الأحد، 13 مايو 2012

تدريب النفس المسلمة على الصبر


تدريب النفس المسلمة على الصبر
إن الله مع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون ، أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
فالذي لا شك فيه أن تغيّراً ما طرأ على مخطط الأبحاث التي أردنا إلقاءها في هذه السلسلة من الخطب ، والخير فيما اختاره الله ، فلقد كنت في فواتح هذه الأحاديث وعدتكم بمواعيد ، أجدني الآن مضطراً إلى سحب معظمها ، فقد ينبغي أن أقول بصراحة : إن المناقشات التي أجريتها مع العديد من الإخوة حول عددٍ من القضايا التي بعثرتها أثناء هذه السلسلة من الأحاديث آلمتني وآذتني ، أما أنها آلمتني فللمستوى الذي أرغب أن يكون أفضل مما هو عليه ، وأما أنها آذتني فللأنني أخطأت الحساب ، لقد تبيّن لي أنني بحاجة إلى أن أبدأ مع الناس من الصفر في كثيرٍ من القضايا التي ظننت أنها تحلّ في مكان البداهة من عقول المسلمين ، ولكني أكرر : لقد أخطأت الحساب .
ولهذا فكما قلت والخير فيما اختاره الله قررت إدخال تعديلٍ حاسم على الخطة التي وعدتكم بها ، وأن أفرغ اليوم من هذه السلسلة وأنفض يدي منها وأن أستريح وأُريح على غير وعدٍ باللقاء مرةً ثانية . لكن الأمانة التي نحملها تفرض علينا أن نقول لكم اليوم كلاماً محدداً ، أعطوني أسماعكم وأعطوني قلوبكم ، أنا مضطر إلى أن أُكثّف ما أمكن هذا الذي أريد أن أقوله لكم .
خلصنا من أحاديثنا الماضية إلى عددٍ من الأمور ، ظني أنها نافعة إن شاء الله تعالى ، واليوم أحب ـ وقفزاً من فوق كل الاعتبارات ـ أحب أن أواجه معكم معضلة المسلمين ، مشكلة العمل الإسلامي كله ، بأسسها وبجذورها ، وأن أواجهها معكم مواجهة الرجال الذين لا يدفنون رؤوسهم في الرمال ولا يتغافلون عما يجري من حولهم في فضاء الله الواسع وكونه الفسيح . بغير مقدمات دعونا نواجه هذه الأسئلة : ماذا نريد ؟ وأية وسيلةٍ ينبغي أن نعدها لتحقيق ما نريد ؟ أولاً ماذا نريد ؟ ثانياً أية وسيلةٍ ينبغي إعدادها لمواجهة ما نريد ؟ ثالثاً ما هي النتائج التي تنتظرنا في الطريق ؟ رابعاً ما الموقف حيال هذه النتائج ؟ خامساً هل في سوابق العمل الإسلامي ما يمكن أن يضيء لنا آفاق المستقبل ولو بعض الشيء ؟ هذه الأسئلة ينبغي أن نواجهها بصراحة وبشجاعة ، ما الذي نريد ؟ لكل الناس أقول هذا الكلام ، للذين يتعاطفون معنا ، وللذين يتسقطون زلتنا أو يتصورون هذه الزلة ، لكل الذين يشتركون معنا في الطريق ، وأيضاً للذين لا يشتركون معنا في الطريق ، فالحق أن الأمة تحتشد بهامشٍ كبير من الناس لا تحل القضايا الإسلامية من اهتماماتهم المحل اللائق بها ، أيضاً لهؤلاء أوجه هذا الكلام وأسوق هذا الحديث : مَن لم يفتح اليوم عينيه فإن حوادث المستقبل القريب كفيلة بأن تفتح عينيه ، نحن نريد طبعاً الإسلام ، وهذا كلام أصبح لكثرة تكراره مبتذلاً ، ولا أريد أن أعطي هذه الإجابة الرخيصة لهذا السؤال الأساسي ، إنما أريد أن أفهم وأن تفهموا أي إسلام هذا الذي نريده ، أهو الإسلام المتقوقع داخل الغرف وبين الجدران وتحت الأقبية ؟ أم هو الإسلام المتطلّع إلى الكون الممتد في الزمان وفي المكان على سواء ؟ أهو الإسلام الذي نريده لنصلح به مدينة أو لنصلح به قطراً أم هو الإسلام الذي نحمله للناس مَن شاركنا فيه ومَن لم يشاركنا رسالة إنقاذ ورسالة تمدين ورسالة طمأنينةٍ وسلام ؟ قبل اليوم قلت : إنني حريص على أن أجسّم الغاية أمام أنظار الشباب ، وأن أضع المهمة بكاملها في مواجهتهم ، وأضعهم في مواجهتها ، ليكون لنا من الغاية الكبيرة ما يحفز الهمم وما يبتعث النشاط ويفجر الإمكانات ، واليوم أريد أن أضع أمامكم الصورة ، صورة الغاية التي لم تغب عن أعين المسلمين في أحلك الظروف منذ أن نبأ الله تعالى نبيه صلوات الله عليه وآله والنبي صلى الله عليه وسلم يعرف مكانه من الإنسانية ، ويعرف واجباته حيال هذه الإنسانية . كان يعلم أنه الرسول الخاتم إلى الناس عامة ، وأنه من فساد التصوّر أن يقتصر في تطلعاته على مكة أو المدينة أو الجزيرة العربية ، اهتماماته كانت أبعد من ذلك بكثير ، يوم كان العذاب ينصب على المسلمين بلاءً كاسحاً وعذاباً واصباً وينال المستضعفين وينال غير المستضعفين ، ويوم كانت الدعوة تُطارَد وتحارَب في جنبات مكة ليس لها مَن يعتنقها ومَن يؤمن بها إلا أفراد قلائل يُعدّون على أصابع اليدين كان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع بنظره وبهمته نحو الأفق المتراحب باستمرار .
كانوا يُعذَبون وهم بشر ينالهم من الضيق والألم ما ينال سائر البشر ، وقام رجل فقال : يا رسول الله ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ عذاب لا تقوم له الجبال ، جوٌ مظلم مكفهر ليس فيه بارقة أمل ، يا رسـول الله ، ألا تدعو الله لنا ألا تستنصر لنا ؟ ويجيب النبي الحكيم صلوات الله عليه بعد نظرةٍ حانية إلى هذه الجسوم المعذبة ، إلى هؤلاء الصفر المهازيل ، إلى هؤلاء النكرات الذين سيكونون بعد زمنٍ قليل قادة الدنيا وسادة الناس ، يقول لهم مثبتاً ومطمئناً وفاتحاً أبواب الأمل على رحبها : إن مَن كان قبلكم كان يؤتى به فيُربَط على شجرة ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيُشقّ نصفين ، وكان يمشط ما دون لحمه وعظمه بأمشاط الحديد ما يصده ذلك عن دين الله ، والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى الحيرة لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون . إن هذا الأمر سيتم ، هذه بشارة ، متى كانت ؟ هل كان في كل الحساب ما يشجع على إطلاقها هكذا بكل هذه الثقة وبكل هذه الطمأنينة إلى تحقيق وعد الله تبارك وتعالى ؟ لم يكن في الجو شيء يشير إلى قرب انفراج الأزمة وإلى قرب تحسن الأحوال ، ومع ذلك فالنبي عليه السلام يؤكد إتمام الله لهذا الأمر ، ويؤكد من ناحيةٍ أخرى أن سنة الله مع الدعاة مضت أن النصر يأتي في أعقاب الصبر ، وأن الصبر ليس كلاماً يقال ، ولكنه معاناة واحتمال ، وأن الاستعجال وتعجل الثمار وتعجل النصر ليس من شيم المؤمنين ولا من طباع المتقين .
كان الأصحاب ينظرون إلى مكة ، ويرغبون لو تنفرج الأحوال في مكة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتدّ بنظره في الآفاق . أيضاً حينما هاجر النبي صلى الله عليه وآله من مكة إلى المدينة هاجر الأصحاب مستخفين فارين بدينهم لائذين بالله تبارك وتعالى ، وخرج النبي عليه السلام مستخفياً كذلك كما تعلمون ، أرصدت قريش رصدها في الطريق ووضعت الجوائز وبثّت العيون والأرصاد وألقت الجواسيس في كل مكان تتعقب النبي صلى الله عليه وسلم تريد أخذه حياً أو ميتاً .. في هذه الأثناء وحين كان النبي صلى الله عليه وسلم يمضي في طريقه إلى المدينة أدركه طلب قريش ، أدركه سراقة بن جعشم طامعاً في الجائزة راغباً ومصمماً على أخذ النبي صلى الله عليه وسلم وإعادته إلى قريش ، وكان ما كان ، وحين أمّن النبي صلى الله عليه وسلم سراقة هذا استدناه ، وقال له : يا سراقة كيف بك إذا لبستَ سواري كسرى ؟ استغرب الرجل وقال : يا رسول الله كسرى بن هرمز ؟ قال : نعم كسرى بن هرمز . مَن الذي يقول هذا الكلام ؟ رجلٌ مطارد تثور من حوله عواصف الرمال فتتجاوب معها عواصف قلوب قلوب الأعداء ، وتطلبه تحت كل كوكب لتفتك به ، لم يستقر بعدُ في المدينة ، وأصحابه ما زالوا قلة ، ومع ذلك يُطلق هذه البشارة الخطيرة : كيف بك إذا لبستَ سواري كسرى ؟ أين هذا الكلام من واقع الحال ؟ لو أن رجلاً قاله غير محمد صلى الله عليه وسلم لرُمي بجنون واتهم بالتخريف ، ولكنه محمد صلوات الله وسـلامه عليه . وتمضي الأيام تتبعها السنون ويختار الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى دار كرامته ، ويقوم أبو بكر ويختاره الله إلى جواره ، ويقوم عمر وتُبعث البعوث إلى العراق لتدك ملك كسرى وتأتي أسلاف العرش الكسروي إلى المدينة بعد أن تم افتتاح المدائن ، وينظر عمر أمير المؤمنين فيلمح سواري كسرى ، تدمع عيناه بالبشريات التي قيلت في أحلك الظروف ، وتدمع عيناه لما هو أهم ، لتلك الرفقة الطويلة مع محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، كيف كان يقود ؟ وكيف كان يسوس ؟ وأية ثقة تلك التي يملكها ذلك الإنسـان ؟ فينادي في الناس : أفيكم سراقة ؟ يقولون : نعم ، ها أنا ذا يا أمير المؤمنين ، يقول عمر : تعال فالبس سواري كسرى تحقيقاً لموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأتي الرجل يرفع يديه ويلبس سواري ثاني عائلين في العالم القديم على الإطلاق ، ويقول : الحمد لله الذي سلبهما كسرى وألبسهما سراقة بن جعثم أعرابياً من بني لعرج . كيف يكون هذا ؟ كيف يتحقق لو لم يكن الرسول صلى الله عليه وآله واثقاً أعظم الثقة بوعد الله تبارك وتعالى وبأن الله الذي اختاره للرسالة واختار هذه الأمة لحمل هذه الأمانة لن يضيّع هذه الرسالة ولن يضيّع هذه الأمة ما حملت هذه الرسالة ؟
أيضاً ، بعد أن استقر المسلمون في المدينة واشتد كلَب قريش ومَن حولهم من الأعراب ، وحاولوا الانقضاض على المدينة للفتك بالمسلمين والخلاص منهم مرةً واحدة ، كان ما يُعرَف بغزوة الأحزاب ، وبإشارةٍ من سلمان رضي الله عنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة ، نوع من التحصين ، وبينما المسلمون يدأبون ويجهدون في عملهم هذا اعترضتهم صخرة ، حاولوا كسرها وتفتيتها فما أفلحوا ، فجاءوا يبسطون أمرها للنبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا له : يا رسول الله قد أكلت المعاول ، فأخذ معولاً ونزل في الخندق وضرب الصخرة للمرة الأولى فتتطاير بعضها وتتطاير معه شرر ، فصاح : الله أكبر فُتحت فارس ، ثم ضربها الثانية فانكسرت وتتطاير منها شرر ، وقال : الله أكبر فُتحت الشام ، ثم ضربها الثالثة فتفتت وتطاير منها الشرر ، فصاح : الله أكبر فُتحت مصر . في أي موقف كان هذا الكلام ؟ كان المسلمون محصورين ، وكان المنافقون يُرجفون في المدينة أن الإسلام قد قُضي عليه ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ) كما قص الله جلّ وعلا في سورة الأحزاب ، ومتى ؟ في وقتٍ اشتدت فيه الحال وتأزم الموقف ، ورأى المسلمون أنهم يكادون يُتخطفون من أرضهم ( وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون ، هنالك ابتُلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً ) في ذلك الموقف الذي يسخر بعض المنافقين فيه حينما رأى هذا المنظر ، فيقول : ما يفعل هذا الرجل ؟ أهذا محمد يعدنا بفتح العراق والشام ومصر وسائر بلاد الدنيا وأحدنا يريد أن يبول فلا يسجر على الخروج من بيته لشدة الهول وعظم الخوف ؟ مع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعد بهذه المواعيد ، هل كانت مواعيده تنصب على المدينة كي يفك عنها طوق الحصار ويُفرّج عن المسلمين ؟ لا ، ولكنها تذهب إلى ما هو أبعد ، تذهب لتشمل الدنيا كلها ، تذهب لتؤكد أن هذا الركب الذي سار لن يتوقف ، وأن هذه الرسالة لن تتعطل أبداً .
أيضاً في حديثٍ ممتع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عديّ بن حاتم رضي الله عنه حين وفادته إلى رسول الله مسلماً ، قال له النبي صلى الله على وسلم : يا عديّ بن حاتم أقدمت الحيرة ؟ قال : لا يا رسـول الله ولكني سمعت بها . قال له : فليوشكن والله أن تسير الظعينة من هنا إلى الحيرة لا تخاف أحداً إلا الله . الظعينة هي المرأة التي تركب على ظهر البعير في هودجها ، تسير وحدها من المدينة إلى الحيرة فلا تخاف أحداً إلا الله . يا عديّ بن حاتم لعلك ترى أن المسلمين فيهم ضعف ، فأكدّ له أن القوة ستأتي . يا عديّ بن حاتم لعلك ترى في المسلمين قلةً في المال ، والله لتفتحن كنوز فارس وقيصر ولتنفقنهما في سبيل الله تعالى . يقول عديٍ بعد حين : فنحن والله فتحنا فارس وفتحنا الشام وأنفقنا كنوز الدولتين في سبيل الله تعالى ، وهذه الظعينة تسير من هنا إلى الحيرة لا تخاف أحداً ، ووعد آخر لا يشك عديٌ رضي الله عنه في أنه كائن وهو ما قال له النبي عليه السلام : وليفيضنّ المال حتى إن الرجل ليطوف بصدقته على الناس لا يجد أحداً يقبلها منه ، يقول له : لو جئتَني البارحة لأخذتها منك ، أما اليوم فقد كوفيت . لا يشك عدي في أن هذا أيضاً كائن .
ما الذي أريده من هذه الوقائع التي حرصت أن أضعها أمام أنظاركم ؟ أريد أن تتراحب آفاقكم وأن تتسع نظرتكم ، وأن تعلموا أن عند الله من الفرج والأمل ما لا تبلغه قواكم ولا تبلغه عقولكم . والمهم الأساسي أن الرجل المسلم عليه أن يعرف أية رسالة يحمل ، وعليه أن يبتعث في صدره وفي قلبه من الهمة ما يكافئ هذه الرسالة وما يقوم لها ، أما حينما نشغل أنفسنا في الاهتمامات الصغيرة وبالقضايا القريبة فلا يمكن أن نعطي أية نتيجة . إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرسل إلى الناس كافة ، وأنتم خلفاء محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وكما كان هو عليه السلام رسولاً إلى الإنسانية ، فأنتم أيضاً رُسلُ رسول الله إلى الإنسانية أيضاً ، فاجعلوا نظركم يتسع لهذا الأمر .
واعلموا أن الإنسان حينما يستهدف لأداء رسالةٍِ عظيمة تشمل الكرة الأرضية كلها لا بد له من أن يسأل : ما الذي ينتظرنا ونحن نريد أن نؤدي هذه الرسالة ؟ الذي ينتظرنا دون شك عنف وشراسة وعداء ومطاردة ، وأنا أحب أن تضعوا هذا كله أمام أنظاركم من البداية ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة ) وليعرف كل أحد مخاطر الطريق ومشقات الطريق ، هذا الإسلام واسع بسعة الدنيا ، وما دام هذا الإسلام واسعاً وما دام هذا الإسلام ينتظم شؤون الفرد والجماعة ابتداءً من خبزه اليومي وانتهاءً بأعلى أشواقه الروحية .. فلا بد أن نعلم أن كل إطارٍ للعمل ينسج على منوال الحزبيات ويأخذ بطرائق الناس المتعارفة اليوم فمصيره الفشل ، إن هذه الأطر أضيق من أن تتحمل الإسلام ، أضيق من أن تستوعب الإسلام ، أضيق من أن تضم الإسلام ، إطار الإسلام أوسع من هذا عموماً . ولقد أذكر الآن أنني خلال الأسبوع الماضي تحدثت إلى بعض الإخوة وتساءلت ، حينما جاءت الرسالة على رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كوّن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزباً ؟ لا ، إن رسول الله لم ينشئ حزباً ، ولكنه أنشأ رابطة ، وبين الحزب والرابطة فرق يعرفه أولو الألباب ، في الحزب دعاوى وترهات وإطار ضيق ومجال للمناورات ، في الحزب دعاوى عريضة لا يقوم لها إلا الذين سفهوا أنفسهم ولم يحترموا الناس ولم يحترموا عقولهم ، ادّعاء بأن الحزب رائد وبأن الحزب قائد وبأن له أن يفكر عن الأمة وأن ينوب عن الأمة وأن يقرر نيابةً عن الأمة ، في الرابطة مجموعة من الناس تتكافأ حقوقها وتتكافأ واجباتها وتُلغى فيها كل هذه الادعاءات الفارغة . فالنبي عليه الصلاة والسلام ما أنشأ حزباً ، ولكنه أنشأ رابطة ، وحينما نريد أن نحشر العمل الإسلامي في أطر الحزبية فنحن في الواقع نغامر بالعمل الإسلامي كله ، إن العمل الإسلامي لا يعرف حزبية ولا يعرف سرية ولا يعرف قوقعة لأنه شمس الله تعالى التي تضيء على الناس قاطبة ، ومَن ذا الذي يستطيع أن يخفي الشمس في إطارٍ صغير ، إن هذا الإسلام يتطلب منا ونحن نواجه الدنيا بهذا النظر الواسع أن نستعد لإعلانه ، وكما ذكرت لكم في الجمعة الماضية في ضوء مواقف الأنبياء عليهم السلام ، كانت مواقف أولو العزم من الرسل تنحصر في شيئين : البلاغ والثبات ، يبلغون الأمر إلى الناس بلاغاً واضحاً صريحاً شجاعاً ويثبتون في الميدان ( ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ) ذلك هو موقف الأنبياء المرسلين أولي العزم ، وهو موقف نبينا صلى الله عليه وسلم ، لا بد لنا من أن نلاقي صعوبات ، الذين يظنون أن الإسلام يمكن أن يتحقق ويمكن أن تكون له دولة ويمكن أن يبلّغ الإنسانية رسالته بالكلام الفارغ وبالهراء الذي لا معنى له وبالأماني الباطلة واهمون وجناة ، جناة على أنفسهم وجناة على الأمة ، لا بد أن نستعد لهذه المواجهة ، وهذه المواجهة تتطلب منا ماذا ؟ الصبر ، والصبر الذي تطلبه منا المواجهة ليس صبر العاجزين ولا صبر الخانعين ولا صبر الناس الأذلة ، وإنما هو صبر الرجال الذين يعرفون ماذا يريدون من الصبر ؟ هذه الشخصية الإنسانية اكتسبت خلائقها وعاداتها وأطوارها مع مرِّ السنين ترسبات نقطة وراء نقطة وحدث في إثر حدث كونت عاداتنا وكونت تقاليدنا وكونت معتقداتنا وكونت الإطار الفكري الذي نتحرك ضمنه ، لا بد لنا حين نحاول التغيير أن نسأل أنفسنا قبل المحاولة : هذا المجتمع الذي أعيش فيه ، هل هو ملائم للصورة التي أحملها عن المجتمع الأمثل أم غير ملائم ؟ هذا المجتمع الذي أضطرب فيه ، شروطه القائمة هل تساعدني أم لا تساعدني ؟ هذا الهواء هذا المناخ هل يساعدني على التنفس الحر أم هو يكاد يخنقني ؟ هذه النظم هل تساعد مواهبي على الانطلاق هل هي تدمرني بالفعل ؟ إن كان الجواب أن هذه الشروط كلها مساعدة وملائمة فإن الموقف هين ، الموقف حينئذٍ ينحصر في مراقبة الأجهزة لا أكثر ولا أقل ، كلما حاول جهاز من الأجهزة أن ينحرف قوّمناه ، ولكن نحن كمسلمين نعيش مجتمع اليوم مَن منا يجرأ على أن يقول : إن الجو الذي نتنفسه غير مسموم ، وإن الشروط التي نعيشها شروط معادية للإسلام ، وإن الأوضاع التي نتقلّب فيها أوضاع تدمر المسلمين ؟ مَن الذي يجرأ على أن يقول غير هذا القول ؟ إذاً فنحن نض أسس المجتمع لا موضع التساؤل ، وإنما موضع الاتهام وموضع الرفض ، من هنا نبدأ فنكون خارجين على القانون ، فهمتم ؟ خارجون على القانون ، والنبي عليه السلام وكل نبيٍ جاء من قبله كان في حينه خارجاً على القانون ، ويجب ألا تخيفنا هذه الكلمة ، بل يجب أن نعتقد أنها وسام شرف نعلقه على صدورنا ، إننا لا نقبل بجملة الأسس التي يقوم عليها مجتمع المسلمين ، بل نطلب تغيير هذه الأسس .
هذه الزمر المستفيدة من هذه الشروط الفاسدة والأوضاع المخربة المدمرة أتراها تسلّم لنا عن طواعيةٍ واختيار ؟ إن التاريخ لم يسجل أبداً حدثاً واحداً جاء عن طواعيةٍ واختيار ، كل وضعٍ اجتماعي يخلق معه زمرة من المستفيدين منه ، هذه الزمرة سوف تظل حتى آخر نفَس تدافع عن مكتساباتها . ما دام الأمر كذلك فالمواجهة العلنية الحرة الصريحة تقتضي تعاملاً واحتكاكاً مع مراكز القوى في المجتمع ، قد تكون مراكز القوى سلطة وقد لا تكون ، هذا غير مهم ، فإن المجتمع المكي لم يكن سلطة ، وإنما كان مجموعة أعراف ومجموعة تقاليد ، ومع ذلك وقع الاحتكاك بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، لا بد من الاحتكاك .
هذا الاحتكاك ما هو موقفنا تجاهه ؟ نحن بين أمرين ، افتحوا عقولكم وقلوبكم يا إخوة ، نحن بين أمرين ، إما أن نأذن لأنفسنا بأن نندفع مع الاستجابة الأولية فنقابل العنفوان بالعنفوان والشراسة بالشراسة ، وإما أن نحاول الصبر ، وحين نندفع بدون إعداد وبلا تربية وبلا تهذيب فنحن ندمر أنفسنا وندمر مجتمعنا النظامي ، وهذا هو ما عنيته في الخطبة قبل الماضية حينما قلت وأنا أعرض التربة التي نشأ فيها العنف : نحن نرى أن ثمة ميدانين في مرحلة الدعوة يجب أن نركز عليهما ، الميدان الأول شخصيٌ وذاتي ، داخل النفس ، والميدان الثاني خارجيٌ وموضوعي وهو داخل المجتمع ، وأن العمل بينهما لا بد أن يكون متفاعلاً ، لكنا نعطي الأولوية المطلقة للميدان الأولي ، فدون أن نهذب أنفسنا وأن نقيمها على الجادة وأن نحدد لها موقفاً يتجاوب مع ضخامة الرسالة لا يمكن لنا أن نؤدي أية ثمرة ، وأحدد كي لا تذهب الأوهام بعيداً ، أن أتحدث عـن مرحلة دعوة ، أتحدث عن مرحلة دعوة ، يجب أن يكون هذا واضحاً ، في مرحلة الدعوة لا بد من المعاناة ، كيف تأتي بالتبر المختلط بالتراب وسائر الفلزات الأخرى ، لا بد لك أن تعرضه على النار وأن تذيبه حتى تستخلص منه الذهب ، هذه النفوس مطلوب منها أن تواجه الدنيا فكيف تواجه الدنيا وهي تعجز عن مواجهة ذاتها ؟ إن أول نصر يجب أن يتحقق هو النصر داخل الذات ، لا بد من الصبر الطويل والمعاناة الطويلة حتى تنصهر النفوس علـى نار الواقع ، وحتى تتقلب على الجمر ، لكي تستعد لمقابلة العظائم .
أما الرجل الذي يأتيك من الطريق يحمل كل عقد المجتمع وكل سوءات المجتمع فأنت لا تستطيع أن تضعه في مقدمة الصفوف ، إن هذا لا بد أن يكون خاضعاً للاستجابات الشخصية ، تصوّروا حتى أتقانا ـ مع الأسف ـ حتى أعرفنا بحقائق الإسلام ـ مع الأسف ومع الحزن ـ لو خرجنا من المسجد وتخففنا من الجو العاطفي الموجود هنا وصادفنا إنسان على باب المسجد فشتمنا وآذانا ، غالباً نردُ الشتيمة ونرد الإيذاء وقد نخلع الحذاء ، قد ، ربما ، أكذلك خُلق الإسلام ؟ أكذلك فعل الملسمين ؟ انقل المسألة إلى ميدان الدعوة ، حينما تنقل المسألة كلها إلى ميدان الدعوة ، وأنت تدعو فيلاقيك خصمك بالأذى يشتمك أو يضربك أو يحبسك أو أو .. حينما تفعل هذا ما الذي يكون ؟ ماذا سوف تفعل ؟ إنك إن رددت شتيمة بشتيمة فإنما انتصرتَ لنفسك ، وجعلت غريزةً في مقابل غريزة وذاتاً في مقابل ذات ودفعتَ قضية الإسلام إلى الخلف ، لا بد لنا أن نتعمل كيف نصبر على العدوان وكيف نصبر على الأذى وكيف نصبر على كل السيئات حتى نعدّ أنفسنا لمقابلة ومواجهة جلائل الأعمال .
ارجعوا الآن بأذهانكم ، ارجعوا بأذهانكم إلى الوراء يوم كنا نعرض عليكم السور الأربعة من القرآن الكريم التي نزلت أول ما نزل من القرآن الكريم ، ما هي أول سورة ؟ أليست سورة العلق ؟ ماذا يقول الله تعالى في سورة العلق وهي أول سورةٍ نزلت على رسول الله يقول : ( أرأيت الذي ينهى ، عبداً إذا صلى ، أرأيت إن كان على الهدى ، أو أمر بالتقوى ، ألم يعلم بأن الله يرى ، كلا لئن لم ينتهِ لنسفعاً بالناصية ، ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئة ، فليدعُ ناديه ، سندعو الزبانية ، كلا لا تطعه ، واسجد واقترب ) ينصب الكلام على قطبين في العمل ، القطب الأول قطب التمسـك بهذا الذي جاء من عند الله تمسكاً صريحاً لا مواربة فيه ولا استحياء ، وما الذي يجعل المسلم يستحي من إسلامه ؟ وما الذي يجعل المسلم يخاف من إسلامه ؟ أفي الإسلام عيب يُستحى منه ؟ لا ، أفي الإسلام خطر يخشاه الإسلام ؟ لا ، إن أهم ما يحرص عليه الإنسان اثنان ، الروح والمال ، الروح والرزق ، أما الروح فالله يقول لكم إن كنتم مؤمنين ( فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون ) لا يمكن لبشرٍ أن ينتزع روحك من بين جنبيك إلا بإذن الله في الساعة المقدورة عليك من الأزل ، وأما الرزق فثق يا أخي أن أحداً لا يمكن أن يأكل لقمتك أبداً ؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : نفث في روعي الروح الأمين جبريل عليه السلام أنه لن تموت نفس حتى تستوفي آخر قسطٍ لها من الرزق ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب . إذاً فلماذا الخوف ولماذا الحياء ؟ الإسلام علانية لا خفاء ولا شيئاً من ذلك مما هو قريب من الخفاء ، فإعلانه أولاً والثبات عليه وعدم إطاعة ذلك وترك الأمر بعد ذلك لله ( كلا لا تطعه واسجد واقترب ) .
السورة الثانية سورة القلم ( ن والقلم وما يسطرون ) كذلك فإن الله تبارك وتعالى يأمر فيها نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يصبر ، ويضرب له المثل بصاحب الحوت يونس عليه السلام الذي أخذه الضيق من أكلاف الرسالة ، فيقول له ( فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم ، لولا أن تداركه نعمة من ربه لنُبذ بالعراء وهو مذموم ) .
السورة الثالثة سورة المزمل أليس كذلك ؟ سورة المنزمل سورة عجيبة ، يفتتحها الله تعالى باستنهاض همة رسوله عليه الصلاة والسلام ( يا أيها المزمل ، قم الليل إلا قليلاً ، نصفه أو انقص منه قليلاً ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً ) كل هذا الاستنهاض مؤسس على ماذا ؟ ( إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً ) فمؤسس على ثقل الرسالة ، إننا نحمل اليوم على أكتافنا أضخم مهمة وأعظم قضية ، وما لم نستعد لها بما يكافئ تكاليفها وأعباءها فسنفشل في أدائها .
وأما السورة الرابعة فهي سورة المدثر وهي سورة الإنذار وسـورة البلاغ ( يا أيها المدثر ، قم فأنذر ، وربك فكبر ، وثيابك فطهر ، والرجز فاهجر ، ولا تمنن تستكثر ، ولربك فاصبر ) أوائل الدعوة حوت هذه السورة التي وُضّحت فيها توضيحاً لا يلتقي أن طريق الدعوة طريق مفروش بالشوق ، طريق مفروش بالدماء ، طريق مفروش بالدموع ، ولكنها الضريبة التي لا بد من أدائها ، مَن أراد الإسلام فليعد له الثمن ، ومن كان عاجزاً عن أداء الثمن فليتنحى ، ليقف جانباً ، لا مكان له في الركب ، إن الركب الذي يمضي لا بد أن يكون مسلحاً بمثل هذا السلاح الذي ذكرناه لكم ، صبر طويل والمعاناة الشاقة وحمل النفس على ما تكره . لقد كان المسلمون يا إخوتي ويا أحبابي كذلك ، صبروا ، وصبر سيد الصابرين محمد صلوات الله وسـلامه عليه ، وكان يرعى خلائق الصبر هذه بنفسه ، كلما وجد أن بعض أصحابه تكاد أعصابه تنفلت من بين يديه ويفقد السيطرة على نفسه يكفكف من غربه ويرده إلى القاعدة التي لا بد أن يقف فيها . ثلاثة عشر سنة مرت عجافاً قاسية في مكة ، والمسلمون يلقون البلاء ، والله جلّ وعلا يأبى أن يأذن لهم برد العدوان ، وسنتان في المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول للمسلمين : لم يؤذن لنا بقتال . مع أنهم كانوا أسياد الموقف وكانوا يملكون تأديب المخالفين ، حتى نزل قول الله تعالى ( أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) فاستعمل المسلمون سلاحهم لرد العدوان ولتمهيد الطريق أمام دعوة الله تبارك وتعالى .
أي عقل يمكن أن يُهدر هذه المدة ؟ خمسة عشر عاماً كوامل عجافاً قاسية مُرة ، كان البلاء ينصب فيها على المسلمين انصباب المطر فلا يرفعون يداً لرد العدوان ، أي عقل يمكن أن يهدر هذه المدة ويقول : مضت هذه المدة بلا فائدة ؟ فالصبر كان لغاية ، وكانت الغاية تذليل هذه النفوس ، لا بد لنا أولاً أن نذلل هذه النفوس حتى تستقيم على أمر الله ، وحينما يقال لها : افعلي تفعل ، وحينما يقال لها : لا تفعلي لن تفعل شيئاً على الإطلاق ، لا بد أن نصبر من أجل ماذا ؟ من أجل أن نُكوَّن تكويناً جيداً ، من أجل أن نتأقلم كما يقال اليوم مع معطيات الشـريعة ، بعض الناس يتصور من جراء القالة الخبيثة أن الإسلام يصلح لكل زمانٍ ومكان ، يتصور بوحي هذه القالة الموهمة أن الإسلام يمكن أن يماشي التطورات التي تنجم كما تنجم رؤوس الشياطين دون أن تكون نابعةً عن تفكير ولا عن تقدير ، يمكن أن يماشيها ، وأنه يمكن لنا نحن المسلمين أن نلوي أعناق النصوص لياً لكي تساير الأوضاع الظالمة الجائرة ، نقول : لا ، لا في الأوضاع نقبل شيئاً كهذا ولا في واقع النفس نقبل شيئاً كهذا .
تعالوا نسأل علماء المسلمين ، نحن نجد الإمام الشاطبي رحمة الله عليه يقول في كتابه ( الموافقات ) وهو من الكتب الشهيرة التي تبحث في أصول الشريعة : إن القصد من الشرع ـ يعني من الإسلام ـ أن يجعل الإنسان عبداً لله اختياراً كما هو عبد لله اضطراراً . سأترجم لكم هذا الكلام ، الإنسان عبد لله شاء أم أبى ، كافراً كان أم مؤمناً ، هو عبد لله ، وآية ذلك أنه تحت قهر الله وتحت سلطان الله تبارك وتعالى ، رزقه وأجله وما يصبيه من حوادث لا يملك أن يقررها هو بتاتاً ، وإنما يقررها الواحد الأحد ، فهو من هذه الناحية عبد لله اضطراراً أي رغماً عنه تحت قهر الإرادة الكونية الماضية على البر والفاجر وعلى المسلم والكافر سواء ، لكن الإسلام لا يريد أن ينشئ ناساً يطيعون الله تحت السوط وتحت الإرهاب وبعامل الذلة والخنوع والخوف ، إنما يريد أناساً يطيعون الله اختياراً أي أنهم يجدون الروح والريحان في أوامر الله تبارك وتعالى ، فوظيفة الصبر تمرين النفس الإنسانية على أن تجد برأها وشفاءها وراحتها في تنفيذ أوامر الله تبارك وتعالى ، ألم تسمعوا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان إذا حزبه أمر ، أي إذا اشتد عليه أمر من الأمور ، صلى ، يجد الفرج أين ؟ في الصلاة ، لا في التسلية ولا في حفلات الرقص ولا في الموسيقى ولا في المسيرات ، وإنما في الصلاة . ألم تسمعوا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان إذا اشتدت الأمور وادلهمت الكؤوب يقول : أرحنا بها يا بلال . بماذا ؟ أرحنا بالصلاة . فتنفيذ أمر الله يحمل الراحة والروح والتسليم ، تنفيذ أمر الله تبارك وتعالى يكون كذلك مع نفوسٍ ذُللت لطاعة الله جلّ وعلا ، وبهذا فنحن نجد أن من ثمرات الصبر الطويل الذي صبره المسلمون أنهم كانوا أسرع الناس إلى تنفيذ أمر الله ، معلوم لديكم أن الدعوة عاشت عشر سنوات في المدينة ، كانت الأوامر تتنزل فيها ، وكلما قال الله : افعلوا ، فعل المسلمون ، وكلما قال الله : انتهوا ، انتهى المسلمون ، لماذا ؟ لأن النفوس هذه رُبّيت على طاعة الله تبارك وتعالى حتى أصبحت الطاعة هي راحتها ، بل هي جبلتها وسجيتها ، فنحن نريد بالتكوين هذا الجو النفسي والعقلي والروحي الذي يجعل الإنسان المسلم يسير مع أمر الله راضياً مطمئناً إلى سلامة النتائج ، وهذا لن يأتي بغير ثمن ، لا بد من بدل الثمن ، والثمن هو هذا الصبر الطويل .
هل حصل بين المسلمين من نتائج هذا الصبر ما يسمح لنا بأن نستبشر ؟ نقول : نعم . ونستنطق الحوادث ونستلهم العبر التاريخية ، هذا لتعلموا أن الصبر ليس صبر الأذلة ، وإنما هو صبر الناس الذين يصبرون على حوادث الدهر ليأخذوا الدرس والعبرة . أخرج الحاكم عن القاسم بن محمد رحمه الله قال : رُمي عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنه بسهم في حصار الطائف ، حصار الطائف كان بعد انصراف النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين عام الفتح ، أي في السنة الثامنة من الهجرة ، والرجل جريح ، ومعلوم السـهام كانت تصيب الجسم وتقع فيه ، والجريح يتناول السهم ويضعه في جيبه ، قال : فانتقضت به جراحته بعد أربعين ليلة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات ، السهم محفوظ عند أبي بكر ، فقدم وفد ثقيف وهم أهل الطائف على أبي بكر ، فأُخرج له السهم ، فقال : هل فيكم من أحدٍ يعرف هذا السهم ؟ قال أحدهم : أنا يا أمير المؤمنين ، هذا السهم أن بريته ورِشته وعقّبته ، أي وضعت عليه عقباً ، وأنا رميت به . فنظر إليه أبو بكر باسماً وقال : هذا السهم الذي قتل عبدالله بن أبي بكر ، فالحمد لله الذي أكرمه بيدك ، ولم يهنك بيده . انظروا .. أي إنسانٍ هذا ؟ ابنه هو القتيل ، يحمد الله تعالى أن الله أكرمه بيد هذا المسلم ، وأن الله لم يهن المسلم بيد ابنه عبدالله ، لو أن عبدالله قتله في ذلك الحين لقتله كافراً ولدخل النار ، ولكنه قُتل فذهب شهيداً ، ورحمة الله أدركت القاتل فدخل في الإسلام ، فوسعت رحمة الله الناس جميعاً .
حينما توفي عبدالله هذا دخل أبو بكر على عائشة أم المؤمنين فقال : أي بُنيّة ، والله لكأنما أُخذ بأذن شاة فأُخرجت من دارنا ، حينما خرجت جنازة الولد كأنما أُخذ بأذن شاة فأُخرجت من دارنا ، قالت : يا أبتي الحمدلله الذي ربط على قلبك وعزم لك على رشدك . إن الصبر هو الذي ذلل أبا بكر حتى جعله يحمد الله جلّ وعلا على أن مات ابنه شهيداً وعلى أن أسلم القاتل أيضاً ، ووسع الجميع حمى الإسلام .
أيضاً أخرج ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل متوكئاً على كتف عبدالرحمن بن عوف وابنه الوحيد إبراهيم يجود بنفسه ، أي في النزع ، قال فلما مات بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عبد الرحمن بن عوف : أي رسول الله إنك كنتَ تنهى عن هذا ، وإنه إذا رآك المسلمون تبكي يبكون ، فلما قلصت عبرة من النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا عبد الرحمن إنما هذه رحمة وإن مَن لا يرحم لا يُرحم ، يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول ما يُسخط الرب جلّ وعلا . فالصبر انصبّ على نفسٍ تحس وتتألم وتشعر ، تحسُ ألم المصاب ووقع الفجيعة ، ولكنها لا تقول شـيئاً يسخط الله ولا تفعل شيئاً يسخط الله جلّ وعلا ، وإنما هو الرضى والتسليم .
كذلك أخرج الطبراني والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : حين استشهد الحمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم ، جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوقف على منظر لم يُرَ منظر أوجع لقلب النبي ، رأى حمه الحمزة وقد مُثل به ، ورأى منظراً هائلاً ، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما وقفت موقفاً أغيظ عليّ من هذا الموقف . ثم قال : لله علي لأمثلن بسبعين منهم . في ذلك الموقف الذي استجاش الشعور الإنساني كله ، العم الكريم الذي حمى والذي دافع والذي بذل والذي نصر ممثّل به ، ومن حوله سبعون من الأصحاب تلك النبتات الطيبة الطاهرة الكريمة التي تعب عليها محمد صلى الله عليه وسلم تعباً هائلاً ، مجدلة على الأرض ، أي قلبٍ لا يتفطر لمنظرٍ كهذا ؟ أي قلب ؟ مع ذلك فقانون الإسلام غير قانون العواطف البشرية ، ليست المسألة أن نثور ، وإنما المسألة أن نصبر ، إن الوحي لم يمهل رسول الله حتى في هذا الموقف العصيب ، جاءه جبريل يقرأ عليه قول الله تبارك وتعالى ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تأسى عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون ) فكفر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه ، ولم يقف بعدها موقفاً إلا وهو ينهى عن المثلى ، يعني التمثيل بجثث الأموات .
انقلوا أنفسكم شيئاً ما من هذه المعركة ، معركة أحد ، مَن الذي كان العنصر الأساسي في قلب موازين المعركة ؟ من ؟ خالد بن الوليد ، خالد بن الوليد هو الذي كرّ بخيله على جيش المسلمين ، على الرماة ، فشتتهم وفتك بهم وأغار على المسلمين فأوقع بهم الكسرة الفظيعة ، خالد هذا تمضي الأيام وقُبيل فتح مكة يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم ، خالد بطل المعركة التي قُتل فيها الحمزة ، بطل المعركة التي نُكل فيها بالمسلمين ، بطل المعركة التي حلّت بها الكسرة على المسلمين ، يأتي ليسلم ، يقول خالد في روايته كما رواها ابن كثير في البداية وفي النهاية ، يقول : فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم بشّ في وجهي وابتسم ، فلما دنوت قال : يا خالد قد كنت أعرف لك عقلاً ، وأنا أظن أن عقلك لن يبعد بك عن الإسلام . يا أرباب العقول ، افهموا هذا الكلام ، إن أرباب العقول يعرفون أن هذا الدين لا يمكن أن يقف في وجهه أي تفكيرٍ بشري على الإطلاق ، إن التفكير البشري في مواجهة هذا الدين هراء وسخف ، لا يصح أن يقف الإنسان عنده ، فتلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا عتاب ولا عقاب ولا وضع في إطار الحزب كي نجعله نصيراً ، ولا وضع له تحت الاختبار ، وإنما تولية له بصورةٍ مباشرة ، ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المعارك وسماه من تلك الساعة سيف الله جلّ وعلا ، أين ذهبت الآلام وأين ذهبت الدماء وأين ذهبت الدموع ؟ نحن لا ثأر لنا مع الناس ، أبداً ، إن تصوّر أحد أن الإسلام يمكن أن ينمو ويمكن أن يزكو مع بروز عوامل الثأر ومع بروز نوازع الشـخصية فهو واهن بل هو مخطئ بل هو مجرم ، إن الإسلام لا يريد دماء الناس ، ولكن يريد قلوب الناس ، وكل ذي قلب وكل ذي عقل مع المراوضة ومع المثابرة ومع مثابرة الدعاة على دعوتهم ومع نفض الغبار عنها وإخراجها من الأقبية وتعريضها لنور الشـمس والصبر على تكاليفها يتنزّل نصر الله ويأتي الفتح . أما إذا أردنا أن نتقوقع وأن نسيء الظن بالمجتمع ونسيء الظن بالناس فلن نفعل شيئاً على الإطلاق .
طيب تعالوا نحاكم المسألة بصراحة ، إن المجتمع الذي نعيش فيه مجتمع شارد مغفل مغرر به ، وعلى مقدار ما ننام سوف يستمر التغرير ويستمر الاستغفال ، وحين نصحوا تنتهي هذه المسألة ، وصحوتنا تتمثل في إعلان ديننا وإعلان ثباتنا وصبرنا على ديننا وعدم المساومة في ذلك ، وليكن بعد ذلك ما يكون ، الثمن لا بد من دفعه شـئنا أم أبينا أردنا أم لم نرد أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا ، لا بد من أن ندفع الثمن ، وهذا الثمن جزء متمم من بناء الشخصية التي ستؤهل لحمل رسالة الإسلام ، والذي يتصور أنه يمكن أن يحرق المراحل وأن يقفز من فوق الآلام والعذاب فهو مخطئ ، لا بد من الاكتواء بنار الألم والعذاب ، فنحن حينما نخاصم لا نخاصم الأشخاص كما قلت سابقاً ، إنما نخاصم الوقائع ، وعملنا يهدف إلى تغيير الشروط الاجتماعية التي ولدت وسببت انحرافات الناس ، حينما نلغي هذه الشروط نجعل الناس يقفون أمام الحقيقة وجهاً لوجه .
يا إخواننا يا شبابنا يا أحبابنا .. هذا ما أردت أن أودّع به هذا الموقف ، أمانة أحملها من عنقي لأضعها في عنق كل عاقلٍ منكم ، هذا الإسلام أمانة الله عندنا ، وهو أمانة غالية أغلى من الروح وأغلى من الدم وأغلى من المال وأغلى الوقت ، وهذه الأمانة لها مقتضياتها ولها الجو النفسي والروحي والشعوري الذي تتحرك فيه ، ونحن لنا من سوابق التاريخ ، تاريخنا الناصع النضير ما يعيننا على أن نتنفس في جوٍ أرحب وأمتع وأسلم من هذا الجو الذي لمّا نزل تنتفس به ، علينا أن ننفض الغبار عن كل مسالكنا ، علينا أن نعيد النظر في كل مناهجنا ، وعلينا أن نثق أن أول الطريق إعلان وأوسط الطريق ثبات وآخر الطريق نصر من الله تبارك وتعالى .
فأسأل الله العلي القدير أن يلهمنا وإياكم ثباتاً على هذا الدين ، وتحملاً في ذات الله تبارك وتعالى ، وأن ينزل علينا نصره ، إن النصر من عند الله ، وصلى الله تعالى على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .
محمود مشّوح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق