الأحد، 24 مارس 2013

د. سلمان بن فهد العودة من الأقوال المشهورة والثابتة عن عمر رضي الله عنه أنه كان يرى أن المسافر إذا أجنب ولم يجد الماء فلا يتيمم حتى يجد الماء. وبالتالي فإنه لن يصلِّي ولو لم يجد الماء عشر سنين، ووافقه على هذا القول ابن مسعود رضي الله عنه.


د. سلمان بن فهد العودة
من الأقوال المشهورة والثابتة عن عمر رضي الله عنه أنه كان يرى أن المسافر إذا أجنب ولم يجد الماء فلا يتيمم حتى يجد الماء.
وبالتالي فإنه لن يصلِّي ولو لم يجد الماء عشر سنين، ووافقه على هذا القول ابن مسعود رضي الله عنه.
واحتج عليهما الصحابة رضي الله عنهم بالقرآن الكريم، وأن الله تعالى قال في سورة المائدة: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) [النساء:43].
والراجح أن معنى الملامسة هاهنا: الجماع؛ لأنه لو كان المقصود بالملامسة مجرد لمس المرأة، لما كان ثمت حاجة لذكره في الآية؛ لأن قوله تعالى: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) يغني عنه؛ لأن المقصود به: الحدث الأصغر.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إنا لو رخَّصنا لهم في هذا، لأوشك إذا برد على أحدهم الماءُ أن يدعه ويتيمَّم». يعني: أن يأخذوا بهذه الرخصة ويتوسعوا فيها بمجرد أن يبرد عليهم الماء.
فهذا القول الذي ذهب إليه عمر وابن مسعود رضي الله عنهما هو قول ضعيف ومخالف لظاهر القرآن، بل مخالف لنص السنة النبوية، وقد وقع الإجماع على خلافه في العصور التالية، على ما حكاه بعض العلماء.
وهذا القول الذي رآه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لم يقبله جمهور الصحابة رضي الله عنهم، مع أنه جاء عن رجلٍ كان مُهابًا، حتى إن ابن عباس رضي الله عنهما سكت عن مسألة العَوْل في الفرائض في عهد عمر رضي الله عنه، ثم جهر برأيه فيها بعد وفاته، فسُئل عن ذلك، فقال: «كان عمر رجلًا مهابًا، فهبته».
فهنا تلاحظ كيف استطاع الصحابة رضي الله عنهم الجمع بين هذين الجانبين:
الأول: عدم قبول القول الضعيف، مهما كان قدر القائل به.
الثاني: عدم الحط من قدر الإنسان إذا قال بقول ضعيف أو مرجوح، ما دام من أهل العلم والاجتهاد، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان الماءُ قُلَّتين لم يحمل الخَبَثَ».
والمقصود أن الإنسان الذي عظمت فضائله وكثرت حسناته، وزاد علمه، يحتمل منه من الآراء المرجوحة والضعيفة ما لا يُحتمل من غيره؛ لأنه حين قال بذلك فإنما قاله عن اجتهاد، واستفرغ فيه وُسعَه، ولم يتعبد هو باجتهاد غيره من الناس، بخلاف مَن يقول بقول ضعيف عن شطط في العلم وضعف في الفهم وهوًى في النفس.
ومن ذلك: الخلاف في صدقة الفطر، فقد جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: «كنا نُخْرِج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغير وكبير، حُرٍّ أو مملوك: صاعًا من طعام، أو صاعًا من أَقِطٍ، أو صاعًا من شَعِير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زَبِيب، فلم نزل نخرجه حتى قدم علينا معاويةُ بن أبي سفيان حاجًّا أو معتمرًا، فكلَّم الناسَ على المنبر، فكان فيما كلَّم به الناسَ أن قال: إني أَرَى أن مُدَّيْن من سمراء الشام تعدل صاعًا من تمر. فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيدٍ: فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبدًا ما عشتُ».
وقد ذهب إلى مذهب معاوية رضي الله عنه بعض الصحابة والتابعين وبعض الأئمة المتبوعين.
وقد سبق إليه عمر رضي الله عنه، ونُقِل عن بقية الخلفاء الأربعة، وروي مرفوعًا.
ومنها: اجتهاد معاوية رضي الله عنه في مسألة ميراث المسلم من الكافر، وقد ورد في «الصحيح» من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يرثُ المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ».
وقد رأى معاوية رضي الله عنه أن المسلم يرث من الكافر؛ لأن الإسلامَ يزيد ولا ينقص. يعني: لو حرمنا الكافر إذا أسلم من الميراث لربما لا يسلم، أو يتأخر في الإسلام حتى يرث من أبيه أو من أهله، فرأى - حفاظًا على روح قبول الإسلام والدخول فيه- أنهم يورِّثون المسلم من أبيه الكافر حتى يدخل في الدين، ولا يكون الميراث مانعًا له من الإسلام، وأخذ بمثل قوله بعض التابعين.
ومن ذلك: رأي معاوية رضي الله عنه في مسألة الحلي من الذهب والفضة، وجواز بيعها بالذهب متفاضلًا.
وهذا الذي اختاره ابن تيمية، وانتصر له في «تفسير آيات أَشكلت». ثم ابن القيم في «إعلام الموقعين».
فهاهم الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا في مسائل كثيرة، حتى حصل بينهم خلاف في قضايا متصلة بالاعتقاد وإن كانت فرعية، كاختلافهم في مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه، والجمهور على أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعيني رأسه، وذهب بعضهم -وذُكِر هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره- إلى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى ربه.
وامتد هذا الاختلاف إلى مَن بعدهم، فوُجد مَن قال بهذا ووُجد مَن قال بهذا.
من المسائل التي اختلفوا فيها: مسألة تعذيب المؤمن في قبره ببكاء أهله عليه، فلما بلغ عائشةُ رضي الله عنها حديثَ عمر رضي الله عنه: «إن الميتَ يُعذبُ ببعض ببكاء أهله عليه». أنكرت ذلك، وقالت: رحم اللهُ عمرَ، والله ما حدَّث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليعذبُ المؤمنَ ببكاء أهله عليه»، ولكنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليزيدُ الكافرَ عذابًا ببكاء أهله عليه». وقالت: حسبكم القرآن: «(ولا تزر وازرة وزر أخرى) [الأنعام:164]».
وكذلك لما نُقل لها مسألة مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لقتلى بدرٍ في القَلِيْبِ، حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «يا فلانَ بنَ فلانٍ، ويا فلانَ بنَ فلانٍ، هل وجدتم ما وعدكم اللهُ ورسولُه حقًّا؟ فإني قد وجدتُ ما وعدني اللهُ حقًّا». أنكرت هذا، وقالت: إنما قال: «إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق». ثم قرأت: (إنك لا تسمع الموتى) [النمل:80]. (وما أنت بمسمع من في القبور) [فاطر:22].
فاختلفوا في فروع هذه المسائل، وتقبَّلوا هذا الخلاف، ولم يظهر منهم ما يدل على الانزعاج من تعدُّد الرأي فيه، ما دام في حدود النص الشرعي ولم يخرج إلى ضلالة أو بدعة، ولم يكن قولًا مصادمًا لصريح الكتاب والسنة، ولم يُنقل عن أحد منهم أنه حمل على الآخر، أو أغلظ له بالقول بسبب خلافه، كما لم يُنقل أن أحدًا منهم قَبِل هذا القول المرجوح لمجرد أنه صدر من فلان.
وبهذا استطاعوا أن يضبطوا كِفَّة الميزان، فلم يقبلوا القول المرجوح أو الضعيف ولو قال به أمير المؤمنين، مع حفظ مقامه من الطعن أو التهجُّم أو الازدراء.
إن الحماس المُفْرِط للرأي أو للمتبوع، واعتقاد أنه حق مطلق يحمل كثيرين على العنف والإطاحة بمَن يختلفون معه، استرسالًا وراء إحساس مريض بامتلاك الحق في المسألة الاجتهادية، واعتبار الآخرين مغرضين أو مدفوعين أو أصحاب هوى.
إن هذا الأمر الكوني الذي أخبر اللهُ تعالى أنه واقع في البشرية، هو واقع في هذه الأمة ولابد، ويستحيل أن يُجمع الناس على رأي واحد في كل المسائل الخلافية أو في غالبها.
وإنما أؤكِّد على هذا المعنى؛ لأنني سمعت واحدًا من أهل العلم يقول: إنه يمكن جمع الأمة على قول واحد حتى في الفروع.
ولعله يظن أننا إذا استطعنا أن نصحِّح الأحاديث النبوية وننقِّحها ونختار منها؛ فإننا نستطيع أن نجمع الأمة عليها.
وهذه مقولة غريبة، ولكن أن تصدر من عالم له قدره ومكانته، فهذا مما يؤكِّد أن الاختلاف واقع، وأن انتحال القول الغريب قد يحدث من الأكابر، فكيف بمَن دونهم؟!
إن العلماء لم يتَّفقوا على تصحيح الأحاديث، ولا على شروط الصحة، ولا على توثيق الرجال، ولا على تعزيز الطرق بعضها ببعض، وبينهم تفاوت ضخم في التعليل والترجيح بين المرسل والمتصل والمرفوع والموقوف... في مسائل كثيرة في علم الحديث، فضلًا عن غيره، فلا سبيل إلى جمع الأمة على مذهب واحد، بل الخلاف لابد منه، وهو واقع إلى قيام الساعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق