الاثنين، 14 مايو 2012

تفصيل الإمام الشاطبي في حكم الرخصة

تفصيل الإمام الشاطبي في حكم الرخصة

بسم الله الرحمن الرحيم

جاء في الموافقات (بتصرف):

وأما الرّخصة فما شُرِع لعذر شاقّ، استثناء من أصل كلّي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه.
فالرخصة مشروعة لعذر، وأن يكون العذر شاقّا؛ لأنه قد يكون العذر مجرّد الحاجة، من غير مشقة موجودة، فلا يُسمّى ذلك رخصة؛ كشرعية القراض ـ مثلا ـ فإنه لعُذْر في الأصل، وهو عجز صاحب المال عن الضرب في الأرض، ويجوز حيث لا عذر ولا عجز، وكذلك المساقاة، والقرض، والسلم. فلا يُسمّى هذا كلّه رخصة وإن كانت مستثناة من أصل ممنوع، وإنما يكون مثل هذا داخلا تحت أصل الحاجيات الكليات، والحاجيات لا تُسمّى عند العلماء باسم الرخصة. وقد يكون العذر راجعا إلى أصل تكميلي فلا يُسَمّى رخصة أيضا. فإذا صلى الإنسان جالسا لمجرد الاقتداء بالإمام، دون أن يكون هو في نفسه في حاجة إلى ذلك، لم يكن ذلك رخصة في حق المأموم، وإن كان هو رخصة في حق الإمام، لأن فعل المأموم هو لمجرد تحقيق الاقتداء وطلبا لموافقة الإمام، طبقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جُعِل الإِمَام ليُؤتم بهِ"، ثم قال: "وَإِنْ صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ".[1]
وكون هذا المشروع لعذر مستثنى من أصل كلي يبيّن لك أن الرُّخَص ليست بمشروعة ابتداء؛ فلذلك لم تكن كليات في الحكم. وإن حدث معها ذلك فهو أمر عارض. فجواز القصر والفطر للمسافر إنما كان بعد استقرار أحكام الصلاة والصوم. هذا، وإن كانت آيات الصوم نزلت دفعة واحدة، فإن الاستثناء مانع من استقرار حكم المستثنى منه على الجملة.
وكونه مُقْتَصَرا به على موضع الحاجة خاصّة من خواصّ الرّخص أيضا لابدّ منه؛ وهو الفاصل بين ما شُرِع من الحاجيات الكلية، وما شُرِع من الرُّخص. فإن شرعية الرخص جزئية يُقْتَصَر فيها على موضع الحاجة؛ فإن المصلي إذا انقطع سفره وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إتمام الصلاة وإلزام الصوم، والمريض إذا قدر على القيام في الصلاة لم يُصَلَِّ قاعدا، وإذا قدر على مسّ الماء لم يتيمم، وكذلك سائر الرخص. بخلاف القرض، والقراض، والمساقاة، ونحو ذلك مما هو يشبه الرخصة، فإنه ليس برخصة في حقيقة هذا الاصطلاح؛ لأنه مشروع أيضا حتى في حال زوال العذر. فيجوز للإنسان أن يقترض وإن لم يكن به حاجة إلى الاقتراض، وأن يساقي حائطه وإن كان قادرا على عمله بنفسه أو بالاستئجار عليه، وأن يقارض بماله وإن كان قادرا على التجارة فيه بنفسه أو بالاستئجار.
فالحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل كلي ابتدائي، والرخصة راجعة إلى جزئي مستثنى من ذلك الأصل الكلي.
الرخصة في اصطلاح الفقهاء والأصوليين
وقد تطلق الرخصة في اصطلاح أهل الفقه والأصول على ما استُثْني من أصل كلي يقتضي المنع مطلقا، من غير اعتبار بكونه لعذر شاق، فيدخل فيه القرض، والقراض، والمساقاة، وردّ الصاع من الطعام في مسألة المصراة، وبيع العرية بخرصها تمرا، وضرب الدية على العاقلة، وما أشبه ذلك. وعليه يدل قول الصحابي في الحديث: "لا يَحِلُّ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ، وَلا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ".[2]
وأصل هذا الإطلاق مُسْتَنِد إلى أن بعض الحاجيات اشتركت مع الرخصة في كونها شُرِعَت لعُذْر، فيجري عليها حُكْمُها في التسمية، كما جرى عليها حكمها في الاستثناء من أصل ممنوع. وهنا أيضا يدخل ما تقدم في صلاة المأمومين جلوسا اتباعا للإمام المعذور، حيث يمكن أن يطلق عليها اصطلاح الرخصة من هذا الباب، وإن كانت هذه المسألة مستمدّة من أصل التكميلات، لا من أصل الحاجيات، فيُطْلَق عليها لفظ الرخصة وإن لم تجتمع معها في أصل واحد. كما أنه قد يُطْلَق لفظ الرخصة وإن استُمِدَّت من أصل الضروريات؛ كالمصلِّي لا يقدر على القيام، فإن الرخصة في حقّه ضرورية لا حاجية، وإنما تكون حاجية إذا كان قادرا على القيام، لكن بمشقة تلحقه فيه أو بسببه.
وقد يُطْلَق لفظ الرخصة على ما وُضِع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة، التي دلّ عليها قوله تعالى:ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ(البقرة: ٢٨٦)، وقوله تعالى: ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ(الأعراف: ١٥٧)؛ فإن الرخصة في اللغة راجعة إلى معنى اللين؛ وعلى هذا يُحْمَل ما جاء في الحديث: "صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً".[3] ويمكن أن يُرْجَع إليه معنى الحديث الآخر: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ".[4] فكان ما جاء في هذه الملَّة السَّمْحة من المسامحة واللين رخصة بالنسبة إلى ما حمّله الأمم السالفة من العزائم الشاقة.
وتُطْلَق الرخصة أيضا على ما كان من المشروعات توسعَة على العباد مُطْلَقا ممّا هو راجع إلى نيل حظوظهم وقضاء أوطارهم. فإن العزيمة الأولى هي التي نبَّه عليها قوله تعالى:ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ (الذاريات: ٥٦)، وقوله:ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ (طه: ١٣٢)، وما كان نحو ذلك، ما دلّ على أن العباد ملْك الله على الجملة والتفصيل، فحقّ عليهم التوجّه إليه، وبذل المجهود في عبادته؛ لأنهم عباده وليس لهم حق لديه، ولا حجة عليه. فإذا وهَبَ لهم حظًّا ينالونه فذلك كالرخصة لهم؛ لأنه توجُّهٌ إلى غير المعبود، واعتناءٌ بغير ما اقتضته العبودية. فالعزائم حق الله على العباد، والرُّخص حظّ العباد من لطف الله. فتشترك المُباحات مع الرخص من حيث كانا معًا توسِعَة على العبد، ورفع حرج عنه، وإثباتا لحظه.
هذه هي الإطلاقات التي يطلق بها اصطلاح الرخصة، ولكن الحديث فيما يأتي من مسائل هو تفريع الإطلاق الأول الذي هو عام للناس كلهم.
[1] مسند أحمد: باقي مسند المكثرين، مسند أبي هريرة رضي الله عنه.

[2] سنن ابن ماجه: كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح مالم يضمن.

[3] صحيح البخاري: كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب.

[4] مسند أحمد: مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق