هنا إذاعة نفاقستان ... من بيروت ! للكاتب و الصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {المرافئ القديمة} في إفتتاحية مجلة المستقبل بتاريخ 1974/7/20 الذين يتابعون إذاعات النقل الخارجي من إذاعة لبنان من بيروت، لن يصدق ما يروى لهم ... لأن ما يحدث يقرب فعلاً من الخيال. مرة، وبعد أن بحّ صوت المذيع ... إذاعة لبنان من بيروت وهو يصف حفلة أستقبال أمير الكويت، إنتهت الحفلة، وتفرّق المستقبلون... ولم يبق في المطار إلا المذيع وحده، وحاول الإستنجاد {بالأستديو} في الإذاعة ليقفل الميكرفون ففشل، فإذا به ينظر إلى الطائرة التي جاء فيها الأمير ويبدأ بالحديث {على الميكرفون} معها قائلاً {وبلا مبالغة} : أيتها الطائرة الجاثمة على أرض المطار، يا من حملت بين جوانحك حبيب لبنان، أهلاً بكِ {للطائرة} في وطنكِ الثاني، أيتها الطائرة الغالية، هل تعرفين من حملتِ إلينا ؟ هل تعرفين من كان بجوفك ؟ رويدك دائماً أيتها الطائرة... رويدك دائماً فعندما تأتين إلينا تحملين رجلاً كبيراً، حبيباً .... عزيزاً عزيزاً .... ولولا إنقاذ الأستديو للمذيع في اللحظة الأخيرة، وإغلاق الميكرفون لكان قام من مكانه ... ليقبل الطائرة. وليت الأمر يقتصر على ما يقوله المذيع، وإنما يتعداه إلى جميع البرامج والأغاني التي تذاع يوم سفر أو استقبال أي ضيف من ضيوف لبنان، في الأسبوع الماضي، عندما أقلعت طائرة أمير الكويت من المطار .... كانت الأغنية التي بثّت من الإذاعة مباشرة هي أغنية {يا بو عيون عسليّة ... تاركنا لمين ؟؟؟!!!}. قبل أسبوعين حضر الرئيس فرنجيّة افتتاح المؤتمر الكشفي العربي في البترون، وكانت الإذاعة تنقل وقائع الإحتفال ... وبينما كان الرئيس فرنجيّة يدخل مكان الإحتفال إنقطع التيار الكهربائي، وإذا بالمذيع يقول : الخبراء الفنيون توزعوا لإصلاح العطل في التيار الكهربائي ... ولكن {وأرتفع صوته} ماذا يهمنا من الليل، ماذا يهمنا من الظلام ما دام بيننا شمس ساطعة ... ما دام بيننا شمس تبدّد الليل المدلهم، شمس فخامة الرئيس سليمان بك فرنجيّة، إنها تبدّد الظلام، وأكاد من هنا، من مكاني أشعر بحرارتها. وظل المذيع {لا فض فوه} يتحدث عن الشمس وحرارة الشمس لمدة دقائق {حتى قيل أن بعض المدعوين للمؤتمر وضعوا على رؤوسهم مظلات لإتقاء حرارة الشمس}. قبل ذلك بشهر كان المذيع {ماغيره} ينقل وقائع الإحتفال بتخريج دفعة جيدة من الضباط عندما بدأ المطر يهطل فإذا به يقول : أفراد الجيش اللبناني الباسل يتلقون زخات المطر برؤوس شامخة، ما همهم هؤلاء الأبطال من المطر ... إنهم يتحدونه بصدورهم. هذه أمثلة بسيطة ونماذج صغيرة مما يستمع إليه الناس كل أسبوع بل كل يوم أحياناً من الإذاعة. والكلام نفسه يتكرر مع كل ضيف، وفي كل مناسبة. ونشكر الله أن الضيوف أنفسهم لا يستمعون ـ وفي غمرة الإستقبال الرسمي ـ إلى هذا الكلام، لأنهم ـ لو فعلوا ـ سيشعرون حتماً أن المقصود بمثل هذا الكلام ليس المديح ولكن الهجاء. فالمبالغة في المديح هي تماماً كالمبالغة في الذم ... ومن منكم يستطيع أن يقنع حاكم رأس الخيمة مثلاً {الذي زار لبنان أيام عهد الرئيس حلو} أن المذيع لم يكن يذمه عندما وصفه {بالمجاهد الكبير ... وخالق الدولة العظمى} {بالمناسبة عدد سكان رأس الخيمة 2000 نسمة !!} مما جعل أحد السياسيين يتصل بالإذاعة اللبنانيّة يومها ليقول : ماذا تركتم للرئيس عبد الناصر إذا جاء لزيارة لبنان ؟ ولكن هل يلام المذيع إذا هو بالغ ؟ ألم يستمع إلى وزيره {فهمي شاهين} في العام الماضي وهو يصف ذكرى 17 آب/أغسطس بأنها {مولد وطن}!! ولم يخطر ببال أحدهم أن يسأله : أين كان هذا الوطن من قبل ؟ وحتى ـ استطراداً ـ ما ذنب فهمي شاهين إن هو تملق بعد أن سمع بقصة الوزير الكبير الذي وقف في مجلس الوزراء ليقول للرئيس شارل حلو: يا صاحب الفخامة إنني أرى في محياك ملامح القديسين، وصدق الأنبياء والمرسلين !! ... حتى للنفاق هناك أصول وتقاليد، والمنافق الجيد هو الذي يعرف كيف ينافق بدون أن يكون هذا النفاق ممجوجاً ويدعو إلى التقيؤ. أما هنا، في لبنان، بلد الـ {هالكم أرزه العاجقين الكون} فقد أصبح كل من يعمل في مهنة الإعلام يضطر في كثير من الأحيان أن يهاجم الناس، لأنه لو مدحهم فسيكون كمن شتمهم ... أليس المديح الرسمي {اللبناني} هو أقرب إلى الشتمية منه إلى المديح ؟.
في
مسألة المهنة أيضاً !
للكاتب والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {آخر النهار}
نشر هذا المقال في صحيفة النهار بتاريخ
28/10/1995
زمان
{قبل الكومبيوتر} يوم
كان لكل حرف مقياس، كنت تكتب عدداً معيناً من الكلمات، وتعرف سلفاً أنها
تكفي للمساحة المخصصة لمقالك.
اليوم،
حيث يصغّر الكومبيوتر
الحرف ويكبّره ـ كما تشاء ـ فأنت خاضع لحكم الإعلانات، ولذلك كان من
المفروض على {النهار} أن توزع الأسبوع الماضي، نظارتين طبيتين مع كل عدد
من
أعدادها، كي يتسنى للقارئ قراءة ما كتبناه بعنوان {في مسألة المهنة}.
وفي
مسألة المهنة :
ففي
الخمسينيات قرر الأستاذ
فيليب تقلا أن يصبح زميلاً لنا، فاتفق مع المرحوم الأستاذ حنا غصن على
إصدار جريدة {الديار} (التي كان يملكها) معاً. وكنت في عداد المحررين.
ومنذ
بدأت الكتابة وأنا أهوى
وضع عشر نقاط بعد كل كلمة {وأحياناً قبلها}، ولفتت هذه الظاهرة الأستاذ
فيليب ـ أمد الله بعمره ـ فاستدعاني إلى مكتبه، وما إن جلست حتى قال لي:
بتسمح {نستعير} كم نقطة من مقالك لاستعمالها في مقالي، فقد أبلغت إليَّ
المطبعة أنه لم تعد هناك نقاط عندها لمقالي بعدما تمَّ صف مقالك {كانت
الجريدة يومها تصف باليد}.
ثم
استرسل يشرح لي أنه يجب
أن يكون لكل نقطة معنى، فالنقطة الوحيدة بعد الكلمة تعني إنتهاء المعنى،
والنقطتان تعنيان ... ثم الثلاث والأربع إلى آخره.
وعلى رغم
اقتناعي بكلام
الأستاذ فيليب، إلاّ أنني لم أتوقف عن رش النقاط في كل مقال أكتبه.
تجربتي
في {الديار} بمعزل عن
التنقيط، تجربة لن أنساها، فقد أستقطب لها الأستاذ فيليب الكتّاب الكبار
وعلى رأسهم الأستاذ الكبير أميل خوري، والصحافيين الكبار والزملاء
الواعدين
{وكنا منهم}، ومع ذلك بقي توزيع الصحيفة محدوداً، على رغم أن الشريك حنا
غصن كان ينفرد كل يوم بـ {مانشيت} محليّة مهمة وخطيرة ومثيرة، تكفي وحدها
لبيع أرقام كبيرة..
هذا في
الوقت الذي كانت
جريدة كـ {التلغراف} التي يحررها الزميل الراحل نسيب المتني تقريباً
وحده،
تكاد تختفي من السوق بعد صدورها بقليل.
ومن
يومها إلى اليوم، وأنا
أسأل نفسي: ما هي {الكيمياء} التي تشد القارئ إلى جريدة ما، وما الذي
يجعله
يبتعد عنها ؟
أشك في
أنني أعرف الجواب
الكامل حتى الآن، على رغم أنني توليت إصدار مجلات عدة ورئاسة تحريرها،
كانت
آخرها {المستقبل}.
وأيضاً
الشيء بالشيء يذكر في
لبنان، أعني السوق المحلي، لم تبع مجلة في تاريخ الصحافة اللبنانيّة بقدر
ما باعت {الحوادث}، يوم كان يصدرها المرحوم سليم اللوزي، وكنت رئيس
تحريرها
قبل أن أصدر {المستقبل}، وفي استطاعة المدير العام لشركة التوزيع
اللبنانيّة الصديق فؤاد تويني أن يعطي شهادة بذلك.
كان عدد المحررين في
{الحوادث} يومها لا يزيد عن عدد أصابع اليدين، ولم يكن لها مراسلون ولا
من
يراسلون، وطبعاً لا مكاتب في أي مكان، وكانت تحرر من الغلاف إلى الغلاف
في
بيروت، ومع ذلك كانت أرقام مبيعاتها مع الباعة المتجولين من دون المكتبات
وأكشاك الصحف وفي بيروت فقط ما يقارب الـ 25
ألف نسخة أسبوعيّاً، وهو رقم لم تكن تطبعه ولا تصل إليه أربع أو خمس
مجلات
مجتمعة.
ما هي
الكيمياء ؟
لا أزال،
حتى اليوم، أعجز عن
الإجابة الكاملة.
إن هذه
{الكيمياء} لا تخضع
لمعادلة محددة، أو {روشتة} معينة، وإلا كان جميع {هواة} إصدار الصحف
والمجلات درسوها وطبقوها.
وهي
تماماُ كالمعادلة التي
تجعل القارئ يقبل على قراءة مقالات كاتب معين ويرفض أن يقرأ لكاتب آخر،
على
رغم أن {الاثنين} بذلا مجهوداً مماثلاً في جمع المعلومات واختيار
الموضوعات، فالموضوع واحد والمعلومات واحدة، والفكرة هي هي، فإذا كتبها
كاتب معين قرأت له، وإذا تناولها كاتب آخر عزفت عنه.
في
أميركا ـ بطولها وعرضها ـ
لم تصدر مجلة سياسية ناجحة منذ عشرات السنين بعد {تايم} و{نيوزويك}،
وهناك
أيضاً يسألون : ما هي المعدلة ؟
أخيراً،
قبل أسابيع أصدر إبن
الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي {جون جونيور} مجلة سياسية وهو يعتقد
أنه
يملك أسرار {المعادلة}.
نرجو
التوفيق له، ولك
المدعين أنهم يملكون أسرارها فقد توقفنا عن إصدار المجلات منذ سنوات !.
عودة ... عصفور من الشرق
للكاتب والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {المرافئ القديمة}
في إفتتاحية لمجلة المستقبل بتاريخ
10/2/1985
كانت باريس
حلماً ... وتكاد
تصبح كابوساً .
عندما كنار
صغاراً، نسرق
الوقت ونقتّر النقود كي نهرب إلى السينما، كنا نصاب بما يشبه التخدير
كلما
رأينا على الشاشة مشهداً، ولو لدقيقة واحدة، لباريس.
إذا أرقنا في
الليل، ونحن
نستعرض ما شاهدناه على الشاشة الكبيرة، كان أرقنا يطوف دائماً حول باريس.
وإذا نمنا من
كثرة الأرق
والتفكير بباريس، كنا نحلم .... بباريس.
ونضيف إلى ما
رأينا في
السينما من خيالنا أشياء وأشياء.
نرفض المقارنة
بين باريس
وبين أي عاصمة أخرى، فهي عروس المدن وغانية العواصم، وهي بالنسبة إلينا
الغرب.
عصفور من الشرق لتوفيق
الحكيم، قرأناه، بل وحفظناه لكثرة ما قرأناه. وسبحنا معه في خيالنا، حتى
أصبح كل من يشعر أنه والبطل توأمان، وأن الأمنية الكبرى البعيدة في حياته
أن يكون ـ في يوم من الأيام ـ بطل العصفور القادم من الشرق.
محمد التابعي {عقّدنا}
جميعاً بكتابه {بعض من عرفت}، ولكننا توقفنا أمام حكاياته، وحكايات
مغامراته في باريس، وقضينا أيام صبانا الأول، نكره التابعي ونحقد عليه،
لأنه كان .... هناك، هناك، في باريس، ونحن لا نراها إلا في السينما أو
المجلات أو بعض بطاقات البريد .... التي يستلمها غيرنا، ونحسده عليها.
وعندما أطلّ علينا سهيل
إدريس برواية {الحي اللاتيني}، وكنا بدأنا نحبو في دنيا الكتابة، توقفنا
عن
الكتابة {كتابة القصة} لأشهر طويلة، فمن الذي يستطيع كتابة قصة، بعد قصة
إدرس عن باريس، وحيّها اللاتيني، وقصص الحي اللاتيني مع البطل القادم من
الشرق أيضاً.
وإعتقدنا أننا إذا زرنا
باريس، فقد تخفف هذه الزيارة من وهج الحلم، وأن واقع المدينة النائمة على
ضفاف السين، سيرجع إلينا عقلنا الذي أخذته هذه العشيقة البعيدة، البعيدة.
وزرنا باريس ... لأسبوع في
المرة الأولى، فإذا الحلم البعيد، يتحول إلى حب حقيقي، وإذا بالحنين
إليها
بعد الزيارة والعودة إلى الوطن، يصبح ألماً في القلب، وضيقاً في التنفس.
وكما كنا نسرق الوقت
للذهاب
على السينما أصبحنا نسرق الوقت للذهاب إلى باريس.
ونعود دائماً،
وأبداً ...
ولما نرتو. دائماً عطاشاً إليها ...
وإلى غموضها،
وسحرها الذي لا
ينتهي.
وتحترق بيروت،
وتقذف بنا
الأيام إلى ... باريس.
{مؤقتاً} في
البدء.
أسبوع. شهر.
شهران. ثلاثة
....
نقراء كل الصحف، وبكل
اللغات، ونستمع إلى كلّ الإذاعات، وبكلً اللغات، ونشاهد التلفزيون ...
باللغة الفرنسيّة فقط.
نتساقط أخبار
بيروت.
نتسكع في
المقاهي ...
بإنتظار بيروت.
ننام، ونصحو
... وكأننا على
موعد مع بيروت.
ويصبح
{المؤقت} ... دائماً
...
نستأجر
منزلاً، ثم مكتباً،
ثم تصدر {المستقبل} من باريس.
وفجأة يسقط كل
شيء.
ينطفئ الوهج.
يموت الحب.
تصبح باريس كابوساً.
....وتضمنا
سهرة مجموعة من
المهاجرين.
كل واحد يشكو
خيبته
و{كابوسه}.
رجل واحد، ظل
جالساً لوحده
بعيداً عنا وعن الشكوى ... وعن الحنين، وكان صوت شكواه الصادر من عينيه
أعلى من أصواتنا جميعاً.
كان حزيناً
... إلى درجة
البكاء.
ولم تننته
السهرة إلا وقد
لفّنا جميعاً في حزنه.
ولم تكن المرة
الأولى التي
أسهر معه ... أو يصدمني صمته وحزنه.
لكنني لم
أسأل، ولا مرة
واحدة، عن سر هذا الحزن.
إلا تلك
الليلة، فقد سألت
صديقاً آخر يجلس إلى جانبي.
وهمس في أذني،
وكأنه يعترف :
ألم تعرفه ... إنه بطل رواية سهيل إدريس {الحي اللاتيني}، لقد اضطرته
الأيام إلى العودة إلى باريس للعمل فيها، بعد أن عرفها كتلميذ.
ومن يومها
.... لم تفارقه
الصدمة.
في مسألة المهنة
للكاتب والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {آخر النهار}
نشر هذا المقال في صحيفة النهار بتاريخ
21/10/1995
في باريس كنت خارجاً لتوي من حضور الفيلم الجديد لكلينت إيستوود {الطريق
إلى ماديسون}، اشتريت الصحف العربيّة من {الكشك} الذي تعودته، وتعودني من
أكثر من عشرين سنة، وجلست أقرأها بمتعة المدمن الممنوع من التدخين،
لأفاجأ
بخبر بارز في إحداها يقول : انتهى الممثل كلينت إيستوود من تصوير فيلمه
الجديد {الطريق إلى ماديسون} والذي سيعرض في الموسم المقبل في صالات
العرض
في العالم.
ضحكت. لا بد من أن المحرر الفني في الصحيفة العربيّة الكبرى{إنحشر} بخبر
لـ
{تسكير} الصفحة (كما نقول) فلجأ إلى خبر عمره ما يقارب السنة، فأرسله إلى
المطبعة وهرع إلى موعد العشاء.
عرت المحرر، فقد كنت على موعد عشاء، قبل أربعين سنة، ولم أجد حتى خبراً
قديماً لـ {تسكير} الصفحة، وجدت صورة فـ {فبركت} لها خبراً وذهبت إلى
موعد
العشاء.
الخبر {المفبرك} كان أيضاً خبراً فنياً، ولكن ذا {أبعاد سياسية}، كما حدث
هذا العام
1955،
وكنت أعمل في مجلة {الصيّاد} يوم كانت زهرة المجلات في لبنان، أيام
عميدها
وأستاذ الجميع المرحوم سعيد فريحة.
وإنحشرت كما أنحشر محرر خبر كلينت إيستوود، وفجأة رأيت أمامي صورة الممثل
مارلون براندو، وبما أنني لم أكن محرراً فنياً، والصفحة التي أحررها
سياسية، أمسكت بالصورة وأرسلتها إلى المطبعة مع عنوان يقول: {إمنعوا
أفلام
هذا الصهيوني}.
لم أعد أذكر تفاصيل الخبر الذي كتبت، وإن كان فحواه يقول إن براندو متبرع
دائم للإسرائيل.
وذهبت إلى العشاء...
كانت المفاجأة أن مكتب مقاطعة إسرائيل في دمشق، صدّق الخبر، وما هي إلاّ
أسابيع حتى صدر قرار يمنع أفلام مارلون براندو من دخول العالم العربي.
وعبثاً حاول ممثل الشركة التي توزع أفلام براندو رفع الحظر وإلغاء
القرار،
فقد كانت {الصيّاد} أصدق من كل الوثائق التي تقدّم بها.
للقصة بقية: إنتقاماً أو غضباً، بدأ مارلون براندو يتبرع بالفعل
لإسرائيل،
واستمر كذلك إلى أن حدث نوع من الإتفاق بين الشركة المنتجة لأفلامه،
ومكتب
المقاطعة على رفع أسمه عن القائمة السوداء، إذا توقف عن التبرع ... وهكذا
كان.
حدث هذا قبل أربعين سنة، ماذا يحدث اليوم ؟
تابعت قراءة الصحف العربيّة في ذلك الليل الباريسي المبلل بالمطر.
لاحظت، أننا {أهل المهنة} كنا {نفبرك} الأخبار {أحياناً} قبل أربعين سنة،
وكان الحكّام يصدقونها.
أما اليوم، فالحكّام {يفبركون} الأفكار والأحداث، ونحن نصدِّقها، وتالياً
فنحن جميعاً نعيش في عملية تكاذب كبرى، والضحيّة ـ الوسيلة في آن واحد هي
المهنة : الصحافة.
نصف رؤساء التحرير في العالم العربي، لا يصدقون ما تنشره صحفهم {على
ألسنة
الحكّام} والنصف الآخر يكذب على نفسه، ويدَّعي أنه يصدق.
نصف الذين يذهبون لإجراء مقابلات صحافية مع الحكّام يعرفون لفاً أن ثلاثة
أرباع ما سيكتبونه على لسان الحكّام ليس حقيقياً، والنصف الآخر يكتب ما
سيقوله الحاكم، قبل أن تتم المقابلة.
نصف الذين يكتبون في تأييد الحاكم منتفع، والنصف الآخر خائف.
نصف الصحافة يملكه الحاكم، والنصف الآخر متعاطف مع الحكّام، لأسباب ...
إعلانيّة ـ إعلاميّة...
لم يعد الخيار هو الحرية المسؤولة، صار الخيار هو الحرية التي لا تعارض
ولا
تعترض. الرقيب في كل العواصم العربيّة صار من دون عمل، لأن الصحف ...
تراقب
نفسها.
لم يعد الحاكم مضطراً إلى سجن الصحافي لتأديبه، صار يكتفي بتجويعه. أبدل
التعذيب بالترويض، لم يعد هناك {قضية} أو قضايا، صار هناك حلول.
الخلاف، لم يعد يفسد للود قضية لأنه لم يعد هناك خلاف أصلاً.
لا أحد يتحدث {أو يكتب} عن المضمون، الحديث والكتابة صارا في الشكل وعن
الشكل.
{فنّ الممكن} لم يعد يقتصر على السياسة، امتد أيضاً إلى عالم السلطة
الرابعة.
من بقي من الجيل الذي يرفض أن يوافق قبل أن يناقش ويقتنع والذي يستمر في
قول {لا} في زمن الـ {نعم}، صار في طريقه إلى الإنقراض تماماً
كالديناصورات.
وكما {زمان الوصل في الأندلس}، أنتهي زمان الخطف {فكلنا مخطوفون} وضرب
الموسى {موضة قديمة} والإغتيال ... لأن له رائحة.
وبعد ذلك أنلوم المحرر الذي نشر خبراً بائتاً بريئاً عن كلينت إيستوود
و{الطريق إلى ماديسون}؟
العوض بسلامتكم.
عصر { الهلس }
للكاتب
والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {آخر النهار}
نشر هذا المقال في صحيفة النهار بتاريخ
9/8/1997
بلا مبالغة، كتبتُ في حياتي الصحافيّة أكثر من عشرين ألف مقال، ونُشر في
نهاية العام الماضي كتابي الخامس عشر، ولا أستطيع أن أحصي عدد التعليقات
الإذاعيّة التي كتبتُها {وأذعتها} وظهرتُ على شاشة التلفزيون أكثر من
عشرين
مرة.
الناس، أو معظم الناس، لا يذكرون أو يتذكرون من كل هذا، إلا ما قلته على
الشاشة الصغيرة، التلفزيون.
هل نحن على أعتاب نهاية عصر الكلمة المكتوبة {ومن يكتبها} وبداية عصر
الكلمة المرئيّة والمسموعة في آن واحد ؟
أتفه مذيعة تلفزيونيّة اليوم يعرفها الناس أكثر مما يعرفون نجيب محفوظ.
وأصغر قارئ للأخبار على الشاشة الصغيرة أشهر من أي كاتب صحافي، أمضى في
مهنة المتاعب {وليس البحث عنها}، ما يقارب نصف هذا القرن.
هل يعني هذا أن نكسر أقلامنا، ونسارع إلى طلب وظيفة، أي وظيفة، في هذا
العالم {عالم التلفزيون} الذي فرض نفسه على بيوتنا وحياتنا معاً ؟
شاعر مغمور، يقدمه مذيع {أغمر} مدة دقائق، فيقرأ قصيدة أو قصيدتين لا
تنشرهما أي جريدة أو مجلة تحترم نفسها، يصل حتماً بشعره إلى عدد من الناس
يفوق بكثير الذين قرأوا للمتنبي، والذين سيقرأونه.
إذا قلت لأحد أنك لا تزال تكتب بالقلم على ورق أبيض، كما كان يفعل كل من
سبقك إلى الكتابة منذ اختراعها، وأنك لم تصل بعد إلى الكتابة على
الكومبيوتر، نظر إليك باحتقار، وإذا كان ودوداً نظر إليك بشفقة.
كان الناس ينامون مع كتاب، صاروا ينامون مع كاظم {الساهر}.
حتى متعة كتابة الرسائل وتلقيها، هي في طريقها إلى الانقراض، فقد طحش
عليها
{الإنترنت} والـ {emaiel}.
لن يرسل إليك أحد، أو ترسل إلى أحد رسالة معطرة تحتفظ بها سراً في خزانة
الذكريات، أقصى ما تطمح إليه أن تتسلم رسالة عبر الآلة الباردة.
لدي شعور أنهم ينتظرون رحيلنا، أو توقفنا عن الكتابة، أو وصولنا إلى
مرحلة
اليأس، كي يحولنا إلى {سوق البرغوت} للأنتيكا، سواء في بيروت، أو في
باريس.
تعزي نفسك بأن ما يحدث عابر لن يستمر طويلاً، طفرة، كأغاني الشباب، وأن
عهد
الكلمة المكتوبة {بالورق والقلم}، لن يهزه هذا الإعصار الآتي من الغرب،
وأن
ألف كاتب تلفزيوني لن يصل إلى ركبة طه حسين، أو توفيق الحكيم، وأن ألف
مطرب
{فيديو كليب} لن يطاول حذاء محمد عبد الوهاب، أو أم كلثوم.
أنت تكابر.
فلم يعرف {الملايين} نجيب محفوظ إلا عبر نقل أدبه إلى الشاشة الصغيرة،
قبلها كانوا بالآلاف التي لا تتعدى أصابع اليدين، إن لم نقل اليد
الواحدة.
والملايين أيضاً شاهدوا ورقصوا على أغنية {نور العين} لعمرو دياب التي
قيل
أنها باعت مليون نسخة من الكاسيت، بينما {جندول} عبد الوهاب، أو {أراك
عصي
الدمع} لأم كلثوم، تحاول ـ فقط تحاول / أن تصل إلى ما وصلت إليه أغنية
واحدة لجورج وسّوف ونجوى كرم.
هل تستقيل، لأن العصر سبقك، أو لأنك فشلت في اللحاق به ؟
طبعاً لا.
لأن هذا يعني إقرارك الكامل بالهزيمة. عليك أن تستمر، وأن تقاوم، وأن
تبقى،
وأن تكتب، لأنك أنت ـ أنت وحدك ـ {ككاتب} ستبقى، لأن ما سيبقى، على رغم
{عصر الهلس} الذي يغرق العالم، هو الكلمة المكتوبة.
منذ آلاف السنين كانت، وإلى آلاف السنين ستبقى.
أما إذا كسرك هذا العصر، وخسرت، فحسابك أنك لم تنحنِ.
|
شراء مظلات كاسيت كهربائية بسعر مناسب
ردحذفاشتر مظلات كاسيت كهربائية مباشرة من الشركة المصنعة عبر الإنترنت بسعر معقول. جودة صنع في ألمانيا.
See More:- مظلات-كاسيت