الأحد، 24 مارس 2013

طيران بعض الموتَى


يتحدث كثير من الناس عن طيران بعض الموتَى، وهم مَحْمُولون على أعناق الرجال، وعن تراجُع النَّعْشِ بحامِلِيهِ إلى الوراء، ويتحدَّثُون عن ثِقَلِهِ مرة، وخِفَّتِهِ أخرى، وتنتشر هذه الأحاديث، وتأخذ بين الناس صبغة الواقع الصحيح، وكما يأخذ الموتَى في مُعتقداتهم مكانة الأولياء الذين تبدو كراماتهم الحِسِّيَّة. وكثيرًا ما ينشأ عن ذلك إقامةُ أضرحةٍ لهؤلاء الموتَى باسم الولاية، وتصحب تلك الأضرحة مزارات تُلتمَس بركاتُها، ويُدْعَى مَن فيها، ويُتَّجَهُ إليه في قضاء الحاجات ودَفْعِ المُلِمَّاتِ والكُروب، كما يُصبح للضريح أيضًا خدَمٌ وموظفون، يتلقَّوْنَ النُّذُورَ والصدَقات باسم ساكنه فما موقف الشرع الحنيف من هذه الأمور ؟.
2001-02-10
الاجابه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

الواقع أن صِدْقَ هذه الأخبار لا يكفي فيه مجرد سماعها، ولا مُجرد رؤية النعش وهو مَحمول على الأعناق يتقهقر إلى الوراء أو يتقدم إلى الأمام، فضلاً عن سماع طيرانه في السماء. لا يكفي سماع شيءٍ من هذا في تصديقه؛ فالناس مُولَعون بتناقُل الأخبار الغريبة، وفيهم مَن هو قابِلٌ لتصديق كل شيء يسمعه، فينقله ويتحدث به ويُقسم عليه.


إنَّ صِدْقَ الأخبار يحتاج إلى الوُثوق بصدق حاملي النعْش، والوُثوق بسلامة نفوسهم من الانفعالات الخاصة، التي تُورث الضعف في أعصابهم وتجعلهم يتقهقرون أو يندفعون إلى الأمام بغير انتظام، والوُثوق بأنه ليس لهم نوايَا خاصة في إشاعة أن الميت له عند الله منزلة، يُبنى له بها ضريح، وتُصنع له مَقْصورة، وتُفتح أبوابه للزيارة والنُّذور، وتُقام له الموالد والليالي، إلى غير ذلك ممَّا يكون في واقعه مَوْرِدَ رِزْقٍ جديد لحَامليه، وإلى مَن أوعزَّ إليهم بإيجاد هذا المَظْهر.


ومن الغريب أنَّا لم نسمع بذلك إلَّا في القرى؛ حيث تُحمل الموتى على الأعناق، وإلا في عُصورنا المتأخرة التي اتُّخذت فيها هذه المظاهر سبيلًا للتغرير بضعفاء العقول؛ فلم نسمعه عن ميت محمول في سيارة أو قِطار أو في طائرة، لم نسمعه عن باخرة قافلة من بيت الله الحرام، وقد فاضت فيها روح حاجٍّ تَقِيٍّ نَقِيٍّ له بالله صِلَةٌ خاصةٌ. ولم نسمع أن جُثَّته ثقُلت أو امتنعت عن أيدي الذين يَقذفونه في البحر، حتى يُحفظ من الحيتان والأسماك، ويُدفن في القبور العادية.


لم نسمع شيئًا من ذلك عن أحدٍ مِن الربَّانيينَ الذين ماتوا في العصور الأولى للإسلام، خير القُرون، وعلى رأسهم الخُلفاء الأربعة، وحُماة الإسلام من الصدِّيقينَ والشهداء والصالحين. وإذنْ، فنحن في حِلٍّ مِن تكذيب كل ما نسمع من هذا القبيل ونرفضه ولا نُعْنَى بالبحث عن أسراره وأسبابه.


والإنسان متى فارق الحياة انقطعتْ صِلَتُهُ بالدنيا، وصار أمره لله وحْده.

ومن غريب الأمر أن مثل هذه الأقاصيص المُخترعة لا تُرَوَّجُ إلا في زمن التقهْقر الفكري، وانصراف الناس عن العمل الجاد المُثمر، ولا تُرَوَّجُ إلَّا في بيئات خاصة عُرفت بالسَّذَاجة وتصديق كلِّ ما يُقال.

والله أعلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق