الجمعة، 11 مايو 2012

نخسر لأننا نحب!!!


 
يمكنني إعلامك بملء الفم أنني نجحت. لم أفشل حين توقعت مني ذلك. ولم أسد ثغراتك المفتوحة للحزن والضجر والكلام. لكني نجحت. نجحت حين خسرتك. ألا يستحق ذلك احتفاء جديرا بنا يا عزيزي؟ قل أي شيء يخرجك من ركام الوقت الضائع بيني وبينك، ومن ثقوب الكلام الذي لم يعد يجدي في شيء. خسرتني حين قررت أن تفوز بي، وخسرتك حين فكرت أنني قادرة على تعويضك في نفسك، وحين فكرت أنني قابلة للفرح على حدود هذا الهباء الشاسع، والكارثة اليومية. تصور كيف ستكون حياتنا لو لم أخسرك ولو فزت بي؟ كنا سنجلس كل مساء قبالة التلفاز نعد القتلى في العراق، ونتحسس كيس الذرة أمامنا لنتسلى به ببلاهة يومية. ستسألني على مضض: هل ثمة فيلم جميل للسهرة؟ وسأرد عليك بضجر: سنشاهد "الاتجاه المعاكس" في قناة الجزيرة. وسنقضي العمر نلم أشلاء غيرنا في التلفاز وندفنها في الرؤى. ربما تظن أن الحياة ستكون مختلفة عن هذا الوصف التراجيدي الذي ذكرته الآن، كأن نعيش بعيدا عن ذاكرة المكان والتفاصيل المزمنة التي كان أجدادنا يتشبثون بها عن رغبة أو عن إجبار، وعن خسارات لم يكونوا يعترفون بها ليخلفوها لنا في تراكمات الراهن المحبط.
***
ها أنت تعود من الشغل متعبا ومتذمرا من رئيسك الذي سحب الترقية عنك وأعطاها لشخص أقل كفاءة منك. ستتذمر طوال السهرة من الكلام الذي سيبدو لك غبيا ومثيرا للأعصاب. وستغير في المحطات التي لن تهديك أكثر من جثث العراقيين ودم الفلسطينيين على نخب قنوات آر تي وروتانا، التي سترقص طوال العمر على أحزاننا الفقيرة وعلى وجهنا البائس والجاهز لتهمة الإرهاب والتشدد والتطرف. أليس هذا ما قاله لك مديرك حين غضبت من قرار منعك من الترقية؟ قال: إنه يشم فيك رائحة التطرف. قلتها لي وأنا أتلمس كيس الذرة لأتسلى بها في سهرة الكلام اليومي. قلتها لي وأنت تنتظر تعليقا، وحين لم أعلق، غضبت، وفضلت السكوت إلى أن ذهبنا للنوم خاليين من الفرح. وقد تكون هذه صورة غير متلائمة مع فكرتك أيضا، فأنت تريد أن تفوز بي من حيث خسرت فيه العالم، وأنا... ماذا أنا؟
***
فكرت في الخطاب الذي ألقاه الرئيس في نشرة الثامنة. قال مستعينا بنبرته الشعبية "التاريخية": إن أمريكا لن تنجح في استعبادنا وإن محاولة الغرب الدخول من جهة النساء مفاده أن النساء ضلع أعوج. ووجدتني أبتسم بيني وبين نفسي. لعلها الحقيقة. ليس في اعوجاج الضلع النسوي، بل في أن الرئيس متطرف أيضا، ولو كان للرئيس ابن لترك البلاد له بقانون دستوري يصوت عليه الأموات أيضا. ألم نسمع بتصويت الموتى؟ حدث ذلك. فقد سمعت مرة أن أحد المواطنين احتج مستغربا كيف يدرج اسم والده في قائمة الناخبين؟ والده الذي مات منذ عشرة أعوام. فقال له أحد موظفي البلدية بسخرية: "وين المشكلة؟ أليس للميت حق في هذا الوطن حتى بعد موته!" أنت من حكى لي هذه "النكتة" الواقعية، يومها لم أجد سببا أضحك لأجله، فقد ضحكت أنت مستغربا هذه البلاد التي ينتخب فيها الموتى لأجل سحب الحياة من الأحياء. وليكن، أليست هذه خساراتنا الجماعية؟ فأن تخسر وطنا فقد خسرت كل شيء كما يقول" جون جوكتو"، ومع ذلك، مثلك أتشبث بشيء يبدو لي أحيانا حتميا ومدهشا، وأحيانا أخرى يبدو لي كقشة مناسبة للخروج من المأزق الجماعي. تصور الحياة في هذا البورتيريه الكئيب.
***
فكرت أن أسمع منك كلمة لا أتوقعها. كأن تقول لي: هل خف صداعك قليلا؟ هل نخرج لنتمشى في طريق كنا نعرفه، ولم يعد يعرفنا؟ كنت سأرفع عيني إليك دون أن أخفي دهشتي، أو ربما كنت سأضحك لأول مرة منذ ألف عام. مدهش أننا لم نضحك منذ زمن بعيد يا عزيزي. حتى أمام النكات تنتابنا رغبة في البكاء فجأة. لم نعد نضحك على الأشياء التي كانت قبل الآن تبدو لنا مسلية، وأحيانا ممتعة، وقد أضحكت غيرنا أيضا. قبلا كنت أضحك حين أشاهد تشارلي شابلن. كنت أضحك حين أنظر إلى وجه نجيب الريحاني، وإلى ملامح عادل إمام. كنت أضحك بعفوية أصاب بالدهشة حين أتذكرها، ها نحن فقدنا الضحك. صرنا نعي جغرافيتنا الجاهزة للتغيير. كنا أمة منهارة قبل اليوم، نقتات من فتات البترول، ونجلس على أرصفة الفقر الشعبي الذي يسميه الساسة "شرف الوقوف" ليضحكوا به علينا، لنبقى واقفين وعراة وجياعا ومعزولين ومهمشين، وليظلوا جالسين مكانهم متباهين بكروشهم المنتفخة قبالة الأسئلة الساذجة في استثنائياتنا كمن يجلس على أرض زلزالية تبعث الطمأنينة إلى النفس.
***
وها أنت تعود اليوم مكتئبا وصامتا أيضا. متأبطا جرائدك اليومية الغارقة في الفظاعة. بكلمات مقتضبة تنهي الحوار بيننا. أجلس وحيدة لأتأمل التلفاز. يشد انتباهي خبر عاجل في قناة الجزيرة. قصف إسرائيلي على مدن غزة. عوائل بأسرها تحت الأنقاض. أغير القناة بسرعة إلى محطة أخرى تبث صور ما خلفته سيارة ملغمة انفجرت في سوق شعبي ببغداد. أغير القناة من جديد. أتخيل وجهك الكئيب الذي تعودت عليه. ستخرج من غرفتك بعد قليل كطفل مجروح لتجلس إلى جانبي. وككل مرة أحترم فيها حزنك أنتظر أن تكلمني: عن مديرك الذي يطاردك باستفزازاته وبتحرشاته الكلامية. ستقول: إنك ستبحث عن عمل آخر، وستستقيل من تلك الشركة البائسة، وإن لا شيء يمكن احتماله حين تبدو الكرامة مهددة. أعيد انتباهي إلى التلفاز. أهرب من جثث الأطفال وأتوقف عند محطة فضائية تختصر كل مآسينا التاريخية في شعارها "الحياة غنوة" لأجدني أصغي صامتة إلى المطربة وهي تردد "أطبطب وأدلع." أزيد من صوت التلفاز أكثر وأكثر وأكثر، وأنا أفكر في الكلمة التي سأقولها بمجرد أن تخرج من الغرفة نحوي: "طز فينا."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق