للكاتب والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {آخر النهار}
نشر هذا المقال في صحيفة النهار بتاريخ 23/9/1995
تذكرت إذاعة
لندن العربيّة {بي بي سي} أن وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر حدثت في
الثامن والعشرين من هذا الشهر أيلول، لذلك أعدت برنامجاً إذاعياً كبيراً
للمناسبة، هدفه إعطاء {تقويم} هادئ لهذا الرجل الذي شغل عالم العرب،
والمنطقة، والدنيا حتى يوم وفاته المفاجئ في
28
أيلول/سبتمبر
1970.
لا نعرف إذا كانت أي إذاعة عربيّة ستقوم بمثل هذا الجهد، أو حتى إذا كانت
أي إذاعة عربيّة قد تذكرت الموعد أصلاً.
الإذاعات العربيّة مشغولة لا وقت لديها للماضي، حسبها الحاضر، فمن أين
ستجد
وقتاً لتذكر أي حدث من الماضي، وإذا تذكرت أن تخصص أي وقت للحدث فماذا
تفعل
بأخبار استقبالات الحكّام، ومآثر المسؤولين، وأخبار الرياضة، ومن كتب لحن
آخر أغنية لوردة، ومهرجانات السينما.
ومن أين ستجد الوقت، وهي تعطي كل مطرب بدأ بالغناء قبل يوم واحد، نصف
ساعة،
والمطربة التي لم تبدأ بالغناء بعد ساعة كاملة تتحدث فيها عن
{استعداداتها}
المستقبليّة للغناء.
هناك موجة في عالم العرب اليوم تدعو إلى نسيان الماضي والتركيز على
الحاضر
والمستقبل.
أبطال هذه الموجة يقولون إن الماضي إذا تذكرناه سيكون حجر عثرة في طريق
المستقبل.
يقولون إن الماضي هو الحرب، والدمار، والفقر.
والمستقبل هو السلام، والبناء، و{البحبوحة}.
يساندهم في ذلك ـ وبقوة ـ وزير خارجية إسرائيل شمعون بيريز، الذي يصّر
على
أن الماضي {صفحة طويت} ويجب أن تبقى مطويّة إلى الأبد.
وضمن النسيان، كان نسيان ذكرى مرور ربع قرن على رحيل جمال عبد الناصر.
لأنهم لو تذكروه، لتذكروا كل ما نحاول نسيانه هذه الأيام.
من يريد أن يتذكر أو يذكر أي كلام عن الوحدة العربيّة، أو الموقف العربي
الموحد، أو الدفاع العربي المشترك، أو التكامل الاقتصادي ؟
لو تذكروه، لتذكروا أنه الرجل الذي كان يصالح الأمة العربيّة في أحلك
خلافاتها.
ألم يصب بنوبة قلبيّة وهو يصالح ؟
لو تذكروه، لتذكروا رجلاً أضاء أملاً في قلب أمة مهزومة، وبعث الثقة بأمة
يوم كان اليأس الكامل هو الشعار المطروح، وأعاد هذه الأمة إلى خريطة
العالم
بعدما كانت قد مسحت عن هذه الخريطة منذ زمن طويل.
أخطأ عبد الناصر ؟
جداً.
هُزم عبد الناصر ؟
نعم.
لكنه أخطأ وهُزم لأنه كان يحاول أن يعمل.
لم يستطع أن يحرر، لكنه أيقظ في هذه الأمة إرادة التحرير.
هو الذي وضع الخط الأحمر الذي لم يجرؤ أحد على تخطيه في معركة العرب مع
إسرائيل.
كان العقبة في وجه {التنازل}، وكان السد في وجه {التفرد}، وكان الإصرار
على
الاستمرار في المعركة على رغم هزيمة الهزائم العام
1967.
لم يخرج العرب بموقف موحّد مع إسرائيل إلاّ بعد هذه الهزيمة.
ولم تقطف إسرائيل ثمن الهزيمة إلاّ بعد غياب هذا الموقف الموحّد.
كان {ضابط الإيقاع} الذي يجمع التناقضات العربيّة، كي لا {ينشز} أحد من
أطرافها.
وكان عفيف اليد، في وقت ندرت فيه هذه العفة.
وكان ... وكان ... وكان ...
إذاعة لندن العربيّة لن تقول عنه هذا الكلام في برنامجها الخميس المقبل.
ستقول :
أنه أفقر مصر عندما حوّل النظام نظاماً إشتراكيّاً.
لكنها حتماً لن تقول أنه بنى لمصر جيشاً عظيما، وألغى الإقطاع، وفرض
مجانية
التعليم {بما في ذلك الجامعي}، وأقام في مصر صرحاً صناعياً عظيماً.
وستقول :
إنه أقام نظاماً ديكتاتورياً غابت فيه الديموقراطية والحرية.
ونحن نقول عنها، إن غياب الديموقراطية قد يكون الخطأ، والخطيئة الكبرى
التي
أرتكبها جمال عبد الناصر، والتي قد تكون أحد الأسباب الرئيسيّة للهزيمة.
وقد تقول :
إنه تدخل في الشؤون الداخليّة للدول العربيّة.
ونحن نقول إن هذا صحيح، ونقول أيضاً أنه أخطأ، لكننا نستدرك فنقول إن
جمال
عبد الناصر كان يشعر أنه زعيم هذه الأمة وليس زعيماً لمصر فقط، والدليل
أن
زعماء العرب ـ من دون استثناء تقريباً ـ تعاملوا معه على هذا الأساس.
حتماً لن تقول إذاعة لندن إن أخطاء الزعيم هي بحجم هذا الزعيم، والحكّام
الذين تعاقبوا على العالم العربي بلا أخطاء، كانوا حكّاماً عاديين لا
زعماء.
لتقوّم إذاعة لندن كما تشاء.
أما نحن فنكتفي بالقول، إن العربة العربيّة بدأت بالانحدار يوم توقف قلب
عبد الناصر عن الخفقان في منزله في منشية البكري قبل ربع قرن.
وما زالت العرب تابع الانحدار !
اخترنا في هذه الصفحة القصيدة التي نظمها الشاعر نزار قبّاني، وتقول :
1
قتلناكَ.. يا آخرَ الأنبياءْ
قتلناكَ..
ليسَ جديداً علينا
اغتيالُ الصحابةِ والأولياءْ
فكم من رسولٍ قتلنا..
وكم من إمامٍ..
ذبحناهُ وهوَ يصلّي صلاةَ العشاءْ
فتاريخُنا كلّهُ محنةٌ
وأيامُنا كلُّها كربلاءْ..
2
نزلتَ علينا كتاباً جميلاً
ولكننا لا نجيدُ القراءهْ..
وسافرتَ فينا لأرضِ البراءهْ
ولكننا.. ما قبلنا الرحيلا..
تركناكَ في شمسِ سيناءَ وحدكْ..
تكلّمُ ربكَ في الطورِ وحدكْ
وتعرى..
وتشقى..
وتعطشُ وحدكْ..
ونحنُ هنا نجلسُ القرفصاءْ
نبيعُ الشعاراتِ للأغبياءْ
ونحشو الجماهيرَ تبناً وقشاً
ونتركهم يعلكونَ الهواءْ
3
قتلناكَ..
يا جبلَ الكبرياءْ
وآخرَ قنديلِ زيتٍ..
يضيءُ لنا في ليالي الشتاءْ
وآخرَ سيفٍ من القادسيهْ
قتلناكَ نحنُ بكلتا يدينا
وقُلنا المنيَّهْ
لماذا قبلتَ المجيءَ إلينا؟
فمثلُكَ كانَ كثيراً علينا..
سقيناكَ سُمَّ العروبةِ حتى شبعتْ..
رميناكَ في نارِ عمَّانَ حتى احترقتْ
أريناكَ غدرَ العروبةِ حتى كفرتْ
لماذا ظهرتَ بأرضِ النفاقْ..
لماذا ظهرتْ؟
فنحنُ شعوبٌ من الجاهليهْ
ونحنُ التقلّبُ..
نحنُ التذبذبُ..
والباطنيّهْ..
نُبايعُ أربابنا في الصباح..
ونأكلُهم حينَ تأتي العشيّهْ..
4
قتلناكَ..
يا حُبّنا وهوانا
وكنتَ الصديقَ، وكنتَ الصدوقَ،
وكنتَ أبانا..
وحينَ غسلنا يدينا.. اكتشفنا
بأنّا قتلنا مُنانا..
وأنَّ دماءكَ فوقَ الوسادةِ..
كانتْ دِمانا
نفضتَ غبارَ الدراويشِ عنّا..
أعدتَ إلينا صِبانا
وسافرتَ فينا إلى المستحيل
وعلمتنا الزهوَ والعنفوانا..
ولكننا
حينَ طالَ المسيرُ علينا
وطالتْ أظافرُنا ولحانا
قتلنا الحصانا..
فتبّتْ يدانا..
فتبّتْ يدانا..
أتينا إليكَ بعاهاتنا..
وأحقادِنا.. وانحرافاتنا..
إلى أن ذبحنكَ ذبحاً
بسيفِ أسانا
فليتكَ في أرضِنا ما ظهرتَ..
وليتكَ كنتَ نبيَّ سِوانا…
5
أبا خالدٍ.. يا قصيدةَ شعرٍ..
تقالُ.
فيخضرُّ منها المدادْ..
إلى أينَ؟
يا فارسَ الحُلمِ تمضي..
وما الشوطُ، حينَ يموتُ الجوادْ؟
إلى أينَ؟
كلُّ الأساطيرِ ماتتْ..
بموتكَ.. وانتحرتْ شهرزادْ
وراءَ الجنازةِ.. سارتْ قريشٌ
فهذا هشامٌ..
وهذا زيادْ..
وهذا يريقُ الدموعَ عليكْ
وخنجرهُ، تحتَ ثوبِ الحدادْ
وهذا يجاهدُ في نومهِ..
وفي الصحوِ..
يبكي عليهِ الجهادْ..
وهذا يحاولُ بعدكَ مُلكاً..
وبعدكَ..
كلُّ الملوكِ رمادْ..
وفودُ الخوارجِ.. جاءتْ جميعاً
لتنظمَ فيكَ..
ملاحمَ عشقٍ..
فمن كفَّروكَ..
ومَنْ خوَّنوكَ..
ومَن صلبوكَ ببابِ دمشقْ..
أُنادي عليكَ.. أبا خالدٍ
وأعرفُ أنّي أنادي بوادْ
وأعرفُ أنكَ لن تستجيبَ
وأنَّ الخوارقَ ليستْ تُعاد…
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق