طلال حسن
قالت الشاعرة العراقية بشرى البستاني في حوار لها مع الزمان
خلقت لأحب الشعر ولأغنيه ولأعيش معه.
واضافت إن المبدع الحقيقي لا يؤمن بمقولات جاهزة تكرّسُ اليأس والتقاطع مع الحياة؛ فبدون الحلم يغادر الإنسان إنسانيته ليأكل ويتناسل وينام، إن الأمل موجود دوما، لكنه بحاجة لهمم عالية وإرادات خلاقة كي تنتزعه من ركامات اليأس والصدود،
ـ الإبداع زائر مشاكس، قد يفاجئنا في أية مرحلة من مراحل العمر، متى فاجأك هذا الزائر، وكيف كان استقبالك له؟
لشدة تلاحمي بالحالة الإبداعية منذ وعيي المبكر، والتباس مشاعري بين ما هو واقعي وحلمي في تلك المرحلة ــ ولحسن الحظ ما أزال ــ يُخيل لي أن الإبداع كان مصاحبا لي منذ طفولتي الأولى، لكنه تجلى كتابة مع نهاية مرحلتي الابتدائية وبداية المرحلة الثانوية حين لفت انتباه مدرستي في اللغة العربية، فراحت تهتم بما اكتب وتدفعني لقراءته. وفي البيت لقيت تشجيعا استثنائيا، لكن الأهم أن الأمر شكل لديَّ قضية ذاتية منذ ذلك الوقت وهاجسا يتوهج داخلي بحيث صرت في وقت مبكر أعرف توجهي، وصارت القراءة الأدبية والكتابة التي أتمرن عليها بعد انتهائي من تحضير دروسي المقررة هي منهجي اليومي الذي أنجزه لنفسي وأفرح به سرا والذي لا يشغلني عنه شيء، حتى أنّ عزوفا كان ينتابني عن كل أمر من شأنه إبعادي عن خلوتي مع الكتب والورقة والقلم، وكنت أطلع شقيقي الدكتور يوسف على ما أظنه جيدا، ويوما فاجأني بجريدة فتى العراق وقد نشرت قصيدتي التي أوصلها هو لأسرة التحرير والتي لا أتذكرها اليوم، لكني سأظلُّ أتذكر حفاوة الجريدة وأسرة تحريرها بصبية تكتب في مدينة محافظة قاسية التقاليد، وحينها التقى الشاعران الأستاذ عبد الحليم اللاوند والأستاذ محمد شوقي البكري والدي وطلبا تدريسي العروض لتلافي بعض الوقفات الوزنية لكنه اعتذر لهما مؤكدا أني سأدرس ذلك حين أصل الجامعة. أما عن استقبالي لأية حالة إبداعية أعيشها سواء على مستوى الشعر أو النقد أو البحث العلمي بمجالاته كافة، فإنها حالة احترام مشوب بكثير من الهيبة والإجلال والمنتجة حين اكتمالها لفرح وعذوبة لا مثيل لهما، وقد تشكلت فكرتي عن الفرح والسعادة داخل هذا المشغل الإبداعي منطلقة من أن ولاءنا للقناعات التي نؤمن بها حتى لو كانت مرهِقة ومصحوبة بالكثير من التضحيات هو المدخل الحقيقي لكل سعادة نعيشها، وأن الحياة دون تلك القناعات هي الضياع أو التضييع بعينه، أو هي السكونية والاستسلام الذي لا حياة معه.
صفحة بىضاء
ـ الكلمات الأولى من القصيدة الأولى، هي المدخل إلى جنة الإبداع وجحيمه، هل تذكرين تلك الكلمات البداية؟ وما هي إن كنت تذكرينها؟
الكلمات الأولى في أي قصيدة وفي كل مراحل عمر المبدع هي المدخل إلى جنة الإبداع أو جحيمه، تكون الحالة جنة حينما تنساب القصيدة بعد التوتر الإبداعي بلا منغصات، أو حتى بتوقفات اعتيادية، ثم تنتهي المرحلة الأولى من الكتابة وأنا راضية بنقوش الصفحة البيضاء، فأترك النص وأغادره لأعاود مراجعته بعد فترة استرخاء أظنها ضرورية، لتبدأ بعدها القراءة النقدية الأولى، فيكون النص إما مكتملا أو يحتاج لحذف أو إضافات، أواستبدال بعض المفردات، فبلاغة المفردة وانسجامها مع بيئتها التشكيلية ضرورية للإسهام في تشكيل بلاغة النص. أما حين تتلكأ التجربة في التعبير عن ذاتها ولا يؤازرها الإشراق، ويزداد التوتر دون ومض السطر الأول وانسيابه فأدرك أنه الجحيم، وأعمل على مغادرة الكتابة فورا، وهذه الحالة نادرا ما تنتابني ؛ لأني لا أمسك بالقلم خلال التوتر إلا بدعوة حقيقية من التجربة حين تحتاجني لأعبر عنها، ولذلك قيل إن المبدع لا يكتب القصيدة، بل القصيدة هي التي تكتبه، لأن القصيدة الأصيلة لا تأتي قسرا ؛ فالولادة القيصرية تنتج نصا كثيرا ما يكون معاقا لم يستكمل نموه ونضجه وتطغى عليه الصناعة الذهنية الصرفة والافتعال مما يضعف الإبداع، ويحرمه رواء خصبه وتوهجه ويسمهُ بالوهن والشحوب.
إن فهم المراحل التي تمر بها الحالة الإبداعية قضية مهمة لاستكمال العمل الإبداعي مادام الإبداع نشاطا عقليا متميزا وقدرة على الابتكار وإنتاج أفكار وأفعال ومعارف بصياغة تتسم بالكفاءة والقدرة على التجدد والتطور، وهذه المراحل يمكن إيجازها بالتهيؤ والاستعداد المتمثل بالتثقف الدائم والتواصل مع القراءة ثم الاختمار الذي يمتص ما جمع من تجارب ورؤى جمالية وقيمية تتفاعل مع بعضها داخل الذاكرة والمخيلة حتى ينهض ذلك التفاعل بإشراق الفكرة بالتعبير، ثم التحقق من دقة المنجز من خلال العمل على فحصه نقديا واستكمال جوانبه كافة بالمراجعة والتدقيق. إن هذه المراحل الأربع تتطلب من الجهد والصبر المضني ما يكفي لتصور عبء المسؤولية الثقيلة التي يجب على المبدع المسؤول أن يتحملها وأن يفيَ بها، أما الاستهانة بها فهي التي أنتجت نصوصا لا علاقة لها بالأدب والإبداع لأنها تتسم بالعجلة والقصور والافتعال.
ـ الإبداع جمرة تدفئنا، تحرقنا، تضيئنا، ربما نخاف عليها أن تخفت، أن تنطفىء، هل داخلك مرة مثل هذا الخوف؟ ترى كيف تتعاملين مع هذه الجمرة المتقدة في أعماقك الشاعرة؟
كل الأضواء خارجية، بدءا من الشمس والقمر وكل منظومات الإنارة نزولا إلى أبسط الشموع التي يوقدها الإنسان، إلا الإبداع فهو اشتعال داخلي يحدث بسرية تامة وفي الظلام،وأحيانا بتوتر شديد يصل حد الأزمة، لكنه يبقى متكتما على ذاته وعلى احتدام جدلياته حين يضيء الداخل حتى يفيض على الخارج بأنواره حالما تكتمل تجربته بالتشكل الفني، إنه الألطاف السنية التي تأخذنا من جحيم الأرض وهي تموج بالعنف والصراعات وعذاب الإحباط لترفعنا إلى أمن السلام الوارف ومرابع حنوّه، حتى لقد صار من المؤكد أنّ الحاجة الإنسانية الأولى هي حاجة للأمن الداخلي والسلام قبل الحاجة للحب ؛ لأنه التربة الخصبة السليمة التي تنمو بها الحياة، وهل للحب أن ينمو ويزهر خارج نبض الحياة. نعم، الإبداع جمرة تحرقنا بالرهافة وحساسية استقبال المؤثرات وشفافية الروح، لكنها بالتحقق تغدو جنة النعيم والظلال التي تقينا جهامة الواقع وبؤس أحداثه، وتخلصنا زمنيتُهُ المتجددة دوما والمتوهجة برؤاها التي تناهض ثقل المادة الجاثمة حولنا من روتين الزمن التقليدي الساكن الذي لا يقود إلا إلى الموت. فالإبداع صدى الروح التي لا تستقر ذبذباتها على حال، ولا تعرف تموجاتها ثباتا، بل هي كل لحظة في شأن، والإبداع يعبر عن هذه التلاوين المتقلبة المتموجة العصية ؛ إنه يشكل لنا بفاعليته عالما آخر غير هذا العالم الذي أرهقنا، يشكله برؤيتنا ومن خلال مواقفنا ؛ مما يزيح عنا التوتر ويطفئ الأزمة، ولذلك فزمني الشخصي منهمك بالإبداع، متلاحم به، لا يسمح للزمنية النمطية الخطية بالهيمنة عليه، من هنا كان تكسّر الزمن سمة إبداعية لأنها تفسح المجال لانبثاقات الحلم والتطلع وفعل الخيال المتوثب الذي يُعدُّ من أسمى مدارج الارتقاء الذهني، فضلا عن أن للإبداع اليوم دراسات ونظريات خاصة بتعريفه وبطرائق تنميته وإدامة تألقه وتجنب معوقاته، والمبدع المعرفي حريص كل الحرص على متابعتها بدراسة وتدقيق مما يجعل هذا الإحساس بعيدا عنه، علما أني أدرك كم هو مرعبٌ وقاس أن تشعر بجفاء الإبداع ولا سيما بعد أن غدا مكونا أساسيا من أهم مكونات وجودك. لكنَّ هناك حالة عكسية يعاني منها الإبداع ذاته حينما يجفوه المبدع منصرفا عنه لأسباب اضطرارية، فالإبداع بكل أنواعه كالحب تماما طفل شفاف مدلل يحتاج لتفرغ ومتابعة ورعاية دائمة، وتغذية وتطوير مستمرين ولا يحب الشراكة إلا في حالة اغتنائه من الشريك، وقد عشت هذه الحالة بداية عملي الأكاديمي الذي كان تحديا من نوع جديد، فقبل أكثر من ربع قرن كانت الخطوط المنهجية بسكونيتها هي المهيمنة على الأكاديمية وعلى نقدها وبحوثها المعرفية عموما، وكان علينا نحن الشباب المبدعين الذين دخلنا الجامعة أن نثبت قدرة الإبداع على اجتياح سكونية الخط المنهجي الاستاتيكي الذي توقف عند البنيوية عدا بعض الرسائل والأطاريح النادرة لطلبة كانوا واعدين، ومن الطبيعي أن ذلك التحدي كان يتطلب جهودا استثنائية لكي يتحقق على أكثر من صعيد، صعيد المحاضرة العلمية التي كان عليها أن تجد طريقها الجديد الذي يجعل الإبداع جزءا من المعرفة والذي يجعل من المحاضرة عملا إبداعيا كي يثبت حضورها، ثم على صعيد الطالب الذي اعتاد السماع والتلقي لينجح في امتحان تقليدي، هذا الطالب كان يحتاج جهدا من نوع جديد كي يتم تحويله من الصمت الى الحوارية ومن التصديق الى الجدل حيث تتحول المحاضرة لحدث علمي يتسم بالتواصل، وعلى صعيد القفزة النوعية في المناهج ولا سيما في الدراسات العليا التي يتسم العمل فيها بمرونة تتيح للأستاذ الجامعي حق اقتراح الوحدات الدراسية وحق رسم طرائق تقديم المادة، فدخلت النظريات والمناهج الحديثة، بدءا من الشكلانية والنقد الجديد والسيمياء ونظريات القراءة والتأويلية ومنطلقات هيدجر وجادامير وتلامذته والتفكيك وجهازه المصطلحي والتداولية ومعطيات ما بعد الحداثة التي نهضت بالنقد الثقافي والنقد النسوي، وعلى صعيد الإشراف والموضوعات المدروسة في الرسائل والأطاريح. هذه المرحلة تطلبت جهدا وزمنا استغرق مني اثنتي عشرة سنة لم يظهر لي فيها ديوان شعري من عام 1988 يوم ظهر ديواني أقبّلُ كفَّ العراق الى عام 2000 حين ظهر ديوان البحر يصطاد الضفاف حيث نجح الشعر أخيرا باصطياد قيوده والسيطرة عليها وتكسيرها، ونجح الجهد الأكاديمي بتخريج مجموعة جادة ومبدعة من الباحثين الذين أشرفت على أعمالهم شبابا وشابات. في تلك المرحلة انصرفت عن تدليل الشعر وإحاطته بالرعاية المستمرة والحب والحنان، لكنه ظل وفيا يلاحقني فكنت أكتب النص وأنشره في المجلات الثقافية أو أضعه في الدرج، حتى آن أوان العودة، يوم انتصر البحر فجمع قصائده التي صدرت عام 2000 ثم تلاها ديوان ما تركته الريح بطلب من الاتحاد العام للادباء والكتاب العرب في دمشق، وبعدهما مكابدات الشجر عام 2002، وبقينا أنا والشعر على تواصل حميم حتى اليوم. أما عن كيفية تعاملي مع جمرة الإبداع، فإن سمات حياتي الشخصية والعملية التي يعرفها الجميع تصلح أن تكون جوابا لهذا السؤال ؛ لأنها تعرب عنه بدقة وصدق، كوني أعطيتها عمري برضىً وعرفان، كما أعطتني الثراء والتوازن والفرح النوعي والانسجام، محتفية بها دوما، أعيش نارها بعذوبة وتصوف يرقى بي عن بؤس الأغيار وينأى بي عن ظلامية الواقع ليعيدني للحياة أكثر عطاء وشفافية وانتماء.
مسؤولية الإبداع
ـ الكثير من الشعراء الشباب يكتبون الآن الشعر العمودي، أهو نكوص أم صحوة؟ وكيف تنظرين إلى شعر الشباب عامة؟
بدءا لا بد من الإشارة إلى أن الإيمان بالإبداع أصلا لقيمة النص يدفعنا للإيمان بحرية اختيار الأشكال، وحينها لن يكون ذلك نكوصا ولا صحوة بل هو حق في حرية الاختيار وما يتحكم بالاختيار من عوامل عدة في طليعتها الذوق والرؤيا وطبيعة الثقافة وطبيعة المنظورات للفنون، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فمن الصعوبة الإلمام وحتى الاطلاع على كل ما يكتب الشباب من نصوص لكثرة هذه النصوص وتعدد وسائل نشرها ورقيا وألكترونيا، لكن بحكم عملي الذي عشته وأعيشه مع الشباب عموما، وقريبا من هواجسهم ومواهبهم وتطورهم العلمي والمعرفي والإبداعي وحواراتي الدائمة معهم، فأنا أثق بطاقة المبدعين منهم ثقة عالية ولا سيما الشباب الذين يمتلكون وعيا مع قدرة على الاستجابة للمؤثرات إيجابا وسلبا، ويتمتعون بحساسية وسعة رؤيا تؤهلهم لعطاء إبداعي ومعرفي، لأنهم يدركون اشتراطات الإبداع ومتطلباته والمسؤولية المترتبة على إنتاجه، كما يدركون أن التطور والتجديد والعمق المعرفي والأصالة إنما هي سمات الإبداع الحقيقي، وأن التجريب ليس هو صيحات موضة عابرة تزول بانحسار الموجة التي شكلتها، بل الحقيقي منه هو ذلك الذي ينهض على المعرفة الأصيلة والوعي العميق بالدور الحركي الذي يلعبه، وحينما يستوعب الشاب المبدع هذه الأمور كلها فإني أنتظر منه منجزا يستحق القراءة، مؤمنة أن أي شكل من أشكال النص الأدبي لن يتمكن من تقديم نفسه باقتدار إلا إذا توفرت له القيمة الفنية التي لا تنحصر بشكل دون آخر، ولا يمكن أن تقتصر على جنس أو نوع من الأنواع، لكن هذا الرأي لا يمكن أن يحجب أبدا رأي من يعتقد بوجوب تطور الشكل وتباين المواقف والرؤى ما دام الزمن يجري للأمام دوما، ولا رأي من يعتقد أن النموذج الشعري الخطابي لم يعد ملائما لعصر التأمل وغموض الحياة وتمنّع التجربة الفنية التي لا يمكن أن يعبر عنها إلا نصٌّ متمنع.
نعم، إن تعدد الأشكال دليل غنى وثراء وخيارات جمالية، فضلا عن أن مرونة اللغة العربية وقدرتها على اللعب والتجدد تؤهل الكاتب لتقديم تجاربه من خلال الشكل الذي يتيح له حرية اكبر في الإخلاص لإبداعه وتجربته الداخلية، لكن مع تجنب التقليد والسكونية. لقد سبق لي أن ذكرت في حوار سابق أن جماليات الحداثة لدينا مهما بلغ شوطها لن تتمكن من إلغاء الكتابة على الشكل العمودي في وقت قريب كما فعلت الحداثة الأوربية وما بعدها بشعرهم القديم لأسباب يطول شرحها، ولعل في طليعتها قدرة الشعر العربي القديم على التواصل مع الحاضر لعمقه وثراء مكنوناته، وطاقته التي أعدُّها استثنائية على عبور الزمن الينا وتواصله معنا بوهج تخاطب رؤاه أرواحنا وإشكالياتنا، فضلا عن علاقته الحميمة بالتراثين الديني والمعرفي للأمة ؛ واتصاله الوثيق بمؤسسات سياسية وثقافية رأسية مهيمنة ما زالت تحتفي به وتدعمه بكل ثقلها المادي والمعنوي ؛ مما دفع الكثير من الشباب إلى التواصل معه ومحاولة اللعب على تجديد لغته وتحديث المجازات التي أثثته بذكاء، مفضلين ذلك على الخوض في الصراعات التي تجرّعها كل من حاول التجريب والتجديد في فضائنا الثقافي العربي وأقرب مثال ما حدث مع قصيدة النثر التي ما زالت مثار جدل حتى بعد استقرارها واقعا ونموذجا ومصطلحا، ولا ننسى أن ما يشجعهم على الاستمرار عوامل شتى منها ما هو ذوقي خاص يؤازره السبب العام الذي ذكرناه، والذي تتدخل في صنع قراره مؤسسات سياسية مهمة تمتلك السلطة وتقدم لهم جوائز ثمينة لم تحظ بها الأشكال الشعرية الأخرى، لأن الأخيرة كانت وستظل نماذج نخبوية وليست نماذج مسارح وحشود، ونعلم جميعا أن نماذج النخبة تعاني دوما من مشكلة ثنائية المبدع » القارئ التي عانى منها كل حديث وجديد وتجريبي عبر العصور، والتي ستظل تخاطب القارئ النوعي الذي يعتمد على الثقافة الواسعة والقراءة التأملية والقدرة التأويلية أكثر من اعتماده على الإيقاعات السمعية والصورة البصرية التي تقع في متناول الفهم دون كثير جهد وعناء.
ـ كونك مبدعة وأستاذة جامعية، ماذا أعطتك الجامعة، وماذا أخذت منك؟
أعطتني الأكاديمية الكثير الكثير، وأخذت مني الكثير أيضا، أعطتني المعرفة من ينابيعها الأصيلة، والحوارات الجادة والشباب المتجدد، لأن الحداثة التي نؤمن بها تظل باطلة إن لم تكن تجديدا للذات أولا، لمعارفها وإبداعها وسلوكياتها، ولذلك لابد للأستاذ الجاد من الحرص على أن يكون أكثر حيوية من طالبه في المحاضرة والحوار وخارجهما ليظل ممتلكا زمام التأثير، ولكي تكون أستاذا بحق فإنَّ ذلك يتطلب منك الكثير من الجهد والمتابعة وملاحقة المعرفي الجديد والمصادر النوعية،والسفر الدائم وأداء الواجبات الأكاديمية بانتظام بالرغم من كونها واجبات لا تنتهي في التقويم والخبرة العلمية والمناقشات والترقيات، ولكي لا أخون قصيدتي كان عليَّ أن أتابع الإبداع بما يجعلني على تواصل معه، مما كان يأخذ حصة الإنسانة ويحرمها الكثير من حقوقها ومتطلبات وجودها، لكن وعي تلك الإنسانة بأهمية تصالحها مع الجانبين وتعاملها معهما بعفوية هو الذي جعل مركبنا نحن الثلاثة يسير بنوع من التوازن، وإن كان توازنا جدليا فيه من الاسترضاءات ما فيه من خلال مصالحة دائمة وتداخل بين الأكوان الثلاثة، الإبداعي والأكاديمي والإنساني لأن الكونين الأول والثاني مغريان ومصحوبان بقدرة عجيبة على الهيمنة، مما جعل الإنسانة سعيدة بعطاء الحقلين دون الالتفات لما سوى ذلك من القضايا والأمور التقليدية التي كانت وما تزال وستظل متاحة للجميع عبر العصور.
عضلات الرجل
ـ للمرأة خصوصيتها في كل أرجاء العالم، فما هي خصوصية المرأة العراقية اليوم؟
نعم للمرأة في كل أرجاء العالم خصوصيتها، فبالرغم من كل التقدم الذي أحرزته في الدول المتقدمة غربا وشرقا، إلا أنها ما تزال تعاني من العنف والغبن، فنسبة النساء اللواتي يضرين في أمريكا وحدها من قبل الرجل تبلغ 66» 84 مما دفع عالمة متخصصة بعلم الحضارة مثل ماركريت ميد إلى القول إن المرأة ستظل تُضرَب ظلماً وتُعنّف ما دامت لا تمتلك عضلات قوية تجابه بها عضلات الرجل، لكن القضية باعتقادي ليست قضية عضلات قوية، بل هي قضية غياب قيم راسخة تؤازر قرارات التحرر المجردة، كونها قرارات تعاني من تراجع روحي فادح في عصر مادي يفتقد التوازن وينطوي على قصور العلم وهو ينفرد بالساحة عن توفير حاجات الإنسان الروحية والوجودية معا، فضلا عما تعانيه المرأة في العالم كله مع اختلاف النسب طبعا من عدم المساواة في الأجور مع الرجل وفي فقدان فرص العمل وفي الوصول إلى مواقع صنع القرار، يؤكد ذلك تدني نسبة حضور البرلمانيات في العالم إلى نسب الذكور، ولقد تصدت لهذه الأمور لجان غربية ونظريات وتنظيمات منها النقد النسوي والنقد الثقافي والثنائيات التي عالجها التفكيك وغيرها. ونكاد لا نصدق لولا وثائق لجان الأمم المتحدة أن المولودات من الإناث يُذبحن في مزارع الصين وبعض دول جنوب شرقي آسيا لأنهن غير مهيئات جسديا للأعمال الثقيلة. أما المرأة العراقية فليس لها خصوصية بل خصوصيات ؛ لأنها كابدت وعانت ما لم تكابده امرأة في التاريخ المعاصر، عانت من حصار قاتل ومريع انقض عليها وعلى أفراد عائلتها وعلى الطفولة التي ترعاها بالجوع والمرض وضيق العيش وجهامة الحياة، عانت من حروب دامت أكثر من ثلاثين عاما اغتالت حياتها وشبابها وأمنيات مجتمعها، وهيمنت على عمرها بأنواع شتى من الفقدانات والخسائر والنفي والتشتت والهجرة والاغترابات والقلق المدمر، وكان عليها بغياب الرجل في الحروب أن تكون مسؤولة عن إدامة الحياة بجانبيها الخاص والعام منفردة متذرعة بمرارة صبر استمر حتى اليوم. إن المرأة العراقية وسائر نساء أقطار الوطن العربي لن تتحرر حريتها الايجابية الا من خلال تحرر مجتمعها من السلبيات القاصمة التي تحيق بها وبه، وتحجّم بؤر الضوء في سمائه، وفي طليعتها الانغلاق والظلامية وتسخير الماضي السكوني لسياسة الحاضر والهيمنة عليه وتهميشه وإغلاق نوافذ رياح التقدم التي تعمل على تثوير واقعه وإطلاق كل الممكنات التي من شأنها النهوض بطاقاته العصية.
قبول الآخر
أين تقف المرأة العراقية المبدعة وما المعيقات التي تعترض سبيلها؟
المرأة العراقية المبدعة تعاني السلبيات مضاعفة من خلال فقدانها المتطلبات الضرورية لممارسة عملها الإبداعي، فضلا عن كونها عانت أكثر من زميلتها حينما صارت مهددة بالقتل والتشرد، وقتلت فعلا وذبحت ونُفيت دون ذنب اقترفته غير التعبير عما تراه ممثلا للحقيقة، وما زالت الكثيرات من المبدعات مبعدات عن العراق، منفيات في أراض نائية وبلدان شتى بحثا عن لحظة الأمان.أما المبدعة التي ما زالت تعيش في العراق فهي تعاني كمواطنيها الرجال من تخلف منظومات القيم التي تزداد ظلاما وجهالة يوما بعد يوم، باسم الدين المسيس مرة وباسم قيم العشيرة أخرى، وباسم ماطال وطنها من عار المحاصصات والمذهبيات والطائفيات المخجلة، والمنافية للدين ولمعاني المواطنة النبيلة ولكل الفلسفات الإنسانية التي وضعت كرامة روح الإنسان نصب عينها، بينما العالم يتطور ويتقدم بالدقائق، ويمنح حكم البلاد للأكفأ والأرصن والأكثر علما ومعرفة وخبرة والأعمق حكمة ومرونة وقدرة على صنع الانسجامات داخل أطر الاختلاف، فلا ضير في أن نختلف رأيا لكن كل الضير والضرر في أن نتصارع ونتصادم. إننا نعاني من العيش بازدواجية مريرة بين نظريات التقدم واشتراطات الهوية التي تؤمن بالحوارية والانفتاح وقبول الآخر والتعددية في إطار احترام الخصوصية، تلك النظريات التي نقرأها ونؤمن بها، وبين ما نراه ساريا في الجوانب التطبيقية، مما يعيق عملية الإبداع شئنا أم أبينا ؛ لأن اللحظة الإبداعية لحظة بالغة الصفاء راقية الشفافية، تحتاج إلى الظروف النفسية والمجتمعية التي توفر لها نقاء تلك اللحظة وصفاءها لتتحقق منجزا، وتتشكل إبداعا. إن المرأة المبدعة تعاني من معيقات جمة منها ما هو ذاتي ومنها المجتمعي، أولها عدم ثقة من حولها بقدرتها الإبداعية حتى تثبتها بجهدها، ولو لاقت تشجيعا لاختلف الأمر، ومن انصرافها عن مواصلة تعليمها التخصصي الذي يعزز إبداعها لظروف سلبية عدة، وعدم قدرة الأسرة والدولة على تحقيق طموحاتها المشروعة في التخفيف من أعبائها المنزلية لتوفر زمنا لإبداعها، ومن صعوبة مواجهة روتين الجماعة وأنماط الحياة التقليدية لأن الإبداع خروج على النمط وتصدٍّ للتقليد، ومن صعوبة وضع مؤهلاتها القيادية موضع التطبيق في ظروف قاهرة لا تفهم السمات القيادية للإبداع فهما موضوعيا بوصفها إقداما وتعرية للسلبيات وقدرة على الاقتحام نحو الأفضل، بل تظنه مروقا على قيم الجماعة وخروجا على المألوف، وهذا الفهم يسبب لها المتاعب وقد يُجري عليها عقوبات خاصة وعامة ؛ ولذلك فالمبدعة التي لا تتسم بقوة الإرادة والإقدام والتماسك والقدرة على التحدي ولا تمتلك حريتها النفسية الداخلية التي تؤهلها للتعبير بصدق شجاع عن دواخلها وهواجس أنوثتها وعن قضايا واقعها، فإنها ما تلبث أن تنسحب من الساحة ليخمد الإبداع، فضلا عن أهمية توفير حاجاتها وحاجات أسرتها الأساسية، فالإبداع لا ينمو ويزدهر إلا بانهماكه في التأمل بالإشكاليات المصيرية للإنسان وبمعضلات حياته، لأن مهمة الثقافة والإبداع تخفيف مشاكل الإنسان داخلية وخارجية، والعمل على توفير أقصى أنواع الانسجام في حياته. إن التأمل الذي يحتاجه الإبداع لا يتم إلا في جو من الطمأنينة، والطمأنينة للأسف أبعد ما تكون عن حياة المرأة العراقية مبدعة كانت أم غير مبدعة، مع أن المبدعة العراقية لعبت دورا مهما في ظروف السلام والحرب في رأب الصدوع وفي نقد السلبيات وإشاعة قيم التحضر والتقدم ورفع كفاءة التذوق الجمالي وسمو الرؤى من خلال الشعر الذي كتبته والرواية والقصة وقصيدة النثر، ومن خلال اللوحة التشكيلية والنحت والنقد والتأليف بمختلف جوانبه العلمية والمعرفية.
ـ كان لك نظرتك إلى المرأة، وخاصة في السبعينيات، كيف تنظرين إليها الآن، ونحن في القرن الواحد والعشرين؟
تذكر معي أن المرأة الأمية أبجديا والمتوسطة التعليم في السبعينات كانت متلقية شبه عفوية تعيش بوعي يؤهلها لتقبل ما تجده صدقا، لأنها لم تكن بعدُ مثقلة بعذاب الحصار ولا مرهقة بفقدانات الحروب وتوجسات الرصد والخوف ؛ ولم تطرق ذهنها تراكمات الايديولوجيا وفوضى المحاصصات وقتل أولادها وأفراد عائلتها على الهوية بسبب أسمائهم أو طرائق عبادتهم، ولذلك كانت ومعها رجال عائلتها تتقبل خطاب من يخاطبها بصدق وحرص، وتميز بين أنواع الخطابات المطروحة وأهدافها، كانت مستجيبة بشكل جيد جعلها تتقبل الانتماء لمراكز محو الأمية فتعلمت القراءة والكتابة حتى في القرى والأرياف وهذا أمر بغاية الأهمية كونه علمها سلوكا جماعيا فيه من التحضر ما كانت تفتقده مثل النظافة واللياقة والملبس الجيد وأصول الحديث وتبادل الخبرات والانتماء للجماعة، كما اقتنعت باستبدال الحجاب التقليدي بالحشمة وفهم قيم العفاف بديلا للتعصب،ولا سيما بعيد هبة عام 1975، عام المرأة الدولي وما اجتاح العراق والعالم من تظاهرات ومهرجانات احتفلت بعطاءات المرأة وبأهمية إسهامها في التنمية وفي حراك المجتمع، ووجدت الصبيات الصغيرات طريقهن للمدارس في التعليم الإلزامي، فضلا عن قضية مهمة هي إتاحة سفر المرأة لكل بلدان العالم دون شرط ولي الأمر وتحديد العمر المتقدم للمسافرة، فقد تجولتُ وزميلاتي في مدن وعواصم عشرات الدول الأوربية غربية وشرقية وفي جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقا وفي كل أقطار الوطن العربي ونحن بين سن العشرين والثلاثين وما كان لذلك من أثر في توسيع رؤانا وثراء معارفنا وتماسك واستقلال شخصياتنا واطلاعنا على حضارات الأمم وسلوكيات الشعوب، وتذكر معي أن نقابة المعلمين كانت تنظم السفرات السياحية لمختلف دول العالم بأسعار رمزية لإتاحة السفر للجميع، لكن حال المرأة في كل العصور جزء لا يتجزأ من حركة المجتمع الكلية التي نجدها في بلداننا تتراجع يوما بعد يوم لأسباب كثيرة لا مجال لتفصيلها الآن، وبحكم السلبيات التي تتراكم دون معالجات، مما أدى في معظم الدول العربية وليس في العراق حسب إلى تراجع أحوال المرأة ونكوص طرائق التعامل معها وتحريم ما أحلَّ لها، وهيمنة الفكر المناهض للتقدم والتحضر، والعمل بطرق إرهابية أحيانا على التدخل بمظهرها وبأدق شؤونها وحقوقها الشخصية، بحيث تعجب من الردة التي منيت بها اليوم لو تفحصت حالها في المرحلتين، لكن ما يذكي الأمل وسط كل هذه السلبيات الحاضرة وجود الإصرار النسوي على استمرار دخول مختلف التخصصات العلمية ومواصلة الدرس الجامعي والسعي للتعليم العالي من خلال الانتماء للدراسات العليا ومثابرتهن في السعي لتطوير الذات مما يؤكد أن المسيرة لن تتوقف وإن تعثرت، وأن المرأة الواعية لن تكف عن انتزاع حقها في حياة حرة تتيح لها صنع قرارها باستقلالية وتفهم. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن كل المؤسسات الدولية التي وعدت المرأة بالكثير لم تفِ بوعودها بدءا من لجان الأمم المتحدة وحتى العراق ومن عام 1975 عام الوعود الزاهية لعام 1985، حيث انتهى عقد المرأة الدولي بمؤتمر بكين وما فيه من طروحات بعيدة المدى، عالية السقف، علمية القضايا وحتى عبر تبني لجان دولية لعلم الجندر الذي طرح القضية بجدية أكثر وموضوعية ترقى إلى الدقة العلمية من خلال طرح مصطلح الجنوسة والاهتمام بالنوع والتركيز على أهمية تمكين المرأة ، أقول بالرغم من كل ذلك إلا أن أحدا من كل هذه المؤسسات واللجان والمؤتمرات الدولية والطروحات المتقدمة لم يكن جديا في معالجة القضية الأساسية بحيث تحولت معظم التوصيات إلى شعارات ترضية رمزية تُطرح لتحقيق مكاسب يجني ثمارها المستفيدون من الحكام ورؤساء المؤسسات واللجان الدولية في كل زمان ومكان دون اهتمام حقيقي بالقضية الرئيسة المطروحة التي ناضلت النساء من أجلها.
المصدر .الزمان 23 10 212
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق