السبت، 12 مايو 2012

الانتخابات الجزائرية.. المشكلة والحل * د. محيي الدين عميمور

الانتخابات الجزائرية.. المشكلة والحل







ينظر معظم الجزائريين اليوم إلى الانتخابات بعيون فيها الكثير من التساؤلات، وبنفوس فيها الكثير من الشكوك، وبحجم كبير من الريبة والتوجس نتيجة إحباطات كثيرة جاءت في معظمها من سوء التخطيط والتدبير.

والأمل معقود بأن تعرف البلاد في نهاية هذا الشهر صفحة جديدة تضع حدا نهائيا للمحنة التي عرفتها في العشرية الماضية، وذلك بإجراء الانتخابات التشريعية الثانية بعد انتخابات ديسمبر/كانون الأول 1991 التي كان إجهاضها بداية لمسلسل العنف والعنف المضاد في البلاد، وحدوث ممارسات بشعة بدت وكأن هدفها الحقيقي هو التغطية على المذابح الاستعمارية والإسرائيلية.

د. محيي الدين عميمور
وتبدو الصورة الإعلامية قاتمة لا توحي بالتفاؤل، إذ انحازت الصحف الفرنسية في معظمها إلى نظرة المقاطعين، فأصبحت طرفا بدلا من أن تقوم بدور الخدمة العامة، بينما أخذت الصحافة عربية التوجه صورة التفهم الذي يفتقد الكثير من الحماس، وهو ما تتحمل الطبقة السياسية مسؤوليته. وتبدو المقاطعة موقفا متشنجا ضد الرئيس وراءه ما وراءه ومن وراءه، بينما تبدو الموافقة أقرب إلى الرضا بأخف الضررين.
- نظرة تاريخية - التجارب الأولى - الديقراطية وبناء الدولة - ملامح الأزمة - العشرية الحمراء - أهون من بعض الدواء.. الداء
تتسم الانتخابات في الجزائر بتعقيدات ناتجة في معظمها من الإرث التاريخي للبلاد، حيث تفنن الاستعمار الفرنسي في ممارسة التزوير حتى أصبح تعبير "انتخابات جزائرية" يعني آليا أنها انتخابات مزورة.
وأيقن الشعب الجزائري بأن المستعمرين لا يفهمون إلا لغة القوة، بعد أن فقد نحو 45 ألفا من أبنائه نتيجة القمع الذي ووجهت به التظاهرات السلمية التي اندلعت في مايو/أيار 1945 احتفالا بانتصار الحلفاء على المحور في حرب أسهم فيها الشعب بأشلاء أبنائه وبعرقهم ودمائهم.
حركة الانتصار للحريات الديمقراطية
وفي العام التالي قام الوطنيون بتكوين "حركة الانتصار للحريات الديمقراطية" التي كانت الجزء البارز من حزب الشعب، وهو الحزب الذي أنشئ في الثلاثينيات وقامت السلطات الفرنسية بحله فأقام الوطنيون نظاما حزبيا فريدا من نوعه يشبه جبل الثلج، جزؤه غير الظاهر هو "حزب الشعب" غير المشروع لمناداته بالاستقلال التام، وتختفي في سراديبه "المنظمة الخاصة" التي تعد للكفاح المسلح.
وأسهمت الحركة في الانتخابات التشريعية رغم توصيات المنظمة الخاصة بمقاطعتها، وربما كان نجاح الحزب الآخر المعتدل (البيان) في انتخابات المجلس الوطني الفرنسي مشجعا لها على خوضها، لكن الحاكم الفرنسي العام "إدمون نجلان" قام بتزوير الانتخابات بشكل مفضوح للتخلص من الوطنيين.
ثورة 1954 وقد وصل الجزائريون إلى اليقين بأن الطريق نحو الحرية يمر عبر العمل المسلح، وهكذا اندلعت ثورة أول نوفمبر/تشرين الثاني 1954 وحمل بيانها الأول هدف إقامة دولة جزائرية ديمقراطية اجتماعية في ظل المبادئ الإسلامية.
ميلاد جبهة التحرير الوطني
في هذه الأجواء ولدت جبهة التحرير الوطني وتمكنت من تصفية الحركة المناوئة التي حملت اسم "الحركة الوطنية الجزائرية" التي لم يكن لها وجود عسكري فعال على ساحة القتال، لتختتم مرحلة التعددية الحزبية بما لها وما عليها، والتحقت كل التنظيمات السياسية الوطنية بالجبهة بين 1954 و1956.
أول تنظيم ديمقراطي
أقامت الثورة أول تنظيم ديمقراطي بتشكيل المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وهو برلمان الثورة وهيئتها السياسية العليا، وشهد آخر اجتماع له قبيل استرجاع الاستقلال في يونيو/حزيران 1962 انقسام القيادة بين خط الاعتدال وخط الثورة.
وكان الخط الفاصل بين نوعين من الانتخابات هو الاستفتاء على تقرير المصير الذي أجراه ديغول في يوليو/تموز 1962، والذي صوت فيه الجزائريون بأغلبية ساحقة على الاستقلال (91%، ولا بد هنا من التساؤل: أين ذهبت عناصر 9% الباقية؟).

أجبرت حرب الرمال بين المغرب والجزائر أحمد بن بله على فرض قانون الطوارئ مما أدى إلى شلل المجلس النيابي وتعطيل التجارب الأولى للديمقراطية الوليدة
عاشت الجزائر بعد استرجاع الاستقلال مرحلة قلقة برزت فيها إلى السطح تناقضات مرحلة الكفاح المسلح، وكانت محصلة الصراعات هي انتصار جناح جيش التحرير الوطني الأكثر التصاقا بالمطالب الشعبية والأهم قوة وتنظيما وانضباطا، والذي كانت واجهته السياسية هي الرئيس الأسبق أحمد بن بله.
وعرفت البلاد أول انتخابات نيابية بعد تكوين الجمعية التأسيسية ووضع الدستور الجزائري، لكن التجربة الوليدة لم تعش طويلا، فقد تغلغلت قوات مغربية في التراب الجزائري وهو ما اصطلح على تسميته بـ"حرب الرمال" فوجد الرئيس بن بله نفسه في وضعية تفرض عليه العمل بقانون الطوارئ، وهو ما شل المجلس النيابي إلى أن قام العقيد هواري بومدين يوم 19 يونيو/حزيران 1965 بانقلابه الذي حمل عنوان "الحركة التصحيحية"، بعد أن وصل الخلاف مع بن بله إلى طريق مسدود، وانتهت مرحلة التجارب الأولى.

نظرة بومدين للديمقراطيةحملت المرحلة التالية البصمات العملية لنظرة بو مدين للديمقراطية، وكانت البداية الرمزية هي دعوة أعضاء البرلمان إلى التنازل عن صلاحياتهم لمجلس الثورة، وهي فكرة بالغة الذكاء لأنها أكدت التمسك -ولو رمزيا- بالدور البرلماني.
ولقد كان الرئيس يرى أن المواطن لكي يستطيع أن يمارس الديمقراطية، يجب أن يتمتع بالحرية، والحرية لا تقتصر على الجانب السياسي ولكنها تمتد أساسا إلى الجانب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
وعلى ضوء هذه النظرة تصبح الديمقراطية مجرد فولكلور هزلي بالنسبة للعاطل عن العمل أو المريض أو الجاهل، وهي أيضا طريق إلى الفوضى إذا لم تكن هناك دولة تحمي حقوق كل مواطن وتسهر على قيامه بواجباته.
ثم إن الديمقراطية ليس جهازا إلكترونيا يمكن شراؤه من الخارج كأي ثلاجة أو تلفاز ويبدأ المرء في استعماله بمجرد الحصول عليه، ولكنها ممارسة لها قواعدها وأساليبها التي يجب أن يفهمها المواطن ويتفهمها، ويستوعب مجالاتها ويدرك ضوابطها.
وهكذا سارت الجزائر عام 1965 على درب بناء الدولة تحت لواء جبهة التحرير الوطني كحزب واحد، فانطلقت الجهود في ميدان التربية والتعليم، ثم بدأت الجزائر في استرجاع ثرواتها الوطنية بدءا بالبنوك وشركات التأمين ثم بالمناجم عام 1966 وانتهاء بتأميم المحروقات عام 1971 وخاضت غمار عمليات تصنيع واسعة المدى.
وبالموازاة مع ذلك تم إنهاء وجود القواعد الأجنبية التي نصت عليها اتفاقيات إيفيان، وبدا أن نظام الحزب الواحد أثبت فعاليته في تحقيق الطموحات الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، برغم أن الحزب في الواقع كان وجودا سياسيا يرمز إليه هيكل إداري لا يملك السلطة الفعلية التي كان يتولاها رسميا مجلس الثورة.
وكانت هناك تشكيلات معارضة تعمل تحت الأرض، أهمها "جبهة القوى الاشتراكية" بقيادة حسين آيت أحمد التي تمركزت في منطقة القبائل الكبرى ولم تتمكن من فرض نفسها كحزب منتشر في الوطن كله، نظرا لتركيزها على مطلب اللغة البربرية المحلية.
كما كانت هناك بقايا الحزب الشيوعي الجزائري الذي حمل اسم "حزب الطليعة الاشتراكية" الذي كان يهاجم النظام ولكن أفراده كانوا يتسربون إلى مواقع حساسة في الدولة تحت شعار انتهازي يدعي بأنه لا يتخلى عن تحفظاته، بينما لم يكن لحزب الثورة الاشتراكية المعارض الذي أنشأه المرحوم محمد بو ضياف أي وجود مؤثر على الساحة. وهكذا كانت جبهة التحرير سياسيا هي الحزب الوحيد.
المجالس الشعبية البلدية

كان اختيار المرشحين للمجالس البلدية في الستينيات يمر عبر مصفاة جبهة التحرير الوطني لاستبعاد كل الذين ارتبطوا بمرحلة الوجود الاستعماري بشكل أو بآخر، وكذلك لتفادي أصحاب النزعات
الجهوية والمحلية
وانطلاقا من أن البلدية هي الخلية الأولى لمؤسسات الدولة، وأن ممارسة الديمقراطية على المستوى الوطني يجب أن تبدأ بممارستها على مستوى القاعدة حيث الأمور أكثر بساطة في ما يتعلق باختيار المرشحين وأكثر التصاقا بالحاجات اليومية للمواطن، أقيمت المجالس الشعبية البلدية عام 1967.
وكان اختيار المرشحين للمجالس البلدية يمر عبر مصفاة جبهة التحرير الوطني لاستبعاد كل الذين ارتبطوا بمرحلة الوجود الاستعماري بشكل أو بآخر، وكذلك لتفادي أصحاب النزعات الجهوية والمحلية.
وكان يقدم لكل مقعد اسمان يختار المواطن أحدهما لتحمل المسؤولية لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد، ولم يكن المرشح بالضرورة من المنخرطين في هياكل الحزب.
المجالس الشعبية للولايات
وكان نجاح التجربة وبروز قيادات محلية متميزة مشجعا على الانتقال إلى المرحلة الثانية على درب تحقيق اللامركزية، وهي تكوين المجالس الشعبية للولايات (المحافظات)، وهو ما تم عام 1969.
الميثاق الوطنيويشهد عام 1976 المصادقة على الميثاق الوطني بعد مناقشات جماهيرية علنية، كان أهم ما فيها التركيز الشعبي على التمسك بالإسلام وبقيادة جبهة التحرير الوطني، وكان الميثاق هو الوثيقة الأيدولوجية للحزب القائد، وسيتم إعداد الدستور الثاني للبلاد انطلاقا من مبادئها، وسيشهد ديسمبر/كانون الأول من نفس العام الانتخابات الرئاسية، وطبقا للنظام الذي اعتمده الميثاق ثم الدستور.
وجعل الحماس الشعبي للرئيس الجزائري الراحل بومدين من الاستشارات الجماهيرية عملا نظيفا بصورة عامة، وكان الشعب يسجل بذلك تجاوبه مع كل ما حققته البلاد في العشرية الماضية ويؤكد ثقته في المستقبل.
أول انتخابات تشريعية
ويعرف عام 1977 أول انتخابات تشريعية تجرى طبقا للدستور الجديد، وطبقا لنظام انتخابي يعطي حزب جبهة التحرير الوطني مسؤولية الاختيار الأولي للمرشحين، مع إضافة جديدة هي زيادة عدد المرشحين لكل مقعد إلى ثلاثة. وسيكون من أهم الإنجازات اعتبار مهمة النائب في البرلمان مهمة وطنية، أي أن النائب يترك القضايا الجهوية والمحلية للمجالس البلدية والولائية.
وسيحدد الدستور مفهوم العمل التشريعي باعتباره وظيفة يمارسها البرلمان كما يمارس القضاء الوظيفة القضائية والحكومة الوظيفة التنفيذية، وهكذا أصبح مفهوم الوظائف المتكاملة -لا السلطات- هو سمة العمل السياسي الجزائري.
وأصبح المجلس الوطني الشعبي برئاسة المرحوم رابح بيطاط -وهو واحد من الزعماء الستة أو التسعة- مجمعا لباقة كبيرة من المجاهدين والوزراء السابقين والخبراء في مجالات متعددة، مع الاعتراف بأن الديمقراطية آنذاك كانت نسبية كما سبق، ولكنها كانت واضحة صريحة والتزمت بها الجماهير عن قناعة. وكان أعظم إنجازات هذا المجلس بجانب عمله التشريعي الثري، تمكنه من ضمان الانتقال الهادئ والديمقراطي للسلطة، عندما توفي الرئيس بومدين في ديسمبر/كانون الأول 1978، بعد أن وضع أسس تطوير الحزب وتمكينه من أن يكون رحما سياسيا لتعددية حزبية ترتكز على احترام ثوابت الأمة وتعبر عن الخريطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد.


بسبب نقص الموارد وتراكمات سوء الإدارة وبروز طبقة طفيلية جديدة مستفيدة من ثغرات مرحلة التنمية الوطنية، برزت ملامح أزمة بدأت في الثمانينيات وانفجرت في التسعينيات ولا تزال تشهد الجزائر آثارها حتى الآن
وتم تجديد المجلس الوطني الشعبي عام 1982 ثم عام 1987 بالأسلوب نفسه تقريبا، وإن كانت ملامح الأزمة قد لاحت في الأفق نتيجة انهيار أسعار النفط.
وهكذا تحالفت -مع نقص مداخيل البلاد- تراكمات سوء التسيير وبروز طبقة طفيلية جديدة استفادت من ثغرات مرحلة التنمية الوطنية، وبدا أن الأمر سوف ينتهي بانتفاضة شعبية إذا لم يحدث تفهم للمتطلبات والتحديات.
وكان هناك من رأى استباق الانتفاضة بما يكفل إعادة صياغة الساحة السياسية في المرحلة المقبلة طبقا لاحتياجات القوى الجديدة التي تعمل على وراثة نظام جبهة التحرير الوطني، وللخروج بمشروع مجتمع جديد ينتقل بالبلاد من نظام الاقتصاد الموجه إلى نظام السوق الذي يتيح إمكانيات أكثر لكل الطموحات الداخلية ولكل المطامع الخارجية، وتقلص التزامات الدولة الاجتماعية التي تعتمد عليها الطبقة الوسطى.
وهكذا بدأ العمل لإقرار تعددية حزبية ارتكزت أساسا على إرادة فوقية هدفها الرئيسي هو التخلص من نظام جبهة التحرير الوطني. كمال أن كل الخطوات التي تم اتخاذها اتسمت بحجم كبير من الافتعال والارتجال، أصبحت نتائجه في مستقبل قريب ألغاما وقنابل موقوتة.
ألغام وقنابل موقوتةوبدأ التحول بالتوسع في تكوين الجمعيات غير السياسية، وهكذا تكونت جمعيات كان الهدف الرئيسي منها أن تشكل مجموعا لما يسمى بالمجتمع المدني الذي سيطلب منه في مرحلة قادمة القيام بدور سياسي لمحاصرة الأحزاب السياسية التي أسماها دستور 1989 بالجمعيات السياسية.
ثم افتعلت أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988 التخريبية. وولدت تعددية عكست إرادة تفتيت الشارع السياسي، فكان يكفي أن يلتقي 15 شخصا في إحدى القاعات لتتم الموافقة على اعتبارهم حزبا سياسيا يحظى بدعم الدولة المالي والإداري والأمني.
وهكذا وصل عدد الأحزاب إلى أكثر من 60 حزبا كان برنامج معظمها هو التنديد بجبهة التحرير الوطني وبممارساتها منذ استرجاع الاستقلال، وهو ما كان يلقى ارتياحا كبيرا من المستعمر السابق، خصوصا عندما تصاعدت الشعارات المعادية للعروبة وللإسلام والمتناقضة مع ثورة نوفمبر التحريرية.
وتم تكوين حزب منافس لجبهة القوى الاشتراكية لكيلا تحتكر الساحة القبائلية، وهو التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية.
بروز الإسلاميينوتأتي الانتخابات البلدية في يونيو/حزيران 1990 لتعطي الفرصة لبروز قوة جديدة استفادت من كل المحاولات التي بذلت لتحجيم جبهة التحرير الوطني أو لتقزيمها، وهكذا تفوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالأغلبية في 853 بلدية من أصل 1541، وكذلك في 31 مجلسا ولائيا من مجموع 48 مجلسا، وبحيث تتمتع برصيد انتخابي يتجاوز ثلاثة ملايين صوت.

كان يمكن أن تمر الأمور عام 1991 بهدوء وتتجنب البلاد شلالات الدم التي سالت لو تم تشكيل برلمان يضم "موازاييك" سياسيا من مختلف القوى التي تنشط على الساحة وبنسب تنسجم مع وجودها الفعلي المؤثر
وتأتي الانتخابات التشريعية في ديسمبر/كانون الأول 1991 لتكون الباب الذي تدخل منه البلاد إلى العشرية الحمراء، حيث تجرى الانتخابات التي وصفت آنذاك رسميا بالانتخابات النزيهة والشفافة، وكان المنتصرون الأوائل هم ما اصطلح على تسميتهم بالجبهات الثلاث: الجبهة الإسلامية للإنقاذ وجبهة التحرير الوطني وجبهة القوى الاشتراكية، وأصيبت الأحزاب المجهرية ذات الاتجاهات اللائكية ومن يقف وراءها بهزيمة نكراء.
وكان يمكن أن تمر الأمور عام 1991 بهدوء، ويتم تكوين برلمان يضم "موازاييك" سياسيا يضم القوى التي تنشط على الساحة بنسب تنسجم مع وجودها الفعلي المؤثر. لكن قنبلة موقوتة كان قد تم إعدادها لنسف كل شيء تحقيقا للمخطط المطلوب.
وهكذا أقنعت مجموعة العمل المكلفة بإعداد قانون الانتخابات صاحب القرار بأن تقارير الرصد الجماهيري تؤكد حصول جبهة التحرير (أي النظام القائم) على أغلبية الأصوات، وتتوزع الأصوات الباقية بين الجبهة الإسلامية من جهة والجبهة الاشتراكية وبقية الأحزاب الجديدة من جهة أخرى، بما فيها التجمعات اللائكية والعلمانية والمجهرية.
وهكذا اعتمد نظام الأغلبية بدلا من نظام النسبية، وهو عمل كانت له آثار كارثية على مستقبل البلاد، فقد انقلب السحر على الساحر.
كما أن جبهة "الإنقاذ" التي حصلت في الدور الأول للانتخابات التشريعية على ثلاثة ملايين صوت، انتزعت 180 مقعدا في المجلس من مجموع 380 (أصبح العدد الآن 389) بينما لم تأخذ جبهة التحرير أكثر من 18 مقعدا، أي عشر عدد مقاعد "الإنقاذ"، رغم حصولها على نصف عدد أصواته أي نحو 1.6 مليون صوت.
ونظرا لتركز أصوات "الاشتراكية" في جهة واحدة تمتلك فيها الأغلبية فقد انتزعت 25 مقعدا، رغم أن الأصوات التي حصلت عليها لا تتجاوز ثلث أصوات جبهة التحرير.
سلسلة الأعمال المتشنجةوأصيبت مراكز القرار بنوع من الذعر دفعها إلى الكثير من التخبط. وبدأت سلسلة الأعمال المتشنجة والمستفزة التي أدت إلى إيقاف المسار الانتخابي وتنحية الرئيس الشاذلي بن جديد، وإغلاق الباب أمام التغيير على ضوء الدستور، على أساس ما أعلن عن شغور منصب رئيس المجلس الوطني الشعبي (عبد العزيز بلخادم آنذاك) الذي كان من المفروض أن يتولى الرئاسة المؤقتة في انتظار انتخاب رئيس جديد. ثم تولت قيادة البلاد الهيئة الوحيدة المشار لها في الدستور وهي المجلس الأعلى للأمن الذي قام باستقدام المرحوم محمد بوضياف من المغرب ليترأس لجنة دولة سميت فيما بعد مجلس دولة. وعرفت مرحلة ما بعد عام 1992 تكوين مجالس بالتعيين حلت محل المجالس المنتخبة حتى على مستوى البلديات، وتم تمرير عدد من التشريعات الجائرة ومن بينها تجميد قانون اللغة العربية والبيع الفوضوي للأراضي.

ففي فبراير/شباط 1992 تكون المجلس الاستشاري (الذي سمي تهكما بالانكشاري) وخلفه عام 1994 المجلس الانتقالي (الذي سمي بالانتقائي) وكان الأعضاء جميعا معينين.
ورفضت جبهة التحرير الاعتراف بشرعية ما حدث، واعتبرت أن قيادة البلاد قيادة أمر واقع، فرسخت بذلك عقدة انعدام الشرعية عند السلطة، وهي عقدة كان دواؤها انتخابات تشريعية جديدة.
وحاولت السلطة تجنيد ما أصبح يسمى بالمجتمع المدني من تنظيمات عمالية وجمعيات لتشكل منه طبقة سياسية بديلة، ولكنها فشلت في تأكيد شرعيتها، وتزامن ذلك مع تزايد أعمال العنف.
لكن الشغور على مستوى رئاسة الجمهورية إذ كان زروال قد عين رئيسا للدولة عام 1994 خلفا للرئيس علي كافي، كان يحتم البدء بانتخابات رئاسية وفي إطار التعددية.
والمؤكد أن انتخاب زروال في نوفمبر/تشرين الثاني 1995 كان تعبيرا حقيقيا عن إرادة شعبية في تحقيق السلم والاستقرار، وتأكد أن الحديث عن تزوير للإرادة الشعبية بشكل مباشر في الانتخابات الرئاسية هو هراء، وهذا بغض النظر عن بعض التجاوزات أو الأساليب والطرق التي استعملت لاختيار المرشحين الآخرين، والتي جعلت البعض يتحدثون للمرة الأولى في تاريخ البلاد عن أرانب سباق. وتم تغيير قيادة جبهة التحرير المشاكسة بانقلاب داخلي.
الوليد العملاق
كان الاستفتاء على التعديل الدستوري عام 1996 مناسبة أظهر فيها كثيرون عدم رضاهم عما يحدث، فقد تجاهل تعديل الميكانيزمات التي وضعها دستور 1989، وبدا واضحا أن الهدف الرئيسي كان إقحام قضية الأمازيغية وإقامة غرفة ثانية مهمتها الرئيسية التحكم في نشاطات الغرفة الأولى.
وللمرة الأولى يرتفع عدد المصوتين بـ"لا" إلى نحو مليونين (أي عشر المصوتين بنعم تقريبا) مع نحو أربعة ملايين مقاطع، رغم كل الجهود الإدارية التي بذلت لتحقيق نتائج أحسن بما فيها التهديد الضمني للمواطن الممتنع.
وتعالت أصوات التنديد بالتزوير، وحملت القيادة الجديدة لجبهة التحرير سيف محاربة التزوير، ولكن السيف كان خشبيا هدفه في نهاية الأمر الحصول على بعض المكاسب هنا أو هناك.
ويبرز عنصر جديد على الساحة السياسية وهو تحول تشكيلات مؤيدة للرئيس إلى حزب سياسي حمل اسم "التجمع الوطني الديمقراطي"، ورفض زروال رئاسته.
ويخوض الحزب الانتخابات التشريعية عام 1997 لينتزع الأغلبية في المجلس الوطني ثم في مجلس الأمة، مما أعطى الفرصة للحديث عن مولود ولد بشواربه ولحيته، وعن مراكز النفوذ التي تمارسها السلطة من وراء ستار. وتتصور السلطة أنها استعادت الشرعية البرلمانية التي فقدت في يناير/كانون الثاني 1992.
قنبلة غير متوقعة
ويتزايد الإحباط الشعبي من كل ما يتعلق بالانتخابات. ويفجر زروال في سبتمبر/أيلول 1998 قنبلته غير المتوقعة، حيث يعلن عن اختصار عهدته الرئاسية بعد تعرضه لاستفزازات إعلامية، وبعد عجز الطبقة السياسية عن احتضانه ودعم جهوده وحمايته، مما جعله حبيس مكتبه ورهن إرادات غيره.
وتجرى الانتخابات الرئاسية في أبريل/نيسان 1999، وينسحب ستة مرشحين قبيل إجراء الانتخابات، تاركين المرشح السابع عبد العزيز بوتفليقة ليخوضها وحده. وكان المأخذ الرئيسي هو التزوير، وهو ما لم يقنع أحدا.
الهدف الحقيقي
ويتضح أن الهدف الحقيقي هو إفساد العرس الانتخابي، وهو ما بدا للوهلة الأولى نتيجة لتحليل خاطئ للأحداث اتسم بنظرة ذاتية، ولكن تأكد بعد ذلك أن هدفه الحقيقي أو على الأقل هذا ما خطط له البعض ووقع البعض الآخر في شراكه، هو إضعاف الرئيس المقبل لكي يظل دائما أسير وضعية معينة لا فكاك منها.
قانون الوئام المدني
وهنا لجأ الرئيس إلى الاستفتاء حول قانون الوئام المدني ليستكمل شرعية أبريل/نيسان 1999 بشرعية سبتمبر/أيلول 2000.
وكسب الرئيس الجولة، لكن عدم تمكنه أو عدم رغبته في التعامل مع البرلمان خارج الإطار الكلاسيكي للعمل البرلماني أدى إلى فقدانه مجالا للمناورة وفضاء سياسيا كان يمكن أن يوفر له الالتفاف التكتيكي حول القيادات الحزبية، خاصة تلك التي لا تحظى بجماهيرية حقيقية، وهو ما كان يمكن عمله عبر البرلمان لو وجد الناصحون أو سمع همسهم.
تجربة التسعينيات التشريعية وربما كانت تجربة التسعينيات التشريعية أقل تألقا من سابقاتها، نظرا لاختلال قواعد اللعبة ولأن نتائج التعددية المرتجلة لم يكن من الممكن أن تقود لغير ذلك.

رغم الإحباط الشديد هناك يقين عام بأن انتخابات تشريعية نزيهة تتم في وقتها المحدد وتفتح الباب أمام كل التيارات السياسية أيا كانت اتجاهاتها وتجري تحت رقابة وطنية ودولية وفي ظل شفافية مطلقة، هي وحدها القادرة على خلق المناخ الديمقراطي الصحي الذي ينتشل البلاد مما هي فيه، وهو ما يحتاج إلى صلابة الرجال وإيمان العجائز
ليس هناك ما ينطبق على الانتخابات القادمة أكثر من هذا التعبير الشعري، فلقد سئم الجزائريون الانتخابات وألاعيبها ونتائجها غير المؤكدة، حتى وإن لم يصل كثيرون اليوم إلى قرار نهائي بمقاطعتها.
ومما يشجعهم على هذا الموقف هو أن هناك تيارات أعلنت رفضها للانتخابات ما لم يُمنع الوطنيون والإسلاميون من المشاركة فيها، أي أن تمنع الأغلبية الجماهيرية من ممارسة حقها المشروع الذي يكفله الدستور.

هذه التيارات اللائكية في معظمها هي التي ترفع شعارات الديمقراطية، وكانت هي نفسها التي رفعت يوما شعار "المجتمع المفيد"، وموجزه أن أغلبية المواطنين تعيش في وضعية فكرية واجتماعية لا تسمح لها بالتعبير الحر عن رأيها، وهي-إن أعطيت الفرصة- ستسيء الاختيار، كما حدث عام 1991.

هنا ومن دون محاولة للمضاربة، يمكن أن ندرك معنى عودة الأعمال الإجرامية إلى بعض المناطق الجزائرية، ونفهم لماذا ينادي البعض المؤسسة العسكرية للعودة إلى وضعية بداية التسعينيات، لتتمكن الأقلية من التحكم في رقاب الأغلبية.
ويرى المواطن بالحس الشعبي، وإثر الأحداث التي عرفتها منطقة القبائل وتأثرت بملابساتها وتداعياتها مناطق متعددة في أرض الوطن، ضرورة وجود سلطة مركزية قوية تتمتع بالشرعية الكاملة وتتخذ القرار الصائب فيما يتعلق بالمطالب التي يرى الكثيرون في بعضها نوعا من التعجيز، وفي بعضها الآخر محاولة لتدمير هيبة الدولة الجزائرية.
والشعور العام هو أن فشل الرئيس في إجراء الانتخابات ينقص من إمكانيات الخروج السريع من المستنقع الدموي الذي عانت منه البلاد في العشرية الماضية، بالإضافة إلى أنه يعطي الفرصة لبعض التيارات لمواصلة عملية الابتزاز السياسي التي عرفتها البلاد منذ إيقاف المسار الانتخابي.
ويعني هذا بكل وضوح أن هناك يقينا عاما -رغم الإحباط الشديد- بأن انتخابات تشريعية نزيهة تتم في وقتها المحدد وتفتح الباب أمام كل التيارات السياسية أيا كانت اتجاهاتها وتجري تحت رقابة وطنية ودولية وفي ظل شفافية مطلقة، هي وحدها القادرة على خلق المناخ الديمقراطي الصحي الذي يمكن السلطة التنفيذية من طرح مشاريع الإصلاح الإداري والتعليمي في إطارها الصحيح كقوانين تناقش شعبيا ثم برلمانيا لتكون في نهاية الأمر قوانين ملزمة للجميع.
لكن الذين يعرفون ضآلة حجمهم الانتخابي يعملون على عرقلة الانتخابات والعودة إلى وضعية مؤقتة حققت لهم تأثيرا على الساحة يتجاوز حجمه الهائل وجودهم الفعلي، وفي الوقت نفسه فإن كثيرين ممن يؤيدون إجراء الانتخابات يرفضون أسلوب ترتيب قوائم المرشحين بما يجعل الاختيار الحقيقي في يد قيادات حزبية كثير منها لا يستطيع إثبات شرعيته القيادية.
وتظل الانتخابات الجزائرية تحديا يحتاج صلابة الرجال وإيمان العجائز.





_______________
* كاتب جزائري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق