون في دس الدسائس وبث أسباب العداء، وكان من بين هؤلاء الكبار في المال والصغار في النفس رجل يدى إيو فيموس (Euphemius) وكان مغيظاً من حاكم الجزيرة، فرأى الانتقام منه أن يستعين بالأمير الأغلبي الثالث، وهو زيادة الله، في غزو الجزيرة والقضاء على الحكم البيزنطي كله. وتردد الأمير الأغلبي في بادئ الأمر في غزو بلد مهادن له، وكان على رأسه القاضيان المسنان: ابن الفرات وأبو محرز. وكان ابن الفرات متحمساً لهذا الغزو مستدلاً بالآية القرآنية: »فلا تهِنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلونَ والله معكم ولن يتركم أعمالكم«. وكان ابن الفرات فقيهاً مالكياً طالت رحلته وتنقلاته في الشرق، وتلقىالفقه المالكي والحنفي، وجعل من مدونتي مالك وابن القاسم وآرائه الخاصة مدونة فقهية باسمه، وكان أيضاً محارباً شجاعاً، ورأى زيادة الله أن يجعله على رأس هذه الحملة، ويظهر أن إخلاصه في الجهاد أضفى على الجيش كله روح التضحية وحب الاستشهاد. ووصل الجمع إلى ميناء مزارا التي في جنوب الجزيرة، فألقى ابن الفرات فيهم خطبة لم تشر إلى شيء من الحرب والغنائم كما فعل طارق بن زياد عندما نزل جيشه بأرض الأندلس. بل حثهم فقط على التقوى وتحصيل العلوم.
استهل خطبته بالشهادة، وأقسم لجيشه أنه ما كان من آبائه من ولي جيشاً، ثم قال: »فأجهدوا أنفسكم، وأتعبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه، وكاثروا عليه واصبروا على شدته، فإنكم تنالون به خيري الدنيا والآخرة..« والخطبة بوجه عام توحي بالزهد، وتؤذن بأن الدنيا تخضع لذوي العلم والدين.

لم يكن فتح هذه الجزيرة هيناً ولا سريعاً، مع أن الحملة كان بها سبعون سفينة عليها عشرة آلاف مقاتل، وسبعمائة فرس، ولكنها اعتمدت على الحصار، وشقت طريقها إلى باليرمو Palermo، فاتخذها عاصمة، وهي في مستعمرة فينيقية، فجعلوها قاعدة حربية توجه منها الحملات، وأخذت الجزيرة تسقط تدريجياً في أيديهم، ولم يتم فتحها نهائياً إلا في العهد الفاطمي.

ولعل تاريخ الفتوحات الإسلامية لم يعرف فتحاً أعنف وأقسى وأشق من فتح صقلية التي لم يسيطر المسلمون عليها سيطرة كاملة إلا بعد مرور ثلاثة أرباع القرن على نزول الفاتح أسد بن الفرات ورجاله إلى مرسى مزارا في جنوب غرب صقلية الموافق يوم الثلاثاء 18 ربيع الأول سنة 212هـ الموافق 17 يونيو 827م.


ولقد برز من خلال الفتح الإسلامي في صقلية أبطال أسطوريون انحنى أمامهم العدو احتراماً وتقديراً وأشادت الرواية الأوروبية بصلابة إرادة المسلمين وحسن قيادتهم وتأثيرهم الميداني والشخصي على سير الأحداث وفي طليعة هؤلاء أسد بن الفرات قاضي القيروان العالم الجليل الذي بلغ السبعين من عمره وتطوع لقيادة أول حملة لفتح صقلية ولولا إيمان هذا القائد وتأثيره القوي على الجنود لما تحقق هذا الفتح حيث انبهر المؤرخ الإيطالي أماري بشخصية هذا القائد في زهده وإيمانه، وقال عنه إنه رجل يتطلع إلى ما وراء هذا العالم ويتخذ من العلم والجهاد وسيلة لبلوغ الرسالة التي خرج من أجلها. وكذلك المجاهد إبراهيم الثاني الأغلبي الذي تخلى عن الملك لابنه عبد الله وجاء إلى صقلية مجاهداً زاهداً يبغي مجد الإسلام، وقد استطاع بحزمه وإيمانه أن يحقق للمسلمين السيطرة الكاملة على الجزيرة بعد اقتحام قلعة طيرمينة في عام 279هـ الموافق 902م وطرد آخر بيزنطي من صقلية. وكان إبراهيم يرمي إلى مواصلة التقدم في إيطاليا شمالاً والوصول إلى روما لفتحها مصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن المرض لم يمهله لتحقيق حلمه فقضى نحبه قرب أسوار مدينة كوسنـزا. والمجاهد الثالث هو عباس بن الفضل الذي قاد جيوش أبي الأغلب إبراهيم أمير صقلية والذي تولى القيادة من بعده وكان له الفضل في فتح المسلمين قصربانه التي كانت من أهم المعاقل الدفاعية للجيش البيزنطي وذلك سنة 244هـ 859م) وفي إلحاق هزيمة نكراء بأسطول بنـزنطية قرب سيراكوزا واعتبر المؤرخون الأوروبيون عباس بن الفضل من أمهر وألمع القادة المسلمين الذين واجهتهم الجيوش الأوروبية.

وقد جعل الفتح الإسلامي لصقلية البحر المتوسط بحيرة تحت السيادة الإسلامية الكاملة وأصبحت صقلية قاعدة تنطلق منها الحملات والغزوات الإسلامية التي شملت جميع أنحاء إيطاليا من البندقية أو جنوا إلى روما وباري وعلى طول ساحل البحر الأدرياتيكي.

بعد الفتح :

صارت صقلية بعد فتحها إمارة أغلبية، يتولى أمرها والٍ من قبلهم، وكان الأغالبة في نزاع ومناوشات مستمرة مع الدولة الفاطمية التي نشأت بالمغرب، وتريد الزحف نحو الشرق، وكان هناك أقوى بين المذهبين السني والشيعي، وكان ذلك ينعكس على جزيرة صقلية، وكان بين سكانها نزاع بين العرب والبربر من قبل.

وإن الفاطميين تغلبوا على بني الأغلب في إفريقية، وحلوا محلهم في متسهل القرن الحادي عشر الميلادي، ثم انتزعوا منهم صقلية، وهي على انقسامها وتفرقها، فاضطروا إلى إعمال الشدة، فشهدت الجزيرة أياماً قاسية سوداً، حتى عين الخيلفة المنصور الفاطمي الحسنَ بن علي بن أبي الحسن والياً عليها، فبدأ عهداً جديداً عرف بعهد الكلبيين، والذي امتد قرناً من الزمان، كانت الدولة فيه كلبية فعلاً وإن لم تنقطع عن الفاطميين، ولم يدم هذا العهد طويلاً، ولسنا بسبيل الأسباب التفصيلية لسقوط الكلبيين، غير أن نهاية عهدهم كانت بداية فوضى واضطراب، وتقسمت الجزيرة الصغيرة إلى دويلات وأشتات قبائل وأحزاب، وعادوا جميعاً بعد الإسلام كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعضهم. وكان بين رؤوسهم رجل يدعى ابن الثمنة ففعل فعلة أيو فيميوس وطلب تدخل النورمانديين، فوجدوا الجزيرة فريسة سهلة، فاستولوا عليها وضموها إلى جنوب إيطاليا، وبذا انتهى العهد الإسلامي في هذه الجزيرة بعد قرنين ونصف قرن أو ما يزيد عن ذلك ببضعة عشر عاماً

وكان موقف المسلمين في صقلية كموقف المسلمين في إسبانيا، إذ ترقبوا نجدة من الدول الإسلامية، وعلى الأخص بني زيري الذين خلفوا الفاطميين على غرب إفريقية، ولكن لم يمد أحد لهم يد المساعدة، فاضطروا إلى التسليم والاستسلام.

ويقول ابن الأثير إن مسلمي صقلية أرسلوا وفداً إلى المعز بن باديس لطلب النجدة فأعد أسطولاً وقوات كبيرة ثم وجهها إلى صقلية إلا أنها تعرضت للغرق إثر عاصفة بحرية قرب نتللريا وبعد وفاة المعز وفقاً لرواية ابن الأثير أرسل ابنه تميم نجدة إلى صقلية بقيادة ولديه أيوب وعلي لكنهما انسحبا وعادا إلى إفريقيا بجنودهما وتركا صقلية إلى مصيرها.

لقد صاحب الغزو النورماني لصقلية هجرة إسلامية واسعة إلى إفريقيا ومصر وغيرها من البلدان العربية وعندما سيطر النورمانيون على الجزيرة قُدر عدد المسلمين الذين ظلوا بصقلية ما بين المئة والثلاثمائة ألف مسلم من العرب والبربر والصقليين الذين اعتنقوا الإسلام وقد تجمع القسم الأكبر منهم في بالرمو وساحل (مازار) وسهولها.

و غادرها عدد من كبار علمائها وأدبائها الذين ما لبثوا أن أثبتوا تفوقهم العلمي في البلاد التي استقروا فيها. ومثال ذلك الشاعر الصقلي المعروف "أبو محمد عبد الجبار بن حمديس " (ت 527 هـ / 1132 م ) الذي هاجر إلى بلاط الملك المعتمد بن عباد في " أشبيلية" بالأندلس، ورثى وطنه بأروع ما قيل من شعر في هذا الفن من المراثي

كذلك نذكر الفقيه والعالم النحوي "أبا القاسم علي بن جعفر المعروف بابن القطاع الصقلي " الذي هاجر إلى مصر في خلافة الآمر الفاطمي واختاره الوزير " الأفضل بن بدر الجمالي " مؤدباً لأولاده. و "لابن القطاع " مؤلفات عديدة في اللغة والنحو والعروض وفي تاريخ صقلية، بعضها مفقود والبعض الآخر موجود. ويذكر الوزير الغرناطي "ابن الخطيب " أن بعض المهاجرين من صقلية إلى المغرب، غيروا انتسابهم إلى صقلية بالقلب (أي بقلب الياء قبل الصاد) فصاروا يعرفون بالصياقلة.



أثر الفتح الحضارة الإسلامية في صقليّة:


دخل النورمانديون صقلية فأدهشهم ما نقلها المسلمون إليه من رقي وحضارة. لقد بذلوا جهداً في ترقيتها في كل جوانب الحياة حتى بدا الفرق بينها وبين الدول التابعة لبيزنطة بعيداً جداً، شيدوا مبانٍ عظيمة، ونشطوا وسائل التجارة، وعملوا على استصلاح الأراضي وزرعها، وأدخلوا أنواعاً من النباتات ومن الحيوانات لم يكن للأوروبيين بها عهد ولا علم، إلى جانب ذلك كله وجدوا فنوناً راقية وأدباً عالياً، وعديداً من المساجد بها حلقات التعليم، تبدأ بتعليم الكتابة العربية والقرآن الكريم، وتنتهي بدراسات عليا في علوم كثيرة دينية وغير دينية. وهكذا تقدم ورقي في كل شيء. إن الفرق واسع جداً بين ما وجد العرب صقلية عليه بعد خروج البيزنطيين، وبين ما وجدها عليه النورمانديين بعد خروج المسلمين.

كان النورمانديين على حظ من الذكاء، وقد عرفوا به من قبل، لهذا لم يفعلوا بآثار المسلمين ما فعل بها الإسبان. فهناك –وهذا بعد تنصير صقلية بزمن بطويل- أفتى القسس بأن المسلمين رجس وآثارهم نجس لا يطهره إلا إحراقه بالنار، حتى الجدران أفتوا بهدمها وإحراقها، وبهذا تأخرت حضارة إسبانيا ثمانية قرون حقاً، أما هؤلاء فرأوا الإبقاء والمحافظة على حضارة العرب، وحاكوهم واستفادوا من كل ما تركوا إلا الدين الإسلامي، فقد كانت عداوة الإسلام، وعلى الأصح، كانت الصورة التي قرّت في أذهانهم عنه مما يصعب محوه، ولكن حضارة صقلية ظلت في تقدم لمدة طويلة بعد، وظلت مظاهر الحياة العربية بادية عليها، ولو تقبل النورمانديون الإسلام واتخذوه ديناً لكان عهد هذا الازدهار الحضاري أطول زمناً وأبقى.


على أن، الملك روجار الأول (1092- 1101 م) وإن كان قد قضى على الحكم الإسلامي في صقلية، إلا أنه لم يتعرض للمسلمين من أهلها بأذ ى، يل عمل على حمايتهم وأقرهم على ديانتهم وشريعتهم، وترك لهم قضاتهم يتحاكمون إليهم، وجند فرقة منهم في جيوشه، كما أباح لهم حرية الاحتفال بأعيادهم علناً.

هذا فضلاً عن أنه امتنع عن الاشتراك في الحروب الصليبية رغم إلحاح البابا عليه في ذلك.

وهكذا كانت صقلية في أيامه مملكة نصف إسلامية في دينها وفي نظامها الإداري والعسكري.

وبعد وفاة روجار الأول خلفه ابنه روجار الثاني (1101- 1154 م) الذي أجمع المؤرخون على أنه قد بالغ في حماية رعاياه المسلمين بنفوذه وقوانينه، فأحبوه ومدحوه في شعرهم لدرجة أن بعضهم كان يعتقد خط أنه كان مسلماً في السر. وقد بلغ من تسامح هذا الملك وحبه للعدل والمساواة أنه كان يضرب نقوده بكل اللغات التي يستعملها رعاياه. فكانت نقود صقلية في عهده منقوشة بالعربية واللاتينية واليونانية. كذلك يؤثر عنه أنه كان يحاكي ملوك المسلمين في أزيائهم الفضفاضة على قدر ما حاكى أزياء قياصرة الروم، وأباطرة الفرنج، كأنما أراد بذلك أن يبين للناس بأن سياسته غير مرتكزة على ترجيح عنصر على آخر. وامتلأ بلاطه في مدينة بلرمو" Palermo" بعدد من، شعراء المسلمين وعلمائهم نذكر على رأسهم الجغرافي المغربي الكبير الشريف "أبا عبد الله محمد السبتي " المعروف بــ"الشريف الإدريسي " لأنه من سلالة الأدارسة، ملوك المغرب، وأحفاد الرسول ( ( r) عن طريق "الحسن بن علي بن أبي طالب ". وكان هذا الرحالة الإدريسي (493 هـ- 548 هـ/ 0 110- 1154 م) ولوعاً بالأسفار والاطلاع على أحوال البلاد وعادات أهلها. فلما زار بعض أقاربه في جزيرة صقلية، استدعاه الملك روجار الثاني إلى بلاطه في بلرمو وبالغ في إكرامه والاحتفال به لكونه من أبناء الملوك، ثم طلب منه وضع رسم جامع للأرض، فلبى الشريف طلبه ورسم له خريطة للعالم المعروف في عصره على دائرة فضية مسطحة planisphere طولها ثلاثة أمتار وعرضها متر ونصف. كذلك ألف له كتاب" نزهة المشتاق في اختراق الآفاق " لوصف هذه الخريطة، ويعرف هذا الكتاب أيضاً بالكتاب الروجاري أو كتاب روجار لأنه هو الذي طلبه منه.

وهكذا نري، أن الملك روجار الثاني كان، على حد قول العالم الإيطالي ميشيل أماري، سلطاناً عربياً يحمل تاجاً كملوك الإفرنج،وأن تسامحه الديني أدى إلى امتزاج الثقافات العربية واليونانية واللاتينية، فصارت صقلية معبراً من المعابر الأساسية التي عن طريقها انتقل تر1ث الحضارة الإسلامية إلى أوربا مما كان له أثره في قيام حركة النهضة المعروفة باسم حركة الرنيسانس " Renaissance" في أواخر العصور الوسطى.

أما فريدريك الثاني – حفيد روجر الثاني – فكان أبرز وأعجب ملوك صقلية. كان وريث عرش ألمانيا من قبل أمه، ووارث الملك في صقلية من قبل أبيه وعن طريق زواجه من الأميرة إيزابيلا ولية عهد أبيها في ملك بيت المقدس – تلك المملكة التي نشأت أثناء الحروب الصليبية- صار أيضاً ملك بيت المقدس، ثم هو شأن النورمانديين جميعاً إمبراطور لإيطاليا، وكان يسمى إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة. وقد شارك في الحروب الصليبية بغية الحكم والسيادة، ولكن اختلاطه بالمسلمين في الشرق جعله يوليهم تقديراً واحتراماً أكثر، وجعلت العادات والمظاهر الشرقية تتأصل فيه وفي دولته

و كان بعد حلمته الصليبية الفاشلة على صلة بخلفاء صلاح الدين، وكان هو والملك الكامل محمد يتبادلات الهدايا، ولم تخل سيرته من غرابة، أهمها: أنه كانت يجمع بين الأعمال الجادة النافعة والأعمال اللاهية التي لا طائل وراءها غير الأبهة والتباهي. كان في بلاطه عدد من الفلاسفة وفدوا من الشرق، وكانوا ذوي لحى طويلة وملابس فضفاضة، وكان الناس يحاكونهم في زيهم وسائر مظاهر حياتهم، وكان في بيته راقصات يهوديات من الشرق، وكان له مجموعة من الحيوانات النادرة ومن الطيور، وكان كلفاً بها حتى إنه يصطحبها في تنقلاته في أوروبا وحين يرحل من صقلية إلى ألمانيا. ولكن هذا اللهو لم يخل من وجهة نظر علمية، فقد أحضر من سورية مدربين للصقور التي لديه، ولكنه قام بتجربة علمية إذ ذاك، وهي تغطيته أعين الصقور بغطاء محكم ليرى مدى اهتدائها بحاسة الشم، وكان يقرأ الفلسفة والرياضة والفلك، ولما صادفته مرة مسائل معضلة فيها ولم يستطع حلها، أرسلها إلى السلطان الكامل الأيوبي طالباً للحل أو معجزاً لعلمائه، ولكن بعض العلماء المصريين حلها حلاً شافياً، وأضيف هذا إلى ما أخذ الغرب عن الشرق. وطلب مرة أخرى علماء مصريين ليجربوا تجارب على بيض النعام كي يمكن تفريخه وفقسه على حرارة الشمس، وترجمت له كتب عربية وفارسية في تدريب الصقور، وأخرج هو نفسه كتاباً عنها، كما ترجمت له كتب أرسطو عن الحيوان والنبات، وشروح ابن سينا عليها. وهكذا كان هذا الملك جاداً في لهوه، ولم يكن يعبث فيما يعمل ولا يجعل عمله لمجرد الإمتاع.

تم خلف روجار الثاني ابنه وليام الأول (1154- 1166 م) الذي سار على سياسة أبيه وجده في حماية المسلمين وتشجيع الدراسات العربية الإسلامية، وكانت علامته مثل علامة أبيه "الحمد لله وشكراً لنعمته ".

ثم خلفه ابنه وليام الثا ني (1166 ـ 1189 م) الذي على الرغم من مساهمته في الحروب الصليبية حينما أرسل حملته البحرية الفاشلة على مدينة " الإسكندرية (569 هـ/1172 م)، في أوائل عهد صلاح الدين الأيوبي، إلا أنه - كما يقول الرحالة الأندلسي المعاصر " ابن جبير"- تشبه بملوك المسلمين، وأتقن اللغة العربية قراءة وكتابة، واختار من رعاياه المسلمين وزراءه وحراسه وجواريه تاركاً لهم حريتهم الدينية، وكانت علامتـه "الحمد لله حق حمد ه ".

وبعد وفاة "وليام الثاني " بدون عقب له، حدثت منازعات داخلية حول العرش، أسفرت في النهاية عن تولية،" فردريك الثاني " ابن "هنري السادس " إمبراطور ألمانيا وكونستانسا بنت روجار الثاني. وبهذا صار "فردريك الثاني " إمبراطوراً "
المذابح ونهاية الوجود الإسلامي بصقليّة :
وشهدت صقلية أول مذبحة للمسلمين بعد وفاة روجير الثاني سنة 1161 حيث قتل عدد كبير منهم في أعنف حملة تطهير ودمرت أحياؤهم السكنية ونهبت أموالهم ومتاجرهم وشهد عام 1189م و1190م زوال الوجود الإسلامي من بالرمو .


الخلاصة :


ويكفي صقلية، وهي جزيرة صغيرة بجانب إسبانيا الواسعة، أن تكون قد أسهمت في نقل الحضارة الشرقية إلى الغرب، وأن يكون لها نصيب غير خفي في إيقاظ أوروبا العصر الوسيط من سباتها العميق، وأن تكون برزخاً في نقل جزء كبير من حضارة الشرق إلى الغرب.


هذا، وأخبار صقلية مبعثرة في مصادر كثيرة عربية، بعضها يكمل بعضاً، أو يوضح ويفصل ما أجمله الآخر، وقد جمع المستشرق الصقلي ميكي أماري أخبارها مستوفاة في مجموعة أسماها »تاريخ مسلمي صقلية«، ويقوم على درس هذه الحقبة من تاريخ هذه الجزيرة الآن الأستاذ أمبرتو ريزيتانو، وتنبئ كتابته وكتابة أماري عن المجهود الجبار الذي بذله كل منهما في قراءة الموسوعات العربية حتى خرجا بهذه المعلومات الدقيقة القيمة، وكل منهما أنصف المسلمين وأنصف أعمالهم النافعة، وما أخذاه على المسلمين نشاركهم أيضاً في مؤاخذتهما به، أخذا عليهم تفرقهم وميلهم إلى الأثرة، وحبهم مصالح أنفسهم أكثر من مصالح أوطانهم، وأخذا عليهم كما أخذ مستشرقون منصفون أنهم بعدوا بسرعة عما لهم القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنهم بوجه عام خالفوا الإسلام الذي بنى نهضتهم وحضارتهم، فسلبوا العزة التي جاءت بسببه، وهو كلام أولى أن يقوله المسلمون.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق