الاثنين، 14 مايو 2012

النظام المصرفي الجديد


الفصل الثالث
النظام المصرفي الجديد
ولكن هيهات أن ينتهي بذلك بيان ما للربا من الشناعات والويلات على الإنسانية، بل الحقيقة أن قد زاد إلى مفاسده الذاتية حيث لا حصر لها ذلك التنظيم الذي قد ظهر في الزمن الحاضر بشكل "النظام المصرفي الجديد". وحل محل طرق الربا الرأسمالية القديمة. فالكرسي الذي كان يتربع عليه المرابي من قبل. قد أجلس فيه هذا التنظيم الآن الصيرفي والاقتصادي الجديد وجعل سلاح الربا في يده أكثر مضاء منه في أي زمن من الأزمان الفارطة.
بدء تاريخ النظام المصرفي الجديد:
المرحلة الأولى:
إننا إذا أردنا أن نفهم هذا النظام المصرفي الجديد ونعرف طبيعته، فلا بد لنا أن نكون على بينة من تاريخه الابتدائي:
فبدء تاريخه في البلاد الغربية أن الناس كانوا في العصور التي ما كانت قد لقيت فيها الأوراق المالية رواجها، يجمعون ثرواتهم بصورة الذهب ويودعونها عامة عند الصيرفي لحفظها، وكان هذا الصيرفي يكتب ويعطي كل من يودع عنده شيئاً من المال سنداً يُصرح فيه بأن من حمل هذا السند له كذا وكذا من الذهب وديعة عنده، ثم تدرج الأمر بصورة أن بدأت هذه السندات تتداول بين الأفراد وتنتقل من أحد إلى آخر في البيوع ووفاء الدين وتصفية الحسابات، لأن التعامل بالسندات في مثل هذه المعاملات كان أسهل على الناس من أن يستردوا الذهب من الصيرفي أولاً ثم يتعاملوا به بينهم. فهكذا أصبح عندهم معنى إعطاء السند لأحد إعطاءه الذهب. وهكذا أخذت هذه السندات تقوم شيئاً فشيئاً مقام الذهب نفسه وقلما كان يفضي الأمر إلى استرداد الذهب من الصيرفي، حيث لم يكن يسترده منه إلا من يكون في حاجة إلى الذهب لذاته، لأن جميع المعاملات التي كانت تجري من قبل الذهب كأداة للتبادل، أصبحت تجري الآن بالسندات الورقية الخفيفة الوزن السهلة التداول إذ كان لا يدل كونها عند أحد إلا على أنه مالك لكذا وكذا من الذهب.
أما الصيارفة، فظهر لهم بالتجربة بعد لأي من الزمن أن الذين يودعون عندهم أموالهم لا يستردونها منهم إلا بنسبة زهيدة لا يتجاوز في معظم الأحيان عشرها. وأن تسعة أعشارها تبقى محفوظة لديهم في صناديقهم. فرأوا أن ينتفعوا بها بأنفسهم، فبدؤوا يعطونها الناس قروضاً يتقاضون عليها الربا كأنهم أصحابها الحقيقيين بل كان هؤلاء الصيارفة يتقاضون أصحابها الأجرة لحفظها في جانب، ويعطون غيرهم قروضاً بالربا في الجانب الآخر.
ولم يقفوا عند هذا فحسب، بل بدأ هؤلاء الصيارفة –مع ذلك يقرضون الناس ما كانوا يخلقون على قوة الذهب الموجود في صناديقهم، من السندات الورقية بدل أن يقرضوهم الذهب نفسه إذ كانت سنداتهم تقوم مقام الذهب نفسه في معاملات البيع والشراء وغيرهما، وكانوا قد عرفوا بالتجربة –كما قلنا آنفاً- إن الذين يودعون عندهم الذهب لا يستردون منهم إلا عشره في معظم الأحوال. فهم ما خلقوا مقابل تسعة أعشاره الباقية تسعة سندات فحسب، بل خلقوا مقابل قوتها تسعين سنداً ورقياً مزوراً وشرعوا يُرَوّجونها في الناس ويقدمونها في القروض. وبيان هذا أن الصيرفي إذا كان أحد قد ودع عنده من الذهب ما قيمته عشر جنيهات مثلا، فإنه خلق مقابل قوة هذا القدر عشر سندات صرح في كل واحد منها بأن لديه وراء هذا السند لكل من يحمله من الذهب ما قيمته عشر جنيهات، فسلم أحد هذه السندات العشرة –وكان من ورائه الذهب عنده في واقع الأمر- إلى المودع، وقدم التسعة الباقية -ولم يكن لديه من ورائها شيء من الذهب في واقع الأمر– لإقراض الناس وبدأ يتقاضاهم عليها الربا.
من الظاهر أن هذا خداع سافر لا شبهة فيه. فبهذا الخداع والتزوير خلق الصيارفة 90% من المال لأنفسهم بصور عملة لم يكن لها شيء من الأساس أصلاً وأصبحوا أصحابها بدأوا يفرضونها على المجتمع بصورة الديون ويتقاضونه عليه الربا بسعر 10 أو 12% على كونهم ما كسبوا هذا المال بجدهم وجهدهم أو نالوا عليه حقوق الملكية بطريق مشروع، بل لم يكن هو مالاً في حقيقة الأمر حتى يسوغ لهم بموجب أي مبدأ من مبادئ الأخلاق أو الاقتصاد والقانون أن يروجوه في السوق أداة للتبادل وينالوا به المرافق والخدمات من الجمهور. ولعمر الحق إنه لا يكاد يسمع بهذا الدور الشنيع –الذي لعبه هؤلاء الصيارفة في الحياة الاقتصادية لهذا الزمان- رجل عادي، إلا كان لا بد له أن يتمثل أمام عينيه ما في قانون العقوبات من المواد المتعلقة بجرائم التزوير والختل والدجل، ولا بد أن يتوقع أن يسمع بعده الخبر برفع أمرهم إلى المحاكم والحكم عليهم بعقوبات فادحة يعتبر بها غيرهم. ولكن.. ويا للأسف –كان الأمر على العكس من ذلك تماماً فإن هؤلاء الصيارفة أصبحوا بأعمالهم القائمة على الخداع والتزوير ممتلكين لناصية 90% من ثروات بلادهم ولم يسلم من الوقع في شبكة دجلهم أحد لا الملوك ولا الأمراء ولا الوزراء الكبار، بل جاءت الحكومات نفسها تستقرضهم أموالاً ضخمة عند الحروب ولحل عقود أزماتها الداخلية، فمنذا ترونه بعد ذلك يتجرأ على أن يتساءل كيف وبأي طريق غدا هؤلاء مالكين لهذا القدر الضخم من الثروة؟ ثم إن الحضارة البورجوازية التي كانت ترفع رأسها في البلاد الغربية متدججة بأسلحة التسامح والحرية الفردية وحق الجمهور في التصويت إزاء النظام الاجتماعي القديم، إنما كان زمام أمرها بأيد هؤلاء الرأسماليين وهم الذين كانوا رافعي لوائها ورواد جيشها وكانت تستند إلى جيش جرار من رجال الفلسفة والأدب والفن قاموا على قدم وساق لشن الغارة على من يعادي ويتجرأ –فرداً كان أو جماعة- على التساؤل عن مصدر ثروة المستر جولد سمث- الصيرفي- ومورد أمواله المتكدسة في خزانته.. فهكذا كان خداع التزوير الذي خلق هذه الثروة، وما سلم من مؤاخذة القانون فحسب، بل جاء القانون بنفسه يعترف له بمشروعيته وجاءت الحكومات تعترف بأن لهؤلاء الصيارفة –وكانوا قد أصبحوا الاقتصاديين وأصحاب المصارف الكبيرة- حقاً في إصدار الأوراق المالية، حتى أصبحت أوراقهم التي يصدرونها تجري في التجارة والصناعة وسائر الشؤون المالية في السوق بصفته أوراقاً نقدية وأداة للتبادل مشروعة.
المرحلة الثانية:
فهذه حقيقة تلك الثروة التي بفضلها أصبح صيارفة الزمن القديم رأسماليين وحاكمين لإقليم الذهب في الزمن الجديد. ثم تقدموا خطوة أخرى كانت شراً من خطوتهم الأولى وأكثر منها شناعة.
إن العصر الذي كانت فيه هذه الرأسمالية الجديدة ترفع رأسها متعززة بثروتها المزورة، هو العصر الذي كانت تتقدم فيه التجارة والصناعة كالسيل المنجرف في غربي أوربة وتكاد تسحر الدنيا بقضها وقضيضها، وفي ذلك العصر نفسه بدأ يرتفع في أوربة بناء الحضارة الجديدة ويطالب أهلها بالبعث الجديد في كل شعبة من شعب حياتهم من جامعاتهم إلى بلدياتهم. فكان كل نوع من الفعالات الاقتصادية والمدنية في هذه المرحلة من التاريخ في أشد ما يكون من الحاجة إلى رأس المال. كانت التجارات والصناعات الجديدة تستدعي المال للشروع فيها وتحتاج القديمة منها إلى مقدار عظيم منه لرقيها وتقدمها، وتفتقر إليه المشاريع الفردية والجماعية المختلفة لنموها وارتقائها. أما رؤوس أموال العاملين لهذا الرقي أنفسهم، فكانت غير كافية لجمع هذه الأعمال والمشاريع، فلم يكن لديهم لإرواء شباب هذه المدينة بدم الحياة إلا وسيلتان لا ثالثة لهما:
1- المال الذي كان عند الصيارفة والرأسماليين في زمانهم.
2- والمال الذي كان عند الطبقات الوسطى والموسرة بصورة الثروة المتكدسة من موارد دخلها.
أما المال الأول منهما فكان يحوزه الرأسماليون من ذي قبل، ويعطونه للديون الربوية، فما كان فلس منها ليرضى بالانصراف في تجارة أو صناعة على مبدأ المشاركة والمضاربة؛ فكل مال حصل للتجار والصناع وغيرهم من العمال الاقتصاديين والمدنيين من هذه الوسيلة، إنما حصل لهم بالاستقراض وعلى شرط أن يؤدوا إلى الرأسماليين ربحهم حسب سعر معين سواء أربحت أم خسرت تجارهم وصناعتهم، وسواء أكان ربحهم قليلاً أم كثيراً.
فما بقي لهم بعد ذلك إلا الوسيلة الثانية ولم يعد ممكناً أن يتجه المال إلى الأعمال الاقتصادية ومشاريع الرقي والتعمير على أحسن وجه وأقومه إلا منها، ولكن هؤلاء الرأسماليين احتالوا بمكر جعل هذه الوسيلة أيضاً في أيديهم وأغلقوا عليها الأبواب كلها، حاشا باب القرض الربوي، إذ لم يتركوا باباً غيره يتسرب منه المال إلى شؤون المدنية والاقتصاد، وهذا المكر أنهم بدؤوا يغرون الناس بالربا ويجذبون إلى صناديقهم أموال جميع أولئك الذي يجمعون عندهم ما يزيد عن حاجتهم أو يجمعون المال بالتقشف في معيشتهم والتقتير في نفقاتهم، وذلك أن هؤلاء الصيارفة –كما علمت من قبل- كانوا على اتصال بهؤلاء منذ زمن قديم وينالون منهم الودائع. فلما رأوا أنهم شرعوا في استغلال أموالهم في التجارة والصناعات بأيديهم وبدأت أموالهم المجموعة تنصرف في اشتراء الأسهم في الشركات بدل أن ترد على صناديقهم بصورة الودائع، جاؤوا يغرونهم بالفائدة –بالربا- ويقولون لهم لماذا تجشّمون أنفسكم هذه المشقة، لأنكم إذا فعلتم هذا، فلا بد أن تقوموا بأنفسكم بأعباء الشركة والحسابات، بل لا بد لكم بهذا الطريق أن تقحموا أنفسكم في خطر الخسارة حيث يؤثر في دخلكم ارتفاع الأثمان مرة وانخفاضها أخرى في السوق. فهاتوا إلينا أموالكم وأودعوها عندنا نحفظها لكم دونما أجرة، ونحن نعاني عنكم مشقة الحسابات بل نؤدي إليكم الفائدة -الربا- عليها.
هذا هو المكر الذي جعل 90% بل أكثر من 90% من أموال الناس المتكدسة تنهال على خزانة الرأسمالي وجعلها تحت تصرفه بدل أن تتجه إلى أعمال الاقتصاد والمدنية مباشرة. وهكذا أصبح الرأسمالي مستوياً –بكل معنى الكلمة تقريباً- على كل ما كان في البلاد من الأموال القابلة للاستغلال والتي كانت الوسيلة الوحيدة لتمويل التجارة والصناعة وغيرهما من المشاريع المدنية، حتى آل الأمر إلى أن بدأ الرأسمالي –وكان من ذي قبل يقرض الناس بالربا رأسماله المزور- ينال المال من غيره بسعر رخيص ويقدمه بالربا لغيرهم بسعر عال، لأنه جعل من المستحيل أن ينال أحد من التجار والصناع مالاً من غيره بشرط غير شرط السعر الذي عيّنه هو للربا في السوق. فالذين بقوا يحبون على كل ذلك –وأقلل بهم عدداً- أن يستغلوا أموالهم في تجارة أو صناعة بأنفسهم بدل أن يستغلوها فيهما بواسطة الرأسمالي إغراهم الرأسمالي بنيل ربح معين مضمون على كل حال، فأصبحوا يؤثرون الأسناد التجارية (Debentures) على إشتراء السهام على الوجه المعروف، لأنها كانت تضمن لهم ربحاً معيناً على كل حال.
وقد كمل هذا الوضع الغريب التفريق بين الناس ووزعهم إلى فريقين لم يبق بد لأحد من أفراد البلاد بعده إلا أن يكون أما من هذا أو ذلك: أصبح في جانب، جميع أولئك الأهالي الذين يعملون في مزارع الاقتصاد والمدنية ولا يتوقف إنتاج البلاد الثقافي والاقتصادي إلا على جهودهم ومساعيهم وكفاءاتهم، وصار الجانب الآخر أولئك الشرذمة القليلون الذين يتوقف على مائهم –المال- ري هذه المزارع كلها. أبى أصحاب الماء أن يتعاونوا مع العاملين في المزارع بالرفق والعدل والقسط ورسموا خطتهم على ألا يستعملوا أبداً ما عندهم من الماء حسب ما تقتضيه المصلحة الجماعية، بل حسب ما تقتضيه مصلحتهم هم أنفسهم، مصلحتهم المادية البحتة فقط.
وكذلك قضى هذا الوضع الجديد ألا تكون الحضارة الفتية التي كادت تحكم العالم كله، إلا حضارة مادية بحتة ويكون سعر الربا هو مقياسها الرئيسس الذي لا تتعين فيها كل قيمة شيء وقدره إلا على حسبه. وذلك أنه لا تتوقف مزرعة  الحضارة في ازدهارها إلا على الارتواء بماء رأس المال وإن هذا الماء قد عينت كل قيمة قطرة منه مالياً حسب سعر الربا. فإن كان من الممكن على هذا أن يبذر شيء في مزرعة الحضارة البورجوازية وإن كان ثمة إنتاج يستحق القدر فيها فإنما هو ذلك الشيء الذي يعود على صاحبه بربحه المالي مباشرة أو غير مباشرة إلى ذلك الحد –على الأقل- الذي قد عينه الرأسمالي القائد الأكبر لهذه الحضارة بشكل سعر الربا.
وكذلك إن هذا الوضع الجديد قد طوى عصر حكم كل من القلم والسيف، وألقى بمقاليد الحكم كلها إلى "ديوان حسابات الرأسمالي" وجعل في أنف الجميع –بما فيهم الفلاحون والعمال ومؤسسات التجارة والصناعة الكبيرة والدول والحكومات القومية- خطاماً غير مرئي قبض الرأسمالي على جانبه وبدأ يقودهم به حيث يشاء.
المرحلة الثالثة:
ثم تقدمت فئة الرأسماليين خطوة أخرى ونظمت حرفتها على صورة ما يعرف الآن بالنظام المصرفي الجديد (Modern Banking System) وكان هؤلاء الرأسماليين يعملون من قبل منفردين مستقلين بعضهم عن بعض. ولا شك أنه كانت هناك بعض أسر رأسمالية منهم، كانت قد توسعت دائرة فعاليتها الاقتصادية حتى أصبحت على صورة كصورة الدوائر المالية الكبيرة وانتشرت فروعها في نواحي الدنيا القريبة والبعيدة. ولكن ما كانت هذه الأسر، على كل هذا إلا أسراً مستقلة لا تعمل إلا باسمها. فخطر ببالها بعد ذلك أن تشكل شركات "لحرفة المال" وتنظمها على نطاق واسع- كما تنظم الشركات ويسيَّر أمرها بالأموال المشتركة- في سائر شعب الاقتصاد. فهكذا برزت إلى حيز الوجود هذه المصارف التي نراها مبثوثة مسئولية اليوم على نظام المالية في الدنيا كلها.
وطريق هذا التنظيم الجديد بكلمات وجيزة أن عدة من أصحاب المال ينشئون مؤسسة مالية يسمونها "المصرف". وأن المال الذي يستعمل في هذه المؤسسة يكون على نوعين: رأس مال المساهمين وبه يبتدئ العمل، والودائع وهي ما يتلقاه المصرف من الناس بكمية وافرة على قدر ما تتسع دائرة عمله ويذيع صيته وعلى أساسه يزيد نفوذه وتتوافر قوته. والمقياس الحقيقي الذي يقدر به نجاح المصرف هو أن يكون عند رأس ماله الذاتي -رأس مال المساهمين فيه- على أقل مقدار ممكن وتكون والودائع- رأس مال المودعين لديه- على أوسع مقدار ممكن. وخذ لذلك مثلاً "مصرف بنجاب القومي" وقد كان من أنجح المصارف وأكبرها في القارة الهندية قبل وجود باكستان وكان مركزه في لاهور. فما كان رأسه ماله الذاتي إلا عشر ملايين روبية ما كان أدى منها المساهمون فعلاً إلا أكثر بقليل من ثمانية ملايين روبية، ولكن كانت ودائعه التي كان يستعملها سنة 1945 نحو 520 مليون روبية. والعجيب بعد هذا كله أن المصرف على رغم أنه كان يسيَّر شؤونه كلها بما اجتمع عنده من الودائع، وهي قد تبلغ 90-95 بل 98% أحياناً من مجموع ما لديه من مال فإنه لم يكن للمودعين أي حق في التدخل في نظامه وإداراته وسياسته، وإنما كان ذلك كله بيدي المساهمين الذين هم المالكون للمصرف على حين لا يكاد يبلغ رأس مالهم 2 أو 3 أو 4 أو 5% من مجموع الموجودات عنده. ليس للمودعين إلا أن يسلموا مالهم إلى المصرف ثم يظلوا ينالون منه الفائدة –الربا- على حساب سعر معين. أما "كيف يستعمل المصرف هذا المال وعلى أي وجه يتصرف فيه" فشيء لا حق لهم أصلا أن يعنوا به ويتكلموا فيه برأي، فإنه إنما يرجع إلى المساهمين ولا يتعلق إلا بهم، فهم الذين ينتخبون العمال لتولي مختلف أعمال المصرف وهم الذين يرسمون سياسته وهم الذين يشرفون على إدراته ونظامه وحساباته ولا يتوقف إلا على مشيئتهم القضاء بالطرق التي ينبغي أن يتجه أو لا يتجه إليها مال المصرف. ثم إن هؤلاء المساهمين لا يكونون جميعاً بمنزلة متساوية، لأن المساهمين الصغار المتفرقين لا يكون لهم نفوذ في المصرف إلا في حدود لا تكاد تذكر، وإنما يكون عدد ضئيل من المساهمين الكبار مستولين على هذه البحيرة ولا يتصرف فيها غيرهم فعلاً.
لا شك أن المصرف مؤسسة تسدي إلى الجمهور خدمات بين صغيرة وكبيرة لا يساورنا الشك في وجاهة بعضها ومنفعتها وأهميتها ومشروعيتها. ولكن وظيفته الحقيقية إنما هي فتح الاعتمادات وتقديم المال للناس بالربا. وكل مصرف –سواء أكان من المصارف التجارية أم من المصارف الصناعية أم الزراعية أم من أي نوع آخر –لا يقوم بأعمال التجارة والصناعة والزراعة بنفسه، وإنما يقدم المال للذين يتعاطون هذه الحرف من الجمهور ثم يتقاضاهم الربا عليه. وإن أكبر وأهم وسيلة من وسائل ربحه هو أن يتلقى المال من المودعين بسعر رخيص ويقرضه الجمهور بسعر مرتفع. وكل ما يحصل للمصرف على هذا الوجه من الدخل، يتوزع بين المساهمين كما يتوزع الدخل بين الشركاء والمساهمين في سائر المؤسسات والشركات التجارية بنسبة سهامهم فيها[1].
النتائج:
فكان من نتيجة تنظيم الرأسماليين حرفتهم على هذا الوجه أن قد زاد اليوم وقار الرأسماليين المجتمعين المنتظمين ونفوذهم وثقة الجمهور بهم بالنسبة لما كانوا عليه عندما كانوا يتعاطون مهنة المراباة متفرقين مستقلين. وقد ارتكزت في أيديهم اليوم ثروة البلاد من أقصاها إلى أقصاها. فتجد اليوم عشرات ومئات الملايين من الجنيهات تتكدس في مصرف واحد ولا يكون هناك إلا عدد قليل من الرأسماليين هو الذي يستولي عليها ويتصرف بها كما يشاء. ولا يحكم بهذا الطريق بلاده ولا يتملك ناصية حياتها الاقتصادية والمدنية والسياسية وحدها، بل يحكم الدنيا قاطبة ويلعب بمقاديرها ويستغل لأغراضه حياتها الاقتصادية والمدنية والسياسية بمنتهى الأثرة وتحجر القلب.
ولكم أن تقدروا مبلغ هؤلاء الرأسماليين من القوة والنفوذ، بأنه ما كان عند عشرة مصارف في الهند قبل تقسيم البلاد إلا 170 مليون روبية ولكن كانت الودائع قد بلغت فيها 6200 مليون روبية. وكان عدد قليل – لا يتجاوز 150- 200 شخص على الأكثر- من الرأسماليين مستولياً عليها وعلى إرادتها وسياستها. وما كان شيء غير الطمع في الفائدة جعل مئات الألوف من الناس يهيئون هذا المبلغ الكبير من المال ويسلمونه إلى الرأسماليين، ولا يهمهم بعد ذلك في قليل ولا كثير كيف وعلى أي المبادئ ولأي الأغراض يستعمل أولئك هذا السلاح القوي؟ ولكم أن تقدروا بذلك أي أثر خطير قد تركه هؤلاء الرأسماليون في تجارة البلاد وصناعتها ومعيشتها وسياستها ومدنيتها، وأنه هل يكون هذا الأثر قد عمل لمصلحة البلاد وأهاليها أم لمصلحة هؤلاء الرأسماليين المحبين لذواتهم؟
نعم. إني لأبين لكم كل هذا عن بلاد ليس عهدها بتظيم الرأسماليين إلا حديثاً ولا يبلغ مجموع الودائع في صناديق مصارفها أكثر من نصف جنيه لكل فرد من أهاليها بالمعدل، ولكن تصوروا كيفية ارتكاز الثروة وتجمعها في مصارف البلاد الغربية التي قد بلغ فيها المعدل ألفين بل ثلاثة آلاف مرة منه في بلادنا الشرقية. لقد كان هذا المعدل في المصارف التجارية وحدها حسب إحصاء سنة 1936 م في أميركا 1317 جنيهاً وفي انكلتراً 1664 جنيهاً وفي سويسرا 275 جنيهاً وفي ألمانيا 212 جنيهاً وفي فرنسا 165 جنيهاً. فعلى هذا النطاق الواسع يسلم أهالي تلك البلاد أموالهم المدخرة إلى رأسماليهم، وعلى هذا النطاق الواسع تنجذب الثروة من كل بيت من بيوتها لترتكز في أيد قليلة. ثم إن الذين ترتكز في أيديهم هذه الثروة ليسوا بمسؤولين أمام أحد مسترشدين إياه غير نفوسهم ولا مراعين شيئاً غير أهوائهم، وإنما يدفعون الكراء على ما يرتكز في أيديهم على الثروة بشكل "الفائدة" ويتملكونها فعلاً ويلعبون على أساس قوتها بمقادير الأمم والشعوب: يحدثون القحط حيث يشاؤون، وينزلون الأمطار الغزيرة حيث يشاؤون، وينشبون الحرب، ويعقدون مجالس الصلح، متى أرادوا، ويروجون في الجمهور كل شيء يرونه نافعاً من وجهة نظرهم المتكالب على المال، ويحرمون كل شيء يرونه لا يتفق مع مصالحهم المادية من الوسائل والمساعدات. فهم ليسوا بمسؤولين على الأسواق فحسب، بل لهم كلمة نافذة وحكم لا مرد له في معاهد العلم والفن ومراكز التحقيق العلمي ودوائر الصحافة وصوامع الديانة ودور الحكومة كلها أيضاً لأن فضيلة قاضي الحاجات –المال- قد التجأ إليهم والتحق بحلقتهم.
هذا هو البلاء الأكبر الذي علا عويل أصحاب الفكر من أهل الغرب أنفسهم على ما يجر إلى الإنسانية البائسة من الويلات والمهالك، وأخذ يرتفع ثمة من مختلف الجهات الصوت بأن ارتكاز هذا القدر العظيم من وسائل القوة في يد طبقة صغيرة مستأثرة ليست بمسؤولة أمام أحد، مدمر لكيان الجماعة وقاض على مقومات حياتها. أما نحن أهل الشرق، فلا يزال يبدأ القول عندنا ويعاد بأن المراباة النجسة إنما هي تلك التي كان يتعاطاها الأفراد الجالسون على الأرض في الزمن القديم، وأما صيرفي اليوم المستنير المتربع على الكرسي الراكب في السيارة، فإن مهنته التي يتعاطاها مشروعة طاهرة لا تشوبها شائبة من الدنس، فلماذا يعد من الحرام أن نسلم إليه أموالنا ثم ننال منه نصيبنا من ربحه؟ ولكن الحقيقة أن غاية ما قد حدث من الفرق بين المرابين في الزمن القديم والصيارفة في الزمن الحاضر هو أن أولئك كانوا ينهبون من الناس أموالهم متفرقين وجاء هؤلاء اليوم ينهبون مجتمعين وبتأليف الفئات القوية من أنفسهم للغرض نفسه. والفرق الثاني الذي حدث ولعله أكبر من الفرق الأول، هو أن كل ناهب من أولئك ما كان يأتي بأسلحة النقب وقتل النفوس إلا بنفسه ومن عند نفسه، وأما الآن فقد بدأ الجمهور أنفسهم يعطون هؤلاء الناهبين المنظمين "بالكراء" آلات كبيرة وأسلحة حادة لنقب بيوتهم وإبادة نفوسهم لحماقتهم وغفلة القوانين والحكومات، فهؤلاء الصيارفة يؤدون إليهم "الكراء" في النور ويشنون عليهم الغارات ويسلبونهم أموالهم في الظلام.
فهذا "الكراء" هو الذي يرد على القول بطهارته ومشروعيته.

الفصل الرابع
الأحكام الإسلامية في الربا
قد سبق أن تعرضنا للربا، وتكلمنا عليه من الوجهة السلبية في الفصل الأول، وتكلمنا على ما له من المضار في الفصل الثاني من هذا الكتاب. وها نحن أولاء نريد الآن أن نتكلم عليه من الوجهة الإيجابية ونوضح ما هو الأمر، وما هي حدوده وما هي الشؤون والمعاملات المالية التي تتصل بها الأحكام الواردة في الشريعة الإسلامية لتحريم الربا، وما هي القواعد التي يريد الإسلام أن يؤسس عليها شؤون الإنسان الاقتصادية بعد إلغاء الربا والقضاء على نظامه.
معنى الربا في اللغة والشرح:
إن مادة كلمة "الربا" الواردة في القرآن الكريم هي "رب" حيث اعتبر فيها معنى الزيادة والنمو والارتفاع والعلو. يقال: ربا المال إذا زاد ونما. وربا فلان الرابية إذا علاها. وربا فلان السويق إذا صب عليه المال وانفتح. وربا الولد في حجر فلان إذا نشأ عنده. وأربى فلان الشيء إذا زاده وأنماه. والرابية والربوة: المرتفع من الأرض. وحيثما وردت مشتقات هذه المادة في القرآن فإنها تشتمل على معنى من معاني النمو والعلو. قال تعالى: (فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ)[2] أي تحركت بالنبات وانفتحت. وقال تعالى: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)[3] أي يضاعفها ويبارك فيها. وقال تعالى: (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً)[4] أي طافياً فوق سطحه. وقال تعالى: (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً)[5] أي شديدة زائدة في الشدة. وقال تعالى: (أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ)[6] أي أزيد عدداً وأوفر مالاً وقال تعالى: (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ)[7] أي أرض مرتفعة.
فمن هذه المادة نفسها كلمة "الربا" والمراد بها زيادة المال ونموه عن رأس المال. والقرآن قد صرح بهذا المعنى بقوله: (وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[8] (وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ)[9] وبقوله: (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ)[10].
والذي يظهر من هذه الآيات أن كل زيادة تحصل على رأس المال، يقال لها "ربا" إلا أن القرآن لا يحرم كل زيادة من حيث هي فإن الزيادة تحصل في التجارة أيضاً، بل الزيادة التي ورد تحريمها في القرآن هي من نوع خاص وهو يسميها "الربا" وبهذا الاسم الاصطلاحي كانت هذه الصورة الخاصة من التعامل تُعرف قبل الإسلام، ولكن ما كانت العرب إذ ذاك تفرق بين البيع والربا وكانت تحسبها من نوع واحد كما عليه الحال في زماننا الحاضر. فجاء الإسلام وبين للناس أن الزيادة التي تحصل على رأس المال بالبيع مختلفة عن التي تحصل على رأس المال بالربا، وأن الأولى مشروعة والثانية غير مشروعة: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)[11].
ولأن الربا كان عبارة عن زيادة خاصة معروفة لدى العرب، فما تصدى القرآن لشرحه، واكتفى بتحريمه والأمر بتركه.
ربا الجاهلية:
إن الربا كان على عدة صور في الجاهلية كما وردت بها الروايات:
قال قتادة: "إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه "وقال مجاهد في الربا الذي نهى الله عنه: "كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدّين فيقول لك كذا وكذا تؤخر عني فيؤخر عنه"[12].
ويقول أبو بكر الجصاص: "إنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضاً مؤجلاً بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلاً من لأجل. فأبطله الله تعالى"[13].
ويقول ابن حجر المكي في كتابه الزواخر –ومثله يقول الإمام الرازي في تفسيره ج2 ص351 –إن ربا النسيئة- التأجيل- هو الذي كان مشهوراً في الجاهلية لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر قدراً معيناً، ورأس المال باق بحاله فإذا حل طالبه برأس ماله، فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل[14].
كانت هذه الصور من التعامل جارية عند العرب وعليها كانوا يطلقون كلمة "الربا" فجاء القرآن يحرمه بحكم قاطع صريح.
الفرق الأساسي بين البيع والربا:
وتعال نتفكر الآن ما هو الفرق بين البيع والربا وما هي خصائص الربا ومزاياه التي قد جعلته شيئاً مختلفاً عن البيع ولماذا قد حرمه الإسلام بهذه الشدة؟
"البيع" هو أن يقدم البائع سلعته إلى المشتري، فهناك تستقر بينهما قيمة لهذه السلعة ويتسلمها المشتري من البائع نظير هذه القيمة، فهذه الصورة من التعامل لا تخلو من أحد الأمرين: إما أن يكون البائع هيأ هذه السلعة للمشتري بجهده وبإنفاقه عليها ماله أو اشتراها من غيره. فهو في كلتا الصورتين يضيف أجرة جهده إلى رأس ماله الذي أنفقه على السلعة في اشترائها أو تهيئتها، فهذا هو ربحه.
وبإزاء ذلك إن "الربا" هو أن يعطي الرجل رأس ماله رجلاً آخر على أن يرده إليه بزيادة كذا. ففي هذه الصورة من المعاملة إن رأس المال هو نظير رأس المال، ونظير التأجيل هو ذلك المبلغ الزائد على رأس المال، الذي قد تم الاتفاق عليه بين الأخذ والمعطي كشرط في المعاملة. فهذا المبلغ الزائد على رأس المال نظير التأجيل هو "الربا"، وما هو –كما ترى- بأجرة على مال أو شيء وإنما هو أجرة على التأجيل فقط. وإذا اتفق البائع والمشتري على القيمة في البيع، ثم شرط البائع على المشتري أن يؤدي إليه هذه القيمة مع زيادة كذا إن تأجل في أدائها إليه مدة كذا، فإذن لا تكون هذه الزيادة أيضاً إلا من باب "الربا".
فالربا هو الزيادة التي يؤديها المدين إلى الدائن على رأس المال نظير مدة معلومة من الزمن أجّله إليها مع الشرط والتحديد، كأن الربا مزيج من ثلاثة أجزاء: (1) الزيادة على رأس المال و(2) تحديد الزيادة باعتبار المدة و(3) كونها شرطاً في المعاملة. فكل معاملة للدين توجد فيها هذه الأجزاء الثلاثة، هي معاملة ربوية من غير شك.
والفرق الأساسي الذي يمكن عليه أن يكون البيع والربا شيئاً واحداً من الوجهة الخلقية والاقتصادية هو:
1- إن تبادل المنافع يحصل على وجه سوي بين البائع والمشتري في التجارة لأن المشتري في جانب يستمتع بالسلعة التي يشتريها من البائع وبالجانب الآخر ينال البائع الأجرة على كفاءته وجهوده وأوقاته التي بذلها في إيجاد تلك السلعة أو تهيئتها للمشتري. ولكن بالعكس من ذلك لا يحصل تبادل المنافع بين الدائن والمدين على وجه سويّ في المعاملة الربوية: يأخذ الدائن من المدين مقداراً معلوماً من المال بنفسه بدون شك، ولكن المدين بإزائه لا ينال من الدائن إلا تأجيلاً في المدة قد ينفعه وقد لا ينفعه، فهو إن أخذ المال لاستهلاكه في حاجاته الشخصية، فإن هذا التأجيل غير نافع له قطعاً، وإن أخذه لاستغلاله في التجارة أو الصناعة أو الزراعة، فكما أنه يحتمل أن يعود عليه بالمنفعة، كذلك –سواء بسواء- يحتمل أن يعود عليه بالخسارة، كأن المعاملة الربوية إنما تكون إما على منفعة فريق وخساره فريق، أو على المنفعة اليقينية المعلومة لفريق والمنفعة غير اليقينية المعلومة للفريق الآخر.
2- إن البائع مهما أسرف في أخذ الربح من المشتري فإنما يناله مرة واحدة، ولكن الربح الذي يأخذه الدائن من المدين في المعاملة الربوية. له سلسلة لا تنقطع ولا تزال تتقوى وتستغلظ مع مر الزمان وكر الأيام. ومهما نال المدين من المنفعة بماله، فإنما تكون منفعة محدودة، وأما الدائن فليس هناك شيء يحد منفعته بإزاء منفعة المدين، وهو أحياناً قد يصادر أموال المدين ووسائل معاشه بحذافيرها، بل وملابسه وأثاث بيته، ثم لا يزال دينه باقياً على حاله.
3- إن المعاملة بين البائع والمشتري تنتهي حالاً مع تمام مبادلة السلعة والقيمة بينهما، ولا يكون بعده أي شيء على المشتري ليؤديه إلى البائع. وكذلك إن الشيء الأصلي الذي يؤدي العوض عن استخدامه في كراء الأرض أو الدار أو المتاع، لا يستهلك ويبقى على حاله ويرد إلى صاحبه بعينه. أما في المعاملة الربوية، فيكون المدين قد استهلك ما يأخذ من الدائن من المال، ثم يكن عليه أن يوجد هذا المال المستهلك نفسه ويرده إلى الدائن مع الزيادة.
4- إن الإنسان في التجارة والزراعة والصناعة يبذل كفاءته ووقته ثم ينال أجرهما ويستمتع بما يعودان عليه من الربح، ولكنه في المعاملة الربوية يصبح المساهم الأكبر في كسب غيره بمجرد دفعه إليه مقداراً من المال زائداً عن حاجاته بدون أن يبذل معه شيئاً من جهوده وأوقاته، فلا يكون بمنزلة المساهم الاصطلاحي المعروف الذي يشارك غيره في الربح والخسارة معاً ولا تكون شركته إلا على الغنم دون الغرم، بل هو شريك يدّعي لنفسه ربحاً معيناً بدون مبالاة لربح مدينه أو خسارته.
فهذه طائفة من الأسباب تفرق بين التجارة والربا من الوجهة الاقتصادية، فتجعل التجارة عاملاً قوياً لتعمير التمدن البشري وترقيته والربا قوة هادمة له. أما من جهة الوجهة الخلقية فمن عين ما تقتضيه فطرة الربا أن يتصف الأفراد في المجتمع بصفات دنيئة كالبخل والأثرة والشقاوة وتحجر القلب وحب المال والتفاني في سبيله، وينفوا عن نفوسهم روح الصفات الفاضلة كالإيثار والمرحمة والتعاطف والتضامن، كأن الربا شيء يأتي على النوع البشري ويقوض بناءه من الوجهتين الاقتصادية والخلقية معاً.
وهذه هي الأسباب التي أحل الله لأجلها البيع وحرم الربا، مع عدم الشك أن لتحريم الربا أسباباً كثيرة أخرى قد أشرنا إليها من قبل. فهو يحدث في الناس الميل إلى جمع المال وعدم إنفاقه إلا في مصالحهم الشخصية،، ويحول دون تداول الثروة على الوجه الحر في المجتمع، بل يعكس طريق هذا التداول ويوجهه عن الفقراء إلى الأغنياء، فتتكدس ولا تزال تتكدس ثروة الجمهور باستمرار لدى الطبقة المتمولة منهم، مما يوجب هلاك المجتمع بأكمله. وكما لا يخفى على من له نظر في علوم الاقتصاد، وكما أنه لا يمكن الجحود بمضار الربا وعواقبه وآثاره هذه، فكذلك لا يمكن إنكار حقيقة أخرى هي أن الطريق الذي يرسمه الإسلام لتربية الناس تربية خلقية وتنظيم أفرادهم تنظيماً اجتماعياً واقتصادياً، ينافي الربا كل جزء منه، وأن كل تعامل ربوي مهما يكن قد بلغ في الدقة ورأته العين في الظاهر، غير ضار بالمجتمع، فإنه يخل بنظام الإسلام ويحدث فيه الفساد على كل حال، فلأجل ذلك قد شدد الله تعالى أيّما تشديد في تحريم الربا في كتابه الكريم وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ)[15].
التشديد في تحريم الربا:
لا شك أن القرآن قد نهى عن كثير من المنكرات وشد الوعيد في بعضها، ولكن الكلمات التي جاء بها لإعلان حرمة الربا أشد وآكد من الكلمات التي أوردها للنهي عن سائر المنكرات والمعاصي[16]. ومن ثم قد أكد النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن مزاولة الربا وسعى سعياً متصلاً في القضاء عليه في الدولة الإسلامية المثالية.
كان بنو المغيرة في مكة يأكلون الربا، فألغى النبي صلى الله عليه وسلم كل ما كان لهم على الناس، وكانت لهم على الناس أموال من الربا، فكتب إلى عامله في مكة بقتالهم إن لم يكفوا عن المراباة. وكان عمه العباس بن عبد المطلب من كبار المرابين في العرب، فأعلن عند حجة الوداع: "ألا إن ربا الجاهلية موضوع عنكم كله. لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. وأول ربا موضوع أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب". وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال "هم سواء" رواه مسلم، وللبخاري مثله.
وليست هذه الأحكام تطالب بالقضاء على نوع خاص من الربا أي ربا المرابين، وتدع باب سائر أنواعه مفتوحاً على مصراعيه، بل الذي ترمي إليه هذه الأحكام في حقيقة الأمر أن تستأصل شأفة أخلاق الرأسمالية وعقلية الرأسمالية ونظام الرأسمالية استئصالاً كلياً وتقيم مكانها نظاماً يكون فيه الكرم مكان البخل، والمواساة والتكافل مكان الأثرة وحب الذات، والزكاة مكان الربا، وبيت المال القومي مكان المصرف وشركات التأمين، حتى لا يفضي الأمر إلى تولد حالات يحس الناس لمقاومتها حاجتهم إلى إقامة منظمات التعاون الاجتماعي وشركات التأمين والأموال الاحتياطية ويضطرون –أخيراً- إلى اللجوء إلى نظام الشيوعية غير الفطري.
فليس إذن إلا من حماقتنا –أنفسنا- وضعفنا وسوء طالعنا أن قد انتثر عقد الإسلام، وتبدد نظامه للأخلاق والاجتماع والاقتصاد، واستولت علينا الرأسمالية بويلاتها، ولم تعد فينا مؤسسة أو منظمة تعني بجمع أموال الزكاة وإنفاقها في طرقها الصحيحة، وصار أغنياؤنا عبيد الدرهم والدينار لا يكسبون إلا لذواتهم، ولم يعد لفقرائنا ما يعينهم على نكباتهم وشدائدهم وقد أضعنا الأخلاق الإسلامية واعتدينا حدودها واحدة تلو أخرى، ونشأ فينا الولوع بالخمر والميسر والزنا، وانغمسنا في ألوان البذخ والترف والنعيم، وأقبلنا على المتعة والشهوات، وجعلنا التبذير بكل معانيه ومظاهره من حاجات حياتنا اللازمة، وصعب علينا أن نعقد حفلات الزواج ونشتري السيارات ونشيد البيوت الشامخة ونهيء لأنفسنا ألوان الزينة والنعيم والشهوات بدون اقتراض الربا، ولم يعد لنا نصيب من روح التعاون والتكافل الاجتماعي والتنظيم العملي، حتى اختلت أحوالنا الاقتصادية وأصبحت حياة كل واحد منا قائمة بتمامها على وسائله الاقتصادية الشخصية حتى لم يجد بداً –حفظاً لمستقبله- من أن يترك مبادئ الإسلام، ويتبع مبادئ الرأسمالية ويجمع أمواله في المصارف، ويستأمن نفسه في شركات التأمين، ويصبح عضواً في جمعيات التعاون الاجتماعي، ويسد حاجاته عند الضرورة بالاقتراض من المؤسسات الرأسمالية بالربا. ولا شك أن كل ذلك قد أصبح من حاجات حياتنا الأساسية، ولكن... هل التبعة في خلق هذه الحال على الإسلام المسكين؟ كلا، وإنما قد منينا بمثل هذه الحال لأننا قد هدمنا بأيدينا كل ركن من أركان ذلك النظام الكريم العادل الذي كان الإسلام زودنا به وأرشدنا إليه، فهل يجوز لنا الآن أن ننشد الحل للمعضلات التي خلقناها لأنفسنا بمخالفتنا لقانون من قوانين الإسلام، في مخالفة قانون آخر من قوانينه، ثم لا نطالب إلا الإسلام نفسه بأن يسمح لنا بمخالفة هذا القانون ومعاكسته؟ من ذا الذي يحول بيننا وبين أن نجمع أموال الزكاة بصورة منظمة ونعمل بتعليم الإسلام في التكامل والتضامن الاجتماعي وبقانونه في الإرث، ونقضي حياتنا بالبساطة والأمانة والتقوى والاقتصاد في النفقات؟ ومن ذا الذي يجبرنا على أن ننفق أكثر مما نكسب ونجعل من حاجاتنا اللازمة ما جاءت به الحضارة الغربية من مظاهر البذخ والتبذير، ونميل إلى طرق الكسب الحرام ونختارها حرصاً على التمول واستزادة للثراء، ولا نقنع بطرق الكسب المشروعة؟ ومن ذا الذي قد يأخذ على أيدي أغنيائنا وأولي الفضل منا أن يساعدوا ذوي قرباهم وجيرانهم وأصدقاءهم وأيامى أمتهم ويتاماها وعجزتها وفقراءها ويجبرهم على أن يغدقوا بأموالهم على أصحاب المعامل والمصانع الكبيرة في أوربا وأميركا واليابان؟ ومن ذا الذي يضغط على المتوسطين وقليلي الدخل منا على أن يظهروا بمظاهر الأبهة والكبرياء والتمول محاكاة للأغنياء، وينفقوا على حفلات زواج أولادهم وأفراحهم ومآتمهم أكثر مما تتسع له وسائلهم الاقتصادية، ثم يقترضوا بالربا سداً لهذه النفقات؟ لا شك أن كل هذه الأعمال التي تورطنا فيها في حياتنا جرائم في نظر الإسلام. فإذا أقلعنا عن هذه الجرائم وأقمنا نظام الإسلام الاقتصادي المتزن مرة جديدة، أزلنا عن سبيلنا كل معضلة اقتصادية تجبرنا اليوم على اقتراف جريمة أكل الربا وإيكاله. ولكن ما دمنا لا نقلع عنها فما لنا لا نقترف الجريمة المتولدة عنها –أكل الربا وإيكاله- معتقدين إياها جريمة على الأقل؟ لأن من ترك الأغذية الطيبة وألقى بنفسه إلى مكان ليس فيه إلا القذر للأكل والشرب والذواق، فله أن يأكل هذا القذر ملء بطنه ويوكله غيره إن شاء، ولكن ماله يصر على أن هذا القذر طاهر طيب لا غذاء أحسن منه وأنفع للبدن؟
فالحاجة كل الحاجة، كما قلت في مفتتح الكلام، أن نفكر ونطيل التفكير أولاً ونقضي قضاء قاطعاً عند أنفسنا قبل أن نأخذ في البحث في مشروعية الربا أو عدم مشروعيته: أي النظامين الإسلامي أم الرأسمالي نريد اتباعه؟ فإن قلنا بالأول، فلا حاجة ولا مجال لنا البتة للتعامل الربوي، لأن المعاملات في هذا النظام تجري بدون المؤسسات القائمة على الربا، والذين يتعاملون بالربا، هم مجرمون في نظره. وأما إن قلنا بالثاني فلا شك أن أتباعنا لنظام الرأسمالية، خروج سافر على الإسلام من حيث مجموعه، ولا بد لنا إذن أن نخالف كل ما يخالف المبدأ الرأسمالي من قواعد الإسلام وقوانينه الاقتصادية ولا معنى بعد كل ذلك لأمنيتنا أن لا نعد آثمين في نظر الإسلامين مع مخالفتنا لقوانينه واتباعنا للنظام الرأسمالي، إلا أننا نريد الإسلام على أن يتبعنا ويسير في ركبنا ويبدل مبادئه ويختار مبادئ الرأسمالية لا لشيء إلا حرصاً على إبقائنا في دائرته.

الفصل الخامس
أقسام الربا وأحكامه
إن الربا –كما قد بينا آنفاً- هو الزيادة التي ينالها الدائن من مدينة نظير التأجيل، وهذا النوع من الربا يصطلح عليه شرعاً بربا النسيئة أي الزيادة بسبب النسيئة وهي التأجيل. وهذا النوع من الربا هو المنصوص على تحريمه في القرآن الكريم وأجمع على تحريمه السلف الصالح والعلماء المجتهدون من بعدهم، وتعاقبت القرون حقبة على ذلك الإجماع ولم يتطرق إليه الريب في عصر من العصور.
ولكن من قواعد الشريعة الإسلامية أنها إذا حرمت شيئاً أوصدت جميع الطرق والأسباب التي تحرض عليه أو تعاون على الوصول إليه حتى لا يهم به الإنسان ولا يقترب منه أصلاً. وذلك ما أبانه نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم بمثل ضربه لأصحابه فقال: "الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير الناس فمن اتقى المشبهات استبر لدينه وعرضه ومن وقع في المشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه"[17].
وهذه هي الحكمة التي رعاها الشارع الحكيم فأحاط كل شيء حرام بسياج متين من الكراهية والحرمة وأورد قيوداً هينة أو شديدة على وسائل ارتكاب المعاصي على حسب بعدها أو قربها منها.
لقد كان الإسلام إنما نهى عن التعامل بالربا في شؤون الدَّين –القرض- في بادئ الأمر كما روي عن أسامة بن زين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إنما الربا في النسيئة" وفي رواية "لا ربا إلا في النسيئة" ولكنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الحاجة تقتضي فيما بعد، أحاط حمى الله هذا بسياج من القيود حتى لا يقربه الناس فيترددوا فيه. ومن هذا القبيل ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه وقال هم سواء" رواه مسلم وأحمد وأبو داود الترمذي. ومن هذا القبيل تلك الروايات التي نهى فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن ربا الفضل.
ربا الفضل:
هذه الزيادة التي ينالها الرجل من صاحبه عند تبادل شيء مماثل يداً بيد. وهذا النوع أيضاً قد حرمه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يفتح الباب في وجه الناس إلى الربا الصريح وينشئ فيهم عقلية من نتائجها اللازمة شيوع المراباة في المجتمع. وذلك عين ما أوضحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تبيعوا الدرهم بدرهمين فإني أخاف عليكم الرما (وهو الربا)".
أحكام ربا الفضل:
1- عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب والفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد" رواه أحمد ومسلم، وللنسائي وابن ماجه وأبي داود نحوه، وفي آخره" وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر يداً بيد كيف شئنا".
2- وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء"، رواه البخاري أحمد ومسلم، وفي لفظ لأحمد ومسلم "لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزناً بوزن مثلاً بمثل سواء بسواء".
3- وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا –أي لا تزيدوا- بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز –أي حاضر-" رواه البخاري ومسلم.
4- وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه" رواه مسلم.
5- وعن سعد بن أبي وقاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن شراء التمر بالرطب فقال: "أينقص الرطب إذا يبس؟ فقال نعم فنهاه عن ذلك" رواه مالك والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
6- وعن أبي سعيد قال كنا نُرزق تمر الجمع، وهو الخلط من التمر، وكنا نبيع صاعين بصاع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا صاعين بصاع ولا درهمين بدرهم" رواه البخاري.
7- وعنه وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال: "أكل تمر خيبر هكذا؟ قال لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بثلاث،" فقال: لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً"، وقال في الميزان مثل ذلك متفق عليه.
8- وعن أبي سعيد قال جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "من أين لك هذا؟" قال "كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع" فقال أوّه "عين الربا عين الربا، لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به" متفق عليه.
9- وعن فضالة بن عبيد قال اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر ديناراً فيها ذهب وخرز، ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً[18]، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال "لا يباع حتى يفصّل" رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي.
10- وعن أبي بكرة قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا" متفق عليه.
مبادئ الأحكام المذكورة:
إذا تتبعنا الأحاديث المذكورة ومعانيها والظروف التي رويت فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصلنا إلى المبادئ والأحكام الآتية:
1- من الظاهر أن الحاجة إلى تبادل شيئين من جنس واحد لا تعرض للإنسان إلا إذا كانا مختلفتين في النوع مع اتحادهما في الجنس، كنوع أعلى ونوع أدنى من البر أو الذهب أو الملح وغيرها فتبادل هذه الأشياء بالزيادة أو النقصان مع اختلاف الأنواع واتحاد الجنس، ولو كان سعرها في السوق مرعياً فيه، مظنة لنشوء عقلية تفضي بصاحبها إلى المراباة والاستنفاع الحرام. فقررت الشريعة لأجل ذلك أن الناس إذا احتاجوا إلى تبادل الأشياء من جنس واحد، فمن اللازم أن لا يختاروا فيه إلا أحد الطريقين: إما أن يتبادلوهما سواء بسواء صارفين النظر عما بينهما من فرق القيمة، أو يبيع كل رجل شيئه نقداً ثم يشتري من غيره شيئه نقداً حسب سعر السوق.
2- قد بينا آنفا أن العملات كلها في الزمن القديم كانت من الذهب الخالص أو الفضة الخالصة، وكانت قيمتها في حقيقة الأمر قيمة ذهبها وفضتها. فما كانت الحاجة تعرض للناس إلى تبادل الدرهم بالدرهم والدينار بالدينار إلا عندما احتاج أحدهم الدرهم الرومي بدلاً من الدرهم العراقي، أو الدينار الإيراني بدلاً من الدينار الرومي مثلاً. فكان المرابون من اليهود وغيرهم من آكلي السحت يستغلون مثل هذه الفرص ويكسبون من ورائها منافع غير مشروعة، كما تؤخذ الأجرة اليوم على تبادل العملات الأجنبية أو على صرف الورقة المالية ذات الخمسة أو العشرة أو المائة ليرة مثلاً. فلما كان ذلك مما ينشئ في الناس عقلية المرابين، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تبادل الذهب بالذهب والفضة بالفضة مع الفرق بين مقدارهما وعن بيع درهم بدرهمين.
3- ومن صور التبادل بين الأشياء المتحدة في الجنس أن يكون عند رجل شيء من جنس بصورته الخام، وعند رجل آخر شيء مصنوع من ذلك الجنس نفسه فيريدا أن يتبادلاهما بينهما. فالذي يجب أن يتبين في هذه الصورة: هل الصنعة قد غيرت من هيئة ذلك الشيء حتى جعلته شيئاً مستقلاً أو لم يظهر فيه بعدما تغير عظيم بالنسبة لهيئة الخام أما في الصورة الأولى، فيجوز التبادل بينهما بالزيادة والنقصان، وأما في الصورة الأخرى، فلا يجوز التبادل بينهما إلا بالتساوي حتى لا يتقوى في الناس داء الاستزادة، فهناك على سبيل المثال تغيرات عظيمة تحدث بنسج القماش أو القطن أو صنع القاطرة من الحديد، وتغيرات خفيفة تحدث بصنع الخلخال أو الخاتم من الذهب. فلا بأس في الأولى من هاتين الصورتين أن تشتري كمية صغيرة من القماش بكمية كبيرة من القطن، أو قاطرة ذات وزن أخف بكمية كبيرة من الحديد، ولكن لا يجوز في الصورة الأخرى أن يتبادل بين الذهب والخلخال إلا بالتساوي[19] أو بأن يباع الذهب في السوق ثم يشتري بقيمته الخلخال.
4- من الجائز تبادل الأشياء من مختلف الأجناس بالتفاوت بشرط تمامه يداً بيد. وسبب هذا الشرط أن كل معاملة تتم يداً بيد، لا بد أن تكون على حسب سعر السوق. فالذي يأخذ الذهب ويعطي الفضة، لا يعطي الفضة مقابل الذهب في معاملة النقد الحاضر إلا على حسب الفرق بين قيمة الذهب والفضة في السوق. ولكن المعاملة بالتفاوت إذا كانت بالدين، فإنها قلما تسلم من غبار الربا، لأن الذي يعطي اليوم 80 قيراطاً من الفضة على أن يستردها بعد شهر قيراطين من الذهب، من أين له أن يعرف أن 40 قيراطاً من الفضة ستكون مساوية لقيراط من الذهب بعد شهر. فما تعيينه النسبة بين تبادل الذهب والفضة سلفاً إلا نتيجة لعقلية المرابي والمقامر. وكذلك إن الرجل الذي يأخذ منه 80 قيراطاً من الفضة على أن يردها إليه بعد شهر قيراطين من الذهب، فهو أيضاً يلج باب المقامرة حيث ضمن في نفسه أن تكون النسبة بين قيمة الذهب والفضة بعد شهر 1: 35 بدلاً من 1: 40. فبناء على هذا قد قرر الشارع أن لا يتبادل بالتفاوت بين الأشياء المختلفة في الأجناس إلا يداً بيد. أما الدين، فيجب أن يكون على أحد طريقين: إما ألا يُرد إلا الشيء الذي يؤخذ وبالمقدار الذي يؤخذ به فإذا أخذ قيراط من الذهب مثلاً فالواجب أن يُرد قيراط من الذهب لا مائة قيراط من الفضة، أو أن تتم المعاملة بالنقد بدلاً من أن تم بصورة الأجناس، فإذا كان زيد أخذ اليوم من الأرز ما قيمته 80 ليرة فمن الجائز أن يقول لمن أخذ منه الأرز إني سأرد إليه بعد شهر 80 ليرة أو من الشعير ما ستكون قيمته 80 ليرة. وهذه القاعدة قد جاء بيانها في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود وفيه "لا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يداً بيد ولا بأس ببيع البر الشعير والشعير أكثرهما يداً بيد وأما النسيئة فلا".
لا شك أن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم هذه مجملة وليس فيها التصريح بجميع الصور الجزئية للمعاملات، فهناك جزئيات قد يتطرق إليها الشك ولا يكاد يعرف ما إن كانت من الربا أم لا؟ وإلى ذلك أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله "إن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن وإن النبي صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يبينه لنا فدعوا الربا والريبة".
الخلاف بين الفقهاء في الجزئيات:
وهذا الإجمال هو منشأ الخلاف بين الفقهاء في تعيين الأجناس الربوية وعلة تحريمها.
تقول طائفة منهم: إن الربا إنما هو مقصور على الأجناس الستة المذكورة في الحديث وهي البر والشعير والذهب والفضة والتمر والملح. أما الأجناس الأخرى فلا يجري فيها الربا ويجوز تبادلها بالتفاصيل بدون قيد. وهذا ما ذهب إليه قتادة وطاووس وعثمان البتي وابن عقيل الحنلي والظاهرية.
وتقول طائفة أخرى: إن كل شيء يباع بالكيل أو الوزن، يدخله الربا. وهذا ما ذهب إليه عمار وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل في رواية.
وتقول طائفة ثالثة: إن الربا يدخل الذهب والفضة وكلّ ما يباع بالوزن أو الكيل من المأكولات وهذا مذهب سعيد بن المسيب ومذهب الشافعي وأحمد في رواية.
وتقول طائفة رابعة: إن علة تحريم ربا الفضل أمران: أحدهما أن يكون الطعام مقتاتاً ومعنى كونه مقتاتاً أن يقتات به الإنسان غالباً بحيث تقوم عليه بنيته. ثانيهما أن يكون صالحاً للادخار. هذا ما ذهب إليه الإمام مالك بن أنس.
وقد ذهب أبو حنيفة وأحمد فيما يتعلق بالدرهم والدينار إلى أن علة حرمة الربا فيهما هي الوزن. وقال الشافعي ومالك –وأحمد في رواية- إنها القيمة.
وباختلاف المذاهب هذا قد اختلف إجراء حكم تحريم الربا في المعاملات الجزئية. فشيء ليس من الأجناس الربوية في مذهب، وهو من الأجناس الربوية في مذهب آخر. وعلة حرمة الربا بعض الأشياء في مذهب مختلفة عنها في مذهب آخر، ومن ثم يدخل الربا بعض الأشياء في مذهب ولا يدخلها في مذهب آخر. على أنه ليس هذا الاختلاف بين المذاهب في الأمور التي يدخلها الربا بموجب أحكام الكتاب والسنة الصريحة، وإنما هو من الأمور المشتبهة الواقعة على الحد بين الحلال والحرام. فإن حاول أحد الآن محتجاً بهذه المسائل المختلف فيها أن يرمي بالاشتباه أحكام الشريعة في المعاملات التي قد وردت النصوص على كونها من الربا ويفتح باب الرخص والحيل بهذا الطريق للاستدلال ويدعو الأمة إلى سلوك طرق الرأسمالية، فلا شك أنه يعد تاركاً للكتاب والسنة للظن والخرص وضالاً مضلاً ولو كان مخلصاً صادق النية عند نفسه.

الفصل السادس
التدوين الجديد للقوانين الاقتصادية ومبادئه
مما نسلم به تسليماً أن الزمان قد تغيرت أوضاعه وظهر في حالات الدنيا الاجتماعية والاقتصادية انقلاب عظيم لم تعد الشؤون المالية والتجارية بعده على ما كانت عليه في الأزمان الفارطة، ففي مثل هذه الأوضاع الجديدة لا يمكن أن تكفي لحاجات الناس الحاضرة ما كان دوّن فقهاؤنا من القوانين في أول عهد الإسلام في الحجاز والعراق والشام ومصر وفقاً لأحوالهم وأوضاعهم، لقد كان التعبير الذي جاء به هؤلاء الفقهاء –شكر الله مساعيهم- لأحكام الشرع الإسلام حسب ما كانت تجري عليه الأوضاع الاقتصادية حولهم في مختلف الأقطار الإسلامية، ولكن لم يبق الناس اليوم في معظم تلك الأوضاع، وقد تجددت مكانه أوضاع جديدة أخرى ما كان للناس بها عهد في الأزمان القديمة. فالقوانين التي توجد اليوم مدونة في كتبنا الفقهية القديمة عن البيع والشراء والمعاملات المالية والاقتصادية، ما بقيت للناس حاجة إلى أكثرها اليوم. أما القوانين والمسائل التي قد اشتدت إليها الحاجة في الزمن الحاضر فلا توجد في هذه الكتب. فما الخلاف إذن في وجوب التدوين الجديد لقوانين الإسلام للشؤون المالية والاقتصادية، وإنما الخلاف في الطريق الذي ينبغي أن يكون به هذا التدوين.
الحاجة إلى التفكير قبل التجديد:
أما إذا اتبعنا الطريق الذي قد اخترعه اليوم أصحابنا المتجددون لتدوين أحكام الإسلام. فلا يكون هذا التدوين في حقيقة أمره إلا تخريباً للشريعة الإسلامية وتشويهاً لوجهها ومسخاً لمبادئها، ولا يكون معناه إلا أن نرتد في حياتنا الاقتصادية عن الإسلام، لأن الطريق الذي يرشدنا إليه هؤلاء المتجددون، مناف لطريق الإسلام في غاياته ونظرياته ومبادئه. إنهم لا يقصدون إلا كسب المال حلالاً أو حراماً مع أن الإسلام يقصد أكل الحلال قبل كل شيء. وإن الغاية المنشودة في أعينهم أن يصبح المرء مالكاً للملايين ومئات الملايين بصرف النظر عما إن كان يكسب هذا المال بالطريق المشروعة أو غير المشروعة. وأما الإسلام فيريد ألا يكسب المرء شيئاً إلا بالطريق المشروعة وبدون أن يهضم فيه حقوق غيره، سواء أيصبح بكل ذلك مالكاً للملايين أم لا يصبح. يظنون أن السعيد الموفق هو من واتاه المال ووضع يده على أكثر ما قدر عليه من الوسائل الاقتصادية وامتلك بها ناصية العز والشرف والرفاه والقوة والنفوذ والسلطة ولو بأي لون من ألوان الأثرة والظلم والكذب والغش والشقاوة، مهما أهدر في سبيلها من حقوق غيره من أهل البشر ولو كان لم يأل جهداً في إشاعة الشر والفساد والانحلال الخلقي والفحشاء في الدنيا وجر النوع البشري إلى ميادين الهلاك المادي المعنوي. أما السعيد الموفق في نظر الإسلام فهو من سعى لكسب معاشه ملتزماً الصدق والأمانة والعفاف والمحافظة على حقوق غيره ومصالحهم. فإن أصبح يمثل هذا السعي الطاهر النزيه مالكاً للملايين، فهو نعمة عليه من الله تعالى وشكران منه لسعيه. ولكنه إذا لم يجد طول حياته إلا قدر ما يمسك به رمق حياته من المأكل، وقدر ما يستر به جسده من الملبس وقدر ما يأوي إليه من المسكن، فإنه لا يُخفق في سعيه كذلك. فهذا الاختلاف في وجهة نظر هؤلاء القوم عن وجهة نظر الإسلام هو الذي يقضي بهم إلى طريق يخالف طريق الإسلام ويتفق مع طريق الرأسمالية الخالصة. أما السهولات والرخص والحيل التي هم في حاجة إليها لسلوك طريقهم الجديد، فلا يكادون يجدونها في الإسلام البتة. فليشوهوا الإسلام ما استطاعوا ويقلبوا أحكامه ومبادئه ويوسعوا فيها حسب أهوائهم، فأنى لهم أن يجدوا منها قاعدة أو منهجاً للعمل يفضي بهم إلى غايتهم التي يتمنون بلوغها. الحق أن الذي يريد سلوك هذا الطريق، عليه أولاً أن يمسك يده عن مخادعة الناس ومخادعة نفسه باسم الإسلام، وليكن منه ذكر أنه إن كان يريد طرق الرأسمالية، فلا بد له من اتباع المبادئ والأحكام المالية والاقتصادية الجارية اليوم في أميركا وأوربة الغربية بدلاً من أحكام الإسلام ومبادئه. أما الذين هم مسلمون ويريدون أن يبقوا على إسلامهم ويؤمنون بالقرآن والسنة المحمدية ولا يبغون عنهما بديلا في حياتهم العملية، فإنهم لا يحتاجون إلى ضابطة جديدة للأحكام ليتمكنوا بها من الاستفادة من مؤسسات النظام الرأسمالي أو ليخرجوا لأنفسهم في الشريعة الإسلامية رخصاً تجعلهم تجاراً يملكون الملايين أو أصحاباً للمعامل والمصانع الكبيرة، لا يحتاجون إلى ضابطة جديدة للأحكام لهذا الغرض في حقيقة الأمر، وإنما يحتاجون إليها ليتمكنوا من إفراغ حياتهم حسب مبادئ الإسلام الصحيحة الخالصة في الزمن الحاضر وأوضاعه الاقتصادية والمالية والتجارية الجديدة، وليستطيعوا تجنّب الطرق غير المرضية عند الله تعالى في بيوعهم وتجاراتهم والاستفادة من الرخص التي يمكن إخراجها في ضمن دائرة الشريعة الإسلامية إذا ما عرضت لهم المشكلات والاضطرارات الحقيقية عند المعاملات مع الأمم الأجنبية. لا شك أن التدوين الجديد للقانون الإسلامي ضرورة لا مناص منها لهذا الغرض، ومن واجب علماء الإسلام أن يبذلوا جهودهم لقضاء هذه الحاجة وتحقيق هذا الغرض.
الحاجة إلى التجديد في القانون الإسلامي:
ليس القانون الإسلامي من القوانين الجامدة (Static) حيث إذا تم تدوينه مرة في زمن خاص ولظروف معينة، يبقى على صورته الخاصة إلى أبد الدهر دون أن يقبل نوعاً من التغير على كر الأيام وتغير الظروف والأماكن. والذين يرون في قانون الإسلام قانوناً جامداً كهذا، مخطئون، بل لا أتجاوز الحق إذا قلت إنهم لا يفهمون روح الإسلام، لأن الإسلام إنما وضع أساس شريعته على العدل والصدق والحكمة وليست غايته الحقيقية من التشريع إلا تنظيم ما بين مختلف العباد من الروابط والمعاملات على وجه مستقيم يزيل من بينهم أسباب المنافسة والمزاحمة، وينشئ فيهم مكانها عاطفة التعاون والتضامن والتساند، ويحدد بكل عدل وتوازن ما لواحد منهم على غيره من الحقوق والواجبات، حتى لا يقتصر الأمر على أن ينال كل واحد منهم الفرص الكافية لرقيه ونموه حسب كفاءته ومقدرته فحسب، بل يكون مع ذلك مساعداً لغيره في ترقية شخصيته وإنمائها، أو لا يكون –على الأقل- سبباً للفساد والقلق بمزاحمته له في سبيل رقيه وكماله. ولهذا الغرض السامي قد أنزل الله تعالى في كتابه المجيد وعلى رسوله الكريم طائفة من التعليمات لكل شعبة من شعب الحياة. والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بتمثيله هذه التعليمات في الحياة العملية، قدم لنا نموذجاً صالحاً للحياة العادلة الحكيمة. ولا شك أن هذه التعليمات كانت نزلت في زمن خاص وفي ظروف خاصة ونفذت في مجتمع خاص، ولكن يمكن أن نستنبط من ألفاظها ومن الطرق التي نفذها عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، أصولاً شاملة يمكن أن يعمل بها لتنظيم المجتمع الإنساني على الوجه السوي في كل زمن من الأزمان وفي كل حال من الأحوال. أما الشيء الثابت غير القابل للتغير والتبدل، فإنما هو هذه المبادئ والأصول وعلى المجتهدين في كل زمان أن لا يفتؤوا يستنبطون الأحكام من أصول الشريعة حسب ما يعرض لهم من الأحوال والحاجات، وينفذونها في المعاملات على وجه يحقق الغاية التي أرادها الشارع من ورائها. ليست القوانين التي استنبطها الناس من مبادئ الشريعة وقواعدها بثابتة لا تقبل التغيير والتبدل مثل هذه المبادئ والأصول نفسها، لأن واضع هذه المبادئ والأصول هو الله تعالى، وأما هذه القوانين والأحكام كما استخرجها ورتبها إلا الناس أنفسهم، فالأصول والمبادئ هي لجميع الأزمان والأحوال والأماكن وأما هذه القوانين والأحكام فهي لأحوال خاصة ولظروف معلومة.
الشروط اللازمة للتجديد:
إن الإسلام، كما قلنا آنفاً، فيه السعة التامة والاستعداد الأوفى لقبول التغير في أحكامه حسب تبدل الظروف وخصائص الأزمان تحت أصول الشرع، بل الإسلام يقتضي أن تظل أحكامه وقوانينه ترتب وفق ما يعرض للمسلمين من الحاجات والملابسات المتجددة، فللمجتهدين الحق التام في أن يستخرجوا الأحكام ويفرعوا المسائل من أصول الشرع حسب أحوالهم وأزمانهم وأماكنهم. وليس الأمر أن يكون أهل العلم في عصر خاص قد أعطوا الامتياز لوضع القانون لجميع الأزمان والظروف والأماكن، وسلب غيرهم هذا الحق بتاتاً. ولكن ليس معنى ذلك أن لكل رجل الحرية في تغيير الأحكام ومسخ الأصول وتأويلها على حسب هواه وتحريف القوانين عما أراد بها الشارع الحكيم، فإن ذلك مما له ضابطة خاصة تشتمل على شروط لازمة:
الشرط الأول:
فالشرط الأول الذي يستلزمه تدوين القوانين الفرعية، هو الفهم التام لطبيعة الشريعة ومزاجها، وهو مما لا يحصل إلا بالتدبر في تعليم القرآن وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم فكل من كان له في الكتاب والسنة نظر واسع عميق فله أن يكون عارفاً لطبيعة الشريعة ومزاجها[20] ومن الممكن أن تأخذ بصيرته بيده عند كل خطوة، وتبين له أي الطرق المختلفة يلائم طبيعة الشريعة وأيها يمجها ويخل باتزانها واعتدالها. فكل تغير يدخل في أحكام الشريعة بمثل هذه البصيرة، فإنه لا يكون معتدلاً متناسباً فحسب، بل سيكون محققاً لمرضاة الشارع في محله الخالص على نحو ما لو كان من الشارع نفسه. ولنا أن نقدم عدة أمثلة على ذلك من سيرة الصحابة رضي الله عنهم: منها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسقط القطع عن السارق في عام المجاعة. ومنها أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أعفى أبا محجن يوم القادسية من الحد وكان قد شرب الخمر. ومنها أن عمر رضي الله عنه كتب إلى الناس أن لا يُجْلَدنّ أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حداً وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلاً لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار. فهذه الأمور وإن كانت في ظاهر الأمر مخالفة لأحكام الشارع الصريحة، ولكن لا يخفى على من يعرف طبيعة الشريعة أن العدول عن امتثال الأحكام العامة في مثل هذه الأحوال والمصالح موافق كل الموافقة لمرضاة الشارع ومقصوده. ومن هذا القبيل قضية عمر رضي الله عنه في غلمان حاطب بن أبي بلتعة، أن غلمة لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فأتى بهم عمر فأقروا، فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء، فقال له: إن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مزينة وأقروا على أنفسهم، فقال عمر يا كثير بن الصلت اذهب فاقطع أيديهم. فلما ولى بهم ردهم عمر ثم قال: أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى أن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له، لقطعت أيديهم، وايم الله إذ لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك. ثم قال: يا مزني بكم أريدت منك ناقتك قال بأربعمائة قال عمر اذهب فأعطه ثمانمائة[21] وكذلك إن الذي أمر به عمر في التطليقات الثلاثة كان مخالفاً لما كان عليه العمل قبله في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق رضي الله عنه. ولكن لما كانت هذه التغيرات كلها ما أدخلت في الأحكام إلا مع الوقوف التام على طبيعة الشريعة ومقتضاها، لا يقدح فيها بشيء أبداً أما التغير الذي لا يستند إلى هذا الفهم والبصيرة في طبيعة الشريعة، فإنه يخل باتزانها ويسبب فيها الفوضى والفساد ولا شك.
الشرط الثاني:
والشرط المهم الثاني بعد فهم طبيعة الشريعة ومقتضاها هو إمعان النظرة الشاملة في أحكام الشارع حملة عن كل شعبة من شعب الحياة تقتضي وضع القانون فيها حتى يعرف مقصود الشارع منها، والخطوط التي يريد أن تُنظّم عليها هذه الشعبة، وما هي منزلة هذه الشعبة الخاصة في خطة الإسلام الشاملة للحياة الإنسانية، وما هي المصلحة التي قد راعاها الشارع في هذه الشعبة بمناسبة هذه المنزلة؟ هذا هو الشرط الثاني اللازم لتدوين القانون الإسلامي من جديد، فكل قانون يوضع بدونه أو كل حذف أو زيادة تدخل في القانون القديم بدون فهمه، فلن يكون مطابقاً لمقصود الشارع ولا بد أن ينحرف به القانون عن مركزه. إن القانون الإسلامي لا أهمية فيه لظواهر الأحكام مثل ما هي لمقاصد الأحكام، وإن وظيفة الفقيه الأصلية ألا يغيب عن نظره أبداً مقصود الشارع وحكمته ومصلحته. وقد تأتي علينا أحوال إذا عملنا فيها بظواهر الأحكام التي أمر بها الشارع للأحوال العامة ضاع عنا مقصود الشارع وعملنا بضده. فمن اللازم في مثل هذه الأحوال أن نترك ظاهر الأحكام ونعمل بما يحقق مقصود الشارع الحقيقي. ولا يخفى عليكم أن القرآن قد أكد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قد أكده النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً، ولكن مع ذلك قد نهى صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الخروج على الأمراء والولاة الظالمين لما استأذنوه في قتال أمثال هؤلاء الأمراء، فقال لهم "لا ما أقاموا فيكم الصلاة" وقال "من رأى منكم من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يده عن طاعته". ذلك بأن مقصود الشارع ومراده الحقيقي هو تبديل الفساد بالصلاح والشر بالخير فإذا كان يخشى من عمل وقوع ما هو أعظم فتنة ولا يرجى منه الخير، فالاحتراز منه خير من الإقدام عليه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه: "مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه وقلت له إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم". فالذي نعلم من هذا أنه يجوز تغيير الأحكام حسب مقتضيات الحوادث وخصائصها ومصالحها، ولكن حيث يحقق مقصود الشارع الحقيقي دون أن يضيعه.
وكذلك هناك من أحكام الشريعة ما جاء بألفاظ خاصة حسب الأحوال الخاصة، فما وظيفة الفقيه أن يكون متقيداً بهذه الألفاظ على تغير الأحوال، بل عليه أن يدرك من هذه الألفاظ مقصود الشارع ويضع الأحكام الملائمة الجديدة لتحقيق مقصود الشارع في الحالات الجديدة الحاضرة. فمثلاً إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بصاع من التمر أو صاع من الشعير أو صاع من الزبيب في صدقة الفطر. فليس معنى ذلك أن الصاع الذي كان يستعمل للكيل في المدينة في تلك الأيام وأن هذه الحبوب التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، لا تجوز صدقة الفطر إلا بها، بل إن مقصود الشارع الحقيقي هو أن يتصدق كل ذي سعة مستطيع يوم العيد ما يغني أخاه المسكين ويجعله يقضي ذلك اليوم بين أهله وأولاده بالفرح والمسرة على الأقل. وهذا المقصود من الممكن تحقيقه على وجه آخر إذا كان أقرب للوجه الذي بيّنه الشارع.
الشرط الثالث:
ومن اللازم مع ذلك، الإدراك التام لأصول تشريع الشارع وإصداره الأحكام للأمة حتى لا تتمثل في وضع الأحكام في مختلف الحوادث والمصالح والأحوال إلا هذه الأصول وهذا ما لا يتأتى لنا ما دمنا لا نتأمل على وجه شامل وضعية الشريعة وخصائص أحكامها حكماً حكماً: كيف أقام الشارع العدل والاتزان في الأحكام؟ وكيف راعى فيها الفطرة الإنسانية؟ وما هي الطرق التي انتهجها فيها لدفع المفاسد وجلب المصالح؟ وعلى أي أسلوب نظم فيها المعاملات الإنسانية وخرطها في سلك من الاتقان والترتيب والانضباط؟ وكيف أرشد الإنسان وأخذ بيده إلى مقاصده العليا وأوجد له –مع ذلك- في طريقه السهولات المتناسبة مع أحواله رعاية لما في فطرته من مواطن الضعف؟ فكل هذه الأمور وأمثالها جديرة بأن نطيل فيها التأمل قبل أن نشرع في وضع الأحكام الجديدة في الشريعة، ومن اللازم لها أن نتدبر في نصوص القرآن اللفظية والمعنوية وما في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله من الحكم والمصالح فكل من كان متزوداً بمثل هذا العلم والتفقه في الدين، له أن يدخل التغيير الجزئي في الأحكام رعاية لتغير الحوادث والمصالح والأماكن ويضع الأحكام الجديدة للمعاملات التي ما جاءت فيها النصوص في القرآن والسنة، لأن الطريق الذي ينتهجه مثل هذا الرجل في اجتهاده، لا يكون منحرفاً عن أصول التشريع في الإسلام. فالقرآن، مثلاً، إنما جاء فيه الأمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب فقط، ولكن الصحابة رضوان الله عليهم عملوا باجتهادهم ووسعوا هذا الأمر إلى أخذ الجزية من مجوس العجم وعُبّاد الأصنام في الهند والبربر في أفريقية أيضاً وعلى هذا لما اتسعت الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين ودخلت فيها الأقطار الجديدة وعرضت للصحابة فيها كثير من المعاملات التي ما كانت قد جاءت فيها الأحكام الواضحة في الكتاب والسنة، دونوا لها القوانين الجديدة وكانت موافقة أتم الموافقة لروح الشريعة الإسلامية وأصولها.
الشرط الرابع:
إن كل تغير في الأحوال والحوادث، إذا كان يقتضي التغير في الأحكام أو وضع الأحكام الجديدة، يجب أن نختبره من ناحيتين: الناحية الأولى تحديد نوع هذه الأحوال والحوادث في ذاتها وما هي خصائصها وما هي القوى التي تعمل فيها؟ والناحية الثانية: تحديد الوجه الذي قد حدثت منه فيها التغيرات للآن من وجهة نظر القانون الإسلامي، وما هو التغير الذي يقتضيه في الأحكام كل نوع من هذه التغيرات.
فخذ على سبيل المثال قضية الربا التي نحن بصدد بحثها الآن فإذا أردنا اليوم التدوين الجديد للقوانين الاقتصادية، فعلينا قبل كل شيء أن نستعرض ما عليه الدنيا الاقتصادية في زمننا الحاضر، نسرح النظر ونمعنه بكل دقة في الطرق الجديدة للاقتصاديات والمعاملات المالية ونجتهد في إدراك القوى التي تعمل عملها في باطن الحياة الاقتصادية ونعرف نظرياتها ومبادئها، ونطلع على الصور العملية التي تظهر فيها هذه النظريات والمبادئ وعلينا بعد ذلك أن نرى في الأقسام التي يمكن أن يقسم عليها –بوجهة نظر القانون الإسلامي ما قد حدث في هذه المعاملات من التغيرات بالنسبة للزمن الماضي، وأي نوع من الأحكام ينبغي تنفيذه في كل قسم من هذه الأقسام على حسب طبيعة الشريعة ومقاصدها وأصولها التشريعية. ونحن إذا صرفنا النظر عن الفروع والجزئيات، فلنا أن نقسم هذه التغيرات على قسمين:
1- قسم للتغيرات التي قد ظهرت في الحقيقة بتغير الأحوال المدنية وهي النتائج الطبيعية لرقي الإنسان ونموه العلمي والعقلي والاكتشافات الجديدة للخزائن الإلهية وارتقاء الأسباب والوسائل المادية والسهولات الحديثة في وسائل الحمل والنقل والمواصلة وتغير وسائل الإنتاج واتساع دائرة الروابط الدولية. فمثل هذه التغيرات تغيرات طبيعية حقيقية من وجهة نظر القانون الإسلامي فلا يراد محوها ولا يمكن، بل الحاجة تقتضي أن توضع الأحكام الجديدة لما قد حدث لأثرها من الصور الجديدة للأحوال الاقتصادية والمعاملات التجارية والمالية حتى يتمكن المسلمون في أحوالها المتغيرة من تكييف حياتهم وصوغ أعمالهم حسب الطراز الإسلامي تماماً.
2- والقسم الثاني هو تلك التغيرات التي ليست في حقيقة الأمر بنتائج فطرية لرقي المدنية الإنسانية، وإنما ظهرت لاستيلاء أصحاب الأموال الظالمين –الرأسماليين- على نظام العالم الاقتصادي وشؤونه المالية. إن الرأسمالية[22] الظالمة التي كانت سائدة في العالم في عهد الجاهلية والتي ما زال الإسلام غالباً عليها ولم يسمح لها برفع رأسها إلى قرون، قد عادت وسيطرت مرة أخرى على العالم الاقتصادي. ووسّعت من نظرياتها القديمة في مختلف شؤون الحياة الاقتصادية بصور شتى مستعينة بأسباب المدنية الحديثة ووسائلها الراقية فالتغيرات التي قد ظهرت اليوم لسيطرة الرأسمالية وغلبتها هذه، ليست بتغيرات حقيقية طبيعية في نظر قانون الإسلام وإنما هي تغيرات صناعية يمكن بل يجب محوها بالقوة لفلاح النوع البشري وسعادته. إن الواجب الحقيقي على المسلم أن يستنفد جهده في محو مثل هذه التغيرات ويسعى سعيه لإفراغ نظام العالم الاقتصادي في قالب المبدأ الإسلامي الخالص. إن محاربة الرأسمالية واجب متحتم في عنق المسلم أكثر مما هو متحتم في عنق الشيوعي، لأن الشيوعي إنما نَصُب عينه ملء البطن ولا يسعى المسلم إلا للمحافظة على الدين والأخلاق قبل كل شيء آخر. إن الشيوعي لا يريد الحرب إلا لأجل الشغيلة (Proletariates) وأما المسلم فلا يمسك السيف في يده إلا لصالح النوع البشري وفلاحه وسعادته قاطبة، بما فيه الرأسمالي نفسه. إن حرب الشيوعي قائمة على الأثرة، وأما المسلم فإنما حربه قائمة على ابتغاء مرضاة الله وحده. فلا يمكن بأي وجه من الوجوه أن يصانع الرأسمالية الظالمة الحاضرة ويصالحها. فهو إن كان مسلماً وملتزماً لأحكام دينه فالواجب عليه من ربه ألا يألوا جهداً في محو هذا النظام الظالم ويصبر في مقاومته صبر الشجاع، ويتحمل كل ما قد يصيبه فيها من الضرر في ماله. فالحقيقة أن أي قانون يقرره الإسلام في هذه الشعبة الخاصة من شعب الحياة الاقتصادية، فلن يكون غرضه أبداً أن يهيء للمسلمين السهولات في الانجداب إلى النظام الرأسمالي والمساهمة في إدارته وإيجاد الأسباب لنجاحه، وإنما يكون غرضه الوحيد أن يحفظ المسلمين والعالم كله من الوقوع في هذا القذر ويعلق جميع الأبواب العاملة على ترقية الرأسمالية الظالمة المحرمة المشؤومة.
الأصول العامة للتخفيف في أحكام الشريعة:
وهناك مجال كاف في القانون الإسلامي للتخفيف من شدة الأحكام حسب الأحوال والمقتضيات، فمن قواعد الفقه مثلاً أن الضرورات تبيح المحظورات وأن المشقة تجلب التيسير، وقد أشير إلى هذه القاعدة في عدة مواضع من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، قال تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) وقال عز وجل (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وقال تباركت أسماؤه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحب الدين إلى الله تعالى الحنيفية السمحة". وقال عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام".
فالإسلام من المسلم به فيه أن يخفف من أحكامه حيث يكون الضرر والمشقة، ولكن لا معنى لذلك أن يضرب بأحكام الشريعة وحدودها عرض الحائط عند كل ضرورة ولو كان منشؤوها الوهم والوهن في العزيمة، بل لذلك عدة أصول ومبادئ من السهل فهمها بالتأمل في تخفيفات الشريعة:
1- يجب أن يلاحظ قبل كل شيء مبلغ المشقة، فإن كل مشقة بالإطلاق لا يجوز أن يرفع بها التكليف الشرعي، وإلا فإن القانون لا يبقى إلا كلعبة في أيدي الناس. فمشقة الوضوء في الشتاء، ومشقة الصوم في الصيف ومشقة الحج والجهاد مثلاً، فلا شك أنها داخلة في تعريف المشقة، إلا أنها ليست بمشقات تسقط لأجلها التكاليف الشرعية، بل لا بد للتخفيف أو الإسقاط من مشقة توجب ضرر أو تسببه كمشقة السفر أو حالة المرض أو خوف العدو وإكراه الظالم أو الفقر المدقع أو الآفة غير العادية أو البلاء العام أو النقص في الجسد. فالشريعة قد خففت في كثير من أحكامها في مثل هذه الأمور المخصوصة، فمن الممكن أن يقاس عليها غيرها.
2- يجب ألا يكون التخفيف إلا على قدر المشقة والاضطرار، فمن كان قادراً على الصلاة جالساً لا يجوز له أن يصلي مضطجعاً، ومن كان يكفي له أن يفطر عشرة أيام في شهر رمضان لأجل المرض، لا يجوز له أن يفطر الشهر كله، ومن كان يمكنه أن يمسك رمق حياته بجرعة أو جرعتين من الخمر، أو أكلة أو أكلتين من لحم الخنزير مثلاً، لا يجوز له أن يأكل أو يشرب أكثر على ضرورته الحقيقية، وكذلك إن الطبيب لا يجوز له أن يرى من جسد المرأة أكثر مما لا بد من رؤيته لغرض العلاج. فعلى هذه القاعدة يجب أن يعين مقدار كل تخفيف حسب مقدار المشقة والضرورة.
3- لا يجوز أن يتخذ لدفع ضرر ما، تدبير فيه من الضرر مثله أو أكثر منه، وإنما يجوز أن يتخذ لهذا الغرض تدبير فيه من الضرر ما هو أخف منه. والقاعدة الأخرى بهذا الشأن أنه لا يجوز الوقوع في مفسدة شديدة اتقاء لمفسدة هي أخف منها أو مثلها، غير أنه من الجائز إذا وقع الإنسان بين مفسدتين أن يختار أهونهما لدفع أشدهما.
4- إن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، فدفع المفاسد واجتناب المحرمات ومحو السيئات له في نظر الشريعة من الأهمية ما ليس لجلب المصالح وأداء الواجبات وإقامة الحسنات، فلأجل هذا إن التسامح والتخفيف الذي قد تأتي به الشريعة في الأمور المأمور بها عند المشقة، لا تأتي بمثله في الأمور المنهي عنها، فالتخفيف الذي يوجد في الشريعة في الصلاة والصوم وغيرهما من الواجبات في السفر والمرض مثلاً، لا يوجد في استعمال الأشياء المحرمة والنجسة.
5- إن التخفيف ليسقط بنفسه بمجرد زوال المشقة أو الضرر، فلا يجوز التيمم مثلاً إذا ارتفع المرض.
تخفيف الشريعة في مسألة الربا:
إذا أدركت هذه القواعد، فتفكر إلى أي حد يجوز التخفيف من شدة أحكام الشريعة في مسألة الربا:
1- إن أخذ الربا وإعطاءه ليسا بمنزلة سواسية في نوعهما، فإن الإنسان قد يضطر إلى إعطاء الربا بعض الأحيان ولكن ما هناك شيء يضطره في حقيقة الأمر إلى أخذ الربا وأكله، لأنه لا يأخذ الربا إلا الغني، فأي اضطرار قد يعرض للغني حتى يضطره إلى استحلال ما حرم الله؟
2- لا تدخل كل ضرورة في باب الاضطرار بالنسبة للاستعراض بالربا، فإن التبذير في مجالس الزواج ومحافل الأفراح والعزاء ليس بضرورة حقيقية، وكذلك ليس اشتراء السيارة أو بناء المنزل بضرورة حقيقية، وكذلك ليس استجماع الكماليات أو تهيئة المال لترقية التجارة بأمر ضروري. فهذه وأمثالها من الأمور التي قد يعبر عنها "بالضرورة" و"الاضطرار" ويُستقرض لها المرابون آلافاً من الليرات، لا وزن لها ولا قيمة في نظر الشريعة، والذين يعطون الربا لمثل هذه الأغراض آثمون. فإذا كانت الشريعة تسمح بإعطاء الربا في حالة الاضطرار فإنما هي حالة قد يحل فيها الحرام كأن تعرض للإنسان نازلة لا بد له فيها من الاستقراض بالربا أو حلت به مصيبة في عرضه أو نفسه أو يكون يخالف خوفاً حقيقياً حدوث مشقة أو ضرر لا قبل له باحتمالها. ففي مثل هذه الحالات يجوز للمسلم أن يستقرض بالربا ما دام لا يجد سبيلا غيره للحصول على المال، غير أنه يأثم بذلك جميع أولي الفضل والسعة من المسلمين، الذين ما أخذوا بيد أخيهم في مثل هذه العاهة النازلة به حتى اضطروه إلى استقراض المال بالربا. بل أقول فوق ذلك إن الأمة بأجمعها لا بد لها أن تذوق وبال هذا الإثم، لأنها هي التي غفلت وتقاعست عن تنظيم أموال الزكاة والصدقات والأوقاف، مما نتج عنه أن أصبح أفرادها لا يستندون إلى أحد ولم يبق لهم من بد من استجداء المرابين عند حاجاتهم.
3- لا يجوز الاستقراض حتى عند الاضطرار إلا على قدر الحاجة، ومن الواجب التخلص منه ما استطاع الإنسان إليه سبيلاً، لأنه من الحرام قطعاً أن يعطي قرشاً واحداً في الربا بعد ارتفاع حاجته وانتفاء اضطراره. أما: هل الحاجة شديدة أم لا؟ وإذا كانت، فإلى أي حد؟ ومتى قد زالت؟ فكل هذا مما له علاقة بعقل الإنسان المبتلي بمثل هذه الحالة وشعوره بمقتضى الدين والمسؤولية الأخروية، فهو على قدر ما يكون متديناً يتقي الله ويرجو حساب الآخرة، يكون معتصماً بعروة الحيطة والورع في هذا الباب.
4- والذين يودعون أموالهم لدى المصارف أو يستأمنون في شركات التأمين أو يضطرون إلى المساهمة في الأموال الاحتياطية تحت قاعدة من القواعد، بناء على اضطراراتهم التجارية أو حفظاً لثروتهم أو ابتغاء للطمأنينة على مستقبلهم لأجل الفوضى القومية الحاضرة، من اللازم بالنسبة لهؤلاء جميعاً أن لا يحسبوا أنفسهم مالكين إلا لرأسمالهم، وأن يؤدوا حتى زكاة رأسمالهم هذا بحساب 2/1 2%سنوياً، لأن ثروتهم المجموعة لا تكون لهم بدون كل هذا إلا نجسة، بشرط أن يكونوا متقين لله لا متعبدين للمال.
5- لا يجوز للمسلم أن يترك للرأسماليين ما يزيد في حسابهم من مال الربا في المصرف أو شركة التأمين أو الأموال الاحتياطية، لأنه سيقوي ساعد هؤلاء المفسدين، فالطريق الصحيح أن يأخذ منهم هذا المال ويوزعه بين أولئك البؤساء المنكوبين الذين تكاد تكون حالتهم حيث يجوز لهم أن يأكلوا فيها الحرام[23].
6- وكل منفعة في التبادل المالي أو الفعالات التجارية إذا كانت حيث تدخل باب الربا أو كانت مشتبهة باختلاط الربا، يجب أن يحترز منها على قدر الطاقة أو أن يسلك في شأنها –إذا تعذر الاحتراز منها- ذلك الطريق نفسه الذي بيناه تحت رقم 5، ويجب أن تكون عين المسلم في هذا الباب على دفع المفاسد لا على جلب المنافع، ويجب أن يكون اجتناب الحرام والابتعاد عن مؤاخذة الله تعالى أعز عليه من ترقية تجارته والحصول على المنافع المالية إن كان يؤمن بالله واليوم الآخر.

الفصل السابع
الصورة العملية للإصلاح
يتضح بوجه قاطع بما قدمنا من الدلائل في الصفحات الماضية أن الربا –من أي نوع كان- قوة هدامة في المجتمع الإنساني، ومن أهم الأسباب التي تسبب الفساد والخلل في الحياة المعنوية والمادية. ومن ثم لا يكاد كل من أوتي نصيباً من العقل يتردد في الاعتراف بوجوب تحريمه. ولا يبقى الآن في وجهنا إلا سؤال واحد ولا نريد أن نجيب عليه في الصفحات الآتية وهو: هل من الممكن في واقع الأمر، إذا ألغينا الربا في شؤوننا الاقتصادية بأجمعها، أن نقيم على وجه الأرض نظاماً للمالية يفي في تحقيق حاجات مجتمع جديد ودولة متحضرة متعطلة الرقي والكمال في الزمن الحاضر؟
شبهات:
يجدر بنا قبل أن نأخذ في الكلام على هذا السؤال، أن نزيل عن الأذهان بعض ما قد يخالجها من الشبهات لا في هذا الصدد وحده بل في كل شأن من شؤون الإصلاح العملي.
فالشبهة الأولى بهذا الصدد هي ما ينشأ السؤال المذكور على أساسها، الحقيقية أن سؤال الناس، بعد اعتقادهم الخطأ في شيء "هل هناك من مندوحة عنه"؟ وسؤالهم بعد اعتقادهم الصواب والحق في مقترح من مقترحات الإصلاح "هل من الممكن العمل به"؟ لا معنى له –بكلمة صريحة- إلا أنهم يظنون أن هناك في ملكوت الله خطأ لا بد منه وأن فيه نوعاً من الحق لا يمكن العمل به.
ليس سؤالهم هذا في حقيقة الأمر إلا سحبهم الثقة بالفطرة ونظامها، ومعناه أننا نعيش في نظام فاسد للكون قد عُلقت فيه بعض حاجاتنا الحقيقية بالأخطاء والمفاسد وأغلقت دوننا أبواب بعض الحسنات بل الذي يدل عليه هذا القول حتماً أن الفطرة –في حد ذاتها-خُلقت على الاعوجاج والزيغ وأن كل شيء خاطئ بموجب قوانينها، هو النافع المهم وبه يمكن العمل وأن كل شيء صحيح بموجب قوانينها هو الضار ولا يمكن أن يعمل به في نظامها.
فهل حقاً تبرهن عقولنا وعلومنا وتجاربنا التاريخية من أن طبيعة الفطرة تستحق سوء الظن والفهم على مثال هذا الوجه؟ وهل من الحقيقة أن الفطرة تعادي البناء والإصلاح وتحامي عن الهدم والفساد؟ فإذا كان الأمر كذلك، فبطن الأرض خير من ظهرها، وعلينا إذن أن نضرب عرض الحائط كل ما لنا من الآراء في صحة مختلف الأشياء وخطئها لأنه لا يبقى لنا إذن في هذا الكون بارقة من الأمل. ولكن إذا كان الواقع هو كذلك ولا شك- أن فطرتنا وفطرة هذا الكون لا تستحق هذا الاحتقار وسوء الظن، فعلينا أن ننفض أيدينا من هذا الاتجاه الغريب للفكر، ونمسك عن القول بأن الشيء الفلاني على كونه سيئاً لا بد منه، وأن الشيء الفلاني على كونه حقاً، لا يمكن العمل به.
الحقيقة في هذا الشأن أن كل طريق –صحيحاً كان أو غير صحيح- إذا نال الرواج في الدنيا مرة، تتعلق به الشؤون الإنسانية ويكاد يبدو من المستحيل في أعين الناس أن يُستبدل به طريق غيره، وأن ليست الصعوبة إلا في إحداث الانقلاب، وليس للسهولة سبب غير الرواج، ولكن السفهاء ينخدعون بذلك ويقولون إن خطأ قدّر له الرواج مرة في الناس، لا يمكن أن تسير الشؤون الإنسانية إلا به وأنه ليس في الدنيا طريق يمكن به العمل سواه.
والشبهة الثانية في هذا الباب منشؤها أن الناس لا يدركون الأسباب الأصلية لما في إحداث الانقلاب من الصعوبة فيأتون يتهمون بالعقم وعدم الإمكان كل مقترح لإحداثه. ولعمر الحق إنك لن تقدّر الإمكانيات الصحيحة للسعي الإنساني ما دمت ترى كل مقترح بإحداث الانقلاب في النظام الراهن الجاري غير قابل للعمل به، فإن الدنيا التي قد نُفِّذ فيها فعلاً اقتراح غريب متطرف كاقتراح إلغاء نظام الملكية الفردية واستبدال نظم الملكية الجماعية به، من اللغو أن يقول فيها أحد أن المقترح المعتدل السوي لإلغاء الربا وتنظيم الزكاة شيء لا يمكن العمل به. ومن المسلم به الذي لا يداخله شك أن لا قبل لكل عمرو وزيد وبكر بأن يغير النظام الرائج ويشكل الحياة الإنسانية على طريق غير طريقه وخطوط غير خطوطه، وإنما يضطلع بهذا العمل الجليل من كان متحلياً في نفسه بصفتين: أولاهما أن يكون قد رغب عن النظام القديم في واقع الأمر وآمن من سويداء قلبه بمقترحه الذي قد جعل نصب عينه أن يشكل نظام الحياة على حسبه. وثانيتهما ألا يكون على الذكاء التقليدي فحسب، بل يكون على الذكاء الاجتهادي، وألا يكون نصيبه من الذكاء الاجتهادي نزراً يسيراً يسيّر به النظام الموروث كزعمائه وأئمته القدماء، بل لا بد له أن يكون صاحب نصيب أوفى يحتاج إليه في شق الطرق الجديدة دون الاكتفاء بالسير في الطرق المعبدة القديمة، فكل من كان متحلياً بهاتين الصفتين مستوفياً إياهما في نفسه، لا يمكن إلا لأمثاله أن ينفذوا فعلاً مقترحات أصعب ما يكون من النظم الانقلابية غير الفطرية كالشيوعية والنازية والفاشية، وأما من كان يعوزه هذا الشرطان، لا يمكن لأمثاله أبداً أن ينفذوا ولا نظاماً انقلابياً بالغاً منتهى السهولة والاعتدال كالنظام الذي يقترحه الإسلام.
ومما يناسب ذكره في هذا المقام أن الناس عندما يطالبوننا بصياغة للعمل واضحة جواباً منهم على اقتراحنا بالإصلاح، فكأنا بهم يحسبون أن موضع العمل هو القرطاس مع أن العمل إنما يكون على الأرض، وأن غاية ما يمكن من العمل على وجه القرطاس في حقيقة الأمر، هو أن نوضح ما في النظام الحاضر من المفاسد والأخطاء وما يجر إلى الإنسانية من المضار والويلات، ونثبت المعقولية والصحة في المقترحات الإصلاحية التي نقدمها ونريد الناس على تنفيذها. ثم إن المسائل التي إنما تتعلق بالعمل بعد ذلك، قصارى ما يمكن في بابها على وجه القرطاس هو أن نجعل الناس يتصورون بوجه عام. كيف يمكن القضاء على ما في النظام القديم من المفاسد والمستقبحات وكيف يمكن تنفيذ المقترحات الجديدة مكانها. أما أنه ماذا يكون من الصورة الشاملة لكل ذلك وماذا سنقطع من مراحله الجزئية وعلى أي وجه سنحل ما يعترضنا من المسائل في كل مرحلة من مراحله فكل هذه الأمور مما لا يمكن أن يعرفه أحد سلفاً ولا أن يجيب في بابه بجواب قاطع. وإن كنتم قد اطمأننتم بأن النظام الحاضر قائم على الخطأ والفساد وأن اقتراحنا بإصلاحه قائم على الصحة والمعقولية، فأقبلوا على الإصلاح وسلموا زمام الأمر إلى الذين يجمعون بين الإيمان والذكاء الاجتهادي تنحل كل مسألة عملية في نفس المرحلة التي ستنشأ فيها إن شاء الله. ويا ليت شعري كيف يمكن أن يتم على وجه القرطاس عمل لا يمكن أن يتم إلا على وجه الأرض؟
ولا حاجة بعد هذا الإيضاح إلى بيان أن كل ما سنبينه في هذا الباب ليس برسم شامل للماليات غير الربوية وإنما هو تصوير عام لكيفية إلغاء الربا وتطهير الماليات الاجتماعية منه على الوجه العملي، وحل المسائل الكبيرة التي تواجهنا بمجرد قصدنا إلى إلغاء الربا.
الخطوة الأولى في طريق الإصلاح:
قد اتضح جلياً بما سلف في الفصول الثلاثة الماضية من التفصيل لمفاسد الربا في المعيشة الاجتماعية ونظامها المالي ما ظهرت إلا لأن القانون قد أتاح الربا في المجتمع. ومن الظاهر أن الإنسان ما دام يجد باب الربا مفتوحاً في وجهه، لا يكاد يقرض أحداً من جيرانه قرضاً حسناً أو يشارك غيره في الربح والخسارة في تجارة أو صناعة أو زراعة أو يمد إلى الجماعة يد المساعدة بالإخلاص والمحبة لتحقيق حاجاتها. وأي شيء يمنعه أن يسلم ماله المجموع إلى الرأسمالي ولا ينال منه ربحاً معيناً مضموناً مع بقائه وادعاً مستريحاً في بيته؟ من المستحيل حقاً بعد أن فتحتم الباب على مصراعيه لميول الفطرة ونوازعها الدنيئة، أن تحولوا دون نموها واستفحال مضارها بالمواعظ والنصائح الخلقية المجردة. ليس هذا فحسب، بل إن قانونكم مساعد لهذه الميول وآخذ بناصرها وإن حكومتكم لا تنشئ نظام الماليات الاجتماعية ولا تسيره إلا على هذه السيئة –الربا- فأنى لكم إذن أن تقوموا في وجه شرور الربا وتحولوا دون استفالحها بتعديلات جزئية وإصلاحات سطحية؟ الحق أنه لا يمكن ذلك إلا بأن تغلقوا الباب الذي يلج منه الشر في المجتمع.
والذين يظنون أنه إذا تم أولاً وضع نظام غير ربوي للماليات، بطل الربا بنفسه أو ألغي بموجب القانون بعده على الفور، إنما يريدون أن يأتوا البيت من غير بابه، فإن الربا ما دام مباحاً جارياً يسنده القانون، وما دامت المحاكم تعترف بمشروعية الصفقات الربوية بين الدائن والمدين وتنفذها بالقوة، وما دام الرأسماليون يتمتعون بحرية إطماع الناس في الربا والفائدة المضمونة وجذب أموالهم إلى صناديقهم ثم تقديمها بالربا إلى غيرهم. لا يمكن البتة أن يبرز إلى حيز الوجود وينمو نظام صحيح غير ربوي للمالية. فإن كان إبطال الربا متوقفاً على أن ينشأ ويشب أولاً نظام غير ربوي يحل محل النظام الحاضر، فليكن منكم على يقين أنه لن يأتي علينا إلى يوم القيامة يوم نتخلص فيه من لعنة الربا. لا بد لكم إن أردتم الخلاص من شر الربا أن تلغوا نظامه بموجب القانون عند أول خطوة، وعندها سيبرز بنفسه إلى حيز الوجود نظام غير ربوي للمالية لأن الحاجة كما قيل قديماً أم كل اختراع فهي التي ستكفل بنفسها فتح الطريق على ذلك النظام الصالح إلى النمو والازدهار في كل ناحية من نواحي الحياة.
إن الصفقات القبيحة التي قد تولدت في الناس بفضل الربا، لها جذور متأصلة ومقتضيات قوية في قلوبهم لا يمكن انتزاعها في أي مجتمع من المجتمعات بفعالات ناقصة ومشاريع تافهة سطحية، بل لا بد لهذا الغرض أن يستعان بجميع التدابير والإجراءات التي يقررها الإسلام وأن يصارع الربا في كل ميدان من ميادينه بنفس الإخلاص والتجرد الذي يريده الإسلام، لا يكتفي الإسلام بذم الربا والتنديد بمعايبه على الوجه الخلقي وحسب، بل هو يبغضه إلى النفوس وينفرها عنه بتحريمه عن الوجهة الدينية في جانب، ويلغي نظامه ويبطل الصفقات الربوية بموجب القانون ويعد أخذ الربا وإعطاءه وكتابته والشهادة به جريمة من اختصاص الشرطة أن تتدخل في شأنها (Cognisable Offence) ويعاقب مرتكبيه بالقتل ومصادرة المممتلكات إن كانوا لا ينتهون عنه بعقوبات هينة حيثما تقوم سلطته السياسية ونفوذه الحكومي في الجانب الآخر، ويؤسس نظاماً جديداً للمالية بفرض الزكاة وتكليف الحكومة بجمعها وتوزيعها في الجانب الثالث، ويعنى بإصلاح عامة الناس وتعليمهم وتربيتهم بوسائل الدعوة والنشر حتى تكبت في نفوسهم تلك الصفات والميول التي تحملهم على أخذ الربا وإعطائه وتنمو فيهم مكانها صفات وعواطف يجري بها في أفراد المجتمع روح المواساة والتعاون والتكافل. وكل من أراد إبطال الربا وإلغاء نظامه بالجد والإخلاص والحزم لا بد له أن يعمل كل هذا على نفس الوجه الذي بيناه آنفاً.
نتائج إلغاء نظام الربا:
إن إلغاء نظام الربا إذا جاء مقترناً بالنظام الاجتماعي لجمع مال الزكاة وتوزيعه، ينتج عنه ثلاثة أمور مهمة من الناحية المالية:
1- سوف تتبدل الصورة الفاسدة الحاضرة لاجتماع رأس المال بصورة صحيحة نافعة.
إن الطريق الذي يتجمع به الآن رأس المال هو أن نظامنا الاجتماعي يزيد من ميل الإنسان إلى البخل وجمع المال –وهو مما لا شك في وجوه طبعاً في كل فرد من أفراد البشر قليلاً أو كثيراً- إلى أقصى حدوده بتدابيره المتصنعة، ويحرضه بوسائل الترغيب والترهيب على إنفاق أقل ما يقدر على إنفاقه وادخار أكثر ما يستطيع ادخاره من دخله: يتوعده إذا لم يدخر، أن ليس في المجتمع كله من يأخذ بيده عند النوازل والطوارئ، ويطمعه بالادخار بأنه سينال أجره بصورة الربا. ولهذا التحريض المضاعف يكب على جمع المال وإقلال النفقة في حاجات كل فرد من أفراد المجتمع يزيد دخله ولو بشيء عن حد كفافه، مما يؤدي إلى قلة استهلاك البضائع في الأسواق دون حد الإمكان وتهبط الإمكانيات بصفة مستمرة في رقي التجارة والصناعة وتقدمها ويزيد تكدس رأس المال واكتنازه عند عدد قليل من الناس على قدر ما يقل دخل عامتهم. فهكذا أن اجتماع المال واكتنازه عند قليل من الأفراد يضر المعيشة الاجتماعية بوجه عام، لأن كل فرد يعمل فيها دائماً على زيادة ماله بوجه يعجز آلافاً من الأفراد عن كسب شيء أصلاً فضلاً عن أن يفضل عندهم من دخلهم فاضل.
ولكن... إذا ألغي الربا وصار كل فرد في المجتمع على اطمئنان بأن الأسباب موفورة لمساعدته عند النوازل بما في البلاد من نظام لجمع أموال الزكاة وتوزيعها، تلاشت عن المجتمع الأسباب والمحرضات غير الفطرية على البخل وادخار المال وأخذ الناس ينفقون عن سعة قلوبهم ويجعلون إخوانهم الفقراء على قوة شرائية تمكنهم أيضاً من الإنفاق، مما يؤدي طبعاً إلى رقي التجارة والصناعة وتحسن حالة الناس الاقتصادية وزيادة دخلهم. ففي مثل ذلك الوضع تزيد الأرباح من التجارة والصناعة ولا تعودان تفتقران إلى رأس المال الخارجي –كما تفتقران إليه في مجتمعنا الحاضر- وينهمر إليها المال من كل وجه من داخل البلاد على قدر ما تكونان في حاجة إليه، لأن الناس جميعاً لا يستغنون بتاتاً عن جمع المال –كما يظن بعض الناس- بل أن منهم من يجمعه على مقتضى نشأته أو يضطر إلى جمعه لكثرة دخله وكون المجتمع مغموراً بالرفاهة وسعة البال. وليس هذا الجمع والادخار لبخل الناس أو طمعهم أو خوفهم على مستقبلهم وإنما منشؤه أنهم يكسبون أكثر مما يحتاجون إليه ويفضل عندهم المال على إنفاقهم إياه عن سعة قلوبهم في الطرق المشروعة ولا يجدون فقيراً يقبل منهم الصدقات فيضطرون إلى جمعها اضطراراً فيستعدون لتوجيهها إلى مشاريع الحكومة وتجارة بلادهم وصناعتها بل إلى البلاد المجاورة لبلادهم أيضاً.
2- ستميل ولن تزال تميل ثروة الناس المدخرة إلى الاستغلال في الشؤون المثمرة دون أن تقف متكدسة في مكانها ولن تزال تجارة البلاد وصناعتها وزراعتها تجدها وتستعين بها على قدر حاجتها في كل حين من أحيانها. أن الشيء الوحيد الذي يحمل الثروة على الاستغلال في التجارة والصناعة في النظام الحاضر، هو الطمع في الربا، ولكن هذا الطمع في الربا هو الذي يسبب وقوفهما، لأن الرأسمالي يمسك ولا يزال يمسك ماله في معظم الأحيان رجاء في ارتفاع سعر الربا في السوق، كما أن هذا الطمع في الربا هو الذي قد غير اليوم طبيعة المال وانحرف بها عن طبيعة التجارة، فإن التجارة عندما تحس حاجتها إلى المال، يأبى هذا المال أن يتوجه إليها ويشدد في شروطه، ولكن عندما ينعكس الأمر ولا تعود التجارة في حاجة إلى المال، يجري هذا المال وراء كل تجارة راقية أو غير راقية ويرضى بأن يستغل فيها بشروط هينة. فإذا حرم الربا وألغي نظامه وطولب كل من عنده المال بأداء زكاته 2,5% سنوياً، فلا بد أن تعتدل طبيعة المال ويزول عنه هذا النزق والاستنفار ويجد من نفسه رغبة أكيدة في الاستغلال في التجارة والصناعة كلما وجد إليهما سبيلاً.
3- إذا ألغي نظام الربا، انفصلت ماليات التجارة عن ماليات الدّين. أنه لا يحصل المال في النظام الحاضر في معظم الأحيان –بل كلها تقريباً –إلا الربا، سواء أكان المدين يقترضه لشأن مثمر أو غير مثمر وسواء أكان يقترضه لحاجة موقتة أو لمشروع طويل الأجل. ولكن لا يكون الدين بعد تحريم الربا وإلغاء نظامه إلا لأغراض غير مثمرة أو لحاجات موقتة في التجارات والصناعات ولا بد أن يحصل لها المال على مبدأ القرض الحسن. أما الأغراض المثمرة سواء أكانت متعلقة بالتجارة والصناعة أو مشاريع الحكومة والمؤسسات الأهلية، فيحصل لها المال على مبدأ المضاربه بدل مبدأ القرض.
هذا، ونريد فيما يلي أن نبين على وجه من الإيجاز كيف تسير في النظام غير الربوي للماليات كل شعبة من هاتين الشعبتين.
صور حصول الدين في الماليات غير الربوية:
وخذ لهذا الغرض شعبة القرض أولاً، لأن الناس كثيراً ما تخالج قلوبهم في هذا الباب الشبهة بأنهم لن ينالوا من أحد شيئاً من القرض إذا ألغي نظام الربا. ولكن الحقيقة أنه إذا زالت عن طريق المالية هذه العرقلة النجسة –الربا- فلن يلقى الناس صعوبة في اقتراض المال، بل سيجدون في اقتراضه سهولة لا يجدونها الآن وسيقرضونه على وجه أحسن من الوضع الحاضر.
أ- للحاجات الشخصية: إنما الصورة الوحيدة لحصول القروض للحاجات الشخصية في النظام الحاضر، هي أن ينال الرجل الفقير المال من المرابي ويناله الرجل الوجيه من المصرف بالربا. وفي كل هاتين الصورتين يمكن لكل طالب للقرض أن ينال المال –من المرابي أو المصرف- لأي غرض وعلى أي قدر شاء إذا قدر على إقناع المرابي أو المصرف بأنه سيؤدي إليه رأس المال مع الربا، بصرف النظر عما إن كان يأخذ منه المال للمعاصي أو التبذير أو الحاجات الحقيقية، ولكنه إذا لم يقدر على إقناع المرابي أو المصرف بأنه سيؤدي إليه دينه مع الربا، لا يمكنه أبداً –ولو كان في بيته ميت يريد كفنه ودفنه- أن ينال منه فلساً واحداً. ثم إن مصيبة الرجل الفقير وتبذير الرجل المثري كل منهما أحلى فرصة تسنح للرأسمالي للكسب: يجمع بين الأثرة وتحجر القلب ولا يذر شيئاً من ماله ولا من رباه على من وقع مرة في شبكته. والحقيقة أن ليس في جوف أحد في هذا النظام قلب يرى في أية حالة مؤلمة يتخبط ذلك المسكين الذي يستوفيه رأس المال مع الربا. فهذه هي "السهولات" التي يهيئها النظام الحاضر للناس في أخذهم القروض لحاجاتهم الشخصية. وتعال ننظر الآن كيف سيعنى نظام الإسلام غير الربوي – القائم على تطوعات الناس وصدقاتهم- بإعداد السهولات الحقيقية في هذه السبيل..
إن أول ما يلاحَظ في هذا الصدد أن القروض للمعاصي والتبذير سيغلق بابها بتاتاً في هذا النظام لأنه لن يكون ثمة رجل أو مؤسسة تقرض الناس لمثل هذه الأغراض طمعاً في الربا، ولا بد أن يضيق فيه نطاق شؤون القروض كلها إلى الحاجات الحقيقية ولا يعود المال فيه يقرض ولا يقتَرض إلا على قدر ما تتحقق معقوليته في مختلف الأحوال الشخصية بوجه صريح.
ثم لأنه لا يجوز للدائن في هذا النظام أن ينتفع من المدين نوعاً من المنفعة، يكون استيفاء الديون فيه من أسهل ما يكون ويسهل حتى على أصحاب الدخل القليل أن يتخلصوا من عبء دينهم بالتقسيط، والذين يرهنون غيرهم أرضاً أو بيتاً ينقص من رأس المال ما يحصل من أرضهم أو بيتهم من الدخل مكان أن ينضم إلى الربا وينهضم فيه، مما سيساعد مساعدة عظيمة على وفاء الدين وتسوية الحساب في أقصر ما يكون من المدة. على أنه إذا بقي –بعد كل ذلك- دين دون الوفاء في أحوال شاذة، فإن بيت مال الحكومة على ظهر كل مدين، وهو سيساعده على وفاء دينه ولا بد. وإذا مات المدين ولم يترك بعده مالاً، فإن بيت مال الحكومة عليه التبعة في وفاء دينه. فلا يعود يصعب في مثل هذه الحال على ذي السعة أن يقرض جاراً من جيرانه الفقراء عند حاجته مثل ما يصعب في النظام الحاضر.
وإذا وجد في المجتمع، على كل ذلك، رجل لا يجد في حارته أو قريته رجلاً يقرضه، فإن باب بيت مال الحكومة مفتوح على وجهه يؤم إليه وينال منه القرض بكل سهولة ولكن الذي يجب أن يلاحظ بصفة خاصة في هذا الشأن أن بيت مال الحكومة هو آخر باب يطرق للاستمداد في مثل هذه الأغراض، فإن أفراد المجتمع من واجبهم أنفسهم بموجب وجهة نظر الإسلام أن يتداينوا بينهم في حاجاتهم الشخصية، لأن المقياس الحقيقي لصحة مجتمع من المجتمعات أن يكون أفراده على شعور بمثل هذه التبعات الخلقية على أنفسهم ولا يتردّدوا في القيام بها. فإذا وجد رجل لا ينال القرض من أحد في حارته أو قريته ولا يجد لنفسه بداً من القصد إلى بيت المال للاستقراض، فإنما يدل ذلك دلالة واضحة على أن الجو الخلقي قد فسد في تلك الحارة أو القرية. ومن ثم إن بيت المال إذا ما بلغته قضية كهذه، فإنه لا يسارع إلى قضاء حاجة المستقرض وحسب، بل لا يلبث أن يشعر قسم المحافظة على صحة الأهالي الخلقية بوقوع هذه الفاجعة، وهو لا يلبث بدوره أن يتوجه إلى تلك الحارة أو القرية المريضة ويبذل أقصى عنايته بعلاجها. والحق أن وقوع حادث مثل هذا لا يُحدِث في مجتمع معنوي صالح إلا مثل ما يحدثه حادث للهيضة أو الطاعون في النظام المادي الراهن من القلق والاضطراب.
ومن الممكن أن توجد في النظام الإسلامي صورة أخرى لتهيئة القروض للحاجات الشخصية؛ وهي أن يكون من حق العمال والموظفين بموجب القانون على شركاتهم ومؤسساتهم التجارية أن ينالوا منها القروض عند حاجاتهم غير العادية وأن تعترف الحكومة أيضاً بهذا الحق لموظفيها وتؤديه بكل سخاء وسعة صدر وهذه القصية ليست لها وجهتها الخلقية فحسب، بل لها، كذلك، أهمية اقتصادية وسياسية بالغة لا تقل عن أهميتها الخلقية، لأنكم إذا أعددتم لعمالكم وموظفيكم السهولة في نيل القروض الحسنة منكم، فإنكم لا تأتون بحسنة من الحسنات الخلقية فحسب، بل تزيلون سبباً كبيراً يبتلي عمالكم وموظفيكم الهموم والقلق والضيق والألم الجسدي والتيار المادي. احفظوهم من هذه المصائب تضمن لكم طمأنينتهم ورفاهيتهم بالزيادة في طاقتهم العملية وابتعادهم عن الفلسفات المثيرة للفساد. نعم، قد لا يكون لهذا كله ربح مادي بحكم ديوان حسابات المرابي؛ ولكن لا يكاد يخفي على كل من أوتي نصيباً من العقل والبصيرة أن ربحه للمجتمع من حيث مجموعه ولكل رأسمالي وصاحب معمل ولكل مؤسسة اقتصادية وسياسية أكثر وأغلى بكثير من الربا الذي يتقاضى اليوم في النظام المادي لا على أساس شيء غير الحماقة وضيق النظر.
ب- للأغراض التجارية: ولنتناول الآن بالبحث القروض التي يحتاج إليها التجار وغيرهم لأغراضهم التجارية بين يوم وآخر إن التجار في الزمن الحاضر إما أن يأخذوا من المصارف قروضاً قصيرة الأجل، وإما أن يسحبوا منها مبلغ الحوالات[24] لهذه الأغراض، وفي كلتا الصورتين تستوفي المصارف الربا حسب سعر معين ولا يكون غالياً في عامة الأحوال إن أخذ القروض أو سحب مبلغ الحوالات من المصارف حاجة لا تكاد تستغني عنها التجارة أبداً. ومن ثم لا يكاد يقرع آذان التجار صوت مطالبة بالغاء نظام الربا، حتى يأخذهم القلق والهم ويتفكروا: كيف ينالون القروض أو يسحبون مبلغ الحوالات من المصارف لحاجاتهم التجارية. إذن وكيف للمصارف أن تقدم إليهم القروض وتفتح لهم الاعتمادات وتنقل إلى حساباتهم مبلغ الحوالات إذا لم يكن بها طمع في الربا؟ ولكن السؤال الذي ينشأ طبعاً بهذا الصدد هو أن المصارف إذا كانت تبقى عندها ودائع الناس بل ودائع الناس بل وودائع هؤلاء التجار أنفسهم بدون شيء من الفائدة، فما لها لا تقرضهم وتفتح لهم الاعتمادات وتنقل إلى حساباتهم مبلغ الحوالات بدون شيء من الربا وهي –أي المصارف- لا تكون أكثر من الوسيط في هذه العملية كلها؟ وإذا أبت المصارف أن تقوم بكل ذلك طوعاً، أجبرت بحكم القانون على إعداد هذه السهولة لزبائنها.
من الممكن أن تكون ودائع التجار أنفسهم كافية لأغراضهم هذه، ولكن لا بأس بأن تستعمل لها المصارف عند الحاجة شيئاً من أموالها الأخرى أيضاً. ومن الصحيح اللازم مبدئياً أن الذي لا يتناول الربا –أو الفائدة كما يقال- لا يؤدي الربا. ومما يفيد من ناحية الاقتصاد الاجتماعي أن يبقى التجار ينالون القروض لأغراضهم وحاجاتهم التجارية التي تعرض لهم دائماً بين يوم وآخر.
ولسائل أن يسأل في هذا المقام أنّى للمصارف إذا بدأت لا تنال الربا في ما تقوم به من الأعمال والخدمات، أن تستوفي تكاليفها؟ فالجواب على ذلك أن المصارف إذا كانت تنال أموال الحسابات الجارية وتبقى عندها بدون شيء من الربا، لا يضرها في شيء أن تقدم منها قروضاً قصيرة الأجل للتجار، لأن التكاليف اليسيرة التي تتحملها المصارف في حساب هذه القروض وقيدها في الدواوين، تستوفي أكثر منها من الأموال التي تبقى عندها بصورة الودائع. غير أنه إذا صعب واستحال العمل بهذا الطريق، فلا بأس البتة بأن تلزم المصارف زبائنها من التجار أن يؤدوا إليها بعد كل شهر أو ستة أشهر أو سنة أجرة معلومة من المال توفّي لها تكاليف حسابات القروض وقيدها. ولأن هذه الأجرة تكون أرخص للتجار من الربا، لا يلبثون أن يؤدوها إليها بكل رضا وطمأنينة.
(ج) لحاجات الحكومات غير المثمرة: والقروض المهمة الثالثة هي القروض التي تحتاج إليها الحكومات عند الطوارئ حيناً ولحاجات البلاد غير المثمرة أو للحرب حيناً آخر. لا يحصل المال لهذه الأغراض كلها في النظام الحاضر للمالية إلا بالقرض بل بالقرض الربوي وحده ولكن من الممكن حقاً في نظام الإسلام المالي أن يأتي الناس –أفراداً وجماعات ومؤسسات تجارية- بأموالهم الكبيرة ويكتتبوا بها للحكومة بمجرد طلبها المعونة منهم لقضاء حاجة من حاجاتها، لأن إلغاء الربا وتنظيم أموال الزكاة يرفهانهم ويطمئنانهم ويؤثقانهم بالحكومة فلا يتلكؤون أبداً في أن يقدموا أموالهم المدخرة متطوعين. وأما إذا لم تجد الحكومة بعد كل ذلك مقداراً من المال يفي بحاجتها فلها أن تطلب من أهالي البلاد القروض، ولا بد أن يقدموا إليها القروض الحسنة بقلوب مفتحة عن كل سعة. وإذا بقيت الحكومة حتى بعد كل ذلك تجد أموالها غير كافية لحاجتها، فلها أن تستعين بالوسائل الآتية:
1- أن تستعمل ما عندها من أموال الزكاة والخمس.
2-وأن تأمر ما في بلادها من المصارف بإقراضها جزءاً مخصوصاً مما عندها من ودائع الناس، وذلك ما لا يقل فيه حق الحكومة عن حقها في طلب الخدمة العسكرية الإجبارية من أهالي البلاد، ووضع اليد على بيوت الأهالي وسياراتهم عند الحاجة في الطوارئ.
3- وأن تطبع في آخر الأمر الأوراق النقدية بقدر حاجتها وهي في حقيقة أمره صورة من صور اقتراض الحكومة من الناس أموالهم ولكن ليس طبع الأوراق النقدية إلا آخر وسيلة تتذرع بها الحكومة لسد حاجاتها الشديدة، لأن ذلك مما له سيئات ومستقبحات كثيرة.
(د) للحاجات الدولية: أما القروض الدولية، فالظاهر في أمرها أن لا نكاد نرجو في هذه الدنيا الربوية الحاضرة، أن ننال من خارج بلادنا فلساً واحداً قرضاً بدون الربا، فمما يجب علينا من هذه الناحية أن نبذل كل ما في وسعنا لألاّ نستقرض من الشعوب والحكومات الخارجية شيئاً، لا نستقرضها على الأقل ما دمنا لا نمثل لغيرنا فعلاً كيف لأمة أن تقدم إلى جاراتها قرضاً بدون الربا. وإني على مثل اليقين أن كل من نظر نظرة في البحث الذي سقناه في الفصل السابق من هذا الكتاب، لا يتردد في الاعتراف بأننا إذا كشفنا مرة عن ساق جدنا وأقمنا في بلادنا نظاماً للمالية صالحاً قائماً على أساس إلغاء الربا وتنظيم أموال الزكاة، فلن تلبث حالتنا الاقتصادية أن تتحسن بسرعة مدهشة ولن يقف الأمر عند ألا نعود بحاجة إلى اقتراض غيرنا من الخارج فحسب بل سيفضي كذلك إلى أن نقرض بدون الربا ما حولنا من الأمم المعوزة. ولعمر الحق أن اليوم الذي سنقدم فيه إلى الدنيا هذا النموذج الصالح للمالية يكون يقوم الانقلاب المدهش في تاريخ العصر الحاضر لا من الناحية المالية والاقتصادي فحسب، بل من الناحية السياسية والمدنية والمعنوية أيضاً، ويكون من الممكن آنئذ أن تتم جميع المعاملات المالية بيننا وبين الأمم الأخرى على أساس غير ربوي. وتنعقد بين مختلف أمم الأرض –تدرجاً- اتفاقاتا مؤداها ألا تتعامل في ما بينها بالربا في المستقبل. بل لا أرى بعيداً ذلك اليوم الذي سيتفق فيه الرأي الدولي العام ويبدي سخطه واشمئزازه من المراباة كما قد أبدى سخطه في أمر اتفاقية برتين وودس (Bretton Woods) في انكلترا سنة 1945م وإني لا أقول كل ذلك ملقياً الكلام على غاربه، بل الحقيقة أن الدنيا فيها اليوم كثير من العقول المفكرة تفكر بجد في ما يترتب على سياسة الدنيا واقتصادها من الآثار الخاطئة لفرض الربا في القروض الدولية. ولكن إذا بذلت البلاد الراقية المترفهة جهودها عن صدق وإخلاص في مساعدة البلاد المختلفة وجعلها قادرة على النهوض والتقدم بوسائلها، فلا بد أن يرجع ذلك بفوائد جمة من الوجهة المالية والاقتصادية ومن الوجهة السياسية والمدنية معاً فتتصل الأمم في ما بينها بأواصر الحب والإخلاص والتعاون مكان أن يشتد بينها التباغض والتطاحن الدولي من الوجهة السياسية والمدنية ويكون التعامل مع قطر مترفه أنفع وأجدى من استنزاف الدم من جسد قطر مفلس من الوجهة المالية والاقتصادية. إن الدنيا لا يقل فيها اليوم عدد الذين يعرفون مثل هذه الحكم والحقائق ويفكرون فيها ويعلمونها، ولكن تعوذها أمة حكيمة تسابق سائر أمم الأرض إلى إلغاء نظام الربا في بلادها وتقدم فعلاً على تطهير التعامل الدولي من هذه اللعنة التي هي بدون ريب وصمة عار في جبين الإنسانية في العصر الحاضر، عصر اليقظة والنور كما يقال.
(هـ) للأغراض المثمرة: وانظر الآن نظرة فيما ستكون عليه مالية التجار وأصحاب الأموال في النظام الجديد الذي قد فصلنا فيه القول آنفاً. إن هذا النظام سيلغى فيه على عقب إلغاء نظام الربا، الباب الذي يلج فيه الناس اليوم ويأمنون من بذل الجهود والوقوع في الخطر. وذلك أنهم يقرضون مالهم رجلاً يستغله في تجارة أو صناعة ويضمن لهم ربحاً مالياً معيناً على كل حال، ثم إن نظام الزكاة في نظامنا الجديد سيحرم على الناس أن يمسكوا أموالهم ويتركوها متكدسة في صناديقهم. وكذلك لن يعود باب التبذير والانفاق في الشهوات مفتوحاً في وجه الناس في دولة إسلامية حقيقية ولن يسيل إليه ما يفضل لديهم من دخلهم، فلا يكون إذن للذين يفضل دخلهم عن حاجاتهم بد من انتهاج أحد الطريقين الآتيين:
1- إنهم إن كانوا لا يرغبون في المزيد من دخلهم، فعليهم أن ينفقوا أموالهم الفاضلة في وجوه الخير والمصالح العامة بوقفها على شأن من شؤون الخير بأنفسهم أو بإعطائها للمعاهد والمؤسسات القومية أو بتسليمها إلى الحكومة محتسبين، لتنفقها في شؤون نافعة ترقي البلاد وتصلح الخلق، والناس لا بد يؤثرون الصورة الأخيرة خاصة إذا كان زمام الحكومة وإدرانها بأيدي رجال يجوزون ثقة الجمهور لتدينهم وأمانتهم وإخلاصهم وفراستهم. فهكذا لن تنفك الحكومة وغيرها من المؤسسات الاجتماعية تنال مجاناً مقداراً كبيراً من المال للمصالح العامة ووجوه الخير والرقي. أما عامة أهالي البلاد فلن يتحملوا شيئاً في مساعدة الحكومة لوفاء هذا المال، فضلاً عن أن يطالبوا بشيء لوفاء رباه.
2- وأما إذا كانوا يرغبون في المزيد في دخلهم، فإنما السبيل الوحيد إلى ذلك أن يستغلوا أموالهم الفاضلة عن حاجاتهم في الوجوه المثمرة على مبدأ المضاربة أي المشاركة المتناسبة مع غيرهم في الربح والخسارة معاً، إما بأنفسهم أو بواسطة الحكومة أو بواسطة مصرف من المصارف.
فإن أرادوا المضاربة بأنفسهم، فعليهم أن يتفقوا مع فريقهم على شروطها بأنفسهم ولا بد بموجب القانون أن يكون من هذه الشروط تحديد النسبة التي بها يتوزع الربح أو الخسارة بين الفريقين. وكذلك ليس للمشاركة في شركات الثروة المشتركة إلا صورة واحدة هي اشتراء أسهمها على الوجه المعروف ولن يوجد ثمة أبداً ما يوجد من السندات التي إذا اشتراها أحد من الشركة، لا يزال ينال منها دخلاً معيناً على أي حال.
وإن أرادوا أن يوظفوا مالهم بواسطة الحكومة، وإنما يشاركونها في مشروع من مشاريعها المتعلقة بالشؤون المثمرة كمشروع للكهرباء المائي مثلاً. فستعلنه الحكومة وتدعو أهالي البلاد إلى مشاركتها فيه. فكل من أراد –شخصاً كان أم مؤسسة أم مصرفاً- أن يوظف فيه ماله، شارك فيه الحكومة وما زال ينال نصيبه من ربحه أو يتحمل نصيبه من خسارته بحسب نسبة يتفق عليها مع الحكومة. ومن حق الحكومة في مثل هذا المشروع ألا تنفك تشتري –تدرجاً وحسب ترتيب خاص- أسهم غيرها من الأفراد أو المؤسسات أو المصارف حتى ينقلب المشروع كله ملكاً لها وحدها بعد خمسين سنة أو نحوها.
ولكن الصورة الثالثة، أي توظيف الناس أموالهم في الشؤون المثمرة بواسطة المصارف، هي التي ستكون أنفع وأسهل للمزاولة من غيرها في النظام الإسلامي كما هي أسهل الصور وأنفعها في النظام الحاضر اليوم. فنريد أن نوضح هذه الصورة ونفصل فيها الكلام أكثر مما فصلناه في الصورتين الأوليين:
الوضع الإسلامي للنظام المصرفي:
إن البحث الذي سقناه في النظام المصرفي الجديد، ما كان معناه –ولا يمكن أن يكون- أن نظام المصارف خاطئ من أساسه لا صلاح فيه البتة، بل الحق أن هذا النظام شيء نافع مهم من حسنات المدنية الغربية الجديدة قد نجس باشتماله على عنصر شيطاني مع عناصره الأخرى. فهو أولاً يقوم بكثير من الخدمات المشروعة التي هي نافعة للحياة المدنية والحاجات الاقتصادية اليوم، ولا بد منها، كتحويل النقود من مكان إلى آخر، وتسهيل التعامل مع البلاد الخارجية والاحتفاظ بالممتلكات الثمينة وإجراء سندات الاعتماد وشكات السفر والأوراق المالية المتداولة وبيع سهام الشركات وكثير من خدمات الوكالة (Agency) التي يقوم بها المصرف اليوم للرجل المشتغل بأموره المهمة الكثيرة لقاء خصم زهيد ويخلصه من كثير من المتاعب فهذه وأمثالها أمور تدعو الحاجة إلى أن تبقى جارية على كل حال وأن تكون من مؤسسة مستقلة. ثم مما هو نافع جداً في حد ذاته للتجارة والصناعة والزراعة وسائر شعب المدنية والاقتصاد، ولا بد لها منه بالنسبة للأحوال الحاضرة، أن يجتمع في خزانة مركزية كل ما يفضل عند أفراد المجتمع من المال ثم يتهيأ منها لكل شعبة من شعب الحياة بكل سهولة كلما دعت إليه الحاجة، مكان أن يبقى مبعثراً عند هذا وهذا من أفراد المجتمع ولا ينفع المجتمع بأي وجه من الوجوه، بل الأفراد أنفسهم يهيء لهم هذا النظام السهولة من جهة أن يجمعوا جميعاً في خزانة مركزية ما يفضل عندهم من المال من حاجاتهم على حدة وأن يعمل هناك على توظيف مالهم المجموع بصفة جماعية في شأن مثمر وتوزيع الربح الحاصل بينهم على أحسن طريق ممكن، بدل أن يسعى كل واحد منهم ويلتمس بصفته الفردية الفرص لتوظيف ماله. زد على كل ذلك أن عمال المصرف والمتولين لمختلف شؤونه تكون لهم مهارة وبصيرة فنية لا تكون للتجار والصناع ولا لغيرهم، وذلك لانقطاعهم إلى الاشتغال بالأمور المالية ومزاولتها. فهذه المهارة الفنية شيء ثمين جداً في حد ذاته، ومن الممكن أن نثبت شيئاً نافعاً جداً كذلك بشرط ألا يبقى سلاحاً لأثرة الرأسمالي فقط بل يستعمل في التعاون مع التجار وغيرهم من أصحاب الحرف الأخرى. ولكن الشيء الوحيد الذي قد حول منافع النظام المصرفي وحسناته هذه كلها إلى سيئات ومضار بحق التمدن الإنساني هو الربا وحده، والعنصر الثاني الذي قد انضم إليه وعاونه على شره هو أن الثروة التي يجذبها الطمع في الربا من جيوب الأفراد ويركزها في المصرف، تنقلب إلى ثروة لا يملكها فعلاً إلا عدد قليل من الرأسماليين وهم الذين يصرفونها حسب أهوائهم بطرق بالغة النهاية في معاداة المجتمع فإذا ما أزيلت عن النظام المصرفي هاتان السيئتان، أضحى عملاً طاهراً وأنفع للمدنية بكثير منه اليوم، ولا عجب أن يكون هذا الطريق الطاهر الآخر أنفع بحق الرأسماليين أنفسهم بمرات من المراباة من الوجهة المالية البحتة.
والذين يزعمون أن الناس سوف يمسكون أيديهم عن إيداع أموالهم في المصارف بعدما يلغى عنها نظام الربا، مخطئون في زعمهم يقولون: ما للناس أن يودعوا أموالهم في المصارف ما داموا لا يرجون منها شيئاً من الربا؟ نعم. إنهم سوف لا يرجون منها الربا، ولكنهم سوف يرجون منها الحلال. ولأن هذا الإمكان للربح لا يكون معيناً ولا محدوداً، فسيكون إمكان الربح الكثير مساوياً لإمكان الربح القليل إن لم يكن أكثر منه، وفي الوقت نفسه ستظل المصارف قائمة بالخدمات التي لأجلها يرجع إليها الناس اليوم. فمن القاطع البين الذي لا مجال فيه للريب أن الأموال سوف تنهال على المصارف حتى بعد إلغاء نظام الربا كما هي تنهال الآن. بل لأن الناس ستغمرهم الرفاهية وترقى تجارتهم ويتضاعف دخلهم فسوف تكون ودائعهم في المصارف أكثر مقداراً منها اليوم.
أما ما يكون من هذه الأموال المودعة لدى المصارف في الودائع تحت الطلب (Current Account)، فلا توظفه المصارف في عمل مثمر، كما إنها لا توظفه فيه اليوم، وسوف تستعمله عامة في عملين كبيرين: أولاً في التعامل النقدي العادي بينها وبين المودعين. وثانياً في تقديم القروض القصيرة الأجل إلى التجار بدون الربا وسحب مبلغ حوالاتهم بدون الربا. أما الأموال التي تودع لدى المصارف لمدة طويلة، فلا تصرفها أيضاً في تقديم القروض الربوية إلى الناس، بل ستوظفها –بإذن من المودعين- على طريق المضاربة في الأعمال التجارية والمشروعات الصناعية والزراعية والأعمال المثمرة الأخرى للحكومات والمؤسسات الأهلية مما ستتم بموجبه فائدتان عظيمتان: أولاهما أن مصلحة الرأسمالي ستتحد مع مصلحة التجارة، ولا تزال التجارة، مستندة إلى المال على قدر حاجتها إليها، كما ستنعدم منها الأسباب التي بناء عليها تنتاب الدنيا الربوية اليوم نوبات الكساد والبوار (Trade Cycle). وثانيهما أن البصيرتين المتضاربتين اليوم –بصيرة الرأسمالي في تقليب ماله وبصيرة التجار والصناع في تجارتهم وصناعاتهم- سوف تنقلبان متساعدتين متعاونتين بينهما، مما يرجع نفعه عليهم جميعاً. ثم إن المنافع التي ستحصل عليها المصارف من هذه الوسائل، ستوزعها بين مساهميها والمودعين فيها أموالهم بنسبة متفق عليها بينهم بعد أن تنقص منها تكاليفها الإدارية، فغاية الفرق الذي سيحدث في هذه القضية أن الأنصبة من الأرباح (Dividends) إذا كانت لا توزع اليوم إلا بين المساهيم فقط ولا يؤتى المودعون إلا الربا، فإنها سوف توزع وقتئد بين المساهمين والمودعين معاً. وأنه إذا كان المودعون إنما ينالون اليوم الربا حسب سعر معين فإنه لا يكون إذ ذاك أي تعيين لسعر الربا، بل سوف توزع جميع الأرباح –قليلة كانت أو كثيرة- بين المساهمين والمودعين حسب نسبة معينة. أما خطر الخسارة أو الإفلاس، فلا يكون إذ ذاك أكثر منه اليوم: إن الخطر وإمكان الربح غير المحدود مختص اليوم بمساهمي المصارف فقط فسوف يشاركهم فيها إذ ذاك المودعون أيضاً.
ولم يبق الآن إلا مضرة للمصرفية هي أن كل ما يجتمع اليوم لدى المصارف من المال، لا يستولي عليها ولا يتصرف فيها فعلاً إلا عدد قليل من الرأسماليين، فممن الممكن تدارك هذه المضرة بأن يتولى بيت المال أو مصرف الدولة شؤون الصرافة المركزية (Central Banking) كلها بنفسه مباشرة ويقوم على جميع المصارف الشخصية من نفوذ الحكومة وتدخلها وإشرافها ما لا يدع الرأسماليين يشطون في استعمال قوتهم المادية.
إن هذا الرسم البسيط المجمل الذي عرضناه في هذه الصفحات للوضع المالي غير الربوي، هل لأحد –بعد أن ينظر فيه نظرة- أن يشك في إمكان إلغاء نظام الربا؟
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين


([1]) مما يناسب هذا المقام أن نفصل على وجه الإيجاز أعمال المصارف وفعالاتها وقواعدها حتى نتبين على بصيرة ما للمصارف من المنزلة الحقيقية:
إن الودائع لدى المصرف تكون على نوعين كبيرين: (1) ودائع محددة الأجل (Fixed deposites) و(2) ودائع تحت الطلب (Current Deposites) أما الودائع المحددة الأجل فإن اتفاق المتعاقدين يحدد بشأنها الوقت الذي يجوز استردادها فيه ولا يكون عادة أقل من ثلاثة أشهر. وأما الودائع –تحت الطلب فيكون لأصحابها الحق في استردادها في أي وقت شاؤوا. ومن قواعد التنظيم المصرفي أن تكون الفائدة التي يدفعها المصرف مرتفعة على قدر ما يطول أو يقصر الوقت الذي لا يسترد المودع فيه ماله. وقد تدفع بعض المصارف شيئاً من الفائدة على الودائع تحت الطلب أيضاً غير أن القاعدة التي تجري عليها المصارف عادة في هذه الأيام ألا تدفع عنها شيئاً من الفائدة. بل الذين يستردون من ودائعهم مرة بعد مرة وعلى أقدار وافرة، تتقاضاهم المصارف أجرة على حفظ أموالهم وحساباتها، أو تطالبهم بأن يودعوا لديها جزءاً من أموالهم بصفة دائمة حسب نسبة معلومة من هذه الأموال، حتى نستعيض برباها عن النفقات التي تبذلها لحفظ أموالهم وحساباتها.
يحتفظ المصرف في يده بجزء يتراوح بين 10 و25% من موجوداته بصورة نقدية حتى يتمكن من استعماله والانتفاع به في معاملاته اليومية. ثم يفرض بعد ذلك جزءاً منها سوق المال (Money Market) وهو مما يبقى تحت يده تقريباً قابلاً للاستعمال في أي وقت كالنقد الموجود لديه، فلا يكون سعر الربا عليه إلا 1/2 أو 1% عامة. ثم ينفق جزءاً منها في الحوالات والقروض القصيرة الأجل، ولأن المال لا يلبث أن يرجع منها إلى المصرف في مدة قصيرة، يكون سعر الربا عليها أيضاً رخيصاً نحو 2 أو 4%. ثم أن المصرف ينفق الجزء الأعظم من موجوداته في أشياء تضمن له في جانب حفظ المال إلى أقصى مدة ممكنة ويكون من الممكن استرداد المال منها ببيعها، وفي الجانب الآخر ترجع عليه بسعر نحو 3 أو 4% كضمانات الحكومات (Government securties) وأسهم الشركات الموثوق بها وأسنادها التجارية. لا يخلو نظام أي مصرف من المصارف في فعالاته عن هذه الطرق الثلاثة لتوظيف المال، لأنها تضمن له البقاء والحياة وتقوي ساعده وتسند ظهره وتساعده عند الخطر والأزمات الشديدة.
ثم أن طريقاً مهماً لتوظيف المصرف ماله مع هذه الطرق الثلاثة هو تقديم القروض لأصحاب التجارات والصناعات والحرف الأخرى وذوي المكانة في المجتمع والمؤسسات الجماعية. فهو أكبر وسيلة من وسائل دخل المصرف لأن المصرف ينال منه أكبر قدر من الربا لا يناله من غيره، فلذا يحب كل مصرف أن يتاح له أوسع ما يكون من الفرصة لتوظيف أكبر جزء من موجوداته في هذه الوسيلة وكثيراً ما يوظف فيها ما بين 30 و69% من مجموع موجوداته وهو يزيد وينقص حسب ما يطرأ على أحوال البلاد وأحوال الدنيا السياسية الاقتصادية من التغييرات والتبديلات.
ولعله قد اتضح لكم بهذا التفصيل أن الطرق التي توظف المصارف فيها أموالها وفيها ودائع الناس ورأس مالها الذاتي أيضاً –كلها من طرق القروض الربوية وهي تفرض على المجتمع التاعس فرضاً بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ثم أن الشيء الذي يناله المودعون من المصرف باسم "الفائدة". إن هو إلا جزء من ذلك الربا الذي تناله المصارف من المجتمع بهذه الطرق. ونقول مرة أخرى أن المصرف مؤسسة تؤدي إلى الجمهور أنواعاً من الخدمات لا يشك في مشروعيتها وأن الأجرة أو الخصم عليها وسيلة من وسائل دخله ولكن الحق أن هذه الوسيلة لا تشكل أكثر من 5-10% من مجموع دخل المصرف.
([2]) الحج: 5.
([3]) البقرة: 276.
([4]) الرعد: 17.
([5]) الحاقة: 10.
([6]) النحل: 92.
([7]) المؤمنون: 50.
([8]) البقرة: 278.
([9]) البقرة: 279.
([10]) الروم: 39.
([11]) البقرة: 275.
([12]) تفسير ابن جرير ج3 ص67، "ج6، ص8- طبعة دار المعارف".
([13]) أحكام القرآن ج1.
([14]) تفسير المنار ج 4 ص134.
([15]) سورة البقرة 278-279، وقوله تعالى: "فأذنوا بحرب" أي اعلموا ذلك واستيقنوه. انظر تفسير الطبري 6-24- طبعة دار المعارف.
([16]) في حديث النبي صلى الله عليه وسلم رواه ابن ماجه والبيهقي عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: "الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وأن أربى الربا عرض الرجل المسلم".
([17]) البخاري: كتاب الإيمان باب فضل من استبر لدينه.
([18]) مما يجب الانتباه له في هذا المقام أن الدراهم والدنانير في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانت من الفضة والذهب الخالص، وكانت قيمتها تقدر حسب وزن فضتها وذهبها فكان معنى اشتراء المرء الذهب بالدينار والفضة بالدراهم اشتراء الذهب بالذهب والفضة بالفضة.
([19]) لا يظن أحد بما قلنا في هذا المقام أنه يوجد باب مهنة الصائغ فإنه لا بد له بعد ذلك أن يبيع الحلي المصنوعة من الذهب بما يساوي وزنها من الذهب ولا يأخذ شيئاً من الأجرة على صنعته. فهذا شبهة لا أساس لها من الصحة لأننا لا نتعامل مع الصائغ في حقيقة الأمر بتبادل الذهب بالحلية، وإنما نعطيه الذهب ونطلب منه أن يصنع –لنا منه شيئاً نريده. فمن حقه إذن أن يأخذ الأجرة كما يأخذها الخياط أو الخباز أو غيرهما من المحترفين. غير أننا إذا أردنا أن نشتري من بائع الحلي حلية مصنوعة من الذهب، فلا شك أنه لا يجوز البتة أن نعطيه من الذهب ما يزيد عن وزن الحلية ولا بد أن نعطيه الأجرة إما بصورة الفضة أو بصورة الأوراق النقدية.
([20]) مما يحسن أن نشير إليه في هذا المقام أن السبب الحقيقي لانغلاق باب الاجتهاد في هذا الزمان أن قد أخرج من تعليمنا الديني درس تعليم القرآن وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وقد حل محله تعليم طريق خاص من طرق الفقه. بل لا يلقن الطالب هذا التعليم للفقه إلا بحيث يغيب عن ذهنه الفرق الحقيقي بين الأحكام المنصوص عليها في الكتاب والسنة والأحكام التي استنبطها الأئمة المجتهدون. والحقيقة أن الإنسان ما دامت لا تحصل له البصيرة التامة والنظر البعيد في القرآن، وما دام لا يدرس سنة الرسول صلى الله عليه وسلم درساً عميقاً، لا يستطيع أن يفهم طبيعة الإسلام وأصول قانونه. فذلك ما لا غنى عنه للاجتهاد، وهو لا يحصل بمجرد درس كتب الفقه وتدريسها ولو طول الحياة.
([21]) أعلام الموقعين لابن القيم ج1 ص33 (فصل: تغير الفتوى بتغير الأحوال).
([22]) إننا لا نستعمل كلمة الرأسمالية في هذا المقام بمعناها الضيق المحدود الذي يعرف لهذه الكلمة في مصطلح اليوم، وإنما نستعملها بمعناها الشامل المستتر في حقيقة الرأسمالية. أن الرأسمالية المصطلح عليها اليوم، إنما منشؤوها ثورة أوربا الصناعية، ولكن حقيقة الرأسمالية شيء قديم لا يزال يوجد في الدنيا منذ أساس الإنسان قياد مدنيته وأخلاقه للشيطان.
([23]) وهذه الصورة أراها صحيحة لأن الربا لا يأتي في الحقيقة إلا من جيوب الفقراء. فجيب الفقراء هو منبع الربا سواء أكان ربا خزانة الحكومة أو ربا المصارف وشركات التأمين.
([24]) الحوالة عملية يصطلح عليها بكلمة "السفائج" عامة في فقهنا الإسلامي، وهي تتم بين شخصين لكل منهما الحساب لدى المصرف. فإذا أراد أحدهما أن يقترض من الآخر، أخذ منه الحوالة لشهر أو ثلاثة أشهر وهي أمر يصدره المحيل إلى المصرف بأن ينقل من حسابه كذا وكذا من المبلغ إلى حساب المحال له. فإن استطاع المحال له التوقف إلى هذه لعدم حاجته إلى المال، وفي القرض بين المحيل والمحال له مع انتهاء المدة نفسها، وأما إذا لم يستطع التوقف، سلم الحوالة إلى المصرف. وهذا ما يعرف بسحب مبلغ الحوالة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق