الأحد، 13 مايو 2012

طبائع الاستبداد/النص الكامل -07-


طبائع الاستبداد/النص الكامل -07-
والنوع الثاني: الخصال الكمالية التي جاءت بها الشرائع الإلهامية، كتحسين الإيثار والعفو وتقبيح الزنّى والطمع؛ وهذا القسم يوجد فيه ما لا تدرك كلُّ العقول حكمته أو حكمة تعميمه، فيمثّله المنتسبون للدّين احتراماً أو خوفاً.
والنوع الثالث: الخصال الاعتيادية، وهي ما يكتسبه الإنسان بالوراثة أو بالتربية أو بالإلفة، فيستحسن أو يستقبح على حسب أمياله ما لم يُضطرّ إلى التحوّل عنها.
ثمَّ إنَّ التدقيق يفيد أنَّ الأقسام تشتبك وتشترك ويؤثر بعضها في بعض، فيصير مجموعها تحت تأثير الإلفة المديدة، بحيث كلُّ خصلة منها ترسخ أو تتزلزل، حسبما يصادفها من استمرار الإلفة أو انقطاعها، فالقاتل – مثلاً – لا يستنكر شنيعته في المرّة الثانية كما استقبحها في نفسه في الأولى، وهكذا يخفُّ الجرم في وهمه، حتى يصل إلى درجة التلذذ بالقتل، كأنّه حقٌّ طبيعي له، كما هي حالة الجبّارين وغالب السياسيين، الذين لا ترتجُّ في أفئدتهم عاطفة رحمة عند قتلهم أفراداً أو أمماً لغاياتهم السياسية، إهراقاً بالسيف أو إزهاقاً بالقلم، ولا فرق بين القتل بقطع الأوداج وبين الإماتة بإيراث الشقاء غير التسريع والإبطاء.
أسير الاستبداد العريق فيه يرث شرَّ الخصال، ويتربّى على أشرِّها، ولا بدَّ أن يصحبه بعضها مدى العمر. بناءً عليه؛ ما أبعده عن خصال الكمال! ويكفيه مفسدةً لكلِّ الخصال الطبيعية والشرعية والاعتيادية تلبسه بالرّياء اضطراراً حتى لا يألفه ويصير مَلَكةً فيه، فيفقد بسبب ثقته نفسه بنفسه، لأنَّه لا يجد خُلُقاً مستقرّاً فيه، فلا يمكنه، مثلاً، أن يجزم بأمانته، أو يضمن ثباته على أمرٍ من الأمور، فيعيش سيئ الظنّ في حقِّ ذاته متردداً في أعماله، لوّاماً نفسه على إهماله شؤونه، شاعراً بفتور همَّته ونقص مروءته، ويبقى طول عمره جاهلاً مورد هذا الخلل، فيتَّهم الخالق،والخالقُ – جلَّ شأنه – لم يُنقصه شيئاً. ويتَّهم تارةً دينه، وتارةً تربيته، وتارةً زمانه، وتارةً قومه، والحقيقة بعيدة عن كلِّ ذلك، وما الحقيقة غير أنّه خُلق حرّاً فأُسر.
أجمع الأخلاقيون على أنَّ المتلبِّس بشائبةٍ من أصول القبائح الخلقية لا يمكنه أن يقطع بسلامة غيره منها، وهذا معنى: «إذا ساءت فِعال المرء ساءت ظنونه». فالمرائي – مثلاً – ليس من شأنه أن يظنَّ البراءة في غيره من شائبة الرياء، إلاّ إذا بَعُدَ تشابه النشأة بينهما بُعداً كبيراً، كأن يكون بينهما مغايرة في الجنس أو الدّين أو تفاوت مهمٌّ في المنزلة كصعلوك وأمير كبير. ومثال ذلك الشرقيّ الخائن، يأمن الإفرنجي في معاملته، ويثق بوزنه وحسبانه، ولا يأمن ويثق بابن جلدته. وكذلك الإفرنجي الخائن قد يأمن الشرقي، ولا يأمن مطلقاً ابن جنسه. وهذا الحكم صادق على عكس القضية أيضاً؛ أي أنَّ الأمين يظنُّ الناس أمناء خصوصاً أشباهه في النشأة، وهذا معنى «الكريم يُخدَع»، وكم يذهل الأمين في نفسه عن اتِّباع حكمة الحزم في إساءة الظنِّ في مواقعه اللازمة.
إذا علمنا أنَّ من طبيعة الاستبداد ألفة الناس بعض الأخلاق الرديئة، وأنَّ منها ما يُضعف الثّقة بالنفس، علمنا سبب قلة أهل العمل وأهل العزائم في السّراء، وعلمنا أيضاً حكمة فقد الأُسراء ثقتهم بعضهم ببعض. فينتج من ذلك أنَّ الأُسراء محرومون – طبعاً – من ثمرة الاشتراك في أعمال الحياة،يعيشون مساكين بائسين متواكلين متخاذلين متقاعسين متفاشلين، والعاقل الحكيم لا يلومهم، بل يشفق عليهم، ويلتمس لهم مخرجاً. ويتبع أثر أحكم الحكماء القائل: «ربِّ ارحم قومي، فإنهم لا يعلمون»، «اللهم اهدِ قومي، فإنهم لا يعلمون.»
وهنا أستوقف المطالع وأستلفته إلى التأمّل في ما هي ثمرة الاشتراك التي يحرمها الأسراء، فأذكره بأنَّ الاشتراك هو أعظم سرٍّ في الكائنات، به قيام كلِّ شيء ما عدا الله وحده. به قيام الأجرام السماوية؛ به قيام كلِّ حياة؛ به قيام المواليد؛ به قيام الأجناس والأنواع؛ به قيام الأمم والقبائل؛ به قيام العائلات؛ به تعاون الأعضاء. نعم، الاشتراك فيه سرُّ تضاعف القوة بنسبة ناموس التربيع؛ فيه سرُّ الاستمرار على الأعمال التي لا تفي بها أعمار الأفراد. نعم؛ الاشتراك هو السرُّ كلُّ السرّ في نجاح الأمم المتمدنة. به أكملوا ناموس حياتهم القومية، به ضبطوا نظام حكوماتهم، به قاموا بعظائم الأمور، به نالوا كل ما يغبطهم عليه أُسراء الاستبداد الذين منهم العارفون بقدر الاشتراك ويتشوَّقون إليه، ولكن؛ كلٌّ منهم يُبطن لغبن شركائه باتِّكاله عليهم عملاً، واستبداده عليهم رأياً، حتى صار من أمثالهم قولهم: «ما من متَّفقين إلا واحدهما مغلوبٌ للآخر.»
ورُبَّ قائلٍ يقول إنَّ سرَّ الاشتراك ليس بالأمر الخفيّ، وقد طالما كتب اليابانيين والبوير، فما السبب؟ فأجيبه بأنَّ الكُتَّاب كتبوا وأكثروا وأحسنوا فيما فصّلوا وصوّروا، ولكنْ؛ قاتل الله الاستبداد وشؤمه، جعل الكتّاب يحصرون أقوالهم في الدعوة إلى الاشتراك، وما بمعناه من التعاون والاتحاد والتحابب والاتِّفاق، ومنعهم من التعرُّض لذكر أسباب التفرّق والانحلال كليّاً، أو اضطرهم إلى الاقتصار على بيان الأسباب الأخيرة فقط. فمن قائلٍ مثلاً: الشرق مريضٌ وسببه الجهل، ومن قائلٍ: الجهل بلاء وسببه قلّة المدارس، ومن قائلٍ: قلّة المدارس عارٌ وسببه عدم التعاون على إنشائها من قبل الأفراد أو من قبل ذوي الشأن.
وهذا أعمق ما يخطُّه قلم الكاتب الشرقي كأنّه وصل إلى السبب المانع الطبيعي أو الاختياري. والحقيقة، أنَّ هناك سلسلة أسباب أخرى حلقتها الأولى الاستبداد.
وكاتب آخر يقول: الشرق مريض وسببه فقد التمسّك بالدين، ثمَّ يقف، مع أنَّه لو تتبَّع الأسباب لبلغ إلى الحكم بأنَّ التهاون في الدين أولاً وآخراً ناشئ من الاستبداد. وآخر يقول: إنَّ السبب فساد الأخلاق، وغيره يرى أنّه فقد التربية، وسواء ظنَّ أنَّه الكسل، والحقيقة أنَّ المرجع الأول في الكلّ هو الاستبداد، الذي يمنع حتى أولئك الباحثين عن التصريح باسمه المهيب.
وقد اتَّفق الحكماء الذين أكرمهم الله تعالى بوظيفة الأخذ بيد الأمم في بحثهم عن المهلكات والمنجيات، على أنَّ فساد الأخلاق يُخرج الأمم عن أن تكون قابلة للخطاب، وأنَّ معاناة إصلاح الأخلاق من أصعب الأمور وأحوجها إلى الحكمة البالغة والعزم القوي، وذكروا أنَّ فساد الأخلاق يعمُّ المستبدَّ وأعوانه وعماله، ثمَّ يدخل بالعدوى إلى كلّ البيوت، ولا سيما بيوت الطبقات العليا التي تتمثَّل بها السفلى. وهكذا يغشو الفساد، وتمسي الأمة يبكيها المحبُّ ويشمت بها العدو، وتبيت وداؤها عياء يتعاصى على الدواء.
وقد سلك الأنبياء عليهم السلام، في إنقاذ الأمم من فساد الأخلاق، مسلك الابتداء أولاً بفكِّ العقول من تعظيم غير الله والإذعان لسواه. وذلك بتقوية حسن الإيمان المفطور عليه وجدان كلُّ إنسان، ثمَّ جهدوا في تنوير العقول بمبادئ الحكمة، وتعريف الإنسان كيف يملك إرادته؛ أي حريته في أفكاره، واختياره في أعماله، وبذلك هدموا حصون الاستبداد وسدّوا منابع الفساد.
ثمَّ بعد إطلاق زمام العقول، صاروا ينظرون إلى الإنسان بأنَّه مكلَّف بقانون الإنسانية، ومطالب بحسن الأخلاق، فيعلمونه ذلك بأساليب التعليم المقنع وبثّ التربية التهذيبية.
والحكماء السياسيون الأقدمون اتَّبعوا الأنبياء – عليهم السلام – في سلوك هذا الطريق وهذا الترتيب؛ أي بالابتداء من نقطة دينية فطرية تؤدي إلى تحرير الضمائر، ثمَّ باتِّباع طريق التربية والتهذيب بدون فتورٍ ولا انقطاع.
أما المتأخرون من قادة العقول في الغرب، فمنهم فئة سلكوا طريقة الخروج بأممهم من حظيرة الدين وآدابه النفسية، إلى فضاء الإطلاق وتربية الطبيعة، زاعمين أنَّ الفطرة في الإنسان أهدى سبيلاً، وحاجته إلى النظام تغنيه عن إعانة الدين، التي هي كالمخدرات سموم تعطِّل الحسَّ بالهموم، ثمّ تذهب بالحياة، فيكون ضررها أكبر من نفعها.
وقد ساعدهم على سلوك هذا المسلك، أنَّهم وجدوا أممهم قد فشا فيها نور العلم، ذلك العلم الذي كان منحصراً في خدمة الدين عند المصريين والآشوريين، ومحتَكَراً في أبناء الأشراف عند الغرناطيين والرومان، ومخصصاً في أعداد من الشّبان المنتخبين عند الهنديين واليونان، حتى جاء العرب بعد الإسلام، وأطلقوا حرية العلم، وأباحوا تناوله لكلِّ متعلم، فانتقل إلى أوربا حراً على رغم رجال الدين، فتنوَّرت به عقول الأمم على درجات، وفي نسبتها ترقَّت الأمم في النعيم، وانتشرت وتخالطت، وصار المتأخِّر منها يغبط المتقدِّم ويتنغَّص من حالته، ويتطلَّب اللحاق، ويبحث عن وسائله. فنشأ من ذلك حركة قوية في الأفكار، وحركة معرفة الخير والغيرة على نواله، حركة معرفة الشرّ والأنَفَة من الصبر عليه، حركة السير إلى الأمام رغم كلِّ معارض. اغتنم زعماء الحرية في الغرب قوة هذه الحركة وأضافوا إليها قوات أدبية شتّى، كاستبدالهم ثقالة وقار الدين بزهوة عروس الحرية، حتى إنَّهم لم يبالوا بتمثيل الحرية بحسناء خليعة تختلب النفوس. وكاستبدالهم رابطة الاشتراك في الطاعة للمستبدين برابطة الاشتراك في الشؤون العمومية، ذلك الاشتراك الذي يتولّد منه حبُّ الوطن. وهكذا جعلوا قوة حركة الأفكار تياراً سلّطوه على رؤوس الرؤوس من أهل السياسة والدين. ثمَّ إنَّ هؤلاء الزعماء استباحوا القساوة أيضاً، فأخذوا من مهجورات دينهم قاعدة «الغاية تبرر الواسطة»، كجواز السرقة إذا كانت الغاية من صرف المال في سبيل الخير، وقاعدة «تثقيل الذمة يبيح الفعل القبيح» كشهادة الزور على ذمّة الكاهن التي يتحمَّل عنها خطيئتها، ودفعوا الناس بهما إلى ارتكاب الجرائم الفظيعة التي تقشعرُّ منها الإنسانية، التي لا يستبيحها الحكيم الشرقي لما بين أبناء الغرب وأبناء الشرق من التباين في الغرائز والأخلاق.
الغربي: ماديُّ الحياة، قويُّ النفس، شديد المعاملة، حريصٌ على الانتقام، كأنَّه لم يبقَ عنده شيء من المبادئ العالية والعواطف الشريفة التي نقلتها له مسيحية الشرق. فالجرماني مثلاً: جاف الطبع، يرى أنَّ العضو الضعيف من البشر يستحق الموت، ويرى كلَّ فضيلة في القوة، وكلَّ القوة في المال، فهو يحبُّ العلم، ولكن، لأجل المال؛ ويحبُّ المجد، ولكن لأجل المال. وهذا اللاتيني مطبوع على العجب والطيش، يرى العقل في الإطلاق، والحياة في خلع الحياء، والشّرف في التّرف، والكياسة في الكسب، والعزّ في الغلبة، واللذَّة في المائدة والفراش.
أما أهل الشرق فهم أدبيون، ويغلب عليهم ضعف القلب وسلطان الحبِّ، والإصغاء للوجدان، والميل للرّحمة ولو في غير موقعها، واللُّطف ولو مع الخصم. ويرون العزَّ في الفتوة والمروءة، والغنى في القناعة والفضيلة، والراحة في الأنس والسّكينة، واللذة في الكرم والتحبب، وهم يغضبون، ولكن؛ للدين فقط، ويغارون، ولكن؛ على العِرْض فقط.
ليس من شأن الشرقي أن يسير مع الغربي في طريقٍ واحدة، فلا تطاوعه طباعه على استباحة ما يستحسنه الغربي، وإن تكلَّف تقليده في أمر فلا يُحسن التقليد، وإن أحسنه فلا يثبت، وإن ثبت فلا يعرف استثماره، حتى لو سقطت الثمرة في كفِّه تمنّى لو قفزت على فمه!.. فالشرقي مثلاً يهتمُّ في شأن ظالمه إلى أن يزول عنه ظلمه، ثمَّ لا يفكر فيمن يخلفه ولا يراقبه، فيقع في الظلم ثانيةً، فيعيد الكرّة ويعود الظلم إلى ما لا نهاية. وكأولئك الباطنة في الإسلام: فتكوا بمئات أمراء على غير طائل، كأنَّهم لم يسمعوا بالحكمة إنَّ)النبوية: «لا يُلدَغ المرء من جُحرٍ مرتين»، ولا بالحكمة القرآنية « الله يحبُّ المتَّقين».أما الغربي إذا أخذ على يد ظالمه فلا يفلته حتى يشلَّها، بل حتى يقطعها ويكوي مقطعها.
وهكذا بين الشرقيين والغربيين فروقٍ كثيرة، قد يفضل في الإفراديات الشرقي على الغربي، وفي الاجتماعيات يفضل الغربي على الشرقي مطلقاً. مثال ذلك: الغربيون يستحلفون أميرهم على الصداقة في خدمته لهم والتزام القانون. والسلطان الشرقي يستحلف الرعية على الانقياد والطاعة! الغربيون يَمنّون على ملوكهم بما يرتزقون من فضلاتهم، والأمراء الشرقيون يتكرَّمون على من شاؤوا بإجراء أموالهم عليهم صدقات! الغربي يعتبر نفسه مالكاً لجزءٍ مشاع من وطنه، والشرقيّ يعتبر نفسه وأولاده وما في يديه ملكاً لأميره! الغربي له على أميره حقوق، وليس عليه حقوق؛ والشرقي عليه لأميره حقوق وليس له حقوق! الغربيون يضعون قانوناً لأميرهم يسري عليه، والشرقيون يسيرون على قانون مشيئة أمرائهم! الغربيون قضاؤهم وقدرهم من الله؛ والشرقيون قضاؤهم وقدرهم ما يصدر من بين شفتي المستعبدين! الشرقي سريع التصديق، والغربي ينفي ولا يثبت حتى يرى ويلمس. الشرقي أكثر ما يغار على الفروج كأنَّ شرفه كلّه مستودَعٌ فيها، والغربي أكثر ما يغار على حريته واستقلاله! الشرقي حريصٌ على الدين والرياء فيه، والغربي حريصٌ على القوة والعزّ والمزيد فيهما! والخلاصة: أنَّ الشرقي ابن الماضي والخيال، والغربي ابن المستقبل والجد!..
الحكماء المتأخرون الغربيون ساعدتهم ظروف الزمان والمكان، وخصوصية الأحوال، لاختصار الطريق فسلكوه، واستباحوا ما استباحوا، حتى إنَّهم استباحوا في التمهيد السياسي تشجيع أعوان المستبدَّ على تشديد وطأة الظلم والاعتساف بقصد تعميم الحقد عليه، وبمثل هذه التدابير القاسية نالوا المراد أو بعضه، من تحرير الأفكار وتهذيب الأخلاق وجعل الإنسان إنساناً.
وقد سبق هؤلاء الغُلاة فئة اتَّبعت أثر النبيين، ولم تحفل بطول الطريق وتعبه، فنجحت ورسخت، وأعني بتلك الفئة أولئك الحكماء الذين لم يأتوا بدينٍ جديد، ولا تمسّكوا بمعاداة كلِّ دين، كمؤسسي جمهورية الفرنسيس، بل رتقوا فُتوق الدّهر في دينهم بما نقَّحوا، وهذَّبوا، وسهَّلوا، وقرَّبوا، حتى جدَّدوه، وجعلوه صالحاً لتجديد خليق أخلاق الأمة.
وما أحوج الشرقيين أجمعين من بوذيين ومسلمين ومسيحيين وإسرائيليين وغيرهم، إلى حكماء لا يبالون بغوغاء العلماء المرائين الأغبياء، والرؤساء القساة الجهلاء. فيجددون النّظر في الدّين، نظر من لا يحفل بغير الحقِّ الصريح، نظر من لا يضيع النتائج بتشويش المقدمات، نظر من يقصد إظهار الحقيقة لا إظهار الفصاحة، نظر من يريد وجه ربِّه لا استمالة الناس إليه، وبذلك يعيدون النواقص المعطَّلة في الدين، ويهذِّبونه من الزوائد الباطلة مما يطرأ عادةً على كلِّ دينٍ يتقادم عهده، فيحتاج إلى مجددين يرجعون به إلى أصله المبين البريء من حيث تمليك الإرادة ورفع البلادة من كل ما يشين، المخفِّف شقاء الاستبداد والاستعباد، المبصِّر بطرائق التعليم والتعلّم الصحيحين، المهيّئ قيام التربية الحسنة واستقرار الأخلاق المنتظمة مما به يصير الإنسان إنساناً، وبه لا بالكفر يعيش الناس إخواناً.
والشرقيون ما داموا على حاضر حالهم بعيدين عن المجد والعزم، مرتاحين للهو والهزل تسكيناً لآلام إسارة النفس، وإخلاداً إلى الخمول والتسفُّل، طلباً لراحة الفكر المضغوط عليه من كلِّ جانب، يتألمون من تذكيرهم بالحقائق، ومطالبتهم بالوظائف، ينتظرون زوال العناد بالتواكل، أو مجرد التمنّي والدعاء. أو يتربصون صدفة مثل التي نالتها بعض الأمم، فليتوقّعوا إذن أن يفقدوا الدين كلياً، فيمسوا – وما مساؤهم ببعيد – دهريين، لا يدرون أي الحياتين أشقى، فلينظروا ما حاق بالآشوريين والفينيقيين وغيرهم من الأمم المنقرضة المندمجة في غيرها خدماً وخَوَلاً.
والأمر الغريب، أنَّ كلَّ الأمم المنحطّة من جميع الأديان تحصر بلية انحطاطها السياسي في تهاونها بأمور دينها، ولا ترجو تحسين حالتها الاجتماعية إلا بالتمسُّك بعروة الدين تمسكاً مكيناً، ويريدون بالدين العبادة، ولنِعم الاعتقاد لو كان يفيد شيئاً، لكنه لا يفيد أبداً؛ لأنه قولٌ لا يمكن أن يكون وراءه فعل، وذلك أنَّ الدين بذرٌ جيد لا شبهة فيه، فإذا صدقت مغرساً طيباً نبت ونما، وإن صادف أرضاً قاحلة مات وفات، أو أرضاً مغراقاً هاف الاستبداد بصرها وبصيرتها، وأفسد أخلاقها ودينها، حتى صارت لا تعرف للدين معنى غير العبادة والنسك اللذين زيادتهما عن حدِّهما المشروع أضرُّ على الأمة من نقصهما كما هو مشاهد في المتنسكين.
نعم! الدين يفيد الترقّي الاجتماعي إذا صادف أخلاقاً فطرية لم تفسد، فينهض بها كما نهضت الإسلامية بالعرب، تلك النهضة التي نتطلبها منذ ألف عام عبثاً.
وقد علَّمنا هذا الدهر الطويل – مع الأسف – أنَّ أكثر الناس لا يحفلون بالدين إلا إذا وافق أغراضهم، أو لهواً ورياءً، وعلمنا أنَّ الناس عبيد منافعهم وعبيد الزمان، وأنَّ العقل لا يفيد العزم عندهم، إنما العزم عندهم يتولّد من الضرورة أو يحصل بالسائق المجبر. ولا يستحي الناس من أن يُلزموا أنفسهم باليمين أو النذر. بناءً عليه؛ ما أجدر بالأمم المنحطّة أن تلتمس دواءها من طريق إحياء العلم وإحياء الهمة مع الاستعانة بالدين والاستفادة منه بمثل: «إنَّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر»، لا أن يتَّكِلوا على أنَّ الصلاة تمنع الناس عنهما بطبعها.

[عدل] الاستبداد والتربية
خلق اللهُ في الإنسان استعداداً للصلاح واستعداداً للفساد، فأبواه يصلحانه، وأبواه يفسدانه؛ أي إنَّ التربية تربو باستعداده جسماً ونفساً وعقلاً، إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشرّ. وقد سبق أنَّ الاستبداد المشؤوم يؤثِّر على الأجسام فيورثها الأسقام، ويسطو على النفوس، فيفسد الأخلاق، ويضغط على العقول فيمنع نماءها بالعلم. بناءً عليه؛ تكون التربية والاستبداد عاملين متعاكسين في النتائج، فكلُّ ما تبنيه التربية مع ضعفها يهدمه الاستبداد بقوته، وهل يتمُّ بناءٌ وراءه هاد؟
الإنسان لا حدَّ لغايتيه رقيّاً وانحطاطاً. وهذا الإنسان الذي حارت العقول فيه، الذي تحمَّل أمانة تربية النَّفس، وقد أبتها العوالم، فأتمَّ خالقه استعداده، ثمَّ أوكله لخيرته، فهو إن يشأ الكمال يبلغ فيه إلى ما فوق مرتبة الملائكة، وإن شاء تلبَّس بالرَّذائل حتى أحطّ من الشياطين، على أنَّ الإنسان أقرب للشرِّ منه للخير. وكفى أنَّ الله ما ذكر الإنسان في القرآن، إلا وقرن اسمه بوصفٍ قبيح كظلوم وغرور وكفّار وجبّار وجهول وأثيم. ما ذكر الله تعالى الإنسان في القرآن إلا وهجاه، فقال: «قُتِل الإنسانُ ما أكفره»؛ «إنَّ الإنسان لكفورٌ»؛ «إنَّ الإنسان لفي خُسرٍ»؛ «إنَّ الإنسان ليطغى»؛ «وكان الإنسان عَجولاً»؛ «خُلِق الإنسان من عَجَلٍ». ما وُجِد من مخلوقات الله من نازع الله في عظمته، والمستبدّون من الإنسان ينازعونه فيها، والمتناهون في الرّذالة قد يقبحون عبثاً لغير حاجة في النَّفس حتى وقد يتعمدون الإساءة لأنفسهم.
الإنسان في نشأته كالغصن الرَّطب، فهو مستقيمٌ لدِنٌ بطبعه، ولكنّها أهواء التربية تميل به إلى يمين الخير أو شمال الشرّ، فإذا شبَّ يبس وبقي على أمياله ما دام حياً، بل تبقى روحه إلى أبد الآبدين في نعيم السرور بإيفائه حقَّ وظيفة الحياة أو في جحيم الندم على تفريطه. وربما كان لا غرابة في تشبيه الإنسان بعد الموت بالمرء الفرح الفخور إذا نام ولذَّت له الأحلام، أو بالمجرم الجاني إذا نام فغشيته قوارص الوجدان بهواجس كلُّها ملام وآلام.
التربية ملكةٌ تحصل بالتعليم والتمرين والقدوة والاقتباس، فأهمُّ أصولها وجود المرابين، وأهمُّ فروعها وجود الدين. وجعلت الدين فرعاً لا أصلاً؛ لأنَّ الدين علمٌ لا يفيد العمل إذا لم يكن مقروناً بالتمرين. وهذا هو سبب اختلاف الأخلاف من علماء الدين عند الإسلام عن أمثالهم من البراهمة والنصارى، وهو سبب إقبال المسلمين في القرن الخامس، وفيما بعده، على قبول أصول الطرائق التي كانت لبّاً محضاً لما كانت تعليماً وتمريناً؛ أي تربية للمريدين، ثمَّ خالطها القشر، ثمَّ صارت قشراً محضاً، ثمَّ صار أكثرها لهواً أو كفراً.
ملكة التربية بعد حصولها إنْ كانت شراً تضافرت مع النّفس ووليها الشيطان الخنّاس فرسخت، وإن كانت خيراً تبقى مقلقلة كالسفينة في بحر الأهواء، لا يرسو بها إلا فرعها الديني في السرِّ والعلانية، أو الوازع السياسي عند يقين العقاب.
والاستبداد ريحٌ صرصر فيه إعصار يجهل الإنسان كلّ ساعة شأنه، وهو مُفسِدٌ للدين في أهمِّ قسميه؛ أي الأخلاق، أما العبادات منه فلا يمسّها لأنها تلائمه أكثر. ولهذا تبقى الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجرّدة صارت عادات، فلا تفيد في تطهير النفوس شيئاً، ولا تنهى عن فحشاء ولا منكر لفقد الإخلاص فيها تبعاً لفقده في النفوس، التي ألفت أن تتلجأ وتتلوّى بين يدي سطوة الاستبداد في زوايا الكذب والرّياء والخداع والنفاق، ولهذا لا يُستغرب في الأسير الأليف تلك الحال؛ أي الرّياء، أن يستعمله أيضاً مع ربِّه، ومع أبيه وأمِّه ومع قومه وجنسه، حتى ومع نفسه.
التربية تربية الجسم وحده إلى سنتين، هي وظيفة الأم أو الحاضنة، ثمَّ تُضاف إليها تربية النفس إلى السابعة، وهي وظيفة الأبوين والعائلة معاً، ثمّ تُضاف إليها تربية العقل إلى البلوغ، وهي وظيفة المعلِّمين والمدارس، ثمَّ تأتي تربية القدوة بالأقربين والخلطاء إلى الزواج، وهي وظيفة الصُّدفة، ثمَّ تأتي تربية المقارنة، وهي وظيفة الزوجين إلى الموت أو الفراق.
ولا بدَّ أن تصحب التربية من بعد البلوغ، تربية الظروف المحيطة، وتربية الهيئة الاجتماعية، وتربية القانون أو سير السياسي، وتربية الإنسان نفسه.
الحكومات المنتظمة هي التي تتولّى ملاحظة تسهيل تربية الأمة من حين تكون في ظهور الآباء، وذلك بأن تسنّ قوانين النكاح، ثم تعتني بوجود القابلات والملقّحين والأطباء، ثمَّ تفتح بيوت الأيتام اللقطاء، ثم تعدُّ المكاتب والمدارس للتعليم من الابتدائي الجبري إلى أعلى المراتب، ثمَّ تسهِّل الاجتماعات، وتمهِّد المسارح، وتحمي المنتديات، وتجمع المكتبات والآثار، وتقيم النُّصب المذكرات، وتضع القوانين المحافظة على الآداب والحقوق، وتسهر على حفظ العادات القومية، وإنماء الإحساسات المللية، وتقوّي الآمال، وتيسِّر الأعمال، وتؤمِّن العاجزين فعلاً عن الكسب من الموت جوعاً، وتدفع سليمي الأجسام إلى الكسب ولو في أقصى الأرض، وتحمي الفضل وتقدِّر الفضيلة. وهكذا تلاحظ كلَّ شؤون المرء؛ ولكن، من بعيد، كي لا تخلّ بحريته واستقلاله الشخصي، فلا تقرب منه إلا إذا جنى جرماً لتعاقبه، أو مات لتواريه.
وهكذا، الأمة تحرص على أن يعيش ابنها راضياً بنصيبه من حياته لا يفتكر قطّ كيف تكون بعده حالة صبية ضعاف يتركهم وراءه، بل يموت مطمئناً راضياً مرضياً آخر دعائه: فلتحي الأمة، فلتحي الهمة.
أما المعيشة الفوضى في الإدارات المستبدّة فهي غنية عن التربية؛ لأنها محضُّ نماء يشبه الأشجار الطبيعية في الغابات والحراش، يسطو عليها الحرق والغرق. وتحطِّمها العواصف والأيدي القواصف، ويتصرَّف في فسائلها وفروعها الفأس الأعمى، فتعيش ما شاءت رحمة الحطّابين أن تعيش، والخيار للصُّدفة تعوج أو تستقيم، تثمر أو تعقم.
يعيش الإنسان في ظلِّ العدالة والحرية نشيطاً على العمل بياض نهاره، وعلى الفكر سواد ليله، إن طعم تلذَّذ، وإن تلهّى تروَّح وتريّض؛ لأنّه هكذا رأى أبويه وأقرباءه، وهكذا يرى قومه الذين يعيش بينهم. يراهم رجالاً ونساءً، أغنياء وفقراء، ملوكاً وصعاليك، كلُّهم دائبين على الأعمال، يفتخر منهم كاسب الدينار بكدِّه وجدّه، على مالك المليار إرثاً عن أبيه وجدِّه. نعم؛ يعيش العامل ناعم البال يسرُّه النجاح ولا تقبضه الخيبة، إنّما ينتقل من عملٍ إلى غيره، ومن فكرٍ إلى آخر، فيكون متلذذاً بآماله إنْ لم يسارعه السّعد في أعماله، وكيفما كان يبلغ العذر عن نفسه والناس بمجرد إيفائه وظيفة الحياة؛ أي العمل. ويكون فرحاً فخوراً نجح أو لم ينجح، لأنَّه بريء من عار العجز والبطالة.
أما أسير الاستبداد، فيعيش خاملاً خامداً ضائع القصد، حائراً لا يدري كيف يميت ساعاته وأوقاته ويدرج أيامه وأعوامه، كأنَّه حريصٌ على بلوغ أجله ليستتر تحت التراب. ويخطئ، والله من يظنُّ أنَّ أكثر الأسراء لا سيما منهم الفقراء لا يشعرون بآلام الأسر. مستدلاً بأنهم لو كانوا يشعرون لبادروا إلى إزالته، والحقيقة في ذلك أنهم يشعرون بأكثر الآلام ولكنهم لا يدركون ما هو سببها، ومن أين جاءتهم؟ فيرى أحدهم نفسه منقبضاً عن العمل، لأنه غير أمين على اختصاصه بالثمرة. وربما ظنَّ السّلب حقاً طبيعياً للأقوياء فيتمنّى أنْ لو كان منهم. ثمَّ يعمل تارةً، ولكن؛ بدون نشاط ولا إتقان، فيفشل ضرورةً، ولا يدري أيضاً ما السبب، فيغضب على ما يسمّيه سعداً أو حظاً أو طالعاً أو قدراً. والمسكين من أين له أن يعرف أنَّ النشاط والإتقان لا يتأتيان إلا مع لذة انتظار نجاح العمل، تلك اللذة التي قدَّر الحكماء أنَّها اللذة الكبرى، لاستمرار زمانها من حين العزم إلى تمام العمل، والأسير لا اطمئنان فيه على الاستمرار، ولا تشجيع له على الصبر والجلد.
الأسير المعذَّب المنتسب إلى دين يسلّي نفسه بالسعادة الأخروية، فيعدها بجنان ذات أفنان ونعيم مقيم أعدَّه له الرحمن، ويبعد عن فكره أنَّ الدنيا عنوان الآخرة، وأنَّ ربما كان خاسراً الصفقتين، بل ذلك هو الكائن غالباً. ولبسطاء الإسلام مسليات أظنُّها خاصّة بهم يعطفون مصائبهم عليها، وهي نحو قولهم: الدنيا سجن المؤمن، المؤمن مصاب، إذا أحبَّ الله عبداً ابتلاه، هذا شأن آخر الزمان، حسب المرء لقيماتٍ يقمن صلبه. ويتناسون حديث: «إنَّ الله يكره العبد البطّال»، والحديث المفيد معنى «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم غرسةً فليغرسها»، ويتغافلون عن النص القاطع المؤجّل قيام الساعة إلى ما بعد استكمال الأرض زخرفتها وزينتها. وأين ذلك بعد؟
وكلُّ هذه المسميات المثبطات تهون عند ذلك السمّ القاتل، الذي يحوّل الأذهان عن التماس معرفة سبب الشقاء، فيرفع المسؤولية عن المستبدّين، ويلقيها على عاتق القضاء والقدر، بل على عاتق الأُسراء المساكين أنفسهم. وأعني بهذا السمّ، فهم العوام، وبله الخواص، لما ورد في التوراة من نحو: «اخضعوا للسلطان ولا سلطة إلا من الله»، و«الحاكم لا يتقلّد السيف جزافاً، إنه مقام للانتقام من أهل الشر»، وقد صاغ وعّاظ المسلمين ومحدِّثوهم من ذلك قولهم: «السلطان ظلُّ الله في الأرض»، و«الظالم سيف الله ينتقم به، ثمَّ ينتقم منه»، و«الملوك ملهمون». هذا وكلُّ ما ورد في هذا المعنى إنْ صحَّ فهو مقيّد بالعدالة أو محتمل للتأويل بما يعقل، وبما ينطبق على حكم الآية الكريمة التي فيها فصل الخطاب، وهي: «ألا لعنة الله على الظالمين»، وآية «فلا عدوان إلا على الظالمين».
التربية علمٌ وعمل. وليس من شأن الأمم المملوكة شؤونها، أنْ يوجد فيها من يعلم التربية ولا من يعلمها. حتى إنَّ الباحث لا يرى عند الأسراء علماً في التربية مدفوناً في الكتب فضلاً عن الأذهان. أمّا العمل، فكيف يُتصوَّر وجوده بلا سبق عزم، وهو بلا سبق يقين، وهو بلا سبق علم. وقد ورد في الأثر «النيّة سابقة العمل». وورد في الحديث: «إنّما الأعمال بالنيّات». بناءً عليه؛ ما أبعد الناس المغصوبة إرادتهم، المغلولة أيديهم، عن توجيه الفكر إلى مقصد مفيد كالتربية، أو توجيه الجسم إلى عملٍ نافع كتمرين الوجه على الحياء والقلب على الشفقة.
نعم؛ ما أبعد الأسراء عن الاستعداد لقبول التربية، وهي قصر النظر على المحاسن والعِبَر، وقصر السمع على الفوائد والحِكَم، وتعويد اللسان على قول الخير، وتعويد اليد على الإتقان، وتكبير النفس عن السفاسف، وتكبير الوجدان عن نصرة الباطل، ورعاية الترتيب في الشؤون، ورعاية التوفير في الوقت والمال. والاندفاع بالكلّية لحفظ الشرف، لحفظ الحقوق، ولحماية الدين، لحماية الناموس، ولحبِّ الوطن، لحبِّ العائلة، ولإعانة العلم، لإعانة الضعيف، ولاحتقار الظالمين، لاحتقار الحياة. على غير ذلك مما لا ينبت إلا في أرض العدل، تحت سماء الحرية، في رياض التربيتين العائلية والقومية.
الاستبداد يُضطرُّ النّاس إلى استباحة الكذب والتحيُّل والخداع والنِّفاق والتذلل. وإلى مراغمة الحسِّ وإماتة النفس ونبذ الجدّ وترك العمل، إلى آخره. وينتج من ذلك أنَّ الاستبداد المشؤوم هو يتولى بطبعه تربية الناس على هذه الخصال الملعونة. بناءً عليه، يرى الآباء أنَّ تعبهم في تربية الأبناء التربية الأولى على غير ذلك لا بدَّ أنْ يذهب عبثاً تحت أرجل تربية الاستبداد، كما ذهبت قبلها تربية آبائهم لهم، أو تربية غيرهم لأبنائهم سدىً.
ثمَّ إنَّ عبيد السلطان التي لا حدود لها هم غير مالكين أنفسهم، ولا هم آمنون على أنَّهم يربّون أولادهم لهم. بل هم يربّون أنعاماً للمستبدّين، وأعواناً لهم عليهم. وفي الحقيقة، إنَّ الأولاد في عهد الاستبداد، هم سلاسل من حديد يرتبط بها الآباء على أوتاد الظلم والهوان والخوف التضييق. فالتوالد من حيث هو زمن الاستبداد حمق، والاعتناء بالتربية حمقٌ مضاعف! وقد قال الشاعر:
إنْ دام هذا ولم تحدث له غِيَرٌ لم يُبكِ ميتٌ ولم يُفرح بمولودِ
وغالب الأُسراء لا يدفعهم للزواج قصد التوالد، إنما يدفعهم إليه الجهل المظلم، وأنَّهم حتى الأغنياء منهم محرومون من كلِّ الملذّات الحقيقية: كلذّة العلم وتعليمه، ولذّة المجد والحماية، ولذّة الإيثار والبذل، ولذّة إحراز مقام في القلوب، ولذّة نفوذ الرأي الصائب، ولذّة كِبَر النفس عند السفاسف، إلى غير ذلك من الملذّات الروحية.
أما ملذّات هؤلاء التعساء فهي مقصورة على لذتين اثنتين؛ الأولى منها لذة الأكل، وهي جعلهم بطونهم مقابر للحيوانات إن تيسَّرت، وإلا فمزابل للنباتات، أو بجعلهم أجسامهم في الوجود كما قيل: أنابيب بين المطبخ و«الكنيف»، أو جعلها معامل لتجهيز الأخبثين. واللذّة الثانية هي الرّعشة باستفراغ الشهوة، كأن أجسامهم خلقت دمامل جرب على أديم الأرض، يطيب لها الحكّ ووظيفتها توليد الصديد ودفعه. وهذا الشره البهيمي في البِعال هو ما يعمي الأسراء ويرميهم بالزواج والتوالد.
العِرض – زمن الاستبداد – كسائر الحقوق غير مصون، بل هو معرَّض لهتك الفُسّاق من المستبدين والأشرار من أعوانهم، فإنهم، كما أخبر القرآن عن الفراعنة، يأسرون الأولاد ويستحيون النساء، خصوصاً في الحواضر الصغيرة والقرى المستضعف أهلها. ومن الأمور المشاهدة أنَّ الأمم التي تقع تحت أسر أمةٍ تغايرها في السيماء، لا يمضي عليها أجيال إلا وتغشو فيها سيماء الآسرين: كسواد العيون في الإسبانيول، وبياض البشرة في الأفريقيين. وعدم الاطمئنان على العِرض يُضعف الحبّ الذي لا يتمُّ إلا بالاختصاص، ويُضعف لصقة الأولاد بأزواج أمهاتهم، فتضعف الغَيرة على تحمّل مشاق التربية، تلك الغيرة التي لأجلها شرَّع الله النكاح، وحرَّم السِّفاح.
للسّعة والفقر أيضاً دخلٌ كبير في تسهيل التربية، وأين الأسراء من السّعة؟! كما أنَّ لانتظام المعيشة ولو مع الفقر علاقة قوية في التربية، ومعيشة الأُسراء أغنياء كانوا أو معدمين، كلُّها خللٌ في خلل، وضيقٌ في ضيق، وذلك يجعل الأسير هيّن النفس، وهذا أول دركات الانحطاط، يرى ذاته لا يستحقُّ المزيد في النعيم مطعماً ومشرباً وملبساً ومسكناً، وهذا ثاني الدركات ويرى استعداده قاصراً عن الترقّي في العلم، وهذا ثالثها، ويرى حياته على بساطتها لا تقوى إلا بمعاونة غيره له، وهذا رابعها، وهلمَّ جرّا!.
بناءً عليه؛ ما أبعد الأُسراء عن النشاط للتربية، ثمَّ لماذا يتحمَّلون مشاقَّ التربية، وهم إنْ نوَّروا أولادهم بالعلم جنوا عليهم بتقوية إحساسهم، فيزيدونهم شقاءً، ويزيدونهم بلاءً، ولهذا لا غرو أن يختار الأسراء الذين فيهم بقية من الإدراك، ترك أولادهم هملاً تجرفهم البلاهة إلى حيث تشاء.
وإذا افتكرنا كيف ينشأ الأسير في البيت الفقير، وكيف يتربَّى،نجد أنَّه يُلقَّح به، وفي الغالب أبواه متناكدان متشاكسان، ثمَّ إذا تحرَّك جنيناً حرَّك شراسة أمِّه فتشتمه، أو زاد آلام حياتها فتضربه، فإذا ما ضيَّقت عليه بطنها لإلفتها الانحناء خمولاً والتصرر صغاراً، والتقلُّص لضيق فراش الفقر، ومتى ولدته ضغطت عليه بالقماط اقتصاداً وجهلاً، فإذا تألَّم وبكى سدَّت فمه بثديها، أو قطعت نفسه خضّاً أو بدوار السرير، أو سقته مخدراً عجزاً عن نفقة الطبيب، فإذا ما فُطِم، يأتيه الغذاء الفاسد يضيق معدته، ويفسد مزاجه، فإذا كان قوي البنية طويل العمر وترعرع، يُمنع من رياضة اللعب لضيق البيت، فإذا سأل واستفهم ماذا وما هذا ليتعلّم، يُزجَر ويلكم لضيق خُلُق أبويه، وإن جالسهما ليألف المعاشرة، وينتفي عنه التوجّس يبعدانه كي لا يقف على أسرارهما، فيسترقها منه الجيران الخلطاء، فتنمى أعوان الظالمين وما أكثرهم، فإذا قويت رجلاه يُدفع به إلى خارج الباب، إلى مدرسة الإلفة على القذارة، وتعلّم صيغ الشتائم والسباب، فإنْ عاش ونشأ وُضع في مكتب أو عند ذي صنعة، فيكون أكبر القصد ربطه عن السّراح والمراح. فإذا بلغ الشباب، ربطه أولياؤه على وتد الزواج كي لا يفرّ من مشاكلتهم في شقاء الحياة، ليجني هو على نسله كما جنى عليه أبواه، ثمَّ هو يتولى التضييق على نفسه بأطواق الجهل وقيود الخوف، ويتولى المستبدّون التضييق على عقله ولسانه وعمله وأمله.
وهكذا يعيش الأسير في حين يكون نسمة في ضيق وضغط، يهرول ما بين عتبة همٍّ ووادي غمٍّ، يودِّع سقماً ويستقبل سقماً إلى أن يفوز بنعمة الموت مضيعاً دنياه مع آخرته، فيموت غير آسف ولا مأسوف عليه.
وما أظلم من يؤاخذ الأسراء على عدم اعتنائهم بلوازم الحياة. فالنظافة مثلاً: لماذا يهتم بها الأسير؟ هل لأجل صحَّته وهو في مرضٍ مستمرّ؟ أم لأجل لذَّته وهو المتألم كيفما تقلَّب جسمه أو نظره؟ أم لأجل ذوق من يجالس أو يؤاكل، وهو من عفَّت نفسه صحبة الحياة؟
ولا يظننَّ المطالع أنَّ حالة أغنياء الأسراء هي أقلُّ شراً من هذا؛ كلا، بل هم أشقى وأقلّ عافيةً، وأقصر عمراً من هذا، إذا نقصتهم بعض المنغِّصات، تزيد فيهم مشاق التظاهر بالراحة والرفاه والعزّة والمنعة، تظاهراً إن صحَّ قليله فكثيره الكاذب حملٌ ثقيل على عواتقهم كالسكران يتصاحى فيُبتلى بالصداع، أو كالعاهرة البائسة تتضاحك لترضي الزاني.
حياة الأسير تشبه حياة النائم المزعوج بالأحلام، فهي حياة لا روح فيها، حياة وظيفتها تمثيل مندرسات الجسم فقط، ولا علاقة لها بحفظ المزايا البشرية، وبناءً على هذا؛ كان فاقد الحرية لا أنانية له لأنه ميتٌ بالنسبة لنفسه، حيٌّ بالنسبة لغيره؛ كأنَّه لا شيء في ذاته، إنَّما هو شيء بالإضافة. ومن كان وجوده في الوجود بهذه الصورة وهي الفناء في المستبدين، حقَّ له أن لا يشعر بوظيفة شخصية فضلاً عن وظيفة اجتماعية. ولولا أنْ ليس في الكون شيء غير تابع لنظام حتى الجماد، حتى فلتات الطبيعة والصُّدف التي هي مسببات لأسباب نادرة، لحكمنا بأنَّ معيشة الأسراء هي محض فوضى، لا شبه فوضى.
على أنَّ التدقيق العميق، يفيدنا بأنَّ للأسراء، قوانين غريبة في مقاومة الفناء يصعب ضبطها وتعريفها، إنما الأسير يرضعها مع لبن أمه، ويتربَى عليها، وقد يبدع فيها بسائق الحاجة، ويكون منهم الحاذق فيها علماً، الماهر في تطبيقها عملاً، هو الموفَّق في ميدان حرب الحياة مع الذل، كالهنود واليهود. والعاجز عنها، إمّا جاهل هذا القانون أو العاجز فطرةً عن اتِّباعه كالعرب مثلاً، فلا يخرج عن كونه كرة يلعب بها صبيان الاستبداد، تارةً يضربون بها الأرض أو الحيطان، وأما إذا كان عجزه كما يقال عن عرق هاشمي، أي عن شيءٍ من كرامة نفس أو قوة إحساس أو جسارة جنان، فيكون كالحجارة تتكسَّر ولا تلين.
قوانين حياة الأسير هي مقتضيات الشؤون المحيطة به، التي تضطره لأن يطبق إحساساته عليها، ويدبِّر نفسه على موجبها، وذلك نحو مقابلة التجبُّر عليه بالتذلل والتّصاغر، وتعديل الشدة عليه بالتلاين والمطاوعة، وإعطاء المطلوب منه بعد قليلٍ من التمنُّع، ولو أنَّ المطلوب هو ابنه لمجزرة الجندية أو ابنته لفراش شيخٍ شرير، والمطالبة في الحقوق بصفة استعطاف كأنَّه طالب صدقة، وكسب المعاش مع شكاية الحاجة، وحِفظ المال بإخفائه عن الأعين، والتعامي عن زلاّت المستبدين، والتصامم عن سماع ما يُهان به، والتظاهر بفقد الحسّ أو تعطيله بالمخدرات القوية كالأفيون والحشيش، وتعطيل العقل بالتّباله وستر العلم بالتجاهل، والارتداء بالتدين والرياء، وتعويد اللسان على الزّلاقة في عبائر التصاغر والتملّق، وعزو كلّ خير إلى فضل المستبدين حتى إذا كان الخير طبيعياً نحو مطر السماء، فعزوه إلى يُمن الحكام أو دعاء الكهنة. ويسند كلَّ شرٍّ ولو من نوع التسلُّط على الأعراض، على الاستحقاق من جانب الله. إلى غير ذلك من أحكام ذلك القانون، الذي رؤوس مسائله فقط تملّ القارئ فضلاً عن تفصيلاتها.
إنَّ أخوف ما يخافه الأسير هو أن يظهر عليه أثر نعمة الله في الجسم أو المال، فتصيبه عين الجواسيس (وهذا أصل عقيدة إصابة العين)! أو أن يظهر له شأن في علمٍ أو جاهٍ أو نعمةٍ مهمة، فيسعى به حاسدوه إلى المستبدِّ (وهذا أصل شر الحسد الذي يُتعوَّذ منه)! وقد يتحيّل الأسير على حفظ ماله الذي لا يمكنه إخفاؤه كالزوجة الجميلة، أو الدابة الثمينة، أو الدار الكبيرة، فيحميها بإسناد الشؤم، (وهذا أصل التشاؤم بالأقدام والنواصي والأعتاب).
ومن غريب الأحوال أنَّ الأُسراء يبغضون المستبدَّ، ولا يقوون على استعمالهم معه البأس الطبيعي الموجود في الإنسان إذا غضب، فيصرفون بأسهم في وجهة أخرى ظلماً: فيُعادون من بينهم فئةً مستضعفةً، أو الغرباء، أو يظلمون نساءهم ونحو ذلك. ومَثَلُهم في ذلك مثل الكلاب الأهلية، إذا أريد منها الحراسة والشراسة، فأصحابها يربطونها نهاراً ويطلقونها ليلاً فتصير شرسة عقورة، وبهذا التعليل تعلَّل جسارة الأسراء أحياناً في محارباتهم، لا أنها جسارة عن شجاعة. وأحياناً تكون جسارة الأسراء عن التناهي في الجبانة أمام المستبدِّ الذي يسوقهم إلى الموت، فيطيعونه انذعاراً كما تطيع الغنمة الذئب فتهرول بين يديه إلى حيث يأكلها.
وقد اتَّضح مما تقدَّم أنَّ التربية غير مقصودة، ولا مقدورة في ظلال الاستبداد إلا ما قد يكون بالتخويف من القوة القاهرة، وهذا النوع يستلزم انخلاع القلوب لا تزكية النفوس. وقد أجمع علماء الاجتماع والأخلاق والتربية على أنَّ الإقناع خير من الترغيب فضلاً عن الترهيب، وإنَّ التعليم مع الحرية بين المعلِّم والمتعلِّم أفضل من التعليم مع الوقار، وأنَّ التعليم عن رغبة في التكمُّل أرسخ من العلم الحاصل طمعاً في المكافأة، أو غيرة من الأقران. وعلى هذه القاعدة بنوا قولهم: إنَّ المدارس تقلل الجنايات لا السجون، وقولهم: إنَّ القصاص والمعاقبة قلَّما يفيدان في زجر النفس كما قال الحكيم العربي:
لا ترجع الأنفس عن غيّها

ما لم يكن منها لها زاجرُ
ومن يتأمل جيداً في قوله تعالى: «ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب» ملاحظاً أنَّ معنى القصاص لغةً: هو التساوي مطلقاً، لا مقصوراً على المعاقبة بالمثل في الجنايات فقط، ويدقق النظر في القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية، ويتَّبع مسالك الرُّسل العظام – عليهم الصلاة والسلام – يرى أنَّ الاعتناء في طريق الهداية فيها منصرفٌ إلى الإقناع، ثمَّ إلى الأطماع عاجلاً أو آجلاً، ثمَّ إلى الترهيب الآجل غالباً ومع ترك أبواب تُدلي إلى النجاة.
ثمَّ إنَّ التربية التي هي ضالّة الأمم، وفقدها هي المصيبة العظيمة، التي هي المسألة الاجتماعية؛ حيث الإنسان يكون إنساناً بتربيته، وكما يكون الآباء يكون الأبناء، وكما تكون الأفراد تكون الأمّة، والتربية المطلوبة هي التربية المرتَّبة على إعداد العقل للتمييز، ثمَّ على حسن التفهيم والإقناع، ثمَّ على تقوية الهمّة والعزيمة، ثمَّ على التمرين والتعويد، ثمَّ على حسن القدوة والمثال، ثمَّ على المواظبة والإتقان، ثمَّ على التوسّط والاعتدال، وأنْ تكون تربية العقل مصحوبةً بتربية الجسم، لأنهما متصاحبان صحة واعتلالاً، فإنه يقتضي تعويد الجسم على النظافة وعلى تحمّل المشاقّ، والمهارة في الحركات، والتوقيت في النوم والغذاء والعبادة، والترتيب في العمل وفي الرياضة والراحة. وأن تكون تلكما التربيتين مصحوبتين أيضاً بتربية النفس على معرفة خالقها ومراقبته والخوف منه. فإذا كان لا مطمع في التربية العامّة على هذه الأصول بمانع طبيعة الاستبداد، فلا يكون لعقلاء المبتلين به إلا أن يسعوا أولاً وراء إزالة المانع الضاغط على هذه العقول، ثمَّ بعد ذلك يعتنوا بالتربية؛ حيث يمكنهم حينئذٍ أن ينالوها على توالي البطون، والله الموفق.

[عدل] الاستبداد والترقِّي
الحركة سُنَّةٌ دائبةٌ في الخليقة بين شخوصٍ وهبوط. فالترقّي هو الحركة الحيوية؛ أي حركة الشخوص، ويقابله الهبوط وهو الحركة إلى الموت أو الانحلال أو الاستحالة أو الانقلاب.
وهذه السُّنّة كما هي عاملة في المادة وأعراضها، عاملة أيضاً في الكيفيات ومركَّباتها، والقول الشّارح لذلك آية: «يُخرِج الحيَّ من الميّت ويُخرج الميّت من الحيّ»، وحديث: «ما تمَّ أمرٌ إلا وبدا نقصه»، وقولهم: «التاريخ يعيد نفسه». وحكمهم بأنَّ الحياة والموت حقّان طبيعيان.
وهذه الحركة الجسمية والنفسية والعقلية لا تقتضي السير إلى النهاية شخوصاً أو هبوطاً؛ بل هي أشبه بميزان الحرارة، كلُّ ساعة في شأن، والعبرة في الحكم للوجهة الغالبة، فإذا رأينا آثار حركة الترقّي هي الغالبة على أفرادها، حكمنا لها بالحياة، ومتى رأينا عكس ذلك قضينا عليها بالموت.
الأمّة هي مجموعة أفراد يجمعها نسب أو وطن أو لغة أو دين، كما أنَّ البناء مجموع أنقاض، فحسبما تكون الأنقاض جنساً وجمالاً وقوّةً يكون البناء، فإذا ترقَّت أو انحطَّت الأمة ترقَّت هيئتها الاجتماعية، حتى إنَّ حالة الفرد الواحد من الأمّة تؤثِّر في مجموع تلك الأمة. كما إذا لو اختلَّت حجرة من حصن يختلُّ مجموعه وإنْ كان لا يشعر بذلك، كما لو وقفت بعوضة على طرف سفينة عظيمة أثقلتها وأمالتها وإنْ لم يُدرَك ذلك بالمشاعر. وبعض السياسيين بنى على هذه القاعدة: أنَّه يكفي الأمة رقيّاً أن يجتهد كلُّ فرد منها في ترقية نفسه بدون أن يفتكر في ترقّي مجموع الأمة.
الترقّي الحيوي الذي يجتهد فيه الإنسان بفطرته وهمّته هو أولاً: الترقّي في الجسم صحّةً وتلذُّذاً، ثانياً: الترقّي في القوّة بالعلم والمال، ثالثاً: الترقّي في النفس بالخصال والمفاخر، رابعاً: الترقّي بالعائلة استئناساً وتعاوناً، خامساً: الترقّي بالعشيرة تناصراً عند الطوارئ، سادساً: الترقّي بالإنسانية، وهذا منتهى الترقّي.
وهناك نوعٌ آخر من الترقّي ويتعلق بالروح وبالكمال، وهو أنَّ الإنسان يحمل نفساً ملهمة بأنَّ لها وراء حياتها هذه حياةً أخرى يترقّى بها على سلّم العدل والرحمة والحسنات. فأهل الأديان – ما عدا أهل التوراة – يؤمنون بالبعث أو التناسخ، فيأتون بالعدل والرحمة رجاء المكافأة أو خوف المجازاة، وهم من قبيل الطبيعيين يعتبرون أنفسهم مدينين للإنسانية بحفظها تاريخ الحياة الطبيعية، فيلتزمون بخدمتها اهتماماً بحياتهم التاريخية بحُسن الذّكر أو قبحه.
وهذه الترقّيات، على أنواعها الستّة، لا يزال الإنسان يسعى وراءها ما لم يعترضه مانع غالب يسلب إرادته، وهذا المانع إمَّا هو القدر المحتوم، المسمّى عند البعض بالعجز الطبيعي، أو هو الاستبداد المشؤوم. على أنَّ القدر يصدم سير الترقّي لمحةً، ثمَّ يطلقه فيكرُّ راقياً. وأما الاستبداد فإنَّه يقلب السير من الترقّي إلى الانحطاط، ومن التقدم إلى التأخر، من النماء إلى الفناء، ويلازم الأمة ملازمة الغريم الشحيح، ويفعل فيها دهراً طويلاً أفعاله التي تقدَّم وصف بعضها في الأبحاث السابقة، أفعاله التي تبلغ بالأمة حطّة العجماوات فلا يهمها غير حفظ حياتها الحيوانية فقط، بل قد تبيح حياتها هذه الدنيئة أيضاً الاستبداد إباحةً ظاهرة أو خفيّة. ولا عار على الإنسان أنْ يختار الموت على الذل، وهذه سباع الطير والوحوش إذا أُسِرَت كبيرة قد تأبى الغذاء حتى الموت.
وقد يبلغ فعل الاستبداد بالأمة أن يحوِّل ميلها الطبيعي من طلب الترقّي إلى التسفُّل، بحيث لو دُفِعَت إلى الرِّفعة لأبت وتألَّمت كما يتألَّم الأجهر من النور، وإذا أُلزِمَت بالحرية تشقى، وربما تفنى كالبهائم الأهلية إذا أُطلِق سراحها. عندئذٍ يصير الاستبداد كالعلق يطيب له المقام على امتصاص دم الأمة، فلا ينفكُّ عنها حتى تموت ويموت هو بموتها.
وتوصف حركة الترقّي والانحطاط في الشؤون الحيوية للإنسان؛ أنها من نوع الحركة الدودية، التي تحصل بالاندفاع والانقباض، وذلك أنَّ الإنسان يولد وهو أعجز حراكاً وإدراكاً من كلِّ حيوان، ثمَّ يأخذ في السير، تدفعه الرغائب النفسية والعقلية وتقبضه الموانع الطبيعية والمزاحمة. وهذا سرُّ أن الإنسان ينتابه الخير والشر. وهو سرُّ ما ورد في القرآن الكريم من ابتلاء الله الناس بالخير والشر، وهو معنى ما ورد في الأثر بأنَّ الخير مربوط بذيل الشر، والشر مربوطٌ بذيل الخير، وهو المراد من أقوال الحكماء نحو: على قدر النّعمة تكون النقمة، على قدر الهمم تأتي العزائم، بين السعادة والشقاء حربٌ سِجال، العاقل من يستفيد من مصيبته، والكيِّس من يستفيد من مصيبته ومصيبة غيره، والحكيم من يبتهج بالمصائب ليقطف منها الفوائد، ما كان في الحياة لذّة لو لم يتخللها آلام.
فإذا تقرر هذا فليعلم أيضاً أنَّ سبيل الإنسان هو الرقي، ما دام جناحا الاندفاع والانقباض فيه متوازيين كتوازن الإيجابية والسلبية في الكهربائية، وسبيله القهقرى إن غلبته الطبيعة أو المزاحمة. ثمَّ إنَّ الاندفاع إذا غلب فيه العقل النفس، كانت الوجهة إلى الحكمة، وإنْ غلبت النفس العقل، كانت الوجهة إلى الزيغ. أما الانقباض؛ فالمعتدل منه هو السائق للعمل، والقوي منه مُهلِكٌ للحركة، والاستبداد المشؤوم الذي نبحث فيه هو قابض ضاغط مسكن، والمبتلون به هم المساكين. نعم: أسراء الاستبداد أحقُّ بوصف المساكين من عجزة الفقراء.
ولو ملك الفقهاء حرية النظر لخرجوا من الاختلاف في تعريف المساكين الذين جعل لهم الله نصيباً من الزكاة فقالوا: هم عبيد الاستبداد، ولجعلوا كفَّارات فكِّ الرقاب تشمل هذا الرقّ الأكبر.
أُسراء الاستبداد حتى الأغنياء منهم كلُّهم مساكين لا حراك فيهم، يعيشون منحطّين في الإدراك، منحطِّين في الإحساس، منحطّين في الأخلاق. وما أظلم توجيه اللوم عليهم بغير لسان الرأفة والإرشاد، وقد أبدع من شبَّه حالتهم بدود تحت صخرة، فما أليق باللائمين أن يكونوا مشفقين يسعون في رفع الصخرة ولو حتّاً بالأظافر ذرَّةً بعد ذرّة.
وقد أجمع الحكماء على أنَّ أهم ما يجب عمله على الآخذين بيد الأمَّة، الذين فيهم نسمة مروءة وشرار حمية، الذين يعرفون ما هي وظيفتهم بإزاء الإنسانية، الملتمسين لإخوانهم العافية، أن يسعوا في رفع الضغط عن العقول لينطلق سبيلها في النموِّ فتمزِّق غيوم الأوهام التي تمطر المخاوف، شأن الطبيب في اعتنائه أولاً بقوة جسم المريض، وأن يكون الإرشاد متناسباً مع الغفلة خفَّةً وقوة: كالساهي ينبِّهه الصوت الخفيف، والنّائم يحتاج إلى صوتٍ لأقوى، والغافل يلزمه صياحٌ وزجر. فالأشخاص من هذا النوع الأخير، يقتضي لإيقاظهم الآن بعد أن ناموا أجيالاً طويلة أن يسقيهم النطاسي البارع مرّاً من الزواجر والقوارس علَّهم يفيقون، وإلا فهم لا يفيقون، حتى يأتي القضاء من السماء: فتبرق السيوف، وترعد المدافع وتمطر البنادق، فحينئذٍ يصحون، ولكن؛ صحوة الموت!.
بعض الاجتماعيين في الغرب يرون أنَّ الدِّين يؤثِّر على الترقّي الإفرادي، ثمَّ الاجتماعي تأثيراً معطِّلاً كفعل الأفيون في الحسِّ، أو حاجباً كالغيم يغشى نور الشمس. وهناك بعض الغلاة يقولون: الدين والعقل ضدّان متزاحمان في الرؤوس، وإنَّ أول نقطة من الترقّي تبتدئ عند آخر نقطة من الدين. وإنَّ أصدق ما يُستدَّلُّ به على مرتبة الرُّقي والانحطاط في الأفراد أو في الأمم الغابرة والحاضرة، هو مقياس الارتباط بالدين قوةً وضعفاً.
هذه الآراء كلُّها صحيحة لا مجال للردِّ عليها، ولكن؛ بالنظر إلى الأديان الخرافية أساساً أو التي لم تقف عند حدِّ الحكمة، كالدين المبني على تكليف العقل بتصوُّر أنَّ الواحد ثلاثة والثلاثة واحد. لأنَّ مجرَّد الإذعان لما يعقل برهان على فساد بعض مراكز العقل، ولهذا أصبح العالم المتمدن يعدُّ الانتساب إلى هذه العقيدة من العار؛ لأنه شعار الحُمق.
أما الأديان المبنية على العقل المحضّ كالإسلام الموصوف بدين الفطرة، ولا أعني بالإسلام ما يدين به أكثر المسلمين الآن، إنَّما أريد بالإسلام: دين القرآن؛ أي الدين الذي يقوى على فهمه من القرآن كلُّ إنسانٍ غير مقيَّد الفكر بتفصُّح زيد أو تحكُّم عمرو.
فلا شك أنَّ الدِّين إذا كان مبنياً على العقل، يكون أفضل صارف للفكر عن الوقوع في مصائد المخرِّفين، وأنفع وازع بضبط النَّفس من الشطط، وأقوى مؤثِّر لتهذيب الأخلاق، وأكبر معين على تحمُّل مشاقّ الحياة، وأعظم منشِّط على الأعمال المهمَّة الخطرة. وأجلَّ مثبِّت على المبادئ الشريفة، وفي النتيجة يكون أصحَّ مقياس يُستدلُّ به على الأحوال النفسية في الأمم والأفراد رقيّاً وانحطاطاً.
هذا القرآن الكريم إذا أخذناه وقرأناه بالتّروي في معاني ألفاظه العربية وأسلوب تركيبه القرشي، مع تفهُّم أسباب نزول آياته وما أشارت إليه، ومع التبصُّر في مقاصده الدقيقة وتشريعه السامي، ومع أخذ بعض التوضيحات من السُّنَّة العملية النبوية أو الإجماع إن وجدا، وقلَّما يوجدان، فحينئذٍ لا نرى فيه من أولِّه إلى آخره غير حِكَمٍ يتلقّاها العقل بالإجلال والإعظام، إلى درجة انقياد العقل طوعاً أو كرهاً للإيمان إجمالاً بأنَّ تلك الحِكَم حِكَمٌ عزيزة إلهية، وأنَّ الذي أنزلها الله على قلبه هو افضل من أرسله الله مرشداً لعباده.
وتوضيح ذلك: أنَّ الناظر في القرآن حقّ النظر يرى أنَّه لا يكلِّف الإنسان قطّ بالإذعان لشيء فوق العقل، بل يحذِّره وينهاه من الإيمان اتِّباعاً لرأي الغير أو تقليداً للآباء. ويراه طافحاً بالتنبيه إلى أعمال الإنسان فكره ونظره في هذه الكائنات وعظيم انتظامها، ثمَّ الاستدلال بذلك إلى أنَّ لهذه الكائنات صانعاً أبدعها من العدم، ثمَّ الانتقال إلى معرفة الصِّفات التي يستلزم العقل أن يكون هذا الصانع متَّصِفاً بها، أو منزَّهاً عنها، ثمَّ يرى القرآن يعلِّم الإنسان بعض أعمال وأحكام وأوامر ونواهي كلّها لا تبلع المائة عدداً، وكلُّها بسيطة معقولة، إلا قليلاً من الأمور التعبُّدية التي شُرِّعت لتكون شعاراً يعرف به المسلم أخاه، أو يستطلع من خلال قيامه بها أو تهاونه فيها أخلاقه، فيستدلُّ مثلاً بالتّكاسل عن الصلاة على فَقدِ النشاط، وبترك الصوم على عدم الصبر، وبالسُّكر على غلبة النفس والعقل ونحو ذلك.
وكفى بالإسلامية رقيّاً في التشريع، رقيّها بالبشر إلى منزلة حصرها أسارة الإنسان في جهة شريفة واحدة وهي «الله»، وعتقها عقل البشر عن توهُّم وجود قوة ما، في غير الله، من شأنها أن تأتي للإنسان بخيرٍ ما، أو تدفع عنه شرّاً ما. فالإسلامية تجعل الإنسان لا يرجو ولا يهاب من رسولٍ أو نبيّ، أو ملكٍ أو فلك، أو وليٍّ أو جنّي، أو ساحرٍ أو كاهن، أو شيطانٍ أو سلطان.
وأعظم بهذا التعليم الذي يرمي الإنسان عن عاتقه جبالاً من الخوف والأوهام والخيالات، جبالاً اعتقلها منذ كان يسرح مع الغيلان، أو ورثها من أبيه آدم الذي طغاه شيطان النفس. أو ليس العتيق من الأوهام يصبح صحيح العقل، قوي الإرادة، ثابت العزيمة، قائده الحكمة، سائقه الوجدان، فيعيش حراً، فرحاً صبوراً فخوراً. لا يبالي حتى بالموت لعلمه بالسعادة التي يستقبلها، التي يمثِّلها له القرآن بالجنان، فيها الرّوح والريحان، والحور والغلمان، فيها كل مل تشتهي الأنفس وتقرُّ به العينان؟!
وأظنُّ أن هؤلاء المنكرين فائدة الدين، ما أنكروا ذلك إلا من عدم اطِّلاعهم على دينٍ صحيح مع يأسهم من إصلاح ما لديهم، عجزاً عن مقاومة أنصار الفساد. وإذا نظرنا في أنَّ هؤلاء أنفسهم هم في آنٍ واحد يشددون النَّكير على الدِّين من جهة، قائلين: إنَّ ضرره أكبر من نفعه، ويهيجون من جهةٍ أخرى مؤثِّرات أدبية وهمية محضاً يرون أنه لا بدَّ منه في بناء الأمم، وذلك مثل حبِّ الوطن وخيانته، وحبِّ الإنسانية والإساءة إليها والسُّمعة الحسنة وعكسها، والذِّكر التاريخي بالخير أو الشَّر ونحو ذلك مما هو لا شيء في ذاته، ولا شيء أيضاً بالنسبة إلى تأثير طاعة الله والخوف منه، لأنَّ «الله» حقيقة لا ريب فيها، بل ولا خلاف إلا في الأسماء بين «الله» وبين «مادة» أو «طبيعة». ولولا أنَّ الماديين والطبيعيين يأبون الاسترسال في البحث في صفات ما يسمونه مادة أو طبيعة، لالتقوا – ولا شك – مع الإسلام في نقطة واحدة، فارتفع الخلاف العلمي وأسلم الكلُّ لله.
وعلى ذكر اللوم الإرشادي لاح لي أنْ أصوِّر الرقي والانحطاط في النَّفس، وكيف ينبغي للإنسان العاقل أن يعاني إيقاظ قومه، وكيف يرشدهم إلى أنهم خُلِقوا لغير ما هم عليه من الصَّبر على الذُّلِّ والسَّفالة، فيذكِّرهم، ويحرِّك قلوبهم، ويناجيهم، وينذرهم بنحو الخطابات الآتية:
«يا قومُ: ينازعني والله الشعور، هل موقفي هذا في جمع حيٍّ فأحيّيه بالسلام؟ أم أنا أخاطب أهل القبور فأحييهم بالرحمة؟ يا هؤلاء، لستم بأحياء عاملين، ولا أموات مستريحين، بل أنتم بين بين: في برزخٍ يسمّى التنبُّت، ويصرح تشبيهه بالنّوم! يا ربّاه: إني أرى أشباح أناس يشبهون ذوي الحياة، وهم في الحقيقة موتى لا يشعرون، بل هم موتى؛ لأنهم لا يشعرون.»
«يا قوم: هداكم الله، إلى متى هذا الشقاء المديد والنّاس في نعيمٍ مقيم، وعزٍّ كريم، أفلا تنظرون؟ وما هذا التأخُّر، وقد سبقتكم الأقوام ألوف مراحل، حتى صار ما بعد ورائكم أماماً! أفلا تتبعون؟ وما هذا الانخفاض والناس في أوج الرّفعة، أفلا تغارون؟ أناشدكم الله؛ هل طابت لكم طول غيبة الصواب عنكم؟ أم أنتم كأهل ذلك الكهف ناموا ألف عام ثمَّ قاموا، وإذا بالدنيا غير الدنيا، والناس غير الناس، فأخذتهم الدهشة والتزموا السكون؟»
«يا قوم: وقاكم الله من الشر، أنتم بعيدون عن مفاخر الإبداع وشرف القدوة، مُبتلون بداء التقليد والتبعية في كلِّ فكرٍ وعمل، وبداء الحرص على كلِّ عتيق كأنَّكم خُلِقتم للماضي لا للحاضر: تشكون حاضركم وتسخطون عليه، ومن لي أن تدركوا أنَّ حاضركم نتيجة ماضيكم، ومع ذلك أراكم تقلِّدون أجدادكم في الوساوس والخرافات والأمور السافلات فقط، ولا تقلِّدونهم في محامدهم! أين الدين؟ أين التربية؟ أين الإحساس؟ أين الغيرة؟ أين الجسارة؟ أين الثبات؟ أين الرابطة؟ أين المنعة؟ أين الشهامة؟ أين النخوة؟ أين الفضيلة؟ أين المواساة؟ هل تسمعون؟ أم أنتم صُمٌّ لاهون؟»
«يا قومُ: عافاكم الله، إلى متى هذا النوم؟ وإلى متى هذا التقلُّب على فراش البأس ووسادة اليأس؟ أنتم مفتَّحةٌ عيونكم ولكنكم نيام، لكم أبصار ولكنكم لا تنظرون، وهكذا لا تعمى الأبصار، ولكنْ؛ تعمى القلوب التي في الصّدور! لكم سمعٌ ولسانٌ ولكنكم صُمٌّ بُكمٌ، ولكم شبيه الحسِّ ولكنكم لا تشعرون به ما هي اللذائذ حقاً وما هي الآلام، ولكم رؤوسٌ كبيرة ولكنها مشغولة بمزعجات الأوهام والأحلام، ولكم نفوسٌ حقُّها أن تكون عزيزة، ولكنْ؛ أنتم لا تعرفون لها قدراً ومقاماً.»
«يا قومُ: قاتل الله الغباوة، فإنها تملأ القلوب رعباً من لا شيء، وخوفاً من كلِّ شيء، وتفعم الرؤوس تشويشاً وسخافة. أليست هي الغباوة جعلتكم كأنكم قد مسَّكم الشيطان، فتخافون من ظلِّكم وترهبون من قوتكم، وتجيّشون منكم عليكم جيوشاً ليقتل بعضكم بعضاً؟ تترامون على الموت خوف الموت، وتحسبون – طول العمر – فكركم في الدِّماغ ونطقكم في اللسان وإحساسكم في الوجدان خوفاً من أن يسجنكم الظالمون، وما يسجنون غير أرجلكم أياماً، فما بالكم يا أحلاس النساء مع الذلّ تخافون أن تصيروا جُلاَّس الرجال في السجون؟»
«يا قوم: أُعيذكم بالله من فساد الرأي، وضياع الحزم، وفقد الثقة بالنفس، وترك الإرادة للغير، فهل ترون أثراً للرُّشد في أن يوكِّل الإنسان عنه وكيلاً ويُطلق له التصرُّف في ماله وأهله، والتحكُّم في حياته وشرفه والتأثير على دينه وفكره، مع تسليف هذا الوكيل العفو عن كلِّ عبثٍ وخيانة وإسرافٍ وإتلاف؟ أم ترون أنَّ هذا النوع من الجنة به أن يظلم الإنسان نفسه؟ هل خلق الله لكم عقولاً لتفهموا به كلَّ شيء؟ أم لتهملوه كأنَّه لا شيء؟ إنَّ اللهَ لا يَظلم النّاس شيئاً ولكنَّ الناس أنفسهم يظلمون»
«يا قوم: شفاكم الله، قد ينفع اليوم الإنذار واللوم، وأما غداً إذا حلَّ القضاء، فلا يبقى لكم غير النّدب والبكاء. فإلى متى هذا التخادع والتخاذل؟ وإلى متى هذا الإهمال؟ هل طاب لكم النوم على الوسادة اللينة، وسادة الخمول؟ أم طاب لكم السكون وتودُّون لو تسكنون القبور؟ أم عاهدتم أنفسكم أن تصلوا غفلة الحياة بالممات، فلا تفيقوا من السُّبات قبل صباح يوم النشور، يوم تعلو السيوف رقابكم وتصمي المدافع آذانكم فتمسون الأذلاّء حقاً، وحقَّ لكم أن تذلوا؟»
«يا قومُ: رحمكم الله، ما هذا الحرص على حياةٍ تعيسةٍ دنيئة لا تملكونها ساعة! ما هذا الحرص على الراحة الموهومة وحياتكم كلُّها تعبٌ ونصَب! هل لكم في هذا الصَّبر فخرٌ أو لكم عليه أجر؟ كلاّ؛ واللهِ ساء ما تتوهمون، ليس لكم إلا القهر في الحياة، وقبيح الذِّكر بعد الممات؛ لأنَّكم ما أفدتم الوجود شيئاً. بل أتلفتم ما ورثتم عن السّلف وصرتم بئس الواسطة للخَلَف. ألستم يا ناس مديونين للأسلاف بكلِّ ما أنتم فيه من الترقّي عن إنسان الغابات؟ فإذا لم تكونوا أهلاً للمزيد فكونوا أخلاً للحِفْظ، وهذه العجماوات تنقل رقيها لنسلها بأمانة.»
«يا قومُ: حماكم الله، قد جاءكم المستمتعون من كلِّ حدبٍ ينسلون، فإن وجدوكم أيقاظاً عاملوكم كما يتعامل الجيران ويتجامل الأقران، وإن وجدوكم رقوداً لا تشعرون سلبوا أموالكم، وزاحموكم على أرضكم، وتحيَّلوا تذليلكم، وأوثقوا ربطكم، واتَّخذوكم أنعاماً، وعندئذٍ لو أردتم حراكاً لا تقوون، بل تجدون القيود مشدودةً والأبواب مسدودة لا نجاة ولا مخرج.»
«يا قومُ: هوَّن الله مصابكم، تشكون من الجهل ولا تنفقون على التعليم نصف ما تصرفون على التدخين، تشكون من الحكَّام، وهم اليوم منكم، فلا تسعون في إصلاحهم، تشكون فقد الرابطة، ولكم روابط من وجوهٍ لا تفكِّرون في إحكامها. تشكون الفقر ولا سبب له غير الكسل. هل ترجون الصَّلاح وأنتم يُخادع بعضكم بعضاً ولا تخدعون إلا أنفسكم؟. ترضون بأدنى المعيشة عجزاً تُسمّونه قناعة، وتهملون شؤونكم تهاوناً تُسمّونه توكُّلاً! تموِّهون على جهلكم الأسباب بقضاء الله وتدفعون عار المسببات بعطفها على القدر، ألا والله ما هذا شأن البشر!»
«يا قومُ: سامحكم الله، لا تظلموا الأقدار، وخافوا غيرة المنعم الجبّار. ألم يخلقكم أكفاءً أحراراً طلقاء لا يثقلكم غير النّور والنسيم، فأبيتم إلا أن تحملوا على عواتقكم ظلم الضعفاء وقهر الأقوياء؟! لو شاء كبيركم أن يُحمِّل صغيركم كرة الأرض لحنى له ظهره، ولو شاء أن يركبه لطأطأ له رأسه. ماذا استفدتم من هذا الخضوع والخشوع لغير الله؟ وماذا ترجون من تقبيل الأذيال والأعتاب وخفض الصوت ونكس الرأس؟ أليس منشأ هذا الصّغار كلِّه هو ضعف ثقتكم بأنفسكم، كأنِّكم عاجزون عن تحصيل ما تقوم به الحياة، وحسب الحياة لُقيماتٍ من نباتٍ يقمن ضلع ابن آدم، وقد بذلها الخلاّق لأضعف الحيوان، وهذه الوحوش تجد فرائسها أينما حلَّت، وهذه الهوام لا تفقد قوتها؟ فما بال الرَّجل منكم يضع نفسه مقام الطفل الذي لا ينال حاجته إلا بالتذلُّل والبكاء، أو موضع الشيخ الفاني الذي لا ينال حاجته إلا بالتملُّق والدُّعاء؟»
«يا قوم: رفع الله عنكم المكروه، ما هذا التفاوت بين أفرادكم وقد خلقكم ربكم أكفاء في البنية، أكفاء في القوة، أكِّفاء في الطبيعة، أكفَّاء في الحاجات، لا يفضل بعضكم بعضاً إلا بالفضيلة، لا ربوبية بينكم ولا عبودية؟ والله؛ ليس بين صغيركم وكبيركم غير برزخٍ من الوهم. ولو درى الصغير بوهمه، العاجز بوهمه، ما في النفس الكبير المتآله من الخوف منه لزال الإشكال وقضي الأمر الذي فيه تشقون! يا أعزاء الخلقة، جهلاء المقام، كان الناس في دور الهمجية، فكان دُهاتهم بينهم آلهة وأنبياء، ثمَّ ترقّى النّاس، فهبط هؤلاء لمقام الجبابرة والأولياء، ثمَّ زاد الرّقي فانحطَّ أولئك إلى مرتبة الحُكَّام والحكماء، حتى صار النّاس ناساً فزال العماء، وانكشف الغطاء، وبان أنَّ الكلَّ أكفاء. فأناشدكم الله في أي الأدوار أنتم؟ ألا تفكِّرون؟»
«يا قومُ: جعلكم الله من المهتدين، كان أجدادكم لا ينحنون إلا ركوعاً لله، وأنتم تسجدون لتقبيل أرجل المنعِمين ولو بلقمةٍ مغموسةٍ بدم الإخوان، وأجدادكم ينامون في قبورهم مستوين أعزاء، وأنتم أحياء معوَّجة رقابكم أذلاّء! البهائم تودُّ لو تنتصب قاماتها وأنتم من كثرة الخضوع كادت تصير أيديكم قوائم. النبات يطلب العلو وأنتم تطلبون الانخفاض. لفَظَتكم الأرض لتكونوا على ظهرها وأنتم حريصون على أن تنغرسوا في جوفها، فإنْ كانت بطن الأرض بغيتكم، فاصبروا قليلاً لتناموا فيها طويلاً.»
«يا قومُ: ألهمكم الله الرّشد، متى تستقيم قاماتكم وترتفع من الأرض إلى السماء أنظاركم، وتميل إلى التعالي نفوسكم، فيشعر أحدكم بوجوده في الوجود، فيعرف معنى الأنانية ليستقلّ بذاته لذاته، ويملك إرادته واختياره ويثق بنفسه وربّه، لا يتكِّل على أحد من خلق الله اتِّكال الناقص في الخلق على الكامل فيه، أو اتِّكال الغاصب على مال الغافل أو الكلِّ على سعي العامل، بل يرى أحدكم نفسه إنساناً كريماً يعتمد على المبادلة والتعاوض فيسلف، ثمَّ يستوفي، ويستوفي على أن يفي، بل ينظر في نفسه أنَّه هو الأمّة وحده، وما أجدر بأحدكم أن يعمل لدنياه بنفسه لنفسه، فلا يتَّكل على غيره، كما يعمل الإنسان ليعبد الله بشخصه لا ينيب عنه غيره؟ فإذا فعلتم ذلك أظهر الله بينكم ثمرة التضامن بلا اشتراط، والتقاضي بلا محاشرة، فتصيرون بنعمة الله إخواناً.»
«يا قوم: أبعد الله عنكم المصائب وبصَّركم بالعواقب. إن كانت المظالم غلَّت أيديكم، وضيَّقت أنفسكم، حتى صغرت نفوسكم، وهانت عليكم هذه الحياة وأصبحت لا تساوي عندكم الجهد والجدّ وأمسيتم لا تبالون أتعيشون أم تموتون، فهلاّ أخبرتموني لماذا تحكِّمون فيكم الظالمين حتى في الموت؟ أليس لكم من الخيار أن تموتوا كما تشاؤون، لا كما يشاء الظالمون؟ هل سلب الاستبداد إرادتكم حتى في الموت؟ كلا والله: إن أنا أحببت الموت أموت كما أحب، لئيماً أو كريماً، حتفاً أو شهيداً، فإن كان الموت ولا بدَّ، فلماذا الجبانة؟ وإن أردت الموت، فليكن اليوم قبل الغد، ولكن بيدي لا بيد عمرو. أليس:
وطعم الموت في أمرٍ صغير

كطعم الموت في أمرٍ عظيمِ
«يا قومُ: أناشدكم الله، ألا أقول حقاً إذا قلتُ إنَّكم لا تحبُّون الموت، بل تنفرون منه، ولكنكم تجهلون الطريق فتهربون من الموت إلى الموت، ولو اهتديتم إلى السبيل لعلمتم أنَّ الهرب من الموت موتٌ، وطلب الموت حياة، ولعرفتم أنَّ الخوف من التعب تعبٌ، والإقدام على التعب راحةٌ، ولفطنتم إلى أنَّ الحرية هي شجرة الخلد، وسُقياها قطرات من الدم الأحمر المسفوح، والأسارة هي شجرة الزقّوم، وسقياها أنهر من الدم الأبيض؛ أي الدموع، ولو كبرت نفوسكم لتفاخرتم بتزيين صدوركم بورد الجروح لا بوسامات الظالمين؟!»
«يا قومُ: وأعني منكم المساكين،.. أيها المسلمون: إني نشأت وشبت وأنا أفكِّر في شأننا الاجتماعي، عسى أهتدي لتشخيص دائنا، فكنتُ أتقصّى السبب بعد السبب، حتى إذا وقعتُ على ما أظنُّه عاماً، أقول: لعلَّ هذا هو جرثومة الدّاء، فأتعمَّق فيه تمحيصاً وأحلِّله تحليلاً، فينكشف التحقيق عن أنَّ ما قام في الفكر هو سبب من جملة الأسباب، أو هو سبب فرعي لا أصلي، فأخيب وأعود إلى البحث والتنقيب. وطالما أمسيتُ وأصبحتُ أجهد الفكر في الاستقصاء، وكثيراً ما سعيتُ وسافرتُ لأستطلع آراء ذوي الآراء، عسى أهتدي إلى ما يشفي صدري من آلام بحث أتعبني به ربِّي. وآخر ما استقرَّت عليه سفينة فكري هو:
إنَّ جرثومة دائنا هي خروج ديننا عن كونه دين الفطرة والحكمة، دين النظام والنشاط، دين القرآن الصريح البيان، إلى صيغة أنَّا جعلناه دين الخيال والخبال، دين الخلل والتشويش، دين البِدَع والتشديد، دين الإجهاد. وقد دبَّ فينا هذا المرض منذ ألف عام، فتمكَّن فينا وأثَّر في كلِّ شؤوننا، حتى بلغ فينا استحكام الخلل في الفكر والعمل أننا لا نرى في الخالق – جلَّ شأنه – نظاماً فيما اتَّصف، نظاماً فيما قضى، نظاماً فيما أمر، ولا نطالب أنفسنا فضلاً عن آمرنا أو مأمورنا بنظامٍ وترتيبٍ واطِّراد ومثابرة.
وهكذا أصبحنا واعتقادنا مشوَّش، وفكرنا مشوَّش، وسياستنا مشوَّشة، ومعيشتنا مشوَّشة. فأين منا والحالة هذه؛ الحياة الفكرية، الحياة العملية، الحياة العائلية، الحياة الاجتماعية، الحياة السياسية؟!»
«يا قومُ: قد ضيَّع دينكم ودنياكم ساستكم الأولون وعلماؤكم المنافقون، وإنّي أرشدكم إلى عملٍ إفرادي لا حرج فيه علماً ولا عملاً: أليس بين جنبي كلِّ فردٍ منكم وجدان يميز الخير من الشرّ، والمعروف من المنكر ولو تمييزاً إجمالياً؟ أما بلغكم قول معلِّم الخير نبيكم الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: «لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليسلِّطنَّ الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم»، وقوله: «من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، وإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»؟!
«وأنتم تعلمون إجماع أئمة مذاهبكم كلِّها على أنَّ أنكر المنكرات بعد الكفر هو الظُّلم الذي فشا فيكم، ثمَّ قتل النَّفس، ثمَّ، وثمَّ،... وقد أوضح العلماء أنَّ تغيير المنكر بالقلب هو بغض المتلبِّس فيه بغضاً في الله. بناءً عليه؛ فمن يعامل الظالم أو الفاسق غير مضطر، أو يجامله ولو بالسلام، يكون قد خسر أضعف الإيمان والعياذ بالله.»
«ولا أظنكم تجهلون أنَّ كلمة الشهادة، والصوم والصلاة، والحج والزكاة، كلّها لا تغني شيئاً مع فقد الإيمان، إنما يكون القيام حينئذٍ بهذه الشّعائر، قياماً بعاداتٍ وتقليدات وهوسات تضيع بها الأموال والأوقات.»
«بناءً عليه؛ فالدين يكلِّفكم إن كنتم مسلمين، والحكمة تُلزِمكم إن كنتم عاقلين: أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر جهدكم، ولا أقلّ في هذا الباب من إبطانكم البغضاء للظالمين والفاسقين، وأظنّكم إذا تأمَّلتم قليلاً ترون هذا الدواء السهل المقدور لكلِّ إنسانٍ منكم، يكفي لإنقاذكم مما تشكون. والقيام بهذا الواجب متعيّن على كلِّ فرد منكم بنفسه، ولو أهمله كافّة المسلمين. ولو أنَّ أجدادكم الأولين قاموا به لما وصلتم إلى ما أنتم عليه من الهوان. فهذا دينكم، والدّين ما يدين به الفرد لا ما يدين به الجمع، والدين يقينٌ وعمل، لا علمٌ وحِفظٌ في الأذهان. أليس من قواعد دينكم فرض الكفاية وهو أن يعمل المسلم ما عليه غير منتظرٍ غيره؟!»
«فأناشدكم الله يا مسلمين: أن لا يغرَّكم دين لا تعملون به وإن كان خير دين، ولا تغرنَّكم أنفسكم بأنَّكم أمّة خير أو خير أمّة، وأنتم المتواكلون المقتصرون على شعار: لا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم. ونِعْمَ الشِّعار شعار المؤمنين، ولكن؛ أين هم؟ إني لا أرى أمامي أمَّةً تعرف حقاً معنى لا إله إلا الله، بل أرى أمَّةً خبلتها عبادة الظالمين!»
«يا قومُ: وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين، أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد، وما جناه الآباء والأجداد، فقد كفى ما فُعل ذلك على أيدي المثيرين، وأجلُّكم من أن لا تهتدوا لوسائل الاتِّحاد وأنتم المهتدون السابقون. فهذه أمم أوستريا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق شتّى وأصول راسخة للاتِّحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري. فما بالنا نحن لا نفتكر في أن نتبع إحدى تلك الطرائق أو شبهها. فيقول عقلاؤنا لمثيري الشَّحناء من الأعاجم والأجانب: دعونا يا هؤلاء نحن ندبِّر شأننا، نتفاهم بالفصحاء، ونتراحم بالإخاء، ونتواسى في الضرّاء، ونتساوى في السَّراء.
دعونا ندبِّر حياتنا الدنيا، ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط. دعونا نجتمع على كلماتٍ سواء، ألا وهي: فلتحي الأمة، فليحي الوطن، فلنحي طلقاء أعزّاء.»
«أدعوكم وأخصُّ منكم النُّجباء للتبصُّر والتبصير فيما آل إليه المصير، أليس مطلق العربي أخفّ استحقاراً لأخيه الغربي؟ هذا الغربي قد أصبح مادّياً لا دين له غير الكسب، فما تظاهرُه مع بعضنا بالإخاء الديني إلا مخادعةً وكَذِباً. هؤلاء الفرنسيس يطاردون أهل الدين، ويعملون على أنَّهم يتناسونه، بناءً عليه؛ لا تكون دعواهم الدِّين في الشَّرق، إلا كما يغرِّد الصّياد وراء الأشباك!
لو كان للدين تأثير عند الغربي لما كانت البغضاء بين اللاتين والسكسون، بل بين الطليان والفرنسيس، ولما كانت بين الألمان والفرنسيين الغربيين.
الغربي أرقى من الشرقي علماً وثروة ومنعة، فله على الشرقيين إذا واطنهم السيادة الطبيعية. أما الشرقيون فيما بينهم، فمتقاربون لا يتغابنون.
الغربي يعرف كيف يسوس، وكيف يتمتَّع، وكيف يأسر، وكيف يستأثر. فمتى رأى فيكم استعداداً واندفاعاً لمجاراته أو سبقه، ضغط على عقولكم لتبقوا وراءه شوطاً كبيراً كما يفعل الروس مع البولونيين، واليهود والتتار، وكذلك شأن كلِّ المستعمرين. الغربي مهما مكث في الشرق لا يخرج عن أنَّه تاجر مستمتع، فيأخذ فسائل الشرق ليغرسها في بلده التي لا يفتأ يفتخر برياضها ويحنُّ إلى أرباضها.
قد مضى على الهولانديين في الهند وجزائرها، وعلى الروس في قاوزان، مثل ما أقمنا في الأندلس، ولكنْ؛ ما خدموا العلم والعمران بعشر ما خدمناها، ودخل الفرنساويون الجزائر منذ سبعين عاماً، ولم يسمحوا بعد لأهلها بجريدةٍ واحدة تُقرَأ. نرى الإنكليزي في بلادنا يُفضِّل قديد بلاده، وسمك بحاره، على طريِّ لحمنا وسمكنا. فهلا والحالة هذه تبصرون يا أولي الألباب؟»
«وأنت أيها الشرق الفخيم رعاك الله. ماذا دهاك؟ ماذا أقعدك عن مسراك؟ أليست أرضك تلك الأرض ذات الجنان والأقنان، ومنبت العلم والعرفان، وسماؤك تلك السماء مصدر الأنوار، ومهبط الحكمة والأديان، وهواؤك ذاك النسيم العدل، لا العواصف والضباب. وماؤك ذاك العذب الغدق، لا الكدر ولا الأجاج؟»
«رعاك الله يا شرق، ماذا أصابك فأخلَّ نظامك، والدهر ذاك الدهر ما غيَّر وضعك، وبدَّل شرعه فيك؟ ألم تزل مناطقك هي المعتدلة، وبَنوك هم الفائقون فطرةً وعدداً؟ أليس نظام الله فيك على عهده الأول، ورابطة الأديان في بنيك مُحكمة قويمة، مؤسسة على عبادة الصانع الوازع؟ أليست معرفة المنعم حقيقة راهنة أشرقت فيك شمسها، أيَّدت بها عزّ النفس، وأحكمت بها حبَّ الوطن وحبَّ الجنس؟»
«رعاك الله يا شرق، ماذا عراك وسكَّن منك الحراك؟ ألم تزل أرضك واسعة خصبة، ومعادنك وافية غنية، وحيوانك رابياً متناسلاً، وعمرانك قائماً متواصلاً، وبَنوك على ما ربَّيتهم أقرب للخير من الشَّر؟ أليس عندهم الحلم المسمّى عند غيرهم ضعفاً في القلب، وعندهم الحياء المسمّى بالجبانة، وعندهم الكرم المسمّى بالإتلاف، وعندهم القناعة المسمّاة بالعجز، وعندهم العفّة المسمّاة بالبلاهة، وعندهم المجاملة المسمّاة بالذلّ؟ نعم؛ ما هم بالسالمين من الظلم، ولكن؛ فيما بينهم، ولا من الخدع، ولكن؛ لا يفتخرون به، ولا من الإضرار، ولكن؛ مع الخوف من الله.»
«رعاك الله يا شرق، لا نرى من غير الدّهر فيك ما يستوجب هذا الشّقاء لبنيك، ويستلزم ذلَّهم لبني أخيك. فلماذا قد أصبحت إذا انقطع عنك مدد أخيك بمصنوعاته، يبقى أبناؤك عُراة حفاة في ظلام، بل يمنّيهم فقدُ الحديد بالرجوع إلى العصر النّحاسي، بل الحجري الموصوف بعصر التعفين؟»
«رعاك الله يا شرق، بل راعى الله أخاك الغرب، العائل بنفسه والعائل فيك، وقاتل الله الاستبداد، بل لعن الله الاستبداد، المانع من التّرقّي في الحياة، المنحطّ بالأمم إلى أسفل الدركات. ألا بُعداً للظالمين.»
«رعاك الله يا غرب، وحيّاك وبيّاك، قد عرفت لأخيك سابق فضله عليك، فوفيت، وكفيت، وأحسنت الوصاية وهديت، وقد اشتدَّ ساعد بعض أولاد أخيك، فهلا ينتدب بعض شيوخ أحرارك لإعانة أنجاب أخيك على هدم ذاك السّور، سور الشؤم والشرور، ليخرجوا إلى أرض الحياة، أرض الأنبياء الهداة، فيشكرون فضلك والدهر مكافأة؟.»
«يا غربُ، لا يحفظ لك الدِّين غير الشرق إنْ دامت حياته بحريته، وفقدُ الدّين يهدِّدك بالخراب القريب. فماذا أعددت للفوضيين إذا صاروا جيشاً جراراً؟ وماذا أعددت لديارك الحبلى بالثورة الاجتماعية؟ هل تُعِدُّ المواد المتفرقعة، وقد جاوزتْ أنواعها الألف؟ أن تُعِدُّ الغازات الخانقة وقد سهل استحضارها على الصبيان؟»
«يا قوم: وأريد بكم شباب اليوم؛ رجال الغد، شباب الفكر؛ رجال الجد، أُعيذكم من الخزي والخذلان بتفرقة الأديان، وأُعيذكم من الجهل، جهل أنَّ الدينونة لله، وهو سبحانه وليُّ السرائر والضمائر««ولو شاء ربُّك لجعل الناس أمّةً واحدة».»
«أناشدكم يا ناشئة الأوطان، أن تعذروا هؤلاء الواهنة الخائرة قواهم إلا في ألسنتهم، المعطَّل عملهم إلا في التثبيط، الذين اجتمع فيهم داء الاستبداد والتواكل فجعلاهما آلة تُدار ولا تدير. وأسألكم عفوهم من العتاب والملام، لأنَّهم مرضى مبتلون، مثقلون بالقيود، ملجمون بالحديد، يقضون حياة خير ما فيها أنَّهم آباؤكم!»
«قد علمتم يا نُجَباء من طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد جُمَلاً كافية للتدبُّر، فاعتبروا بنا واسألوا الله العافية:
نحن ألِفنا الأدب مع الكبير ولو داس رقابنا. ألِفنا الثبات ثبات الأوتاد تحت المطارق، ألِفنا الانقياد ولو إلى المهالك. ألِفنا أن نعتبر التَّصاغر أدباً والتذلُّل لطفاً، والتملُّق فصاحةً، واللكنة رزانة، وترك الحقوق سماحةً، وقبول الإهانة تواضعاً، والرِّضا بالظُّلم طاعة، ودعوى الاستحقاق غروراً، والبحث عن العموميات فضولاً، ومدَّ النَّظر إلى الغد أملاً طويلاً، والإقدام تهوُّراً، والحمية حماقة، والشّهامة شراسة، وحريَّة القول وقاحة، وحريّة الفكر كُفراً، وحبَّ الوطن جنوناً.
أما أنتم، حماكم الله من السوء، فنرجو لكم أن تنشؤوا على غير ذلك، أن تنشؤوا على التمسُّك بأصول الدين، دون أوهام المتفننين، فتعرفوا قدر نفوسكم في هذه الحياة فتكرموها، وتعرفوا قدر أرواحكم وأنَّها خالدة تُثاب وتُجزى، وتتَّبعوا سُنن النبيين فلا تخافون غير الصانع الوازع العظيم. ونرجو لكم أن تبنوا قصور فخاركم على معالي الهمم ومكارم الشيَّم، ولا على عظام نخرة. وأن تعلموا أنَّكم خُلِقتم أحراراً لتموتوا كراماً، فاجهدوا على أن تحيوا ذلكما اليومين حياةً رضيّة، يتسنّى فيها لكلٍّ منكم أن يكون سلطاناً مستقلاً في شؤونه لا يحكمه غير الحقّ، ومديناً وفيّاً لقومه لا يضنُّ عليهم بعينٍ أو عون، وولداً بارّاً لوطنه، لا يبخل عليه بجزءٍ من فكره ووقته وماله، ومحبَّاً للإنسانية ويعمل على أنَّ خير الناس أنفعهم للناس، يعلم أنَّ الحياة هي العمل ووباء العمل القنوط، والسعادة هي الأمل، ووباء الأمل التردد، ويفقه أنَّ القضاء والقدر هما عند الله ما يعلمه ويمضيه، وهما عند الناس السعي والعمل، ويوقن أنَّ كلَّ أثرٍ على ظهر الأرض هو من عمل إخوانه البشر، وكلَّ عملٍ عظيم قد ابتدأ به فردٌ، ثمَّ تعاوَرَهُ غيره إلى أنْ كمل، فلا يتخيل الإنسان في نفسه عجزاً، ولا يتوقَّع إلا خيراً، وخير الخير للإنسان أن يعيش حُرّاً مقداماً، أو يموت.»
«وكأنّي بسائلكم يسألني تاريخ التغالب بين الشرق والغرب، فأجيب: بأنَّا كنّا أرقى من الغرب علماً، فنظاماً، فقوَّة، فكنَّا له أسياداً! ثمَّ جاء حينٌ من الدَّهر لحق بنا الغرب، فصارت مزاحمة الحياة بيننا سِجالاً: إنْ فُقْناه شجاعةً فاقنا عدداً، وإنْ فُقناه ثروةً فاقنا باجتماع كلمته. ثمَّ جاء الزّمن الأخير ترقّى فيه الغرب علماً، فنظاماً، فقوّةً. وانضمَّ إلى ذلك
أولاً: قوة اجتماعه شعوباً كبيرةً.
ثانياً: قوَّة البارود؛ حيث أبطل الشجاعة وجعل العبرة للعدد.
ثالثاً: قوَّة كشفه أسرار الكيمياء والميكانيك.
رابعاً: قوَّة الفحم الذي أهدته له الطبيعة.
خامساً: قوَّة النشاط بكسره قيود الاستبداد.
سادساً: قوَّة الأمن على عقد الشركات المالية الكبيرة. فاجتمعت هذه القوّات فيه وليس عند الشَّرق ما يقابلها غير الافتخار بالأسلاف، وذلك حجَّة عليه، والغرور بالدّين خلافاً للدّين، فالمسلمون يقابلون تلك القوات حسْبُنا الله ونِعْمَ الوكيل»، ويخالفون أمر)بما يُقال عند اليأس وهو:  القرآن لهم بأن يُعِدّوا ما استطاعوا من قوَّة، لا ما استطاعوا من صلاةٍ وصوم.
وكأني بسائلكم يقول: هل بعد اجتماع هذه القوات في الغرب واستيلائه على أكثر الشَّرق من سبيل لنجاة البقية؟ فأجيب قاطعاً غير متردِّد: إنَّ الأمر مقدور ولعلَّه ميسور. ورأس الحكمة فيه كسر قيود الاستبداد. وأنْ يكتب الناشئون على جباههم عشر كلمات، وهي:
1.                       ديني ما أُظهر وما أُخفي.
2.                       أكون؛ حيثُ يكون الحقُّ ولا أبالي.
3.                       أنا حرٌّ وسأموت حرّاً.
4.                       أنا مستقلٌّ لا أتِّكل على غير نفسي وعقلي.
5.     أنا إنسان الجدّ والاستقبال، لا إنسان الماضي والحكايات.
6.                       نفسي ومنفعتي قبل كلِّ شيء.
7.                       الحياة كلُّها تعبٌ لذيذ.
8.                       الوقت غالٍ عزيز.
9.                       الشَّرف في العلم فقط.
10.              أخاف الله لا سواه.
«وأنت أيها الوطن المحبوب: أنت العزيز على النفوس، المقدَّس في القلوب، إليك تحنُّ الأشباح وعليك تئنُّ الأرواح... أيها الوطن الباكي ضعافه: عليك تبكي العيون، وفيك يحلو المنون. إلى متى يعبث خلالك اللئام الطّغام؟ يظلمون بنيك ويذلُّون ذويك. يطاردون أنجالك الأحباب ويمسكون على المساكين الطُّرق والأبواب، يُخرجون العمران ويُقفرون الدّيار؟.
أيها الوطن العزيز: هل ضاعت رحابك عن أولادك؟ أم ضاقت أحضانك عن أفلاذك؟... كلا؛ إنَّما فقدت الأُباة، فقدت الحُماة، فقدت الأحرار. أيها الوطن الملتهب فؤاده: أما رويت من سُقيا الدموع والدِّماء؟ ولكنْ؛ دموع بناتك الثاكلات ودماء أبنائك الأبرياء، لا دموع النادمين ولا دماء الظالمين. ألا فاشرب هنيئاً ولا تأسف على البُلْهِ الخاملين، ولا تحزن، فما هم كرائماً وكراماً، لسْنَ هنَّ كرائماً باكيات محمسات، وليسوا هم كراماً أعزَّة شهداء، إنَّما هم – غفر الله لهم – من علمت، قلَّ فيهم الحرُّ الغيور، قلَّ فيهم من يقول أنا لا أخاف الظالمين.
أيها الوطن الحنون: كَوَّنَ الله عناصر أجسامنا منك، وجعل الأمهات حواضن، ورزقنا الغذاء منك، وجعل المرضعات مجهزات، نعم؛ خلقنا الله منك فحقَّ لك أن تحبَّ أجزاءك وأن تحنَّ على أفلاذك. كما يحقّ لكفي شرع الطبيعة أنْ لا تحبَّ الأجنبي الذي يأبى طبعه حبَّك، الذي يؤذيك ولا يواليك، ويزاحم بنيك عليك ويشاركهم فيك، وينقل إلى أرضه ما في جوفك من نفيس العناصر وكنوز المعادن، فيفقرك ليغني وطنه، ولا لوم عليه، بل بارك الله فيه!»
«يا قومُ: جعلكم الله خيرة اليوم وعدَّة الغد، هذا خطابي إليكم فيما هو الترقّي وما هو الانحطاط، فإن وعيتم ولو شذرات، فيا بشراي والسلام عليكم، وإلا فيما ضياع الأنفس، وعلى الرَّفاه السلام.»
الاستبداد الذي يبلغ في الانحطاط بالأمَّة إلى غاية أن تموت، ويموت هو معها، كثير الشواهد في قديم الزمان وحديثه، أما بلوغ الترقّي بالأمم إلى المرتبة القصوى السّامية التي تليق بالإنسانية، فهذا لم يسمح الزمان حتَّى الآن بأمَّةٍ تصلح مثالاً له، لأنَّه إلى الآن لم توجد أمَّة حكمت نفسها برأيها العام حُكماً لا يشوبه نوعً من الاستبداد ولو باسم الوقار والاحترام، أو بنوعٍ من الإغفال ولو ببذر الشِّقاق الديني أو الجنسي بين الناس.
فكأنَّ الحكمة الإلهية لم تزل ترى البشر غير متأهِّلين لنوال سعادة الأخوة العمومية بالتحابب بين الأفراد، والقناعة بالمساواة الحقوقية بين الطبقات. نعم؛ وُجد للترقّي القريب من الكمال بعض أمثال قليلة في القرون الغابرة، كالجمهورية الثانية للرومان، وكعهد الخلفاء الراشدين، وكالأزمنة المتقطِّعة في عهد الملوك المنظّمين لا الفاتحين مثل أنوشروان وعبد الملك الأموي ونور الدين الشَّهيد وبطرس الكبير. وكبعض الجمهوريات الصغيرة والممالك الموفَّقة لأحكام التقييد الموجودة في هذا الزَّمان. وإنّي أقتصر على وصف منتهى الترقّي الذي وصلت إليه تلك الأمم وصفاً إجمالياً، واترك للمطالع أن يوازنها ويقيس عليها درجات سائر الأمم.
وربما يستريب في ذلك المطالع المولود في أرض الاستبداد، الذي لم يدرس أحوال الأمم في الوجود، ولا عتب عليه فإنَّه كالمولود أعمى لا يُدرك للمناظر البهية معنى.
قد بلغ الترقّي في الاستقلال الشخصي في ظلال الحكومات العادلة، لأنْ يعيش الإنسان المعيشة التي تشبه في بعض الوجوه ما وعدته الأديان لأهل السعادة في الجنان. حتى إنَّ كلًّ فردٍ يعيش كأنه خالدٌ بقومه ووطنه، وكأنه أمينٌ على كلِّ مطلب، فلا هو يكلِّف الحكومة شططاً ولا هي تهمله استحقاراً:
1.     أمينٌ على السلامة في جسمه وحياته بحراسة الحكومة التي لا تغفل عن محافظته بكلِّ قوتها في حضره وسفره بدون أن يشعر بثقل قيامها عليه، فهي تحيط به إحاطة الهواء، لا إحاطة السور يلطمه كيفما التفت أو سار.
2.     أمينٌ على الملذَّات الجسمية والفكرية باعتناء الحكومة في الشؤون العامة، المتعلِّقة بالترويضات الجسمية والنظرية والعقلية حتى يرى أنَّ الطرقات المسهلة، والتزيينات البلدية، والمتنزهات، والمنتديات، والمدارس، والمجامع، ونحو ذلك، قد وُجِدت كلُّها لأجل ملذّاته، ويعتبر مشاركة الناس له فيها لأجل إحسانه، فهو بهذا النظر والاعتبار لا ينقص عن أغنى الناس سعادةً.
3.     أمينٌ على الحرية، كأنَّه خُلِق وحده على سطح هذه الأرض، فلا يعارضه معارض فيما يخصُّ شخصه من دينٍ وفكرٍ وعملٍ وأمل.
4.     أمينٌ على النفوذ، كأنَّه سلطانٌ عزيز، فلا ممانع له ولا معاكس في تنفيذ مقاصده النافعة في الأمة التي هو منها.
5.     أمينٌ على المزيّة، كأنَّه في أمَّةٍ يساوي جميع أفرادها منزلةً وشرفاً وقوةً، فلا يفضل هو على أحد ولا يفضل أحدٌ عليه، إلا بمزيّة سلطان الفضيلة فقط.
6.     أمينٌ على العدل، كأنَّه القابض على ميزان الحقوق، فلا يخاف تطفيفاً، وهو المثمّن فلا يحذر بخساً، وهو المطمئن على أنَّه إذا استحقَّ أن يكون ملكاً صار ملكاً، وإذا جنة جنايةً نال جزاءه لا محالة.
7.     أمينٌ على المال والملك، كأنَّ ما أحرزه بوجهه المشروع قليلاً كان أو كثيراً، قد خلقه الله لأجله فلا يخاف عليه، كما أنَّه تقلع عينه إنْ نظر إلى مال غيره.
8.     أمينٌ على الشف بضمان القانون، بنصرة الأمة، ببذل الدم، فلا يرى تحقيراً إلا لدى وجدانه، ولا يعرف طمعاً لمرارة الذُلِّ والهوان.
أما الأسير – ولا أُحزن المطالع بوصف حالته – فأكتفي بالقول: إنَّه لا يملك ولا نفسه، وغير أمينٍ حتى على عظامه في رمسه، إذا وقع نظره على المستبدِّ أو أحد من جماعته على كثرتهم يتعوَّذ بالله، وإذا مرَّ من قرب إحدى دوائر حكومته أسرع وهو يكرر قوله: «حمايتك يا ربّ، إنَّ هذا الدار، بئس الدار، هي كالمجزرة كلُّ من فيها إما ذابح أو مذبوح. إنَّ هذه الدار كالكنيف لا يدخله إلا المضطر.»
وقد يبلغ الترقّي في الاستقلال الشخصي مع التركيب بالعائلة والعشيرة، أن يعيش الإنسان معتبراً نفسه من وجه غنياً عن العالمين، ومن وجه عضواً حقيقياً من جسمٍ حيٍّ هو العائلة، ثمَّ الأمَّة، ثمَّ البشر.
ويُنظر إلى انقسام البشر إلى أمم، ثم إلى عائلات، ثم إلى أفراد، وهو من قبيل انقسام الممالك إلى مدنٍ، وهي إلى بيوت، وهي إلى مرافق، وكما أنَّه لا بدَّ لكلِّ مرفقٍ من وظيفةٍ معينة يصلح لها وإلا كان بناؤه عبثاً يستحقُّ الهدم، كذلك أفراد الإنسان لا بدَّ أن يعدَّ كلٌّ منهم نفسه لوظيفة في قيام حياة عائلته أولاً، ثمَّ حياة قومه ثانياً.
ولهذا يكون العضو الذي لا يصلح لوظيفة، أو لا يقوم بما يصلح له، حقيراً مهاناً. وكلُّ من يريد أن يعيش كَلاً على غيره، لا عن عجزٍ طبيعيٍّ، يستحقُّ الموت لا الشفقة، لأنهَّ كالدَّرن في الجسم أو كالزائد من الظُّفر يستحقان الإخراج والقطع، ولهذا المعنى حرَّمت الشرائع السماوية الملاهي التي ليس فيها ترويض، والسُّكر المعطِّل عن العمل عقلاً وجسماً، والمقامرة والرِّبا لأنهما ليسا من نوع العمل والتبادل فيه. وقد فضَّل الله الكنَّاس على الحجَّام وصانع الخبز على ناظم الشِّعر؛ لأنَّ صنعتهما أنفع للجمهور.
وقد يبلغ ترقّي التركيب في الأمم درجة أنْ يصير كلُّ فردٍ من الأمَّة مالكاً لنفسه تماماً، ومملوكاً لقومه تماماً. فالأمَّة التي يكون كلُّ فردٍ منها مستعداً لافتدائها بروحه وبماله، تصير تلك الأمَّة بحجَّة هذا الاستعداد في الأفراد، غنية عن أرواحهم وأموالهم.
الترقّي في القوة بالعلم والمال يتميَّز على باقي أنواع الترقّيات السالفة البيان تميُّز الرأس على باقي أعضاء الجسم، فكما أنَّ الرأس بإحرازه مركزية العقل، ومركزية أكثر الحواس، تميّز على باقي الأعضاء واستخدمها في حاجاته، فكذلك الحكومات المنتظم يترقّى أفرادها ومجموعها في العلم والثروة، فيكون لهم سلطانٌ طبيعي على الأفراد أو الأمم التي انحطَّ بها الاستبداد المشؤوم إلى حضيض الجهل والفقر.
بقي علينا بحث الترقّي في الكمالات بالخصال والأثرة، وبحث الترقّي الذي يتعلق بالروح؛ أي بما وراء هذه الحياة، ويرقى إليه الإنسان على سُلَّم الرَّحمة والحسنات، فهذه أبحاث طويلة الذيل، ومنابعها حكميات الكتب السماوية ومدوِّنات الأخلاق، وتراجم مشاهير الأمم.
وأكتفي بالقول في هذا النوع: إنَّه يبلغ بالإنسان مرتبة أن لا يرى لحياته أهمية إلا بعد درجات، فيهُّمه أملاً: حياة أمِّه، ثمَّ امتلاك حريته، ثمَّ أمنه على شرفه، ثمَّ محافظته على عائلته، ثمَّ وقايته حياته، ثمَّ ماله، ثمَّ، وثمَّ... وقد تشمل إحساساته عالم الإنسانية كلِّه، كأنَّ قومه البشر لا قبيلته، ووطنه الأرض لا بلده، ومسكنه؛ حيث يجد راحته، لا يتقيَّد بجدران بيت مخصوص يستتر فيه ويفتخر به كما هو شأن الأُسراء.
وقد يترفَّع الإنسان عن الإمارة لما فيها من معنى الكبر، وعن التِّجارة لما فيها من التمويه والتبذُّل، فيرى الشرف في المحراث، ثمَّ المطرقة، ثمَّ القلم، ويرى اللذَّة في التجديد والاختراع، لا في المحافظة على العتيق، كأنَّ له وظيفة في ترقّي مجموع البشر.
وخلاصة القول: إنَّ الأمم التي يُسعدها جدُّها لتبديد استبدادها، تنال من الشَّرف الحسّي والمعنوي ما لا يخطر على فكر أُسراء الاستبداد. فهذه بلجيكا أبطلت التكاليف الأميرية برمَّتها، مكتفيةً في نفقاتها بنماء فوائد بنك الحكومة. وهذه سويسرا يصادفها كثيراً أن لا يوجد في سجونها محبوسٌ واحد. وهذه أمريكا أثرت حتى كادت تخرج الفضة من مقام النقد إلى مقام المتاع. وهذه اليابان أصبحت تستنزف قناطير الذهب من أوربا وأمريكا ثمن امتيازات اختراعاتها وطبع تراجم مؤلَّفاتها.
وقد تنال تلك الأمم حظّاً من الملذَّات الحقيقية، التي لا تخطر على فكر الأُسراء، كلذَّة العلم وتعليمه، ولذَّة المجد والحماية، ولذَّة الإثراء والبذل، ولذَّة إحراز الاحترام في القلوب، ولذَّة نفوذ الرأي الصائب، ولذَّة الحبِّ الطاهر، إلى غير هذه الملذَّات الروحية. وأمَّا الأسراء والجهلاء فملذَّاتهم مقصورة على مشاركة الوحوش الضارية في المطاعم والمشارب واستفراغ الشهور، كأنَّ أجسامهم ظروف تُملأ وتُفرغ، أو هي دمامل تولد الصديد وتدفعه.
وأنفع ما بلغه الترقّي في البشر؛ هو إحكامهم أصول الحكومات المنتظمة ببنائهم سدّاً متيناً في وجه الاستبداد، والاستبداد جرثومة كلِّ فساد، وبجعلهم ألاّ قوة ولا نفوذ فوق قوة الشَّرع، والشَّرع هو حبل الله المتين. وبجعلهم قوَّة التشريع في يد الأمَّة، والأمَّة لا تجتمع على ضلال. وبجعلهم المحاكم تحاكم السُّلطان والصُّعلوك على السَّواء، فتحاكي في عدالتها الكبرى الإلهية. وبجعلهم العمال لا سبيل لهم على تعدّي حدود وظائفهم، كأنهم ملائكة لا يعصون أمراً، وبجعلهم الأمَّة يقظة ساهرة على مراقبة سير حكومتها، لا تغفل طرفة عين، كما أنَّ الله – عزَّ وجلّ – لا يغفل عمَّا يفعل الظالمون.
هذا مبلغ الترقّي الذي وصلت إليه الأمم منذ عُرِف التاريخ، على أنَّه لم يقم دليل إلى الآن على ترقّي البشر في السعادة الحيوية عمّا كانوا عليه في العصور الخالية حتى الحجرية، حتّى منذ كانوا عراةً يسرحون أسراباً، والآثار المشهودة لا تدلُّ على أكثر من ترقّي العلم والعمران؛ وهما آلتان كما يصلحان للإسعاد، يصلحان للإشقاء، وترقِّيها هو من سُنَّة الكون التي أرادها الله تعالى لهذه الأرض وبنيها، ووصف لنا ما سيبلغ إليه ترقّي زينتها واقتدار أهلها بقوله عزَّ شأنه: «حتى إذا أخذت الأرض زُخرفها وازَّينت وظنَّ أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تَغْنَ بالأمس». وهذا يدلُّ على أنَّ الدنيا وبنيها لم يزالا في مقتبل الترقّي، ولا يعارض هذا أنَّ ما مضى من عمرها هو أكثر مما بقي حسبما أخبرت به الكتب السماوية، لأنَّ العمر شيء، والترقّي شيءٌ آخر.

[عدل] الاستبداد والتخلُّص منه
ليس لنا مدرسة أعظم من التاريخ الطبيعي، ولا برهان أقوى من الاستقراء، من تتبَّعهما يرى أنَّ الإنسان عاش دهراً طويلاً في حالة طبيعية تسمَّى «دور الافتراس»، فكان يتجوَّل حول المياه أسراباً تجمعه حاجة الحضانة صغيراً، وقصد الاستئناس كبيراً، ويعتمد في رزقه على النبات الطبيعي وافتراس ضعاف الحيوان في البرِّ والبحر، وتسوسه الإرادة فقط، ويقوده من بنيته أقوى إلى حيثُ يكثر الرزق.
ثم ترقَّى الكثير من الإنسان إلى الحالة البدوية التي تسمّى «دور الاقتناء»: فكان عشائر وقبائل، يعتمد في رزقه على ادِّخار الفرائس إلى حين الحاجة، فصارت تجمعه حاجة التحفُّظ على المال العام والأنعام، وحماية المستودعات والمراعي والمياه من المزاحمين، ثمَّ انتقل – ولا يُقال ترقّى – قسم كبير من الإنسان إلى المعيشة الحضرية: فسكن القرى يستنبت الأرض الخصبة في معاشه، فأخصب، ولكن؛ في الشقاء، ولعلَّه استحقَّ ذلك بفعله؛ لأنَّه تعدَّى قانون الخالق، فإنَّه خلقه حرّاً جوَّالاً، يسير في الأرض، ينظر آلاء الله، فسكنَ، وسكن إلى الجهل والذُّلّ، وخلق الله الأرض مباحةً، فاستأثر بها، فسلَّط الله عليه من يغصبها منه ويأسره. وهذا القسم يعيش بلا جامعة، تحكمه أهواء أهل المدن وقانونه: أن يكون ظالماً أو مظلوماً.
ثمَّ ترقّى قسم من الإنسان إلى التصرُّف إمّا في المادة وهم الصُّناع، وإمَّا في النظريات وهم أهل المعارف والعلوم. وهؤلاء المتصرِّفون هم سكان المدن الذين هم إنْ سجنوا أجسامهم بين الجدران، لكنهم أطلقوا عقولهم في الأكوان، وهم قد توسَّعوا في الرِّزق كما توسَّعوا في الحاجات، ولكنَّ أكثرهم لم يهتدوا حتى الآن للطريق المثلى في سياسة الجمعيات الكبرى. وهذا هو سبب تنوُّع أشكال الحكومات وعدم استقرار أمَّةٍ على شكل مُرضٍ عام. إنَّما كلُّ الأمم في تقلُّباتٍ سياسية على سبيل التجريب، وبحسب تغلُّب أحزاب الاجتهاد أو رجال الاستبداد.
وتقرير شكل الحكومة هو أعظم وأقدم مشكلة في البشر، وهو المعترك الأكبر لأفكار الباحثين، والميدان الذي قلَّ في البشر من لا يجول فيه على فيل من الفكر، أو على جملٍ من الجهل، أو على فرسٍ من الفراسة، أو على حمارٍ من الحُمْق، حتى جاء الزمن الأخير فجال فيه إنسان الغرب جولة المغوار الممتطي في التدقيق مراكب البخار. فقرر بعض قواعد أساسية في هذا الباب تضافر عليها العقل والتجريب، وحصحص فيها الحقّ اليقين، فصارت تُعَدُّ من المقررات الاجتماعية عند الأمم المترقية، ولا يعارض ذلك كون الأمم لم تزل أيضاً منقسمة إلى أحزاب سياسية يختلفون شيعاً؛ لأنَّ اختلافهم هو في وجوه تطبيق تلك القواعد وفروعها على أحوالهم الخصوصية.
وهذه القواعد التي قد صارت قضايا بديهية في الغرب، لم تزل مجهولة أو غريبة، أو منفوراً منها في الشرق؛ لأنَّها عند الأكثرين منهم لم تطرق سمعهم، وعند البعض لم تنل التفاتهم وتدقيقهم، وعند آخرين لم تحز قبولاً؛ لأنَّهم ذوو غرض، أو مسروقة قلوبهم، أو في قلوبهم مرض.
وإنّي أطرح لتدقيق المطالعين رؤوس مسائل بعض المباحث التي تتعلَّق بها الحياة السياسية. وقبل ذلك أذكِّرهم بأنَّه قد سبق في تعريف الاستبداد بأنَّه: «هو الحكومة التي لا يوجد بينها وبين الأمَّة رابطة معينة معلومة مصونة بقانون نافذ الحكم». كما أستلفت نظرهم إلى أنَّه لا يوثق بوعد من يتولى السُّلطة أياً كان، ولا بعهده ويمينه على مراعاة الدين، والتقوى، والحق، والشرف، والعدالة، ومقتضيات المصلحة العامة، وأمثال ذلك من القضايا الكلية المبهمة التي تدور على لسان كلِّ برٍّ وفاجر. وما هي في الحقيقة إلا كلامٌ مبهم فارغ؛ لأنَّ المجرم لا يعدم تأويلاً؛ ولأنَّ من طبيعة القوة الاعتساف؛ ولأنَّ القوة لا تُقابل إلا بالقوة.
ثمَّ فلنرجع للمباحث التي أريد طرحها لتدقيق المطالعين، وهي:
1– مبحث ما هي الأمَّة؛ أي الشَّعب:
هل هي ركامُ مخلوقاتٍ نامية، أو جمعية، عبيدٌ لمالكٍ متغلِّب، وظيفتهم الطاعة والانقياد ولو كُرهاً؟ أم هي جمعٌ بينهم روابط دين أو جنس أو لغة، ووطن، وحقوق مشتركة، وجامعة سياسية اختيارية، لكلِّ فردٍ حقُّ إشهار رأيه فيها توفيقاً للقاعدة الإسلامية التي هي أسمى وأبلغ قاعدة سياسية، وهي: «كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيِّته.»
2– مبحث ما هي الحكومة:
هل هي سلطة امتلاك فرد لجمع، يتصرَّف في رقابهم، ويتمتَّع بأعمالهم ويفعل بإرادته ما يشاء؟ أم هي وكالة تُقام بإرادة الأمَّة لأجل إدارة شؤونها المشتركة العمومية؟
3– مبحث ما هي الحقوق العمومية:
هل هي آحاد الملوك، ولكنها تُضاف للأمم مجازاً؟ أم بالعكس، هي حقوق جموع الأمم، وتُضاف للملوك مجازاً، ولهم عليها ولاية الأمانة والنّظارة على مثل الأراضي والمعادن، والأنهر والسواحل، والقلاع والمعابد، والأساطيل والمعدات، وولاية الحدود، والحراسة على مثل الأمن العام، والعدل والنظام، وحفظ وصيانة الدين والآداب، والقوانين والمعاهدات والاتِّجار، إلى غير ذلك مما يحقُّ لكلِّ فردٍ من الأمَّة أن يتمتع به وأنْ يطمئن عليه؟
4– مبحث التساوي في الحقوق:
هل للحكومة التصّرف في الحقوق العامة المادية والأدبية كما تشاء بذلاً وحرماناً؟ أم تكون الحقوق محفوظة للجميع على التساوي والشيوع، وتكون المغانم والمغارم العمومية موزَّعة على الفصائل والبلدان والصنوف والأديان بنسبةٍ عادلة، ويكون الأفراد متساوين في حقِّ الاستنصاف؟
5– مبحث الحقوق الشخصية:
هل الحكومة تملك السيطرة على الأعمال والأفكار؟ أم أفراد الأمة أحرار في الفكر مطلقاً، وفي الفعل ما لم يخالف القانون الاجتماعي؛ لأنَّهم أدرى بمنافعهم الشخصية، والحكومة لا تتداخل إلا في الشؤون العمومية؟
6– مبحث نوعية الحكومة:
هل الأصلح هي الملكية المطلقة من كلِّ زمام؟ أم الملكية المقيَّدة؟ وما هي القيود؟ أم الرئاسة الانتخابية الدائمة مع الحياة، أو المؤقَّتة إلى أجل؟ وهل تُنال الحاكمية بالوراثة، أو العهد، أو الغلبة؟ وهل يكون ذلك كما تشاء الصُّدفة، أم مع وجود شرائط الكفاءة، وما هي تلك الشرائط؟ وكيف يصير تحقيق وجودها؟ وكيف يراقب استمرارها؟ وكيف تستمرُّ المراقبة عليها؟
7– مبحث ما هي وظائف الحكومة:
هل هي إدارة شؤون الأمة حسب الرأي والاجتهاد؟ أم تكون مقيَّدة بقانون موافق لرغائب الأمة وإنْ خالف الأصلح؟ وإذا اختلفت الحكومة مع الأمَّة في اعتبار الصالح والمضرّ، فهل على الحكومة أن تعتزل الوظيفة؟
8– مبحث حقوق الحاكمية:
هل للحكومة أن تخصِّص بنفسها لنفسها ما تشاء من مراتب العظمة، ورواتب المال، وتحابي من تريد بما تشاء من حقوق الأمة وأموالها؟ أم يكون التَّصرف في ذلك كلِّه إعطاءً وتحديداً ومنعاً منوطاً بالأمة؟
9– مبحث طاعة الأمة للحكومة:
هل الإرادة للأمَّة، وعلى الحكومة العمل؟ أم للإرادة للحكومة وعلى الأمَّة الطاعة؟ وهل للحكومة تكليف الأمَّة طاعةً عمياء بلا فهم ولا اقتناع؟ أم عليها الاعتناء بوسائل التفهيم والإذعان لتتأتَّى الطاعة بإخلاص وأمانة؟
10– مبحث توزيع التكليفات:
هل يكون وضع الضرائب مفوَّضاً لرأي الحكومة؟ أم الأمَّة تقرِّر النفقات اللازمة وتعيِّن موارد المال، وتُرتِّب طرائق جبايته وحفظه؟
11– مبحث إعداد المَنَعة:
هل يكون إعداد القوة بالتجنيد والتسليح استعداداً للدفاع مفوضاً لإرادة الحكومة إهمالاً، أو إقلالاً، أو إكثاراً، أو استعمالاً على قهر الأمَّة؟ أم يلزم أن يكون ذلك برأي الأمَّة وتحت أمرها؛ بحيث تكون القوة منفِّذة رغبة الأمة لا رغبة الحكومة؟
12– مبحث المراقبة على الحكومة:
هل تكون الحكومة لا تُسأل عما تفعل؟ أم يكون للأمة حقُّ السيطرة عليها؛ لأنَّ الشأن شأنها، فلها أن تُنبت عنها وكلاء لهم حقُّ الاطِّلاع على كلِّ شيء، وتوجيه المسؤولية على أيٍّ كان، ويكون أهم وظائف النواب حفظ الحقوق الأساسية المقررة للأمة على الحكومة؟
13– مبحث حفظ الأمن العام:
هل يكون الشخص مكلَّفاً بحراسة نفسه ومتعلَّقاته؟ أم تكون الحكومة مكلَّفة بحراسته مقيماً ومسافراً حتى من بعض طوارئ الطبيعة بالحيلولة لا بالمجازاة والتعويض؟
14– مبحث حفظ السُّلطة في القانون:
هل يكون للحكومة إيقاع عمل إكراهي على الأفراد برأيها؛ أي بدون الوسائط القانونية؟ أم تكون السُّلطة منحصرة في القانون، إلا في ظروف مخصوصة ومؤقَّتة؟
15– مبحث تأمين العدالة القضائية:
هل يكون العدل ما تراه الحكومة؟ أم ما يراه القضاة المصون وجدانهم من كلِّ مؤثِّر غير الشرع والحق، ومن كلِّ ضغطٍ حتى ضغط الرأي العام؟
16– مبحث حفظ الدين والآداب:
هل يكون للحكومة – ولو القضائية – سلطة وسيطرة على العقائد والضمائر؟ أم تقتصر وظيفتها في حفظ الجامعات الكبرى كالدين، والجنسية، واللغة، والعادات، والآداب العمومية على استعمال الحكمة ما أغنت الزواجر، ولا تتداخل الحكومة في أمر الدين ما لم تُنتَهَك حرمته؟ وهل السياسة الإسلامية سياسة دينية؟ أم كان ذلك في مبدأ ظهور الإسلام، كالإدارة العرفية عقب الفتح؟
17– مبحث تعيين الأعمال بالقوانين:
هل يكون في الحكومة – من الحاكم إلى البوليس – من يُطلَق له عنان التَّصرف برأيه وخبرته؟ أم يلزم تعيين الوظائف، كليّاتها وجزئياتها، بقوانين صريحة واضحة، لا تسوغ مخالفتها ولو لمصلحة مهمة، إلا في حالات الخطر الكبير؟
18– مبحث كيف توضع القوانين:
هل يكون وضعها منوطاً برأي الحاكم الأكبر، أو رأي جماعة ينتخبهم لذلك؟ أم يضع القوانين جمعٌ منتخبٌ من قبل الكافّة ليكونوا عارفين حتماً بحاجات قومهم وما يُلائم طبائعهم ومواقعهم وصوالحهم، ويكون حكمه عاماً أو مختلفاً على حسب تخالف العناصر والطبائع وتغير الموجبات والأزمان؟
19– مبحث ما هو القانون وقوَّته:
هل القانون هو أحكام يحتجُّ بها القوي على الضعيف؟ أم هو أحكام منتزعة من روابط الناس بعضهم ببعض، وملاحظٌ فيها طبائع أكثرية الأفراد، ومن نصوص خالية من الإبهام والتعقيد وحكمها شامل كلّ الطبقات، ولها سلطان نافذ قاهر مصون من مؤثِّرات الأغراض، والشفاعة، والشفقة، وبذلك يكون القانون هو القانون الطبيعي للأمَّة فيكون محترماً عند الكافّة، مضمون الحماية من قِبَل أفراد الأمة؟
20– مبحث توزيع الأعمال والوظائف:
هل يكون الحظُّ في ذلك مخصوصاً بأقارب الحاكم وعشيرته ومقرَّبيه؟ أم توزَّع كتوزيع الحقوق العامَّة على كافَّة القبائل والفصائل، ولو مناوبة مع ملاحظات الأهمية والعدد؛ بحيث يكون رجال الحكومة أنموذجاً من الأمَّة، أو هم الأمَّة مصغَّرة، وعلى الحكومة إيجاد الكفاءة والأعداد ولو بالتعليم الإجباري؟
21– مبحث التفريق بين السُّلطات السياسية والدينية والتعليم:
هل يُجمع بين سلطتين أو ثلاث في شخصٍ واحد؟ أم تُخصَّص كلُّ وظيفة من السياسة والدين والتعليم بمن يقوم بإتقان، ولا إتقان إلا بالاختصاص، وفي الاختصاص، كما جاء في الحكمة القرآنية: «ما جعل اللهُ لرجلٍ قلبين في جوفه»، ولذلك لا يجوز الجمع منعاً لاستفحال السلطة.
22– مبحث الترقّي في العلوم والمعارف:
هل يُترَك للحكومة صلاحية الضَّغط على العقول كي يقوى نفوذ الأمَّة عليها؟ أم تُحمل على توسيع المعارف بجعل التعليم الابتدائي عمومياً بالتشويق والإجبار، وبجعل الكمالي سهلاً للمتناول، وجعل التعليم والتعلُّم حرّاً مطلقاً؟
23– مبحث التوسُّع في الزراعة والصنائع والتجارة:
هل يُترك ذلك للنشاط المفقود في الأمَّة؟ أم تلزم الحكومة بالاجتهاد في تسهيل مضاهاة الأمم السَّائرة، ولا سيما المزاحمة والمجاورة، كيلا تهلك الأمَّة بالحاجة لغيرها أو تضعف بالفقر؟
24– مبحث السَّعي في العمران:
هل يُترك ذلك لإهمال الحكومة المميت لعزَّة نفس السُّكان، أو لانهماكها فيه إسرافاً وتبذيراً؟ أم تحمل على اتِّباع الاعتدال المتناسب مع الثورة العمومية؟
25– مبحث السَّعي في رفع الاستبداد:
هل يُنتظر ذلك من الحكومة ذاتها؟ أم نوال الحرية ورفع الاستبداد رفعاً لا يترك مجالاً لعودته، من وظيفة عقَلاء الأمة وسراتها؟
هذه خمسة وعشرون مبحثاً، كلٌّ منها يحتاج إلى تدقيقٍ عميق، وتفصيلٍ طويل، وتطبيق على كلِّ الأحوال والمقتضيات الخصوصية. وقد ذكرتُ هذه المباحث تذكرةً للكُتَّاب ذوي الألباب وتنشيطاً للنُّجباء على الخوض فيها بترتيب، اتِّباعاً لحكمة إتيان البيوت من أبوابها. وإني أقتصر على بعض الكلام فيما يتعلق بالمبحث الأخير منها فقط؛ أعني مبحث السَّعي في رفع الاستبداد، فأقول:
1.     الأمَّة التي لا يشعر كلُّها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحقُّ الحريّة.
2.                       الاستبداد لا يقاوَم بالشِّدة إنما يُقاوم باللين والتدرُّج.
3.     يجب قبل مقاومة الاستبداد، تهيئة ما يُستَبدَل به الاستبداد.
هذه قواعد رفع الاستبداد، وهي قواعد تُبعد آمال الأسراء، وتسرُّ المستبدّين؛ لأنَّ ظاهرها يؤمنِّهم على استبدادهم. ولهذا أذكِّر المستبدّين بما أنذرهم الفياري المشهور؛ حيثُ قال: «لا يفرحنَّ المستبدُّ بعظيم قوَّته ومزيد احتياطه، فكم جبّارٍ عنيدٍ جُنِّد له مظلومٌ صغير»، وإني أقول: كم من جبّار قهّار أخذه الله أخذ عزيزٍ منتقم.
مبنى قاعدة كون الأمَّة التي لا يشعر أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحقُّ الحريّة هو:
إنَّ الأمَّة إذا ضُرِبَت عليها الذِّلَّة والمسكنة، وتوالت على ذلك القرون والبطون، تصير تلك الأمَّة سافلة الطِّباع حسبما سبق تفصيله في الأبحاث السَّالفة، حتى إنَّها تصير كالبهائم، أو دون البهائم، لا تسأل عن الحرية، ولا تلتمس العدالة، ولا تعرف للاستقلال قيمة، أو للنظام مزية، ولا ترى لها في الحياة وظيفة غير التابعية للغالب عليها، أحسنَ أو أساء على حدٍّ سواء، وقد تنقم على المستبدِّ نادراً، ولكنْ، طلباً للانتقام من شخصه لا طلباً للخلاص من الاستبداد، فلا تستفيد شيئاً، إنما تستبدل مرضاً بمرض؛ كمغصٍ بصداع.
وقد تقاوم المستبدَّ بسَوق مستبدٍّ آخر تتوسَّم فيه أنَّه أقوى شوكةً من المستبدِّ الأول، فإذا نجحت لا يغسل هذا السائق يديه إلا بماء الاستبداد، فلا تستفيد أيضاً شيئاً، إنما تستبدل مرضاً مزمناً بمرض حديث، وربما تُنال الحرية عفواً، فكذلك لا تستفيد منها شيئاً؛ لأنَّها لا تعرف طعمها، فلا تهتمُّ بحفظها، فلا تلبث الحرية أن تنقلب إلى فوضى، وهي إلى استبدادٍ مشوَّش أشدُّ وطأةً كالمريض إذا انتكس. ولهذا؛ قرَّر الحكماء أنَّ الحرية التي تنفع الأمَّة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، وأمَّا التي تحصل على أثر ثورةٍ حمقاء فقلّما تفيد شيئاً؛ لأنَّ الثورة – غالباً – تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولاً.
فإذا وُجِد في الأمَّة الميتة من تدفعه شهامته للأخذ بيدها والنهوض بها فعليه أولاً: أن يبثَّ فيها الحياة وهي العلم؛ أي علمها بأنَّ حالتها سيئة، وإنَّما بالإمكان تبديلها بخيرٍ منها، فإذا هي علمت بطبعه من الآحاد إلى العشرات، إلى إلى...، حتى يشمل أكثر الأمَّة، وينتهي بالتحمُّس ويبلغ بلسان حالها إلى منزلة قول الحكيم المعرّي:
إذا لم تقُم بالعدل فينا حكومةٌ *** فنحن على تغييرها قُدَراء
وهكذا ينقذف فِكرُ الأمَّة في وادٍ ظاهر الحكمة يسير كالسيل، لا يرجع حتى يبلغ منتهاه.
ثمَّ إنَّ الأمم الميتة لا يندر فيها ذو الشَّهامة، إنما الأسف أنْ يندر فيها من يهتدي في أوَّل نشأته إلى الطريق الذي به يحصل على المكانة التي تمكِّنه في مستقبله من نفوذ رأيه في قومه. وإنِّي أنبِّه فكر الناشئة العزيزة أنَّ من يرى منهم في نفسه استعداداً للمجد الحقيقي فليحرص على الوصايا الآتية البيان:
1.     أن يجهد في ترقية معارفه مطلقاً لا سيما في العلوم النّافعة الاجتماعية كالحقوق والسياسة والاقتصاد والفلسفة العقلية، وتاريخ قومه الجغرافي والطبيعي والسياسي، والإدارة الحربية، فيكتسب من أصول وفروع هذه الفنون ما يمكنه إحرازه بالتلقِّي، وإن تعذَّر فبالمطالعة مع التدقيق.
2.     أن يتقن أحد العلوم التي تكسبه في قومه موقعاً محترماً وعلمياً مخصوصاً؛ كعلم الدين والحقوق أو الإنشاء أو الطبّ.
3.     أن يحافظ على آداب وعادات قومه غاية المحافظة ولو أنَّ فيها بعض أشياء سخيفة.
4.     أن يقلل اختلاطه مع الناس حتى رفقائه في المدرسة، وذلك حفظاً للوقار وتحفُّظاً من الارتباط القوي مع أحد كيلا يسقط تبعاً لسقوط صاحبٍ له.
5.     أن يتجنَّب كليّاً مصاحبة الممقوت عند الناس لا سيما الحكّام ولو كان ذلك المقت بغير حقّ.
6.     أن يجتهد ما أمكنه في كتم مزيّته العلمية على الذين هم دونه في ذلك العلم لأجل أن يأمن غوائل حسدهم، إنما عليه أن يظهر مزيّته لبعض من هم فوقه بدرجاتٍ كثيرة.
7.     أن يتخيَّر له بعض من ينتمي إليه من الطبقة العليا، بشرط: أنْ لا يُكثر التردد عليه، ولا يشاركه شؤونه، ولا يظهر له الحاجة، ويتكتَّم في نسبته إليه.
8.     أن يحرص على الإقلال من بيان آرائه وإلا يؤخذ عليه تبعة رأي يراه أو خبرٍ يرويه.
9.     أن يحرص على أن يُعرف بحسن الأخلاق، لا سيما الصّدق والأمانة والثبات على المبادئ.
10.   أن يُظهر الشفقة على الضعفاء والغيرة على الدين والعلاقة بالوطن.
11.   أن يتباعد ما أمكنه من مقاربة المستبدّ وأعوانه إلا بمقدار ما يأمن به فظائع شرِّهم إذا كان معرَّضاً لذلك.
فمن يبلغ سنَّ الثلاثين فما فوق حائزاً على الصفات المذكورة، يكون قد أعدَّ نفسه على أكمل وجه لإحراز ثقة قومه عندما يريد في برهة قليلة، وبهذه الثِّقة يفعل ما لا تقوى عليه الجيوش والكنوز. وما ينقصه من هذه الصِّفات يُنقص من مكانته، ولكنْ؛ قد يستغني بمزيد كمال بعضها عن فقدان بعضها الآخر أو نقصه. كما أنَّ الصِّفات الأخلاقية قد تكفي في بعض الظروف عن الصفات العلمية كلّها ولا عكس، وإذا كان المتصدّي للإرشاد السياسي فاقد الثِّقة فقداناً أصلياً أو طارئاً، يمكنه أن يستعمل غيره ممن تنقصه الجسارة والهمّة والصفات العلمية.
والخلاصة: أنَّ الراغب في نهضة قومه، عليه أن يهيئ نفسه ويزن استعداده، ثمَّ يعزم متوكِّلاً على الله في خلق النَّجاح.
ومبنى قاعدة أنَّ الاستبداد لا يُقاوم بالشدة، إنما يُقاوم بالحكمة والتدريج هو: أنَّ الوسيلة الوحيدة الفعّالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقّي الأمَّة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم والتحميس. ثمَّ إنَّ اقتناع الفكر العام وإذعانه إلى غير مألوفه، لا يتأتّى إلا في زمنٍ طويل، لأنَّ العوام مهما ترقّوا في الإدراك لا يسمحون باستبدال القشعريرة بالعافية إلا بعد التّروي المديد، وربما كانوا معذورين في عدم الوثوق والمسارعة؛ لأنَّهم ألِفوا أن لا يتوقعوا من الرؤوساء والدُّعاة إلا الغشّ والخداع غالباً. ولهذا كثيراً ما يحبُّ الأُسراء المستبدَّ الأعظم إذا كان يقهر معهم بالسوية الرؤساء والأشراف، وكثيراً ما ينتقم الأُسراء من الأعوان فقط ولا يمسّون المستبدَّ بسوء؛ لأنَّهم يرون ظالمهم مباشرةً هم الأعوان دون المستبدِّ، وكم أحرقوا من عاصمة لأجل محضّ التشفّي بإضرار أولئك الأعوان.
ثمَّ إنَّ الاستبداد محفوفٌ بأنواعٍ القوات التي فيها قوّة الإرهاب بالعظمة وقوّة الجُند، لا سيما إذا كان الجند غريب الجنس، وقوة المال، وقوة الإلفة على القسوة، وقوّة رجال الدين، وقوّة أهل الثروات، وقوّة الأنصار من الأجانب، فهذه القوات تجعل الاستبداد كالسيف لا يُقابَل بعصا الفكر العام الذي هو في أوَّل نشأته يكون أشبه بغوغاء، ومن طبع الفكر العام أنَّه إذا فار في سنة يغور في سنة، وإذا فار في يوم يغور في يوم. بناءً عليه؛ يلزم لمقاومة تلك القوات الهائلة مقابلتها بما يفعله الثبات والعناد المصحوبان بالحزم والإقدام.
الاستبداد لا ينبغي أن يُقاوَم بالعنف، كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصداً. نعم؛ الاستبداد قد يبلغ من الشدَّة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجاراً طبيعياً، فإذا كان في الأمَّة عقلاء يتباعدون عنها ابتداءً، حتى إذا سكنت ثورتها نوعاً وقضت وظيفتها في حصد المنافقين، حينئذٍ يستعملون الحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة، وخير ما تؤسَّس يكون بإقامة حكومة لا عهد لرجالها بالاستبداد، ولا علاقة لهم بالفتنة.
العوام لا يثور غضبهم على المستبدِّ غالباً إلا عقب أحوال مخصوصة مهيِّجة فورية، منها:
1.     عقب مشهد دموي مؤلم يوقعه المستبدُّ على المظلوم يريد الانتقام لناموسه.
2.     عقب حرب يخرج منها المستبدُّ مغلوباً، ولا يتمكَّن من إلصاق عار التغلُّب بخيانة القوّاد.
3.     عقب تظاهر المستبدِّ بإهانة الدّين إهانةً مصحوبةً باستهزاء يستلزم حدَّة العوام.
4.     عقب تضييق شديد عام مقاضاةً لمالٍ كثير لا يتيسَّر إعطاؤه حتّى على أواسط الناس.
5.     في حالة مجاعة أو مصيبة عامّة لا يرى الناس فيها مواساةً ظاهرة من المستبدّ.
6.     عقب عمل للمستبدِّ يستفزُّ الغضب الفوري، كتعرُّضه لناموس العرض، أو حرمة الجنائز في الشرق، وتحقيره القانون أو الشرف الموروث في الغرب.
7.     عقب حادث تضييق يوجب تظاهر قسم كبير من النساء في الاستجارة والاستنصار.
8.     عقب ظهور موالاة شديدة من المستبدِّ لمن تعتبره الأمَّة عدوّاً لشرفها.
إلى غير ذلك من الأمور المماثلة لهذه الأحوال التي عندها يموج الناس في الشوارع والساحات، وتملأ أصواتهم الفضاء، وترتفع فتبلغ عنان السماء، ينادون: الحقّ الحقّ، الانتصار للحقّ، الموت أو بلوغ الحقّ.
المستبدُّ مهما كان غبياً لا تخفى عليه تلك المزالق، ومهما كان عتياً لا يغفل عن اتِّقائها، كما أنَّ هذه الأمور يعرفها أعوانه ووزراؤه.
فإذا وُجِد منهم بعض يريدون له التهلكة يهوِّرونه على الوقوع في إحداها، ويُلصقونها به خلافاً لعادتهم في إبعادها عنه بالتمويه على الناس. إنَّ رئيس وزراء المستبدِّ أو رئيس قُوَّاده، أو رئيس الدِّين عنده، هم أقدر الناس على الإيقاع به، وهو يداريهم تحذُّراً من ذلك، وإذا أراد إسقاط أحدهم فلا يوقعه إلا بغتة.
لمثيري الخواطر على الاستبداد طرائق شتّى يسلكونها بالسّرّ، والبطء، يستقرّون تحت ستار الدين، فيستنبتون غابة الثورة من بذرة أو بذورات يسقونها بدموعهم في الخلوات. وكم يلهون المستبدَّ بسوقه إلى الاشتغال بالفسوق والشَّهوات، وكم يغرونه برضاء الأمَّة عنه، ويجسِّرونه على مزيد التشديد، وكم يحملونه على إساءة التدبير، ويكتمونه الرُّشد، وكم يشوِّشون فكره بإرباكه مع جيرانه وأقرانه. يفعلون ذلك وأمثاله لأجل غاية واحدة، هي إبعاده عن الانتباه إلى سدِّ الطريق التي فيها يسلكون، أمَّا أعوانه، فلا وسيلة لإغفالهم عن إيقاظه غير تحريك أطماعهم المالية مع تركهم ينهبون ما شاؤوا أن ينهبوا.
ومبنى قاعدة أنَّه يجب قبل مقاومة الاستبداد، تهيئة ماذا يُستبدل به الاستبداد هو: إنَّ معرفة الغاية شرطٌ طبيعي للإقدام على كلِّ عمل، كما أنَّ معرفة الغاية لا تفيد شيئاً إذا جهل الطريق الموصل إليها، والمعرفة الإجمالية في هذا الباب لا تكفي مطلقاً، بل لا بدَّ من تعيين المطلب والخطة تعييناً واضحاً موافقاً لرأيِّ الكلِّ، أو الأكثرية التي هي فوق الثلاثة أرباع عدداً أو قوة بأس وإلا فلا يتمّ الأمر، حيث إذا كانت الغاية مبهمة نوعاً، يكون الإقدام ناقصاً نوعاً، وإذا كانت مجهولة بالكليّة عند قسم من الناس أو مخالفة لرأيهم، فهؤلاء ينضمّون إلى المستبدِّ، فتكون فتنةً شعواء، وإذا كانوا يبلغون مقدار الثلث فقط، تكون حينئذٍ الغلبة في جانب المستبدِّ.
ثمَّ إذا كانت الغاية مبهمة ولم يكن السير في سبيلٍ معروف، ويوشك أن يقع الخلاف في أثناء الطريق، فيفسد العمل أيضاً وينقلب إلى انتقام وفتن. ولذلك يجب تعيين الغاية بصراحة وإخلاص وإشهارها بين الكافّة، والسعي في إقناعهم واستحصال رضائهم بها ما أمكن ذلك، بل الأَولى حمل العوام على النداء بها وطلبها من عند أنفسهم. وهذا سبب عدم نجاح الإمام علي ومن وليه من أئمة آل البيت رضي الله عنهم، ولعلَّ ذلك كان منهم لا عن غفلة، بل مقتضى ذلك الزمان من صعوبة المواصلات وفقدان البوستات المنتظمة والنشريات المطبوعة إذ ذاك.
والمراد أنَّ من الضروري تقرير شكل الحكومة التي يراد ويمكن أنْ يُستبدل بها الاستبداد، وليس هذا بالأمر الهيّن الذي تكفيه فكرة ساعات، أو فطنة آحاد، وليس هو بأسهل من ترتيب المقاومة والمغالبة. وهذا الاستعداد الفكري النظري لا يجوز أنْ يكون مقصوراً على الخواص، بل لا بدَّ من تعميمه وعلى حساب الإمكان ليكون بعيداً عن الغايات ومعضوداً بقبول الرأي العام.
وخلاصة البحث أنَّه يلزم أولاً تنبيه حسّ الأمَّة بآلام الاستبداد، ثمَّ يلزم حملها على البحث في القواعد الأساسية للسياسة المناسبة لها؛ بحيث يشغل ذلك أفكار كلِّ طبقاتها، والأولى أن يبقى ذلك تحت مخض العقول سنين، بل عشرات السنين حتى ينضج تماماً، وحتى يحصل ظهور التلهّف الحقيقي على نوال الحرية في الطبقات العليا، والتمنّي في الطبقات السفلى، والحذر كل الحذر من أن يشعر المستبد بالخطر، فيأخذ بالتحذُّر الشديد، والتنكيل بالمجاهدين، فيكثر الضجيج، فيزيغ المستبدُّ ويتكالب، فحينئذٍ إما أن تغتنم الفرصة دولة أخرى فتستولي على البلاد، وتجدِّد الأسر على العباد بقليلٍ من التعب، فتدخل الأمَّة في دورٍ آخر من الرقِّ المنحوس، وهذا نصيب أكثر الأمم الشرقية في القرون الأخيرة، وإمَّا أن يساعد الحظّ على عدم وجود طامع أجنبي، وتكون الأمَّة قد تأهَّلت للقيام بأن تحكم نفسها بنفسها، وفي هذه الحال يمكن لعقلاء الأمَّة أن يكلِّفوا المستبدَّ ذاته لترك أصول الاستبداد، واتِّباع القانون الأساسي الذي تطلبه الأمة. والمستبدُّ الخائر القوى لا يسعه عند ذلك إلا الإجابة طوعاً، وهذا أفضل ما يصادَف. وإن أصرَّ المستبدُّ على القوّة، قضوا بالزوال على دولته، وأصبح كلٌّ منهم راعياً، وكلٌّ منهم مسؤولاً عن رعيته، وأضحوا آمنين، لا يطمع فيهم طامع، ولا يُغلبون عن قلّة، كما هو شأن كلِّ الأمم التي تحيا حياةً كاملة حقيقية، بناءً عليه؛ فليبصَّر العقلاء، وليتَّقِ الله المغرون، وليعلم أنَّ الأمر صعب، ولكن تصوُّر الصعوبة لا يستلزم القنوط، بل يثير همم الرجل الأشمّ.
ونتيجة البحث، أنَّ الله – جلَّت حكمته – قد جعل الأمم مسؤولة عن أعمال من تُحكِّمه عليها. وهذا حقٌّ. فإذا لم تحسن أمّة سياسة نفسها أذلَّها الله لأمَّة أخرى تحكمها، كما تفعل الشرائع بإقامة القيّم على القاصر أو السفيه، وهذه حكمة. ومتى بلغت أمَّةٌ رشدها، وعرفت للحرية قدرها، استرجعت عزَّها، وهذا عدلٌ.
وهكذا لا يظلم ربُّك أحداً، إنما هو الإنسان يظلم نفسه، كما لا يذلُّ الله قط أمة عن قلّة، إنما هو الجهل يسبِّب كلَّ علَّة.
وإني أختم كتابي هذا بخاتمة بشرى، وذلك أنَّ بواسق العلم وما بلغ إليه، تدلُّ على أنَّ يوم الله قريب. ذلك اليوم الذي يقلُّ فيه التفاوت في العلم وما يفيده من القوّة، وعندئذٍ تتكافأ القوات بين البشر، فتنحلُّ السلطة، ويرتفع التغالب، فيسود بين الناس العدل والتوادد، فيعيشون بشراً لا شعوباً، وشركات لا دولاً، وحينئذٍ يعلمون ما معنى الحياة الطيبة: هل هي حياة الجسم وحصر الهمّة في خدمته؟ أم حياة الروح وغذاؤها الفضيلة؟ ويومئذٍ يتسنّى للإنسان أن يعيش كأنَّه عالم مستقلٌّ خالد، كأنَّه نجمٌ مختصٌّ في شأنه، مشتركٌ في النظام، كأنَّه ملكٌ، وظيفته تنفيذ أوامر الرحمن الملهمة للوجدان.
لاتنسونا من خالص الدعاء
*******************************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق