الأحد، 13 مايو 2012

طبائع الاستبداد/النص الكامل -05-


طبائع الاستبداد/النص الكامل -05-
 من قواعد المؤرِّخين المدققين: إنَّ أحدهم إذا أراد الموازنة بين مستبدَّين كنيرون وتيمور مثلاً، يكتفي أن يوازن درجة ما كانا عليه من التحذُّر والتحفُّظ. وإذا أراد المفاضلة بين عادلين كأنو شروان وعمر الفاروق، يوازن بين مرتبتي أمنهما في قوميهما.
لما كانت أكثر الديانات مؤسسة على مبدأي الخير والشر كالنور والظلام، والشمس وزحل، والعقل والشيطان، رأت بعض الأمم الغابرة أنَّ أضرَّ شيء على الإنسان هو الجهل، وأضرّ آثار الجهل هو الخوف، فعملت هيكلاً مخصصاً للخوف يُعبد اتقاءً لشرِّه.
قال أحد المحررين السياسيين: إني أرى قصر المستبدِّ في كلِّ زمان هو هيكل الخوف عينه: فالملك الجبار هو المعبود، وأعوانه هم الكهنة، ومكتبته هي المذبح المقدَّس، والأقلام هي السكاكين، وعبارات التعظيم هي الصلوات، والناس هم الأسرى الذين يُقدَّمون قرابين الخوف، وهو أهم النواميس الطبيعية في الإنسان، والإنسان يقرب من الكمال في نسبة ابتعاده عن الخوف، ولا وسيلة لتخفيف الخوف أو نفيه غير العلم بحقيقة المخيف منه، وهكذا إذا زاد علم أفراد الرعية بأنّ المستبدَّ امرؤٌ عاجز مثلهم، زال خوفهم منه وتقاضوه حقوقهم.
ويقول أهل النظر: إنَّ خير ما يستبدل به على درجة استبداد الحكومات؛ هو تغاليها في شنآن الملوك، وفخامة القصور، وعظمة الحفلات، ومراسيم التشريفات، وعلائم الأبَّهة، ونحو ذلك من التمويهات التي يسترهب بها الملوك رعاياهم عوضاً عن العقل والمفاداة، وهذه التمويهات يلجأ إليها المستبدُّ كما يلجأ قليل العزِّ للتكبُّر، وقليل العلم للتصوُّف، وقليل الصِّدق لليمين، وقليل المال لزينة اللباس.
ويقولون: إنَّه كذلك يُستدلُّ على عراقة الأمة في الاستعباد أو الحرية باستنطاق لغتها؛ هل هي قليلة ألفاظ التعظيم كالعربية مثلاً؟ أم هي غنية في عبارات الخضوع كالفارسية، وكتلك اللغة التي ليس فيها بين المتخاطبين أنا وأنت، بل سيدي وعبدكم؟!
والخلاصة أنَّ الاستبداد والعلم ضدان متغالبان؛ فكلُّ إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل. والعلماء الحكماء الذين ينبتون أحياناً في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار النّاس، والغالب أنَّ رجال الاستبداد يُطاردون رجال العلم وينكلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكّن من مهاجرة دياره، وهذا سبب أنَّ كلَّ الأنبياء العظام – عليهم الصلاة والسلام وأكثر العلماء الأعلام والأدباء والنبلاء – تقلَّبوا في البلاد وماتوا غرباء.
إنَّ الإسلامية أولَّ دين حضَّ على العلم، وكفى شاهداً أنَّ أول كلمة أُنزلت من القرآن هي الأمر بالقراءة أمراً مكرراً، وأوَّل مِنَّةٍ أجلَّها الله وامتنَّ بها على الإنسان هي أنَّه علَّمه بالقلم. علَّمه به ما لم يعلم. وقد فهم السَّلف الأول من مغزى هذا الأمر وهذا الامتنان وجوب تعلُّم القراءة والكتابة على كلِّ مسلم، وبذلك عمَّت القراءة والكتابة في المسلمين أو كادت تعمُّ، وبذلك صار العلم في الأمة حراً مباحاً للكلِّ لا يختصُّ به رجال الدّين أو الأشراف كما كان في الأمم السابقة، وبذلك انتشر العلم في سائر الأمم أخذاً على المسلمين! ولكنْ؛ قاتل الله الاستبداد الذي استهان بالعلم حتى جعله كالسلعة يُعطى ويُمنح للأميين، ولا يجرؤ أحد على الاعتراض، أجل؛ قاتل الله الاستبداد الذي رجع بالأمة إلى الأمية، فالتقى آخرها بأولِّها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال المدققون: إنَّ أخوف ما يخافه المستبدون الغربيون من العلم أن يعرف الناس حقيقة أنَّ الحرية أفضل من الحياة، وأن يعرفوا النفس وعزَّها، والشّرف وعظمته، والحقوق وكيف تُحفظ، والظلم وكيف يُرفع، والإنسانية وما هي وظائفها، والرّحمة وما هي لذّاتها.
أما المستبدون الشرقيون فأفئدتهم هواء ترتجف من صولة العلم، كأنّ العلم نار وأجسامهم من بارود. المستبدون يخافون من العلم حتى من علم الناس معنى كلمة «لا إله إلا الله»، ولماذا كانت أفضل الذكر، ولماذا بُني عليها الإسلام. بُني الإسلام، بل وكافة الأديان على «لا إله إلا الله»، ومعنى ذلك أنّه لا يُعبد حقاً سوى الصانع الأعظم، ومعنى العبادة الخضوع ومنها لفظة العبد، فيكون معنى لا إله إلا الله: «لا يستحق الخضوع شيءٌ غير الله». وما أفضل تكرار هذا المعنى على الذاكرة آناء الليل وأطراف النهار تحذُّراً من الوقوع في ورطة شيء من الخضوع لغير الله وحده. فهل – والحالة هذه – يناسب غرض المستبدين أن يعلم عبيدهم أنْ لا سيادة ولا عبودية في الإسلام ولا ولاية فيه ولا خضوع، إنما المؤمنون بعضهم أولياء بعض؟ كلا؛ لا يلائم ذلك غرضهم، وربما عدّوا كلمة «لا إله إلا الله» شتماً لهم! ولهذا؛ كان المستبدون – ولا زالوا – من أنصار الشِّرك وأعداء العلم.
إنَّ العلم لا يناسب صغار المستبدين أيضاً كخَدَمَة الأديان المتكبِّرين وكالآباء الجُهَلاء، والأزواج الحمقى، وكرؤساء كلِّ الجمعيات الضعيفة. والحاصل: أنَّه ما انتشر نور العلم في أمةٍ قطّ إلا وتكسَّرت فيها قيود الأسر، وساء مصير المستبدّين من رؤساء سياسة أو رؤساء دين.

[عدل] الاستبداد والمجد
من الحِكَم البالغة للمتأخرين قولهم: «الاستبداد أصلٌ لكلِّ داء»، ومبنى ذلك أنَّ الباحث المدقق في أحوال البشر وطبائع الاجتماع كشف أنَّ للاستبداد أثراً سيئاً في كلِّ واد، وقد سبق أنَّ الاستبداد يضغط على العقل فيفسده، وإني الآن أبحث في أنَّه كيف يُغالب الاستبداد المجد فيفسده، ويقيم مقامه التمجُّد.
المجد: هو إحراز المرء مقام حبٍّ واحترام في القلوب، وهو مطلب طبيعي شريف لكلِّ إنسان، لا يترفَّع عنه نبيٌّ أو زاهد، ولا ينحطُّ عنه دنيٌّ أو خامل. للمجد لذَّةٌ روحية تقارب لذَّة العبادة عند الفانين في الله تعالى، وتعادل لذَّة العلم عند الحكماء، وتربو على لذَّة امتلاك الأرض مع قمرها عند الأمراء، وتزيد على لذَّة مفاجأة الإثراء عند الفقراء. ولذا؛ يزاحم المجد في النفوس منزلة الحياة.
وقد أشكَلَ على بعض الباحثين أيّ الحرصين أقوى؟ حرص الحياة أم حرص المجد؟ والحقيقة التي عوَّل عليها المتأخِّرون وميَّزوا بها تخليط ابن خلدون هي التفضيل؛ وذلك أنَّ المجد مفضَّل على الحياة عند الملوك والقُوَّاد وظيفةً، وعند النُّجباء والأحرار حميّةً، وحبُّ الحياة ممتاز على المجد عند الأُسراء والأذِّلاء طبيعةً، وعند الجبناء والنساء ضرورةً. وعلى هذه القاعدة يكون أئمة آل البيت – عليهم السلام – معذورين في إلقاء أنفسهم في تلك المهالك؛ لأنَّهم لمّا كانوا نجباء أحراراً، فحميّتهم جعلتهم يفضِّلون الموت كراماً على حياة ذلٍّ مثل حياة ابن خلدون الذي خطّأ أمجاد البشر في إقدامهم على الخطر إذا هدَّد مجدهم، ذاهلاً على أنَّ بعض أنواع الحيوان، ومنها البلبل، وُجِدت فيها طبيعة اختيار الانتحار أحياناً تخلُّصاً من قيود الذُّلِّ، وأنَّ أكثر سباع الطير والوحوش إذا أُسِرَت كبيرة تأبى الغذاء حتى تموت، وأنَّ الحُرَّة تموت ولا تأكل بعِرضِها، والماجدة تموت ولا تأكل بثدييها!
المجد لا يُنال إلا بنوعٍ من البذل في سبيل الجماعة، وبتعبير الشرقيين في سبيل الله أو سبيل الدّين، وبتعبير الغربيين في سبيل المدنية أو سبيل الإنسانية. والمولى تعالى – المستحقُّ التّعظيم لذاته – ما طالب عبيده بتمجيده إلا وقرن الطلب بذكر نعمائه عليهم.
وهذا البذل إما بذل مال للنفع العام ويسمى مجد الكرم؛ وهو أضعف المجد، أو بذل العلم النّافع المفيد للجماعة؛ ويسمّى مجد الفضيلة، أو بذل النّفس بالتعرُّض للمشاقّ والأخطار في سبيل نصرة الحقِّ وحفظ النِّظام؛ ويُسمى مجد النّبالة، وهذا أعلى المجد؛ وهو المراد عند الإطلاق، وهو المجد الذي تتوق إليه النفوس الكبيرة، وتحنُّ إليه أعناق النبلاء. وكم له من عشاق تلذُّ لهم في حبه المصاعب والمخاطرات، وأكثرهم يكون من مواليد بيوت نادرة حمتها الصُّدف من عيون الظالمين المذلّين، أو يكون من نجباء بيوت ما انقطعت فيها سلسلة المجاهدين وما انقطعت عجائزها عن بكائهم. ومن أمثلة المجد قولهم: خلق الله للمجد رجالاً يستعذبون الموت في سبيله، ولا سبيل إليه إلا بعظيم الهمّة والإقدام والثّبات، تلك الخصال الثّلاث التي بها تقدَّر قيم الرجال.
وهذا نيرون الظالم سأل أغربين الشاعر وهو تحت النَّطع: من أشقى الناس؟ فأجابه معرِّضاً به: من إذا ذكر الناس الاستبداد كان مثالاً له في الخيال. وكان ترايان العادل إذا قلَّد سيفاً لقائد يقول له: «هذا سيف الأمة أرجو أن لا أتعدّى القانون فيكون له نصيبٌ في عنقي». وخرج قيس من مجلس الوليد مغضباً يقول: «أتريد أن تكون جباراً؟! والله؛ إنَّ نعال الصعاليك لأطول من سيفك!»
وقيل لأحد الأباة: «ما فائدة سعيك غير جلب الشقاء على نفسك؟». فقال: «ما أحلى الشقاء في سبيل تنغيص الظالمين!». وقال آخر: «عليَّ أن أفي بوظيفتي وما عليَّ ضمان القضاء». وقيل لأحد النبلاء: «لماذا لا تبني لك داراً؟» فقال: «ما أصنع فيها وأنا المقيم على ظهر الجواد أو في السجن أو في القبر».
وهذه ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنها – وهي امرأة عجوز تودِّع ابنها بقولها: «إن كنت على الحقّ فاذهب وقاتل الحجاج حتى تموت». وهذا مكماهون – رئيس جمهورية فرنسا – استبدَّ في أمر فدخل عليه صديقه غامبتا وهو يقول: «الأمر للأمة لا إليك، فاعتدل، أو اعتزل، وإلا فأنت المخذول المهان الميت!!»
والحاصل أنَّ المجد هو المجدُ محبَّبٌ للنفوس، لا تفتأ تسعى وراءه وترقى مراقيه، وهو ميسَّرٌ في عهد العدل لكلِّ إنسان على حسب استعداده وهمَّته، وينحصر تحصيله في زمن الاستبداد بمقاومة الظّلم على حسب الإمكان.
يقابل المجد، من حيث مبتناه، التمجُّد. وما هو التمجّد؟ وماذا يكون التمجّد؟ التمجُّد لفظٌ هائل المعنى، ولهذا أراني أتعثَّر بالكلام وأتلعثم في الخطاب، ولا سيما من حيث أخشى مساس إحساس بعض المطالعين. إن لم يكن من جهة أنفسهم فمن جهة أجدادهم الأولين، فأناشدهم الوجدان والحقّ المهان، أن يتجرَّدوا دقيقتين من النّفس وهواها، ثمَّ هم مثلي ومثل سائر الجانين على الإنسانية لا يعدمون تأويلاً. وإنني أعلِّل النّفس بقبولهم تهويني هذا، فأنطلق وأقول:
التمجّد خاص بالإدارات المستبدَّة، وهو القربى من المستبدِّ بالفعل كالأعوان والعمال، أو بالقوة كالملقَّبين بنحو دوق وبارون، والمخاطبين بنحو ربِّ العزة وربّ الصولة، أو الموسومين بالنياشين، أو المطوَّقين بالحمائل، وبتعريفٍ آخر، التمجُّد هو أن ينال المرء جذوة نار من جهنم كبرياء المستبدِّ ليحرق بها شرف المساواة في الإنسانية.
وبوصفٍ أجلى: هو أن يتقلّد الرّجل سيفاً من قِبَل الجبارين يبرهن به على أنَّه جلاد في دولة الاستبداد، أو يعلِّق على صدره وساماً مشعراً بما وراءه من الوجدان المستبيح للعدوان، أو يتزين بسيور مزركشة تنبئ بأنّه صار مخنَّثاً أقرب إلى النساء منه إلى الرجال، وبعبارة أوضح وأخصر، هو أن يصير الإنسان مستبداً صغيراً في كنف المستبدِّ الأعظم.
قلتُ: إنَّ التمجُّد خاصٌّ بالإدارات الاستبدادية، وذلك لأنَّ الحكومة الحرة التي تمثِّل عواطف الأمة تأبى كلَّ الإباء إخلال التساوي بين الأفراد إلا لفضلٍ حقيقي، فلا ترفع قدر أحد منها إلا رفعاً صورياً أثناء قيامه في خدمتها؛ أي الخدمة العمومية، وذلك تشويقاً له على التفاني في الخدمة، كما أنَّها لا تميّز أحداً منها بوسام أو تشرِّفه بلقبٍ إلا ما كان علمياً أو ذكرى لخدمة مهمة وفَّقه الله إليها. وبمثل هذا يرفع اللهُ الناس بعضهم فوق بعضٍ درجات في القلوب لا في الحقوق.
وهذا لقب اللوردية مثلاً عند الإنكليز هو من بقايا عهد الاستبداد، ومع ذلك لا يناله عندهم غالباً إلا من يخدم أمَّته خدمة عظيمة، ويكون من حيث أخلاقه وثروته أهلاً لأن يخدمها خدمات مهمة غيرها، ومن المقرر أن لا اعتبار للورد في نظر الأمة إلا إذا كان مؤسساً أو وارثاً، أو كانت الأمة تقرأ في جبهته سطراً محرراً بقلم الوطنية وبمداد الشهامة ممضيٍّ بدمه يقسم فيه بشرفه أنه ضمين بثروته وحياته ناموس الأمة؛ أي قانونها الأساسي، حفيظ على روحها؛ أي حريتها.
التمجُّد لا يكاد يوجد له أثر في الأمم القديمة إلا في دعوى الألوهية وما معناها من نفع الناس بالأنفاس، أو في دعوى النّجابة بالنسب التي يهول بها الأصلاء نسل الملوك والأمراء، وإنما نشأ التمجّد بالألقاب والشّارات في القرون الوسطى، وراج سوقه في القرون الأخيرة، ثمَّ قامت فتاة الحرية تتغنّى بالمساواة وتغسل أدرانه على حسب قوتها وطاقتها، ولم تبلغ غايتها إلى الآن في غير أمريكا.
المتمجِّدون يريدون أن يخدعوا العامة، وما يخدعون غير نسائهم اللاتي يتفحفحن بين عجائز الحي بأنهم كبار العقول؛ كبار النفوس؛ أحرار في شؤونهم لا يُزاح لهم نقاب، ولا تُصفع منهم رقاب، فيحوجهم هذا المظهر الكاذب لتحمُّل الإساءات والإهانات التي تقع عليهم من قِبَل المستبدّ، بل تحوجهم للحرص على كتمها، بل على إظهار عكسها، بل على مقاومة من يدّعي خلافها، بل على تغليط أفكار النّاس في حقِّ المستبدِّ وإبعادهم عن اعتقاد أنَّ من شأنه الظلم.
وهكذا يكون المتمجّدين أعداء للعدل أنصاراً للجور، لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة، وهذا ما يقصده المستبدُّ من إيجادهم والإكثار منهم ليتمكَّن بواسطتهم من أن يغرِّر الأمة على إضرار نفسها تحت اسم منفعتها، فيسوقها مثلاً لحرب اقتضاها محض التجبُّر والعدوان على الجيران، فيوهمها أنَّه يريد نصرة الدين، أو يُسرف بالملايين من أموال الأمة في ملذاته وتأييد استبداده باسم حفظ شرف الأمة وأبهة المملكة، أو يستخدم الأمة في التنكيل بأعداء ظلمه باسم أنهم أعداء لها، أو يتصرَّف في حقوق المملكة والأمة كما يشاؤه هواه باسم أنَّ ذلك من مقتضى الحكمة والسياسة.
والخلاصة: أنَّ المستبد يتّخذ المتمجّدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حبّ الوطن، أو توسيع المملكة، أو تحصيل منافع عامة، أو مسؤولية الدولة، أو الدفاع عن الاستقلال، والحقيقة أنَّ كلّ هذه الدواعي الفخيمة العنوان في الأسماع والأذهان ما هي إلا تخييل وإيهام يقصد بها رجال الحكومة تهييج الأمة وتضليلها، حتى إنَّه لا يُستثنى منها الدّفاع عن الاستقلال؛ لأنّه ما الفرق على أمةٍ مأسورة لزيد أن يأسرها عمرو؟ وما مثلها إلا الدّابة التي لا يرحمها راكب مطمئن، مالكاً كان أو غاصباً.
المستبدُّ لا يستغني عن أن يستمجد بعض أفراد من ضعاف القلوب الذين هم كبقر الجنة لا ينطحون ولا يرمحون، يتّخذهم كأنموذج البائع الغشاش، على أنّه لا يستعملهم في شيء من مهامه، فيكونون لديه كمصحف في خمّارة أو سبحة في يد زنديق، وربما لا يستخدم أحياناً بعضهم في بعض الشؤون تغليطاً لأذهان العامة في أنَّه لا يعتمد استخدام الأراذل والأسافل فقط، ولهذا يُقال: دولة الاستبداد دولة بُلهٍ وأوغاد.
المستبدُّ يجرِّب أحياناً في المناصب والمراتب بعض العقلاء الأذكياء أيضاً اغتراراً منه بأنّه يقوى على تليين طينتهم وتشكيلهم بالشّكل الذي يريد، فيكونوا له أعواناً خبثاء ينفعونه بدهائهم، ثمَّ هو بعد التجربة إذا خاب ويئس من إفسادهم يتبادر إبعادهم أو ينكّل بهم. ولهذا لا يستقرّ عنه المستبدّ إلا الجاهل العاجز الذي يعبده من دون الله، أو الخبيث الخائن الذي يرضيه ويغضب الله.
وهنا أنبِّه فكر المطالعين إلى أنَّ هذه الفئة من العقلاء الأمناء بالجملة، الذين يذوقون عسيلة مجد الحكومة وينشطون لخدمة ونيل مجد النّبالة، ثمَّ يضرب على يدهم لمجرَّد أنَّ بين أضلعهم قبسة من الإيمان وفي أعينهم بارقة من الإنسانية، هي الفئة التي تتكهرب بعداوة الاستبداد وينادي أفرادها بالإصلاح. وهذا الانقلاب قد أعيا المستبدين؛ لأنهم لا يستغنون عن التجربة ولا يأمنون هذه المغبّة. ومن هنا نشأ اعتمادهم غالباً على العريقين في خدمة الاستبداد، الوارثين من آبائهم وأجدادهم الأخلاق المرضية للمستبدّين، ومن هنا ابتدأت في الأمم نغمة التمجّد بالأصالة والأنساب، والمستبدّون المحنّكون يطيلون أمد التجربة بالمناصب الصغيرة فيستعملون قاعدة الترقّي مع التراخي، ويسمّون ذلك برعاية قاعدة القدم، ثمّ يختمون التجريب بإعطاء المتمرّن خدمة يكون فيها رئيساً مطلقاً ولو في قرية، فإن أظهر مهارة في الاستبداد، وذلك ما يسمونه حكمة الحكومة فبها نعمت، وإلا قالوا عنه: هذا حيوان، يا ضيعة الأمل فيه.
إنَّ للأصالة مشاكلة قوية للمجد والتمجّد فلا بدَّ أن نبحث فيها قليلاً، ثمَّ نعود لموضوع المستبدّ وأعوانه المتمجّدين فأقول:
الأصالة صفة قد يكون لها بعض المزايا من حيث الأميال التي يرثها الأبناء من الآباء، ومن حيث التربية التي تكون مستحكمة في البيت ولو رياءً، ومن حيث إنَّ الأصالة تكون مقرونة غالباً بشيء من الثروة المعينة على مظاهر الشّهامة والرحمة، ومن حيث تقويتها العلاقة بالأمة والوطن خوف مذلّة الاغتراب، ومن حيث إنَّ أهلها يكونون منظورين دائماً فيتحاشون المعائب والنقائص بعض التحاشي.
وبيوت الأصالة تنقسم إلى ثلاثة أنواع: بيوت علم وفضيلة، وبيوت مال وكرم، وبيوت ظلم وإمارة. وهذا الأخير هو القسم الأكثر عدداً والأهمّ موقعاً، وهم – كما سبقت الإشارة إليه – مطمح نظر المستبدّ في الاستعانة وموضع ثقته، وهم الجند الذي تجتمع تحت لوائه بسهولة، وربما يكفيه أنْ يضحك في وجههم ضحكة. فلننظر ما هو نصيب أهل هذا القسم من تلك المزايا الموروثة:
هل يرث الابن عن جده المؤسس لمجده أميالَه في العدالة ولم توجد؟ أم يدبُّ ويشبُّ على غير التّرف المصغِّر للعقول، المميت للهمم؟ أم يتربّى على غير الوقار المضحك للباطل، السّائد فيما بين العائلة في بيتهم؟ أم يستخدم الثروة في غير الملاذ الجسمية الدنيئة البهيمية وتلك الأبّهة الطاووسية الباطلة؟ أم يتمثَّل بغير أقران السوء المتملقين المنافقين؟ أم لا يستحقر قومه لجهلهم قدر النُّطفة الملعونة التي خُلق منها جنابه؟ أم لا يبغض العلماء الذين لا يقدِّرونه قدره حسبما هو قائم في مخيلة خيلائه؟ أم يرى لجنابه مقرّاً يليق به غير مقعد التحكُّم ومستراح التآمر؟ أم يستحي من النّاس؟ ومن هم النّاس؟ وما النّاس عند حضرته غير أشباح عندها أرواح خُلقت لخدمته!
وهذه حالة الأكثرين من الأصلاء، على أننا لا نبخس حقَّ من نال منهم حظاً من العلم وأوتي الحكمة وأراد الله به خيراً فأصابه بنصيب من القهر انخفض به شاموخ أنفه، فإنَّ هؤلاء – وقليل ما هم – ينجبون نجابة عظيمة، فيصدق عليهم أنَّهم قد ورثوه قوّة القلب يستعملونها في الخير لا في الشّر، واستفادوا من أنفة الكبرياء كالجسارة على العظماء، وهكذا تتحول فيهم ميزة الشرِّ على فائض خير وحَسَبٍ شامخ من نحو الحنين إلى الوطن وأهله، والأنين لمصابه، والإقدام على العظائم في سبيل القوم، وأمثال هؤلاء النوابغ النُجَباء إذا كثروا في أمة يوشك أن يترقّى منهم آحاد إلى درجة الخوارق فيقودوا أممهم إلى درجة النجاح والفلاح، ولا غرو فإنَّ اجتماع نفوذ النسب وقوة الحسب يفعلان ولا عجب شَبَهَ فعل المستبدِّ العادل الذي ينشده الشرقيون، وخصوصاً المسلمون؛ وإن كان العقل لا يجوز أن يتَّصف بالاستبداد مع العدل غير الله وحده، ألا قاتل الله الهمّة السّاقطة التي قد تتسفّل بالإنسان إلى عدم إتعاب الفكر فيما يطلب هل هو ممكن أم هو محال؟!
الأصلاء، باعتبار أكثريتهم، هم جرثومة البلاء في كلِّ قبيلة ومن كلِّ قبيل. لأنَّ بني آدم داموا إخواناً متساوين إلى أنْ ميَّزت الصُّدفة بعض أفرادهم بكثرة النّسل، فنشأت منها القوات العصبية، ونشأ من تنازعها تميُّز أفراد على أفراد، وحِفْظُ هذه الميزة أوجد الأصلاء. فالأصلاء في عشيرة أو أمة إذا كانوا متقاربي القوات استبدوا على باقي الناس وأسسوا حكومة أشراف، ومتى وُجد بيت من الأصلاء يتميز كثيراً في القوة على باقي البيوت يستبدُّ وحده ويؤسس الحكومة الفردية المقيدة إذا لباقي البيوت بقية بأس، أو المطلقة إذا لم يبقَ أمامه من يتَّقيه.
بناءً عليه، إذا لم يوجد في أمّة أصلاء بالكلية، أو وجد، ولكن؛ كان لسواد الناس صوتٌ غالب، أقامت تلك لنفسها حكومة انتخابية لا وراثة فيها ابتداءً؛ ولكن، لا يتوالى بعض متولين إلا ويصير أنسالهم أصلاء يتناظرون، كلُّ فريق منهم يسعى لاجتذاب طرف من الأمة استعداداً للمغالبة وإعادة التاريخ الأول.
ومن أكبر مضارّ الأصلاء أنهم ينهمكون أثناء المغالبة على إظهار الأبَّهة والعظمة، سترهبون أعين الناس ويسحرون عقولهم ويتكبّرون عليهم. ثمَّ إذا غلب غالبهم واستبدَّ بالأمر لا يتركها الباقون لألفتهم لذتها ولمضاهاة المستبدِّ في نظر الناس. والمستبدُّ نفسه لا يحملهم على تركها، بل يدرُّ عليهم المال ويعينهم عليها، ويعطيهم الألقاب والرُّتب وشيئاً من النّفوذ والتسلُّط على الناس ليتلهّوا بذلك عن مقاومة استبداده، ولأجل أن يألفوها مديداً، فتفسد أخلاقهم، فينفر منهم الناس، ولا يبقى لهم ملجأ غير بابه، فيصيرون أعواناً له بعد أن كانوا أضداداً.
ويستعمل المستبدُّ أيضاً مع الأصلاء سياسة الشدّ والرّخاء، والمنع والإعطاء، والالتفات والإغضاء كي لا يبطروا، وسياسة إلقاء الفساد وإثارة الشحناء فيما بينهم كي لا يتفقوا عليه، وتارة يعاقب عقاباً شديداً باسم العدالة إرضاءً للعوام، وأخرى يقرنهم بأفراد كانوا يقبِّلون أذيالهم استكباراً فيجعلهم سادة عليهم يفركون آذانهم استحقاراً، يقصد بذلك كسر شوكتهم أمام إمام الناس وعصر أنوفهم أمام عظمتهم. والحاصل أنَّ المستبدّ يذلل الأصلاء بكلِّ وسيلة حتى يجعلهم مترامين بين رجليه كي يتَّخذهم لجاماً لتذليل الرعية، ويستعمل عين هذه السياسة مع العلماء ورؤساء الأديان الذين متى شمَّ من أحدهم رائحة الغرور بعقله أو علمه ينكل به أو يستبدله بالأحمق الجاهل إيقاظاً له ولأمثاله من كلِّ ظانٍّ من أن إدارة الظلم محتاجة إلى شيء من العقل أو الاقتدار فوق مشيئة المستبدِّ. وبهذه السياسة ونحوها يخلو الجوّ فيعصف وينسف ويتصرَّف في الرعية كريشٍ يقلبه الصرصر في جوٍّ محرق.
المستبدُّ في لحظة جلوسه على عرشه ووضع تاجه الموروث على رأسه يرى نفسه كان إنساناً فصار إلهاً. ثم يُرجع النظر فيرى نفسه في نفس الأمر أعجز من كلِّ عاجز وأنَّه ما نال ما نال إلا بواسطة من حوله من العوان، فيرفع نظره إليهم فيسمع لسان حالهم يقول له: ما العرش؟ وما التاج؟ وما الصولجان؟ ما هذه إلا أوهام في أوهام. هل يجعلك هذا الريش في رأسك طاووساً وأنت غراب؟ أم تظن الأحجار البراقة في تاجك نجوماً ورأسك سماء؟ أم تتوهم أنَّ زينة صدرك ومنكبيك أخرجتك عن كونك قطعة طينٍ من هذه الأرض؟ والله ما مكَّنك في هذا المقام وسلَّطك على رقاب الأنام إلا شعوذتنا وسحرنا وامتهاننا لديننا ووجداننا وخيانتنا لوطننا وإخواننا، فانظر أيها الصغير المكبَّر الحقير الموقّر كيف تعيش معنا!
ثمَّ يلتفت إلى جماهير الرّعية المتفرجين، منهم الطائشين المهللين المسبِّحين بحمده، ومنهم المسحورين المبهوتين كأنهم أموات من حين، ولكن؛ يتجلّى في فكره أنَّ خلال الساكتين بعض أفراد عقلاء أمجاد يخاطبونه بالعيون؛ بأنَّ لنا معاشر الأمَّة شؤوناً عمومية وكَّلناك في قضائها على ما نريد ونبغي، لا على ما تريد فتبغي. فإنْ وفَّيت حقَّ الوكالة حُقَّ لك الاحترام، وإن مرت مكَرْنا وحاقت بك العاقبة، ألا إنَّ مكر الله عظيم.
وعندئذٍ يرجع المستبدُّ إلى نفسه قائلاً: الأعوان الأعوان، الحَمَلَة السَّدنة أسلمهم القياد وأردفهم بجيشٍ من الأوغاد أحارب بهم هؤلاء العبيد العقلاء، وبغير هذا الحزم لا يدوم لي مُلْكٌ كيفما أكون، بل أبقى أسيراً للعدل معرِّضاً للمناقشة منغِّصاً في نعيم الملك، ومن العار أن يرضى بذلك من يمكنه أن يكون سلطاناً جباراً متفرِّداً قهّاراً.
الحكومة المستبدّة تكون طبعاً مستبدّة في كل فروعها من المستبدّ الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنائس الشوارع، ولا يكون كلُّ صنفٍ إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً، لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدوهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أيٍّ كان ولو بشراً أم خنازير، آبائهم أم أعدائهم، وبهذا يأمنهم المستبدُّ ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه. وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقلُّ حسب شدة الاستبداد وخفّته، فكلما كان المستبدُّ حريصاً على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجّدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقّة في اتِّخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدينٍ أو ذمّة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة؛ وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفةً وقرباً، ولهذا، لا بدَّ أن يكون الوزير الأعظم للمستبدّ هو اللئيم الأعظم في الأمة، ثم من دونه لؤماً، وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان في لؤمهم حسب مراتبهم في التشريفات والقربى منه.
وربما يغترُّ المطالع كما اغترَّ كثير من المؤرِّخين البسطاء بأن بعض وزراء المستبدّ يتأوهون من المستبدّ ويتشكّون من أعماله ويجهرون بملامه، ويظهرون لو أنّه ساعدهم الإمكان لعملوا وفعلوا وافتدوا الأمة بأموالهم، بل وحياتهم، فكيف – والحالة هذه – يكون هؤلاء لؤماء؟ بل كيف ذلك وقد وُجِد منهم الذين خاطروا بأنفسهم والذين أقدموا فعلاً على مقاومة الاستبداد فنالوا المراد أو بعضه أو هلكوا دونه؟
فجواب ذلك أنّ المستبدَّ لا يخرج قطّ عن أنّه خائنٌ خائفٌ محتاجٌ لعصابة تعينه وتحميه، فهو ووزراؤه كزمرة لصوص: رئيس وأعوان. فهل يجوِّز العقل أن يُنتخب رفاق من غير أهل الوفاق، وهو هو الذي لا يستوزر إلا بعد تجربة واختبار عمراً طويلاً؟!
هل يمكن أن يكون الوزير متخلِّقاً بالخير حقيقة، وبالشَّرِّ ظاهراً فيخدع المستبدّ بأعماله، ولا يخاف من أنَّه كما نصبه وأعزَّه بكلمة يعزله ويذلّه؟!
بناءً عليه، فالمستبدّ وهو من لا يجهل أنَّ الناس أعداؤه لظلمه، لا يأمن على بابه إلا من يثق به أنَّه أظلم منه للناس، وأبعد منه على أعدائه، وأما تلوُّم بعض الوزراء على لوم المستبدّ فهو إن لم يكن خداعاً للأمة فهو حنقٌ على المستبدّ؛ لأنه بخس ذلك المتلوّم حقه، فقدَّم عليه من هو دونه في خدمته بتضحية دينه ووجدانه. وكذلك لا يكون الوزير أميناً من صولة المستبدّ في صحبته ما لم يسبق بينهما وفاق واتِّفاق على خيرة الشيطان؛ لأن الوزير محسودٌ بالطبع، يتوقّع له المزاحمون كلَّ شرّ، ويبغضه الناس ولو تبعاً لظالمهم، وهو هدفٌ في كلِّ ساعةٍ للشكايات والوشايات. كيف يكون عند الوزير شيءٌ من التقّوى أو الحياء أو العدل أو الحكمة أو المروءة أو الشّفقة على الأمة، وهو العالم بأنَّ الأمة تبغضه وتمقته وتتوقّع له كلَّ سوء، وتشمت بمصائبه، فلا ترضى عنه ما لم يتّفق معها على المستبدّ، وما هو بفاعلٍ ذلك أبداً إلا إذا يئس من إقباله عنده، وإن يئس وفعل فلا يقصد نفع الأمة قطّ، إنما يريد فتح بابٍ لمستجدٍّ جديد عساه يستوزره فيؤازره على وزره.
والنتيجة أنَّ وزير المستبدّ هو وزير المستبدّ، لا وزير الأمّة كما في الحكومات الدستورية. كذلك القائد يحمل سيف المستبدّ ليغمده في الرقاب بأمر المستبدّ لا بأمر الأمة، بل هو يستعيذ أن تكون الأمة صاحبة أمر، لما يعلم من نفسه أنَّ الأمّة لا تقلِّد القيادة لمثله.
بناءً عليه؛ لا يغترُّ العقلاء بما يتشدَّق به الوزراء والقوّاد من الإنكار على الاستبداد والتفلسف بالإصلاح وإن تلهَّفوا وإن تأففوا، ولا ينخدعون لمظاهر غيرتهم وإن ناحوا وإن بكوا، ولا يثقون بهم ولا بوجدانهم مهما صلّوا وسبّحوا، لأنَّ ذلك كلّه ينافي سيرهم وسيرتهم، ولا دليل على أنّهم أصبحوا يخالفون ما شبّوا وشابوا عليه، هم أقرب أن لا يقصدوا بتلك المظاهر غير إقلاق المستبدِّ وتهديد سلطته ليشاركهم في استدرار دماء الرّعية؛ أي أموالها. نعم، كيف يجوز تصديق الوزير والعامل الكبير الذي قد ألف عمراً كبيراً لذّة البذخ وعزّة الجبروت في أنَّه يرضى بالدخول تحت حكم الأمّة، ويخاطر بعرض سيفه عليها فتحلّه أو تكسره تحت أرجلها. أليس هو عضواً ظاهر الفساد في جسم تلك الأمة التي قتل الاستبداد فيها كلَّ الأميال الشريفة العالية فأبعدها عن الأنس والإنسانية، حتّى صار الفلاح التعيس منها يؤخذ للجندية وهو يبكي، فلا يكاد يلبس كمَّ السترة العسكرية إلا ويتلبَّس بشرِّ الأخلاق، فيتنمّر على أمه وأبيه، ويتمرّد على أهل قريته وذويه، ويكظُّ أسنانه عطشاً للدماء لا يميّز بين أخٍ وعدو؟! إنَّ أكابر رجال عهد الاستبداد لا أخلاق لهم ولا ذمّة، فكلُّ ما يتظاهرون به أحياناً من التذمّر والتألّم يقصدون به غشَّ الأمة المسكينة التي يطمعهم في انخداعها وانقيادها لهم علمهم بأنَّ الاستبداد القائم بهم والمستعمر بهمَّتهم قد أعمى أبصارها وبصائرها، وخدَّر أعصابها، فجعلها كالمصاب ببحران العمى، فهي لا ترى غير هول وظلام وشدة وآلام، فتئنُّ من البلاء ولا تدري ما هو تداويه، ولا من أين جاءها لتصدَّه، فتواسيها فئة من أولئك المتعاظمين باسم الدين يقولون: يا بؤساء؛ هذا قضاءٌ من السماء لا مردَّ له، فالواجب تلقّيه بالصبر والرضاء والالتجاء إلى الدعاء، فاربطوا ألسنتكم عن اللغو والفضول، واربطوا قلوبكم بأهل السكينة والخمول، وإياكم والتدبير فإن الله غيور، وليكن وِرْدُكم: اللهم انصر سلطاننا، وآمنّا في أوطاننا، واكشف عنا البلاء، أنت حسبنا ونعم الوكيل. ويغرر الأمة آخرون من المتكبرين بأنهم الأطباء الرحماء المهتمون بمداواة المرض، إنَّما هم يترقَّبون سنوح الفرص، وكلا الفريقين – والله – إما أدنياء جبناء، أو هم خائنون مخادعون، يريدون التثبيط والتلبيد والامتنان على الظالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق