الاثنين، 14 مايو 2012

الموافقات.د. نعمان جغيم

لا مراء في القيمة العلمية لكتاب الموافقات للإمام الشاطبي؛ ففيه نَضُجَ التنظير لمقاصد الشريعة، وفيه تحقيقات في غاية الأهمية لكثير من المسائل الأصولية، وفيه محاولة لإعادة بناء النظرية الأصولية على وفق مقاصد الشريعة. ولا غرابة في ذلك فهو ثمرة تأملات هذا العالم المحقِّق خلال حياته العلمية، حتى وصفه بأنه "نتيجة عمره ...(و) يتيمة دهره". ولذلك فإنه لا غنى للمتخصص في العلوم الشرعية طالبا كان أو باحثا أو عالما عن دراسة هذا الكتاب. وما زلت أتذكر ما قاله لنا الشيخ محمد الغزالي ـ يرحمه الله ـ أنه قرأ كتاب الموافقات مرات كثيرة.
ولكن هذا الكتاب القيّم والعمل الرائد تحول دون سهولة تناوله بين أهل العلم حوائل، أبرزها:
1. طول نصه بما حواه من استطرادات وطول نفس في الاستدلال ودفع الاعتراضات، حيث تجعل تلك الاستطرادات القارئ يتيه أحيانا في ثناياها، حتى ربما سها عن بعض المعاني الأساسية التي أراد المُصنِّف تقريرها. والمُصنِّف معذور في هذا؛ فهو بحكم تأسيسه لعلم المقاصد وربط المسائل الأصولية به، وبسبب ما كان يواجهه أو يتوقّعه من اعتراضات ورفض لآرائه، أطال النفس في الاستدلال لما يُقرِّرُه، واستقصاء ما يمكن الاعتراض به والردّ عليه بجميع الوجوه الممكنة.
2. تعقيد العبارة في بعض المواضع الناتج خصوصا عن كثرة التفريعات للمسألة الواحدة في سياق واحد مما يُصعِّب على القارئ فكّ تلك التفريعات ثم الربط بينها وبين ما يأتي بعدها من تفصيلات واستدلالات، وربما احتاج إلى قراءة الفقرة مرات حتى يتمكن من فكّ تفريعاتها.
ونظرا لإدراكي لأهمية الكتاب وحاجة أهل العلم إلى تداوله وتدارسه، فإني رأيت أن من أفضل ما يُقدَّم لعلم أصول الفقه في هذا العصر تهذيب هذا الكتاب وتيسير قراءته وتداوله بين أهل العلم.

عملي في التهذيب

انطلاقا من اعتقادي أن كتاب الموافقات لا يحتاج إلى شروح وتعليقات بقدر ما يحتاج إلى تهذيب، ومن اعتقادي بأنه ينبغي المحافظة على الكتاب بوصفه عملا للشاطبي لغة وأسلوبا ومضمونا، فإني رأيت أن تلخيصه بأسلوبي يُعَدّ إفسادا له، وأن التعليق على مسائله لا يخدم غرض الإنقاص من حجمه وتيسيره للقارئ. وبناء على ذلك، فقد حافظت على كلام الشاطبي بلغته الجميلة وأسلوبه الشيق، ولم أدخل كلامي إلاّ في مواضع نادرة، وبأقل كلام ممكن، حيث اقتضى الأمر الربط أو تبسيط ما لا مفرّ من تبسيطه للقارئ.
ولم أر داعيا للتعليق والشرح من أجل تبسيط مضمون الكتاب؛ لأن القصد من التيسير جعله في متناول القارئ المؤهَّل لقراءته، وهو القارئ الذي له سهم في مسائل أصول الفقه. ورأيت أن سبيل ذلك التيسير يكون بتخليصه من الاستطرادات وترتيب مسائله بطريقة تيسّر على القارئ الإلمام بها.
كما أني لم أعلِّق على آراء الشاطبي أو أتعرض لها بالمناقشة؛ لأن ذلك ليس من هدفي في هذا التهذيب، بل إني التزمت المحافظة على آرائه ولغته وأسلوبه، اللهم ما كان من تعليقات نادرة اقتضاها المقام أدرجتها في الهامش لا في نص الكتاب.
ويمكن تلخيص عملي في هذا التهذيب فيما يأتي:
- تخليص الكتاب من الاستطرادات التي رأيت أنه يمكن تقرير مسائل الكتاب وإثباتها دون حاجة إليها، ومن بعض التفريعات والاستدلالات الخطابية التي كان ضعفها بَيِّنًا، ولا يضرّ الاستغناءُ عنها بمسائل الكتاب.
- ترتيب عناصر كل مسألة بما يجعل قراءتها سلسة وفهمها ميسورا. وقد اقتضى مني ذلك أحيانا تقديما وتأخيرا لعناصر المسألة، أو نقل بعض العناصر من مسألة إلى مسألة أخرى أليق بها، كما هو الحال في نقل مسألة "إثبات وجود مقاصد تابعة للعبادات" من خاتمة المسألة الثانية عشرة من القسم الثاني من المقاصد إلى المسألة الثانية من النوع الرابع من مقاصد الشارع (قصد الشارع في دخول المكلّف تحت أحكام الشريعة).
- تخليص الكتاب من الأحاديث الضعيفة والتي لا أصل لها؛ لأن الكتاب ليس في حاجة إليها أصلا، حيث يورد الشاطبي عادة من الآيات والأحاديث الثابتة ما يكفي للاستشهاد على مسائل الكتاب. ولأن عملي هو تهذيبٌ للكتاب فإني لم أر داعيا للتخريج المفصَّل لأحاديثه، ولكني تأكدت من ثبوت الأحاديت التي أبقيتها في التهذيب وقبولها عند أهل العلم بالحديث، ثم اكتفيت بالإحالة في الهامش على أحد كتب الحديث، مع العلم أن الحديث قد يكون أخرجه غير صاحب ذلك الكتاب، ولكن لا حاجة إلى الإحالة على جميع المصنَّفات التي أخرجت الحديث.
- تخليص الكتاب من بعض قصص الصوفية التي لا يحتاج إليها تقرير مسائل الكتاب لما فيها من تطويل أو غرابة، ولكن مع ذلك فقد حرصت على إبقاء (مما أورده من حكايات أصحاب الأحوال من الصوفية) ما هو مُحتاجٌ إليه لتقرير بعض مسائل الكتاب، لأن ذلك ضروري للمحافظة على روح الكتاب وأحد مقاصد مؤلفه. فقد بدا لي أن من أهداف الشاطبي من تأليف هذا الكتاب الجمع بين طريقة الفقهاء وطريقة أصحاب الأحوال من أهل التصوف السُّنِّي المستقيم على قواعد الشريعة في التعامل مع الأحكام الشرعية.
وعلى الله قصد السبيل، وهو الهادي إلى الحق والموفق لكل خير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق