لن
أستعرض في مقالي هذا حالَ
الصحافة العربية وعلاقتها مع
معارضي الأنظمة خلال فترة
الثمانينيات والتسعينيات، بل
سأقصره على السنوات الست من هذا
القرن. كما لن أقف مع الصحافة
القومية الناطقة باسم
الحكومات، لأن هذه أنشئت منذ
أول يوم كمنبر أو بوق دعاية
للحكومة. ولن أتوقف طويلا مع
الصحف التي تصدر داخل الأقطار
العربية فهذه يصدق فيها المثل
"تمشي الحيط الحيط وتقول يا
رب الستر". ما يهمنا هنا هو
الحديث عن صحف عربية مهاجرة
تأسست خارج الوطني العربي، وكان
دافعها الأساس أن تأمن مقص
الرقيب أو الإغلاق المؤقت أو
النهائي. ولكنها للأسف الشديد
بدأ أكثرها منذ العدد الأول، أو
تحول فيما بعد إلى بوق لهذا
النظام العربي أو ذاك.
وإذا
كان الوضع الطبيعي أن تقف هذه
الصحف المهاجرة ،على أقل تقدير،
على الحياد بين الحكومات
والمعارضات، إلاأن واقع الحال
كان غير ذلك، فتم الاصطفاف عند
معظمها مع الأنظمة وضد
المعارضات والشعوب. على أني لن
أستعرض مواقف
الصحف المهاجرة من كل
المعارضين للأنظمة العربية على
اختلاف توجهاتهم فهو أمر قد
يطول، وسأتوقف مع هذه وتلك
وهؤلاء الصحف في تغطيتها لأخبار
جماعة الإخوان المسلمين،
كأنموذج، وكيف كان سلوكها معهم،
قدحا ومدحا، إن كان ثمة مدح.
ابتداء،
لا يستطيع الراصد للتغطية
الإعلامية التي تقوم بها الصحف
التي أشرنا إليها، إلا أن يكون
من أشد مناصري نظرية "المؤامرة"
حين يتعلق الأمر بمقاربة تلك
الصحف المهاجرة لأخبار النظام
السوري وعلاقته مع الإخوان
المسلمين، وفي عهد الرئيس حافظ
الأسد على وجه الخصوص. ومقارنة
مع مقاربتها للعلاقة المتوترة
بين الإخوان المسلمين في مصر مع
النظام المصري، فهذه الصحف
لاتكاد تتجاوز عن أي تعسف أو
انتهاك لحقوق الإنسان من قبل
الأجهزة الأمنية في مصر، إلا في
ما ندر.
أما في
سورية فالأمر مختلف، حيث لا يتم
نشر ما يحدث من انتهاكات لحقوق
الإنسان إلا فيما ندر. أصحاب
نظرية المؤامرة يؤكدون أن
وكالات الأنباء العالمية التي
تسيطر عليها الاحتكارات
الصهيونية والأمريكية تفرض
تعتيما على ما يحصل في سورية
كتشجيع للنظام السوري الذي قام
بتوفيق سياساته في المنطقة بما
يتناسب مع الأجندة الأمريكية.
وإذا كانت الصحف العالمية
محكومة بأن تستقي أخبارها من
تلك الوكالات، فالصحف المهاجرة
كانت تزيد عليها أنها يحكمها في
عهد الرئيس الراحل أمر آخر.
ففي
عهد التفويض الأمريكي، كان
النظام السوري لا يتورع عن
ارتكاب أي محظور مع أي صحيفة
تتجاوز الخطوط الحمراء التي
رسمها أمام كل من يشير ولو إشارة
خفيفة إلى ما يجري في سورية.
فسجل النظام السوري حافل
بالسوابق في الاعتداء على مكاتب
الصحف حتى في أوروبا كما حصل
لمكتب مجلة "الوطن العربي"
في باريس، يوم كانت تلك المجلة
محسوبة على النظام العراقي. أو
كما حصل في عام 1981
عندما قام ضابط مخابرات
سوري -نعرف اسمه وبلده- يعمل في
السفارة السورية تحت مسمى "ملحق
ثقافي" بوضع متفجرات في مكتب
مجلة "المجتمع"
في "الكويت"، وقبل وقوع
التفجير قامت السفارة بتهريب
المجرم من الكويت بعد أن تم كشف
خطته الآثمة.
التفويض
الأمريكي للنظام السوري انتهى
مع احتلال بغداد، لأن واشنطن لم
تعد بحاجة إلى خدمات كان يقدمها
لها بعد الجوار الجديد بينهما.
إلا أن القرصنة التي تمارسها
المخابرات السورية ما تزال
هاجسا للصحف العربية المهاجرة.
وما يزال صدى اعتقال "إبراهيم
حميدي" مراسل "الحياة"
اللندنية أواخر عام 2003 يرن
كناقوس الخطر في آذان رؤساء
تحرير الصحف العربية المهاجرة
ومراسليها في دمشق. على أن
القضية لم تعد قضية خوف فحسب بل
غدت خطرا حقيقيا أودى بحياة عدد
من الصحفيين والإعلاميين
اللبنانيين اغتيلوا في ظروف
غامضة، ومنهم "جبران تويني"
و"سمير قصير" و"مي شدياق"،
وكان القاسم المشترك بين هؤلاء
أنهم كانوا من معارضي الوجود
السوري في لبنان.
وفي
ضوء ما قدمنا هل يحق لهذه الصحف
أن تستقيل من مهمتها كصحافة،
لها رسالة تحتم عليها أن تدافع
عن الشعوب؟ خصوصا وأن بعض هذه
الصحف وضعت في أعلى الصفحة
الأولى منها حكمة أوبيت من
الشعر يحدد رسالتها الصحفية كما
فعلت صحيفة "الحياة" على
سبيل المثال عندما جعلت عنوانا
لها يقول: "إن الحياة عقيدة
وجهاد".
نحن
نعتقد أنه لا مبررَ مقنعاً لأي
صحيفة عربية ،والمهاجرة منها
على وجه الخصوص، أن تتخلى عن
الدفاع عن الشعوب المقهورة
المستضعفة، وإلا تحولت إلى
نشرات يومية تسبح بحمد الأنظمة
بدلا من أن تكون منابر تنشر
ثقافة مقاومة الاستبداد ولوكان
الثمن أن تُحجب الصحيفة أو تقص
بعض موادها. فالخضوع لابتزاز
الأنظمة القمعية لا يخفف من
عدوان هذه الأنظمة بل يزيد في
طغيانها واستبدادها، ويجعلها
أكثر شراسة واستبدادا.
الامتحان
الآخر الذي رسبت فيه الصحف
المهاجرة –شاركها في ذلك صحف
مستقلة تصدر داخل بلدانها- هو
إغلاق صفحاتها أمام مثقفين عرب
ناشئين مع أن بعضا من هؤلاء
يتفوق ،مهنيا، على كتاب أعمدةٍ
في تلك الصحف، ليس لهم إلا أسماء
لمعت لأن هذه الصحيفة أو تلك
احتضنتهم إرضاء لهذا النظام أو
ذاك. والأسوأ من ذلك أنها تفتح
صفحاتها لشتم رموز إسلامية –ومنهم
من غيبه الموت- من قِبَل من
لايجد مايكسب به رزقه سوى شتم
الأفاضل ، كما فعل "غسان
الإمام" عندما شتم الداعية
الإسلامي المرحوم الشيخ "مصطفى
السباعي". وقد رفضت "الشرق
الأوسط" التي نشرت مقال "إمام"
أن تنشر ردودا عليه أرسلت
إليها، وكنت واحدا ممن رد على
تلك الافتراءات.
وإذا
ذكر المسيء، فلا بد من ذكر
المحسن. فبعض الصحف المهاجرة
مثل "القدس العربي"
التي تصدر في "لندن"
فتحت صفحاتها لكتاب ناشئين
واكبوا نبض الشارع العربي
وتحسسوا آلام الأوطان المنكوبة
مثل فلسطين والعراق. ولكن ما لا
نفهمه الآن هو غياب نَفَس رئيس
التحرير الأستاذ "عبد الباري
عطوان" في اختيار مقالات
صفحات الرأي في "القدس"
وتَرْك أمر اختيار المقالات
لمحررين لا ينشرون إلا ما يناسب
أذواقهم وانتماءاتهم.
وتبقى
صحيفة "السياسة" الكويتية
أكثر الصحف التي فتحت صفحاتها
للكتاب الناشئين، الذين وجدوا
فيها منبرا يعبّرون من خلاله
عما يجيش في صدورهم من مواقف
وآراء، رفضت غيرها من الصحف أن
تنشرها لهم لحسابات لاتبعد
كثيرا عن مسايرة الأنظمة التي
تضطهد شعوبها. ولعل بعض ما تنشره
السياسة من مقالات لا يوافق
خطها السياسي، ولكنها آثرت أن
تنشره لتكسر "البرجوازية"
الثقافية التي تضطلع بها كثير
من صحف الإقصاء والإلغاء، ومما
لا يناسب الأنظمة والزعامات.
"الحياة"
التي كانت بيروتية ثم تحولت إلى
لندنية، قد يكون مفهوما أن
تراعي ذوق القارئ السعودي،
لأنها تبيع في السعودية أكثر
مما تبيع في أي قطر آخر، وتنشر
من الإعلانات عن منتجات سعودية
ما لا ينافسها فيه إلا "الشرق
الأوسط". لكنه من غير المفهوم
أن تمرّ "بكوز النظام السوري
مر المجانب"، وهي لا تبيع في
سورية إلا النذر اليسير من
الأعداد، ما جعل القارئ السوري
يعرض عن شراء أعداد الحياة
ويتوجه إلى مقاهي الإنترنت، حيث
يجد أخبارا عن سورية ما لا تجرؤ
"الحياة" أن تنشره على
صفحاتها.
وفي
هذا السياق لا يمكن المرور على
صحيفة "النهار" ثم لايكون
لنا رأي في ما تنشره وما لا
تنشره. النهار صحيفة عريقة،
كانت لها في عهد الراحل المغدور
"جبران تويني" مقاربة
معقدة. فهي من جهة كانت تعتبر
رائدة في معارضة الوجود السوري
ولها فيها باع طويل.
ومن جهة أخرى ،ما عدا كتاب
الأعمدة فيها، فهي لا تنشر
مقالات تهاجم النظام السوري إلا
لمن قارب الأمر من طرف خفي. هذه
السياسة اضطلع بها الأستاذ "جهاد
الزين" محرر قضايا النهار وله
فيها فلسفة خاصة لم ترق للدكتور
"عبد الرزاق عيد"، فكتب
مقالا ادعى فيه أن الأستاذ "الزين"
قلب للسوريين ظهر المجن، بعد
اغتيال المغدور "سمير قصير".
لا
يتسع المقام هنا لسرد أسماء كل
الصحف التي نعتب عليها لأنها
أهملت القارئ العربي والكاتب
العربي ،جزئيا أو كليا. ولكننا
نلفت النظر إلى أن كثيرا من
الصحف قد يأتي عليها يوم لا تجد
فيه من يقرأها بعد أن ينصرف
القارئ عنها كليا، لأنها لا
تعالج آلامه وآماله. وربما يأتي
يوم تصبح فيه كنشرات إعلانات لا
أكثر، خصوصا وأن المواقع
الإلكترونية بدأت تستقطب
القراء الذين يبحثون عما يهمهم
ولا يجدونه عند الصحف الورقية.
الطاهر ابراهيم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق