للكاتب و الصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {المرافئ القديمة}
في إفتتاحية مجلة المستقبل بتاريخ 1994/6/11
في منتصف
السبعينات عندما هربنا من لبنان، وجئنا إلى أوروبا لنكون رواد ما سمي
فيما
بعد {الصحافة المهاجرة}، كان مفهومنا للحرية بسيطاً : أن نكتب بلا خوف.
في البدء، كتبنا فعلاً بلا خوف، وعشنا فعلاً بلا خوف.
ليس في أوروبا {بالنسبة إلى الصحافي} زوار فجر، وإمكان الخطف معقد، وقرار
الرصاصة القاتلة أصعب في المهجر منه في {الوطن}،عدونا
الوحيد، البعيد، كان الرقيب العربي.
فهو في كل عاصمة عربيّة ينتظرنا، نتخيله {لأننا لا نعرفه} جالساً في غرفة
مظلمة يحمل قلماً أحمر، يحكم ويتحكم بكل ما ينشر في عالم العرب، يرفع من
يشاء ويذل من يشاء، بل يلغي من يشاء بقرار، بكلمة واحدة : تمنع !.
ونشأت بيننا وبين هذا الرقيب علاقة غريبة، نخافه من بعيد، ونحاول ألا
نغضبه، فما نفع الصحافة المهاجرة إذا كان لا يقرأها أحد ؟.
وإكتشفنا
بعدما توغلنا في الغربة، أننا أبدلنا خوفنا بخوف، وأن قسوة الرقيب
المجهول
في عاصمة عربيّة تكون أحياناً أكثر من قسوة أمير الميليشيا في بيروت.
وسنة بعد سنة،
إكتشفنا
أن الحرية {أو حتى شيئاً منها} تعامل في العالم العربي كوباء، وأن إدخال
المخدرات إلى عاصمة عربيّة قد يكون أسهل من إدخال الكلمة، إن على هذه
الصحافة إما أن {تستزلم} وإما أن {تستسلم}، وإنها في النهاية تكاد تصبح
عوناً للحاكم على المواطن، بدل أن تكون عوناً لهذا المواطن على الحاكم.
وكما طارق
إبن
زياد {البحر من ورائه والعدو من أمامه} أصبحنا نحن {الرصاصة من ورائنا
والرقيب من أمامنا}، وكما فعل طارق إبن زياد، لم يكن لنا خيار إلا
المواجهة، مع الفارق أن إبن زياد كانت أمامه جبهة واحدة، أما نحن فكانت
أمامنا إحدى وعشرون جبهة مرة واحدة.
قيل : {لا يعرف الشوق إلا من يكابده}، ولا يعرف أحد معنى قهر الصحافي إلا
عندما تتوالى برقيات مصادرة مطبوعته كل أسبوع، وإذا لم يرتدع تتحول
المصادرة منعاً.
الغريق فعلاً لا يخاف البلل.
وقبل أن تغرق، قررت الصحافة المهاجرة أن تستجمع شجاعتها وأن تبدأ بتطبيق
ما
هاجرت من أجله أصلاً : أن تكتب من دون خوف.
وخاضت فعلاً أكثر من معركة بل خاضت كل معارك العرب، والأهم من ذلك أنها
خاضت معارك الناس.
فهي عندما ساهمت {تقريباً وحدها} في معركة إسقاط جعفر النميري، كانت تخوض
المعركة ضد كل {النميريين} في العالم.
وعندما خاضت بشراسة معركة التصدي لصلح أنور السادات المنفرد مع إسرائيل،
كانت تتحدى كل حاكم عربي ينفرد بالصلح.
وعندما وقفت إلى جانب العراق في معركته مع إيران، فإنها كانت تخوض معركة
أي
بلدٍ عربي ضد أي أجنبي.
وعندما كانت تتحدث عن الديموقراطية والحرية كل أسبوع وبإسهاب، فإنها
لتذكر
بالديموقراطيّة الغائبة في الوطن الأم.
وعندما تصدت لإتفاق
17
أيار بين لبنان وإسرائيل كانت تتصدى للمد الإسرائيلي الذي كاد يغرق
لبنان.
وكانت المعارك أكثر من أن تحصى، وأصبحت المصادرة ـ المنع أكثر من أن
تحصى.
وعندما لم تنفع المصادرة ولم {يؤدب} المنع، قررت الأنظمة أن تصدر
{صحافتها}
في المهجر.
وبدأ طوفان إصدار الصحف والمجلات {الأنظميّة}، بإمكانات وأموال كالخيال، وإختلط
الحابل بالنابل، ونبتت كالفطر طبقة من الكتّاب والصحافيين بل حتى من
الناشرين الذين لم يسمع بهم أحد من قبل، وصدرت الأوامر إلى الرقيب
المجهول
بالتشدد في المنع وفي المصادرة، حتى بدأنا نشعر أن هذا الرقيب يكاد يصادر
الجريدة أو المجلة ويمنعها لمقالات وتحقيقات وأخبار لم تنشر بعد !.
أصبح يحاسبا على النيات لا على الأعمال.
لم يغدق مال عربي {أيام كان هناك مال عربي} كما أغدق على صحافة الأنظمة،
لقد خاضت الأنظمة هذه المعركة كأنها تخوض معركة مصيرها ووجودها.
ولم تكن مخطئة في تقويمها لخطر صحافة عربيّة متطورة في المهجر، تكتب بلا
خوف، وبحرية.
فالمنع والمصادرة لا يكفيان لمنع وصول المقال.
ويوم كتب كاتب هذه السطور مقاله الموجه إلى جعفر النميري بعنوان :
{سيادة
الرئيس لماذا لا ترحل ؟} هُرِّب المقال إلى كل منزل في
الخرطوم.
وقصيدة نزار قباني {قصيدة إلى بلقيس} وزع منها أكثر من كل ما وزع
نزار قباني من الكتب في حياته المديدة.
ورفعت الأنظمة شعار {آخر الدوا الكي}، فعندما استمرت الصحافة المهاجرة
{أو
بعضها} في الصدور على رغم المصادرة والمنع اللذين وصلا إلى ما يشبه
القمع،
تقرر العمل إما على شراء هذه المطبوعات وإما على إغلاقها وبشتى الوسائل.
البعض
إستسلم
للإغراء {الذي كان شديداً} والبعض رفض.
الذي رفض فوجئ، وفي غضون أشهر فقط، بشركات الإعلان إبتداءً من نيويورك
مروراً بلندن وإنتهاءً بطوكيو تلغي حجوز إعلاناتها من دون سبب أو مبرر،
ومن
دون إعلان {وهو العصب الأساسي والحقيقي لإستمرار أي مطبوعة} لا يمكن أي
مطبوعة مستقلة أن تستمر.
لقد هُددت هذه الشركات بإغلاق مكاتبها في العواصم العربيّة، إذا هي
إستمرت
في الإعلان في المطبوعات المغضوب عليها، مضافاً إلى النصيحة التي وجهت
إلى
رجال الأعمال
العرب، الذين يعملون وكلاء للبضائع الأجنبيّة، {بأن الإعلان في هذه
المطبوعات ليس مستحباً}.
{لاَ يُكَلَفُ اللهُ نَفساً إلاَّ وُسعها}، هكذا كان حال الصحافة
المهاجرة
التي تعرضت لهجوم الإغلاق.
ومع ذلك، والشهادة لله، صمدت ... حتى النفس الأخير.
وكان أمامها، في النهاية، أحد أمرين : إما أن تموت واقفة كالشجرة، وإما
أن
تنتهي جالسة بجانب الهاتف لتتلقى أوامر أصغر ملحق صحافي في أصغر سفارة
عربيّة.
{المستقبل} رحلت واقفة !.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق