الأحد، 13 مايو 2012

طبائع الاستبداد/النص الكامل


طبائع الاستبداد/النص الكامل




فاتحة الكتاب
الحمد للّه، خالق الكون على نظامٍ محكم ٍ متين، والصّلاة والسّلام على أنبيائه العظام، هداة الأمم إلى الحقّ المبين، لاسيما منهم على النبيّ العربيّ الذي أرسله رحمةً للعالمين ليرقى بهم معاشاً ومعاداً على سلّم الحكمة إلى علّيين.
أقولُ وأنا مسلم عربي مضطر للاكتتام شأن الضّعيف الصّادع بالأمر، المعلن رأيه تحت سماء الشرق، الرّاجي اكتفاء المطالعين بالقول عمّن قال: وتعرف الحقّ في ذاته لا بالرجال، إنني في سنة ثماني عشر وثلاثمائة وألف هجرية هجرتُ دياري سرحاً في الشّرق، فزرتُ مصر، واتخذتها لي مركزاً أرجع إليه مغتنماً عهد الحرّيّة فيها على عهد عزيزها حضرة سمي عم النّبي (العباس الثاني) النّاشر لواء الأمن على أكناف ملكه، فوجدتُ أفكار سراة القوم في مصر كما هي في سائر الشّرق خائضةٌ عباب البحث في المسألة الكبرى، أعني المسألة الاجتماعية في الشّرق عموماً وفي المسلمين خصوصاً، إنما هم كسائر الباحثين، كلّ ٌ يذهب مذهباً في سبب الانحطاط وفي ما هو الدواء. وحيثُ إني قد تمحّص عندي أنّ أصل الدّاء هو الاستبداد السّياسي ودواؤه دفعه بالشّورى الدّستورية. وقد استقرَََََّ فكري على ذلك – كما أنّ لكُلّ نبأ مستقراً – بعد بحث ثلاثين عاماً... بحثاً أظنّهُ يكاد يشمل كلّ ما يخطرُ على البال من سبب يتوهّمُ فيه الباحث عند النظرةِ الأولى، أنهُ ظفر بأصل الدّاء أو بأهمّ أصوله، ولكنْ؛ لا يلبث أنْ يكشف له التّدقيق أنّه لم يظفر بشيء، أو أنّ ذلك فرعٌ لا أصل، أو هو نتيجة لا وسيلة.
فالقائلُ مثلاً: إنّ أصل الدّاء التّهاون في الدّين، لا يلبث أنْ يقف حائراً عندما يسأل نفسه لماذا تهاون النّاس في الدّين؟ والقائل: إنّ الدّاء اختلاف الآراء، يقف مبهوتاً عند تعليل سبب الاختلاف. فإن قال: سببه الجهل، يَشْكُلُ عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أقوى وأشدّ... وهكذا؛ يجد نفسه في حلقة مُفرغة لا مبدأ لها، فيرجع إلى القول: هذا ما يريده الله بخلقه، غير مكترث بمنازعة عقله ودينه له بأنّ الله حكيمٌ عادلٌ رحيمٌ...
وإنّي، إراحةً لفكر المطالعين، أعدّد لهم المباحث التي طالما أتعبتُ نفسي في تحليلها، وخاطرتُ حتّى بحياتي في درسها وتدقيقها، وبذلك يعلمون أنّي ما وافقتُ على الرّأي القائل بأنّ أصل الدّاء هو الاستبداد السّياسي إلا بعد عناءٍ طويل يرجحُ قد أصبتُ الغرض. وأرجو الله أنْ يجعل حُسنَ نيَّتي شفيع سيئاتي، وهاهي المباحث:
في زيارتي هذه لمصر، نشرتُ في أشهر جرائدها بعض مقالات سياسية تحت عنوانات الاستبداد: ما هو الاستبداد وما تأثيره على الدّين، على العلم، على التّربية على الأخلاق، على المجد، على المال... إلى غير ذلك.
ثم في زيارتي إلى مصر ثانيةً أجبتُ تكليف بعض الشبيبة، فوسّعتُ تلك المباحث خصوصاً في الاجتماعيات كالتربية والأخلاق، وأضفت إليها طرائق التخلُّص من الاستبداد، ونشرتُ ذلك في كتاب سمَّيته "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" وجعلته هديةً مني للنّاشئة العربية المباركة الأبية المعقودة آمال الأمة بيُمْنِ نواصيهم. ولا غروَ، فلا شباب إلا بالشباب.
ثمّ في زيارتي هذه، وهي الثالثة، وجدتُ الكتاب قد نفد في برهةٍ قليلة، فأحببتُ أن أعيد النّظر فيه، وأزيده زيداً مما درستُهُ فضبطتُه، أو ما اقتبستُه وطبَّقتُه، وقد صرفتُ في هذا السبيل عمراً عزيزاً وعناءً غير قليل... وأنا لا أقصد في مباحثي ظالماً بعينه ولا حكومةً وأمَّة مخصصة، وإنما أردتُ بيان طبائع الاستبداد وما يفعل، وتشخيص مصارع الاستعباد وما يقضيه ويمضيه على ذويه... ولي هناك قصدٌ آخر؛ وهو التنبيه لمورد الداء الدّفين، عسى أن يعرف الذين قضوا نحبهم، أنهم هم المتسببون لما حلَّ بهم، فلا يعتبون على الأغيار ولا على الأقدار، إنما يعتبون على الجهل وفَقْدِ الهمم والتّواكل.. وعسى الذين فيهم بقية رمقٍ من الحياة يستدركون شأنهم قبل الممات...
وقد تخيّرتُ في الإنشاء أسلوب الاقتضاب، وهو الأسلوب السّهل المفيد الذي يختاره كُتَّاب سائر اللغات، ابتعاداً عن قيود التعقيد وسلاسل التّأصيل والتّفريغ. هذا وإنّي أخالف أولئك المؤلِّفين، فلا أتمنى العفو عن الزلل؛ إنما أقول:
هذا جهدي، وللناقد الفاضل أن يأتي قومه بخير منه. فما أنا إلا فاتح باب صغير من أسوار الاستبداد. عسى الزمان يوسِّعه، والله وليُّ المهتدين.
عبد الرحمن الكواكبي
1320هـ = 1902م
مقدمة
لا خفاء أنّ السّياسة علمٌ واسعٌ جدّاً، يتفرّعُ إلى فنون كثيرة ومباحثَ دقيقة شتّى. وقلّما يوجد إنسان يحيط بهذا العلم، كما أنّه قلّما يوجد إنسان لا يحتكُّ فيه.
وقد وُجد في كلِّ الأمم المترقية علماءُ سياسيون، تكلّموا في فنون السّياسة و مباحثها استطراداً في مدوّنات الأديان أو الحقوق أو التاريخ أو الأخلاق أو الأدب. ولا تُعرف للأقدمين كتبٌ مخصوصة في السّياسة لغير مؤسِّسي الجمهوريات في الرّومان واليونان، وإنّما لبعضهم مُؤلّفات سياسية أخلاقية ككليلة ودمنة ورسائل غوريغوريوس، ومحرّرات سياسية دينية كنهج البلاغة وكتاب الخراج.
وأما في القرون المتوسطة فلا تؤثر أبحاث مُفصّلة في هذا الفن لغير علماء الإسلام؛ فهم ألّفوا فيه ممزوجاً بالأخلاق كالرّازي، والطّوسي، والغزالي، والعلائي، وهي طريقة الفُرْسِ، وممزوجاً بالأدب كالمعرّي، والمتنبّي، وهي طريقة العرب، وممزوجاً بالتاريخ كابن خلدون، وابن بطوطة، وهي طريقة المغاربة.
أمّا المتأخِّرون من أهل أوروبا، ثمَّ أمريكا، فقد توسَّعوا في هذا العلم وألّفوا فيه كثيراً وأشبعوه تفصيلاً، حتَّى إنّهم أفردوا بعض مباحثه في التّأليف بمجلّدات ضخمة، وقد ميّزوا مباحثه إلى سياسة عمومية، وسياسة خارجية، وسياسة إدارية، وسياسة اقتصادية، وسياسة حقوقية، إلخ. وقسّموا كلاً منها إلى أبواب شتَّى وأصول وفروع.
وأمّا المتأخِّرون من الشرقيين، فقد وُجد من التّرك كثيرون ألّفوا في أكثر مباحثه تآليف مستقلّة وممزوجة مثل: أحمد جودة باشا، وكمال بك، وسليمان باشا، وحسن فهمي باشا، والمؤلّفون من العرب قليلون ومقلّون، والذين يستحقّون الذكر منهم فيما نعلم: رفاعة بك، وخير الدّين باشا التّونسي، وأحمد فارس، وسليم البستاني، والمبعوث المدني.
ولكنْ؛ يظهر لنا أنّ المحرِّرين السّياسيين من العرب قد كثروا، بدليل ما يظهر من منشوراتهم في الجرائد والمجلات في مواضع كثيرة. ولهذا، لاح لهذا العاجز أنْ أُذكّر حضراتهم على لسان بعض الجرائد العربية بموضوع هو أهمّ المباحث السّياسية، وقلَّ من طرق بابه منهم إلى الآن، فأدعوهم إلى ميدان المسابقة في خير خدمة ينيرون بها أفكار إخوانهم الشرقيين وينبِّهونهم – لاسيما العرب منهم – لما هم عنه غافلون، فيفيدونهم بالبحث والتّعليل وضرب الأمثال والتّحليل «ما هو داء الشّرق وما هو دواؤه؟»
ولمّا كان تعريف علم السّياسة بأنّه هو «إدارة الشّؤون المشتركة بمقتضى الحكمة» يكون بالطّبع أوّل مباحث السّياسة وأهمّها بحث «الاستبداد»؛ أي التّصرُّف في الشّؤون المشتركة بمقتضى الهوى.
وإنّي أرى أنّ المتكلِّم في الاستبداد عليه أن يلاحظ تعريف وتشخيص «ما هو الاستبداد؟ ما سببه؟ ما أعراضه؟ ما سيره؟ ما إنذاره؟ ما دواؤه؟».. وكلُّ موضوع من ذلك يتحمّل تفصيلات كثيرة، وينطوي على مباحث شتّى من أمهاتها: ما هي طبائع الاستبداد؟ لماذا يكون المستبدُّ شديد الخوف؟ لماذا يستولي الجبن على رعية المستبدّ؟ ما تأثير الاستبداد على الدّين؟ على العلم؟ على المجد؟ على المال؟ على الأخلاق؟ على التَّرقِّي؟ على التّربية؟ على العمران؟
مَنْ هم أعوان المستبدّ؟ هل يُتحمّل الاستبداد؟ كيف يكون التّخلص من الاستبداد؟ بماذا ينبغي استبدال الاستبداد؟
قبل الخوض في هذه المسائل يمكننا أن نشير إلى النّتائج التي تستقرُّ عندها أفكار الباحثين في هذا الموضوع، وهي نتائج متَّحدة المدلول مختلفة التعبير على حسب اختلاف المشارب والأنظار في الباحثين، وهي:
يقول المادي: الدّاء: القوة، والدّواء: المقاومة.
ويقول السّياسي: الدّاء: استعباد البرية، والدّواء: استرداد الحرّيّة.
ويقول الحكيم: الدّاء: القدرة على الاعتساف، والدّواء: الاقتدار على الاستنصاف.
ويقول الحقوقي: الدّاء: تغلّب السّلطة على الشّريعة، والدّواء: تغليب الشّريعة على السّلطة.
ويقول الرّبّاني: الدّاء: مشاركة الله في الجبروت، والدّواء: توحيد الله حقّاً.
...
وهذه أقوال أهل النظر، و أمّا أهل العزائم:
فيقول الأبيُّ: الدّاء: مدُّ الرّقاب للسلاسل، والدّواء: الشّموخ عن الذّل.
ويقول المتين: الدّاء: وجود الرّؤساء بلا زمام، والدّواء: ربطهم بالقيود الثّقال.
ويقول الحرّ: الدّاء: التّعالي على النّاس باطلاً، والدّواء: تذليل المتكبّرين.
ويقول المفادي: الدّاء: حبُّ الحياة، والدّواء: حبُّ الموت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق