الاثنين، 14 مايو 2012

معقولية سعر الربا:


معقولية سعر الربا:
فتلك هي الدلائل والبراهين التي يعرضها محامو المراباة لإثبات مشروعيتها بموجب العقل والعدل. وقد علمت من انتقادنا لها أن العدل والمعقولية لا علاقة لهما أصلاً بهذا الشيء الخبيث. والحقيقة أنه لا يمكن أن يثبت –ولو بأي دليل قوي- وجه الصواب في الربا لا في أخذه ولا في أدائه، ولكن من العجب العجاب أن هذا الشيء على قدر ما كان منافياً للمعقولية، قد عده العلماء والمفكرون في الغرب من الأمور المسلم بها بداهة، فهم بعد أن فرضوا معقولية الربا حقيقة ثابتة مفروغاً من أمرها، ضيقوا نطاق بحثهم في أن سعر الربا "معقول". وقلما نجد في مؤلفات أهل الغرب المعاصرين بحثاً في: هل الربا في حد ذاته شيء جدير بالأخذ والأداء أم لا ؟ وإنما تكون البحوث التي تحتويها مؤلفاتهم في معظم الأحوال في أن "هذا" –سعر غير معقول ومتجاوز للحد وهو هدف للاعتراض، أو أن "ذلك" سعر معقول وجدير بالقبول والرضى. ولكن.. هل هناك سعر للربا يمكن أن يعقد معقولاً؟ ولنضرب الصفح قليلاً عن أن الشيء الذي لا يمكن إثباته معقولاً في حد ذاته، لا يكاد ينشأ السؤال عن كون سعره شيئاً أصلاً. وإنما نريد –بصرف النظر عن هذا السؤال- أن نعرف أن سعر الربا يمكن أن يعد شيئاً فطرياً ومعقولاً؟، وما هو المقياس الذي تقاس به معقولية "هذا" السعر وعدم معقولية "ذلك"؟ وهي يتعين سعر الربا في التعامل الربوي الجاري في الدنيا على أساس عقلي (Rational) في حقيقة الأمر؟ وإذا دققنا النظر في هذا السؤال عرفنا، كحقيقة ثابتة، أن الدنيا ما وجد فيها للآن شيء يعرف "بالسعر المعقول للربا" فإن مختلف الأسعار قد قررت أسعاراً معقولة في مختلف الأزمان، ثم قررت نفسها أسعارا غير معقولة في مكان آخر فقد كان 15 إلى 60% سنوياً سعراً معقولاً مشروعاً في العهد الهندوكي القديم على حسب ما صرح به فيلسوفهم الكبير كوتلية (Coutilya) بل كان يرتفع عنه بعض الأحيان إذا كان الخطر أكثر. وإن المعاملات المالية كانت تعقدها الولايات الأهلية الهندية مع المرابين الوطنيين في جانب ومع شركة الهند الشرقية الانكليزية (East-Indian Company) في الجانب الآخر في الشطر الأخير من القرن الثامن عشر والشطر الأول من القرن التاسع عشر، كان سعر الربا فيها عامة 48% سنوياً وقد نالت الحكومة الهندية القروض الحربية في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) بسعر 3,5% سنوياً، وقد ظل سعر الربا في الشركات التعاونية في ما بين سنة 1920 و1930 يتراوح بين 12و15% سنوياً عامة وقد ظلت محاكم البلاد في ما بين 1930 و1940 تحكم بأن سعر الربا على نحو 9% سنوياً سعر معقول عادل. وقد تقرر سعر الربا في مصرف الإصدار الهندي (Reserve Bank of India) 3% سنوياً وعليها ظل أثناء زمن الحرب كله بل ظلت الحكومة تنال القروض بسعر 2,75% سنوياً أيضاً.
هذا ما عليه الحال في قارتنا الهندية. وإنك إذا نظرت نظرة في ما عليه الحال في البلاد الأوربية، وجدته لا يختلف عنه اختلافاً كبيراً، فقد تقرر في انكلترا في أواسط القرن السادس عشر أن 10% سنوياً سعر معقول للربا، وما زالت بعض المصارف المركزية في أوربة حوالي سنة 1920 تجري معاملاتهم الربوية على سعر 8 أو 9% سنوياً وإن القروض التي نالتها الولايات الأوربية في هذا العهد بواسطة هيئة الأمم المتحدة، كان سعر الربا فيها يساوي هذا القدر تقريباً، ولكنك إذا ذكرت اليوم هذا القدر من سعر الربا لأهل أوربة وأميركا صاحوا في وجهك وقالوا ما هذا بسعر للربا ولكنه سلب للناس أموالهم وحيث توجهت اليوم وجدت سعر الربا 2,5 -3% سنوياً وأكبر سعر للربا يوجد اليوم في العالم لا يزيد عن 4% سنوياً، بل قد يؤول الأمر بعض الأحيان إلى 0,5 و 0,25% سنوياً ولكن السعر الذي يبيحه قانون 1927 للمرابين الذين يقرضون العامة، هو 48% سنوياً وأن السعر الذي يناله المرابون من زبائنهم بواسطة المحاكم الأمريكية يتراوح بين 30 و60% سنوياً. فقل لي بالله أي من هذه الأسعار سعر فطري معقول؟
ثم تقدم خطوة أخرى وتفكر: هل من الممكن أن يوجد في الدنيا سعر معقول فطري للربا في واقع الأمر؟ ولعمر الحق إنك على قدر ما تزداد تأملاً في هذه المسألة، يدلك عقلك على أن تعيين سعر الربا على الوجه المعقول لا يمكن إلا إذا كان الربح الذي يناله المدينُ من ماله الذي يستقرضه من الدائن معلوماً بالتعيين. فلو كان من الممكن أن يعرف بالتعيين أن الربح الذي يناله المدين باستغلال 100 ليرة في سنة واحدة يساوي 25 ليرة مثلاً، لكان من الممكن القول بأن خمس ليرات أو أربع أو... من هذا الربح نصيب فطري معقول لمن ظل ماله تحت الاستغلال طوال السنة ولكن من الظاهر أنه لا يمكن أن يعين الربح الذي يحصل باستغلال المال على هذا الوجه، ولا أن يراعى عند تعيين سعر الربا في السوق أنه كم من الربح سيناله المدين باستغلال المال الذي يستقرضه، وهل سيحصل منه على شيء من الربح أم لا؟ بل الذي يحصل في واقع الأمر، أن المرابي يعين قيمة دينه –وهي سعر الربا- على حسب ما يجد عليه المدين من الاضطرار والمغبة وأن التجار يرفعون سعر الربا أو يخفضونه في المراباة التجارية على أسس أخرى ليست على أدنى صلة بالعقل والانصاف.
*     *     *
أسباب سعر الربا:
والذي يكون نصب عين المرابي عامة في المعاملة الربوية، هو ما يكون عليه المقترض من الفقر والبؤس والاضطرار وأنه إلى أي حد تسوء حاله إن لم ينل منه الدين. فعلى أساس هذه الأمور يقضي الدائن في نفسه، ماذا ينبغي أن يُطالب به المدين من الربا؟ فإن لم يكن فقره شديداً وحاله سيئة وكان لا يستقرض مالاً كثيراً، كان سعر الربا قليلاً، ولكن بالعكس من ذلك إن سعر الربا يرتفع على قدر ما يكون فقره مدقعاً وحاله سيئة وحاجته إلى الدين شديدة حتى إنه إذا كان لرجل فقير ولد عند الاحتضار وهو لا يجد في جيبه من المال ما يمسك به رمق حياته فيضطر أن يذهب إلى هذا المرابي واستقراضه شيئاً من المال، فليس أي سعر كبير للربا يطالبه إلى هذا المرابي واستقراضه شيئاً من المال، فليس أي سعر كبير للربا يطالبه به بسعر "غير معقول" ولو بلغ 400 أو 500%.
أما الأسس التي يعين التجار ويرفعون أو يخفضون عليها سعر الربا في سوق المراباة، فللاقتصاديين فيها مذهبان.
تقول طائفة منهم إن قانون "العرض والطلب" هو أساسه. فإذا قل الراغبون في استغلال المال وكثرت الأموال القابلة للإقراض، يكون سعر الربا منخفضاً، بل لا يزال ينخفض، حتى إذا انخفض كثيراً، انتهز الناس الفرصة السانحة وبدؤوا يستقرضون المال لاستغلاله في تجاراتهم أو صناعتهم. ثم بدأ طلب المال يشتد، والأموال القابلة للإقراض تقل، بدأ سعر الربا يرتفع حتى يبلغ الحد الذي ينتهي عنده الناس عن استقراض المال.
فما معنى ذلك؟ معناه أن الرأسمالي يأبى أن يعامل الرجل التاجر أو الصانع معاملة المشاركة ويجعل لنفسه نصيباً من ربحه الحقيقي على الوجه المعروف المعقول، وإنما يقول على وجه التخمين: إن هذا الرجل الذي يقترض مني المال سيحصل على كذا وكذا من الربح في تجارته، فينبغي أن أنال على ما أقرضته من مال كذا وكذا من الربا. وفي الجانب الآخر يعمل الرجل التاجر أيضاُ فكرته ويقدر على وجه التخمين أن المال الذي أخذه من هذا الرأسمالي، من الممكن أن أنال منه كذا وكذا من الربح على الأكثر، فلا ينبغي أن يكون الربا أكثر من كذا وكذا. فكأن كلاً منهما لا يعول إلا على التخمين والحرص: يبالغ الرأسمالي دائماً في تخمين الربح الحاصل من التجارة ولا يغيب عن ذهن التاجر الذي يستغل المال في التجارة بالاستقراض أبداً ما قد يصيب التجارة من الخسارة والبوار مع رجائه في الربح. فمن أجل ذلك لا يزال شيء كالمشاكسة والمصارعة يحصل بينهما مكان أن يكون بينهما التعاون والتناصر. وذلك أن التاجر عندما يريد أن يوظف المال في التجارة على رجاء منه في الربح يوقع الرأسمالي قيمة ماله، ولا يزال يرفعها حتى لا يكاد أحد من التجار يرجو الربح من التجارة إذا ما وظف فيها المال بالاستقراض بهذا السعر الغالي. وعلى هذا يمسك التجار أيديهم عن توظيف المال في تجارتهم ويقف سير الرقي الاقتصادي دفعة واحدة. ثم عندما تنتاب العالم التجاري نوبة شديدة من الكساد ويجد التاجر نفسه قائماً على شفا حفرة من الهلاك، يخفض المرابي سعر الربا إلى درجة تجعل التجار والصناع الموظفين المال في تجاراتهم وصناعاتهم بالاستقراض يرجون بعض الرجاء في الربح فيبدأ رأس المال يَرِد سوق التجارة والصناعة مرة أخرى. فالظاهر من هذا أنه لو كان التعاون بين رأس المال والتجارة على الشروط المعقولة لسار وما زال يسير نظام الدنيا الاقتصادي على الطريق السوي بالأمن والسلامة، ولكنه لما فتح القانون باب المراباة للرأسمالي، سرت روح القمار والميسر في ما بين رأس المال والتجارة من العلاقة، وبدأ ينخفض سعر الربا مرة ويرتفع أخرى، على نحو ما يحصل في القمار والميسر، وهكذا لا تزال حياة الدنيا الاقتصادية مصابة بأزمة شديدة دائمة.
وتقول طائفة أخرى إن الرأسمالي عندما يؤثر أن يبقي ماله تحت يده حتى يستغله إذا شاء، يرفع عليه سعر الربا، ولكنه عندما تخف في نفسه هذه الرغبة –في أن يبقي ماله تحت يده ولا يستغله إلا هو نفسه- فإنه يخفض عليه سعر الربا. وأما "لماذا يؤثر الرأسمالي أن يبقي النقد تحت يده"؟ فجواب هؤلاء القوم عليه: أن لذلك أسباباً الأول منها أنه لا بد أن يكون عند الرأسمالي قدر من المال في كل حين لبعض حاجاته الشخصية أو التجارية. والثاني أن الرأسمالي يجب أن يكون عنده مقدار من المال للأحوال الطارئة والحاجات المفاجئة كاتفاق غير عادي في أمر شخصي أو صفقة رابحة قد تعرض له على غير حسبان منه. والثالث –وهو أهم هذه الأسباب- أن الرأسمالي يجب أن يكون عنده في كل حين مبلغ كبير من النقد ليستفيد به إذا ما قل النقد وارتفع سعر الربا في السوق في المستقبل. ولكن السؤال الذي ينشأ بهذا الصدد هو: هل هذه الرغبة –في أن يبقى عنده في كل حين من المال ما ينتفع به في الأحوال غير العادية- التي تنشأ في قلب الرأسمالي، هل تعتريها الخفة والشدة حتى يظهر أثرها بصورة ارتفاع سعر الربا وانخفاضه في السوق؟ فيقولون جواباً على هذا: نعم إن هذه الرغبة تشتد مرة لمختلف الأسباب الشخصية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فعندئذ يرفع الرأسمالي سعر الربا وهكذا تحدث القلة في المال الوارد على التجارة. وقد تخف فيه هذه الرغبة لأسباب أخرى مثلها، فعندئذ يخفض سعر الربا وهناك يبدأ الناس يستقرضونه المال بكثرة لاستغلاله في التجارات والصناعات.
لعمر الحق إنك إذا دققت النظر في هذا التأويل المليح في ظاهره، وجدت أن لا أساس له من الحقيقة، لأن الحاجات البيتية والحاجات التجارية الشخصية لا تتأثر على أساسها رغبة الرأسمالي –رغبته في أن يحتفظ عنده في كل حين من أحيانه بقدر من المال –في أكثر من 5% من رأسماله في جميع حالاته المادية وغير المادية، فلا عبرة بالسببين الأولين أصلاً. وإنما السبب الذي لأجله يمسك الرأسمالي 95% من ماله مرة ويدفعه أخرى إلى سوق الدّين، إنما هو السبب الثالث فقط، وأنت إذا جزأت هذا السبب تبين لك أن الرأسمالي لا يزال ينظر بعين ملؤها الأثرة وسوء النية في ما يطرأ على الدنيا وعلى بلاده ومجتمعه من الحوادث والتغيرات، فتارة تلمح خلال هذه الأحوال آثارا مخصوصة يجب على أساسها أن يبقي عنده دوما ذلك السلاح الذي يتمكن به من استغلال مصائب المجتمع وآفاته ومشاكله ويضيف إليها أمثالها حتى يزداد مع الأيام رفاهية وتمولاً. فيمسك عنده المال للقمار ويرفع عليه سعر الربا ويمتنع دفعة واحدة عن أن يدفع ماله إلى تجارة أو صناعة ويفتح على المجتمع باب الكارثة المعروفة بكساد التجارة. حتى إذا ما وجد نفسه قد قضى وطره إلى آخر غاية يستطيعها من أكل الحرام، ولم يبق أمامه أي إمكان آخر للفائدة، ورأى أن قد اقترب من حد الخسارة والبوار، خفت في نفسه الخبيثة الرغبة في إمساك المال فنادى في المشتغلين بالتجارة يغريهم بقلة سعر الربا أن هلموا إليّ عباد الله فإن عندي مقداراً وافراً من المال تأخذونه مني بالسعر الزهيد.
إن هذين التأويلين لهما اللذان جاء بهما الاقتصاديون الجدد في هذا الزمان لسعر الربا، وهما تأويلان لا يساورنا الريب في صحتهما في ذاتهما، إلا أن السؤال الذي يثور بهذا الصدد، هو: كيف يتعين أن السعر "المعقول الفطري" للربا بأي من هذين التأويلين؟ فإما أن نبدل مفاهيم كلمات العقل والمعقولية والفطرة، وإما أن سعر الربا يتعين ويرتفع وينخفض بأسباب تكون أعرق في عدم المعقولية على قدر ما تكون معقولية الربا نفسه قليلة.
المنفعة الاقتصادية للربا وحاجة الإنسان إليه:
ثم إن البحث الذي يثيره محامو الربا بعد ذلك هو أن الربا حاجة اقتصادية وله منافع لا يمكن حصولها بدونه، وهاك فيما يلي، خلاصة البراهين التي يؤيدون بها دعواهم:
1- إنما يتوقف الاقتصاد الإنساني في جميع فعالاته على اجتماع المال، ولا يمكن أن يجتمع إلا بأن يضيق الناس دائرة حاجاتهم ويكبحوا من جماح رغباتهم، ولا ينفقوا على أنفسهم كل ما يكسبون ويقتصدوا في الانفاق ويوفروا جانباً من مكاسبهم. وهذا هو الطريق الوحيد لاجتماع المال وادخاره، ولكن لا يتيسر للإنسان أن يرضى بتضييق دائرة حاجاته والكبح من جماح رغباته والاقتصاد في إنفاقه إذا كان لا ينال على هذا الضبط للنفس شيئاً من الأجر؟ فالربا هو "الأجر" الذي يحمل رجاؤه الناس على الاقتصاد في نفقاتهم والتوفير من أموالهم، وإنكم إذا حرّمتموه عليهم، فلا بد أن ينقطع الناس عن ادخار ما يفضل من دخلهم مع أنه هو الوسيلة الوحيدة لاجتماع المال لمختلف الحاجات الفردية والجماعية.
2- إن أسهل طريق لدفع المال إلى الفعالات الاقتصادية أن يظل مفتوحاً في وجه الناس باب إعطاء ما يفضل عندهم من أموالهم بالربا. وهكذا فإن الطمع بالربا يجعلهم يدخرون المال، وهو الذي لا يزال يحملهم على ألا يهملوا ما يتوفر عندهم من أموالهم ويسلموه إلى من يوظفونه في التجارات والصناعات وغيرهما من الشؤون المثمرة، ويأخذوا منهم الربا بسعر يتم الاتفاق عليه بينهم وبينهم. وأما إغلاق هذا الباب، فما معناه أن ينعدم عامل من أهم عوامل اجتماع المال فحسب، بل معناه كذلك ألا يسخّر أصلاً ما يفضل عند الناس من أموالهم للاستغلال في التجارة والصناعة.
3- ليس ما يسديه الربا من الخدمات إلى الإنسانية أنه يحمل الناس على جمع المال. ثم يسخر هذا المجموع للانتفاع به في الفعالات الاقتصادية المثمرة فحسب، بل هو الذي يحول بينه وبين أن يستعمل في طرق غير نافعة، وإن سعره هو الذي ينظم الاقتصاد على أحسن الخطوط وأقومها ويجعل رأس المال لا يتوظف على مختلف المشاريع التجارية أو الصناعية إلا في أثمرها جلباً للمنفعة والربح ولا نكاد نعرف طريقاً آخر غير الربا يميز النافع من غير النافع والأنفع من النافع من بين مختلف المشاريع العملية، ثم يوجه المال إلى أنفعها وأكثرها جلباً للربح. وإنكم إذا ألغيتم الربا، لا يكون من نتيجته إلا أن يصبح الناس ينفقون أموالهم غير مكترثين للعواقب، أو إذا اكترثوا لها مثلاً –يوظفونها في ما يشاؤون من الشؤون المالية النافعة وغير النافعة بدون أي اهتمام بالربح أو الخسارة.
4- ولا شك أن الدين من حاجات الحياة الإنسانية التي لا بد منها للأفراد ولا للجماعات ولا للحكومات. فالأفراد تمسهم الحاجة إلى الاستقراض لشؤونهم الشخصية، كما أن التجار في حاجة إليه دوماً، ولا يمكن أن تسير بدونه شؤون الحكومات البتة. فكيف يمكن أن يحصل الدين بهذه الكثرة على النطاق الواسع بالصدقات والتبرعات فحسب، لأنكم إذا لم تغروا أصحاب الأموال بالربا ولم تجعلوهم مطمئنين إلى أن الربا لن يزال يحصل لهم مع رأسمالهم، فقلما يرضون الإقراض، مما يؤثر تأثيراً سيئاً في الحياة الاقتصادية بأسرها. إن الرجل البائس في هذه الأيام يحصل من المرابي ما يمسك به رمق حياته ويقضي به حاجاته في أيام العسر والبؤس، وما ذلك إلا بفصل الربا فقط، فإن المرابي لولا طمعه في الربا، لما أقرضه أبداً، ولا بد عندها أن تبقى حاجته غير مقضية مهما كان احتياجه شديداً. وكذلك فإن التاجر في هذه الأيام ينال القرض الربوي بكل سهولة في أمواله الحرجة ويقضي حاجته، ولكنكم إذا أغلقتم في وجهه هذا الباب، فلا بد له من الإفلاس عند كل خطوة في حياته التجارية. وكذلك الحكومات، فإنها إنما تسد حاجاتها بالقروض الربوية فقط، وإلا فكيف لها أن تجد رجالاً يبسطون لها أيديهم ويتصدقون عليها بمبالغ كبيرة من المال كل يوم جديد؟
هل الربا شيء نافع لا مندوحة عنه للإنسانية في واقع الأمر؟
هذا، وتعال نستعرض الآن كل واحد من هذه "المنافع" و"الحاجات" المذكورة ونبين هل هي حقاً منفعة وحاجة أم لا يعدو أمرها أن تكون وسوسة من الشيطان؟
إن أول خطأ يرتطم فيه الاقتصاديون في الغرب اليوم هو ظنهم أن تقصير الأفراد في الإنفاق وجمعهم المال شيء لا مندوحة عنه لحياتهم الاقتصادية. مع أن الحقيقة على العكس من ذلك وهي أن الرقي والرفاه الاقتصادي إنما يتوقف بمجموعة على أن يظل يباع ويستهلك في السوق كل ما ينتجه المجتمع بمجموعة من أدوات المعيشة كيما تظل دورة الإنتاج والاستهلاك تسير بسرعة واتزان، ولا يمكن أن يحصل هذا إلا إذا كان من عادة الناس عامة أن ينفقوا ما ينالون من الثروة أثناء سعيهم الاقتصادي بسعة قلوبهم إلى درجة إنهم إذا نالوا من الثروة ما يزيد عن حاجاتهم حولوه إلى الفقراء والمعوزين من أفراد الجماعة ليمكنوهم من الإسهام إلى جانبهم في اشتراء مرافق حياتهم اللازمة. ولكنكم تلقنون الناس –بالعكس من ذلك- أن الذي ينال من الثروة ما يزيد عن حاجاته فليمسكه، وأن من ينال منها ما يكفي لحاجاته فليبخل به، وهذا ما تعبرون عنه بكلمات "ضبط النفس" والإيثار وغيرهما، وليكف نفسه عن قضاء كل ما أمكنه ألا يقضيه من حاجاته وأن على كل فرد من أفراد الجماعة أن يجمع عنده أكثر ما يقدر على جمعه من المال وذلك ما تعدون من نفعه أن رأس المال يرتكز في أيد قليلة، فيُسخر لترقية التجارة والصناعة والارتفاع بشأنهما. ولكن الحق أن ذلك شيء ضار بدل أن يكون نافعاً، فإن من مضاره أن البضائع الغاصة في السوق يبقى معظمها بدون أن يشتريها الناس لحاجاتهم، لأن الذين لهم قدرة محدودة على الشراء لا يستطيعون أن يشتروا كثيراً من أدوات حاجاتهم لعدم قدرتهم على اشترائها، وأما الذين يستطيعون أن يشتروها على قدر حاجاتهم، فلا يشترون الجزء الأعظم من المنتجات على كونهم قادرين على اشترائها بغية التوفير وأما الذين عندهم من قوة الشراء ما يزيد عن حاجاتهم، فيأبون أن يحولوه إلى غيرهم ممن تعوزهم ويمسكونه عندهم. فإذا بقيت الحال على هذا في كل دورة اقتصادية مدة من الزمان وظل من عندهم من قوة الشراء ما يكفيهم أو يزيد عن حاجاتهم لا يستفيدون معظمها في اشتراء المنتجات الموجودة في السوق ولا يعطونه غيرهم ويمسكونه ويبخلون به فإنه لا يكون من نتيجة كل ذلك إلا أن يبقى في كل دورة الجزء الأكبر من إنتاج الجماعة الاقتصادي كاسداً. ثم إن قلة استهلاك المال هذه تؤثر تأثيراً غير محمود في معاش الناس، مما يؤول طبعاً إلى النقص في دخلهم وإن هذا النقص في دخلهم لا يزال يحدث النقص ويوسع دائرته في استهلاك البضائع حتى يسبب اجتماع المال عند شرذمة قليلة من أفراد الجماعة، والبؤس والشدة والفقر والفاقة عند أغلبية أفرادها، مما ينغص راحة هؤلاء الأفراد القليلين ويكدر صفو حياتهم في آخر الأمر، لأن الثروة التي يجمعونها ويوظفونها للاستثمار المزيد بدل أن ينفقوها في اشتراء البضائع وأدوات الحاجة الغاصة بها السوق، أين يمكن أن يباع ويستهلك ما ينتجون بها من المنتجات؟
وإذا تفكرت في هذه الحقيقة، علمت أن حاجة الإنسانية الاقتصادية الحقيقية هي إزالة الأسباب التي لأجلها يميل الناس إلى جمع الثروة والبخل بها بدل أن ينفقوها أو يعطوها غيرهم من ذوي الحاجات. وما يقتضيه فلاح الجماعة الاقتصادي أن يعمل –في جانب- على نطاق اجتماعي على خلق ظروف يطمئن فيها الناس بنيل العون والمساعدة عند حاجاتهم وشدائدهم حتى لا يشعروا بحاجة إلى جمع المال أصلاً. وفي الجانب الآخر ينبغي أن تفرض الزكاة على الثروة وكنزها وإمساكها عندهم؛ وأن لا يزال جزء من الثروة التي قد تبقى مرتكزة على كل هذا يصل إلى من يكون نصيبهم من دوران الثروة قليل. ولكنكم تُطمّعون الناس في الربا وتذكون فيهم نار بخلهم الطبيعي وتحثون الذين ليسوا بالبخلاء منهم على أن يجمعوا المال بدل أن ينفقوه في اشتراء أدوات حاجاتهم. ثم إن كنتم تأتون إلى السوق بما يجتمع بهذا الطريق الخاطئ المناقض للمصلحة الجماعية من المال تبتغون به الأرباح، فإنما تأتون به إليه من طرق الربا، وهو ظلم آخر منكم للمصلحة الجماعية. ونقول إن هذه الثروة المجموعة لو وظفها الرأسمالي في التجارة على أن ينال نصيبه مما تعود به هذه التجارة من الربح على نسبة معلومة، لما كان بذلك بأس البتة ولكنكم إنما تأتون به إلى السوق على أن يحصل الرأسمالي على كذا في المائة من الربح شهرياً أو سنوياً سواء أربحت التجارة أم خسرت وسواء أكان ربحها كثيراً أم قليلاً، فهكذا أصبتم الاقتصاد الاجتماعي بالمضرة مرتين: مرة بأنكم أمسكتم المال ولم تنفقوه في اشتراء بضائع الجماعة ومنتجاتها من السوق، وأخرى بأنكم إذا رجعتم المال إلى الاقتصاد الجماعي، ما رجعتموه إليه على مبدأ المشاركة والمضاربة بل أقرضتموه تجارة الجماعة وفرضتموه عليها فرضاً حيث قد ضمن له قانونكم بالربح اليقيني الدائم فكأن الذي عليه الحال الآن لأجل نظامكم الاقتصادي الخاطئ، هو أن كثيراً من أفراد المجتمع يمسكون ما بأيديهم من قوة الشراء ويقرضونه للمجتمع نفسه بصورة (الدين الربوي) بدل أن يصرفوه إلى اشتراء منتجات الجماعة، وقد أصبح المجتمع المسكين حيران –ولا يزال يزداد حيرة فوق حيرته- لا يدري كيف يخلص نفسه من أداء هذا الدين مع رباه لأن البضائع التي ينتجها بهذا المال لا تستهلك في السوق إلا بصعوبة شديدة وإن هذه الصعوبة لا تزال تشتد يوماً فيوماً، فإنها لا يشتريها مئات الألوف من الناس لأنهم لا يجدون عندهم المال، ولا يشتريها ألوف منهم لأنهم يمسكون ما عندهم من قوة الشراء ليولدوا بها مزيداً من المال ويقرضوه غيرهم من أفراد الجماعة بالربا. تقولون إن من فوائد الربا أن الرجل التاجر يضطر لأجله أن يتجنب الإسراف في إنفاق المال ويجتهد أن يستعمله في أنفع الطرق وأعودها عليه بالربح. تقولون إن من كرامة سعر الربا أنه هو الذي يقوم بمهمة إرشاد التجارة إلى أقوم الطرق وأنسبها بكل هدوء وطمأنينة وأنه ليس إلا من فضله أن المال ينتخب لجريانه أنفع الطرق التجارية الممكنة. ولكن الحق أنكم إذا أزحتم الستار عن وجه قولكم المزخرف هذا، ظهرت لكم الحقيقة الناصعة من تحته، وهي أن أول خدمة أنجزها الربا للإنسانية أن حاول إنساءها كل تفسير ممكن لكلمتي "الربح" و"المنفعة" إلا تفسير واحد وهو "الربح المالي" و"المنفعة الاقتصادية" فهكذا قد نال المال ما كان يفقده من قبل، من الانقطاع والتفرد، فهو إذا كان من قبل قد ينتقل إلى طرق يحصل منها ربح غير الربح المالي فقد أصبح الآن لا يتوجه إلا إلى طرق يكون فيها على يقين تام من الربح المالي، ثم إن الخدمة الثانية التي أسداها الربا إلى الإنسانية بفضل سعره، أن أصبحت منفعة الرأسمالي وحده –لا ربح المجتمع بأجمعه- هي المقياس لاستغلال المال. وصار يعد من منافع الربا مساعدته للرأسمالي على أن يقضي في نفسه أن لا ينفق ماله إلا في صناعة أو تجارة راجعة عليه بربح قدره 6% سنوياً –مثلاً- أو أكثر، ويرى أن ليست كل تجارة أو صناعة ترجع عليه بأقل من هذا القدر من الربح، بقابلة أصلا لأن يوظف فيها شيئاً من ماله. فلنفرض الآن –على سبيل المثال- أن الرأسمالي يعرض له مشروعان: مشروع لبناء مساكن تكون في الوقت نفسه مريحة السكنى ورخيصة الكراء حتى يتمكن الفقراء من استئجارها بكل سهولة، ومشروع آخر لبناء عمارة فخمة للسينما. فأما المشروع الأول، فإنما يرجع عليه بربح قدره أقل من 6% سنوياً، وأما المشروع الثاني فيرجى منه ربح قدره أكثر من 6% سنوياً. نعم لقد كان من الممكن من قبل أن يوجه الرأسمالي ماله إلى المشروع الأول، أو أن يحس بحاجة إلى الاستخارة مترددا بين المشروع الأول والثاني، ولكن من فضل سعر الربا أنه يهتدي بدون أدنى تردد أو تريث إلى طريق المشروع الثاني دون أن يعير المشروع الأول أي التفات أو اهتمام. ثم إن من كرامة سعر الربا أنه يحمل للرجل التاجر أو الصانع، بل يضطره اضطراراً إلى أن يستنفد كل ما في وسعه من الجهود في أن يكون ربحه من تجارته أو صناعته –على كل حال- فوق الحد الذي قد رسمه له الرأسمالي، وألا يبالي في هذه السبيل بما يسلكه من طرق مخالفة للمروءة والأخلاق. فمثلا إذا كان هناك رجل قد أنشأ شركة للفيلم بمال استقرضه بالربا بسعر 6% سنوياً، فلا بد أن يختار لنفسه من الطرق ما يبقي به ربحه على كل حال أكثر من هذا السعر؛ فهو إذا لم يحصل له ذلك بإنشاء الأفلام ذات الروايات النزيهة من الوجهة الخلقية والنافعة من الوجهة العلمية، يضطر إلى إنشاء الأفلام ذات الروايات الخليعة الداعرة ويحاول تزيينها في أعين الناس وإعلانها فيهم بطرق تثير عواطفهم السفلى وتنجرف بهم إلى دار السينما لرؤيتها دون أن يبالوا بشيء من الأخلاق والشرف والفضيلة.
فهذه هي حقيقة المنافع التي تحصل عندكم بالربا ولا سبيل لحصولها بغير الربا. وعليكم أن تستعرضوا الآن "الحاجة" التي تدعون أنه لا يمكن سدها بشيء غير الربا.
لا شك أن الدين من حاجات الحياة الإنسانية يحتاج إليه الأفراد في حاجاتهم الشخصية، ويكثر عليه الطلب دائماً في التجارة والصناعة والزراعة وغيرها من الشؤون الاقتصادية، كما أن المؤسسات الاجتماعية –وفيها الحكومة نفسها- تكون دائما في حاجة شديدة إليه، ولكن من الخطأ القول بأن حصول الدين بغير الربا أمر مستحيل، لأن الأمر لم يؤل إلى هذا الوضع السيء الذي لا يحصل فيه الدين بغير الربا للأفراد ولا للأمم إلا لأنكم أبحتم الربا بموجب القانون، حرموه أولاً وتبنّوا مع الاقتصاد ذلك النظام الذي قد جاء به الإسلام للأخلاق، تجدوا كيف ينهال القرض بكل سهولة وبكل كثرة للحاجات الشخصية والاجتماعية بدون الربا، بل وكيف تنهال العطايا والمنح على الأفراد والأمم من كل جانب، وقد برهن الإسلام على ذلك فعلا. قد ظل المجتمع الإسلامي لقرون عديدة يسير شؤون اقتصاده على أحسن ما يتصور من الطريق بدون الربا وما جاء عليه قبل هذا العصر الربوي النجس حين من الدهر يكون قد مات فيه رجل مسلم ثم بقي بدون كفن ولا دفن لأن وارثه ما نال بالقرض بدون الربا، أو تكون صناعة المسلمين وتجارتهم وزراعتهم قد باءت بالخسارة والبوار لا لشيء إلا أنه ثبت أن حصول القرض الحسن حسب حاجاتهم التجارية والصناعية والزراعية مستحيل، أو تكون الحكومات الإسلامية ما نالت الأموال لمشاريع كانت تنويها للمصلحة العامة أو للإنفاق في الجهاد لا لشيء إلا لأن الأمة ما رضيت أن تقرضها بدون شيء من الربا. فإذن لا تحتاج دعواكم هذه –أي أن القرض الحسن شيء مستحيل لا يمكن تحققه والعمل به وأنه لا يمكن أن يقوم بناء الأقراض والاستقراض إلا على أساس الربا فقط- إلى رد منطقي، فإننا قد أثبتنا خطأه بتعاملنا الاجتماعي إلى عدة قرون متوالية.
أما كيف يمكن فعلا حصول الدين لحاجات هذا الزمان الاقتصادية بدون الربا، فهو بحث لا يدخل في موضوع هذا الباب، وسنتكلم عليه في الفصول الآتية من هذا الكتاب إن شاء الله.

الفصل الثاني
مضار الربا
قد أثبتنا في الفصل السابق، أن الربا ليس بشيء معقول، وأنه لا يقتضيه العدل ولا يحتاج إليه الإنسان في اقتصاده، وليس فيه، في حقيقة الأمر، ناحية للمنفعة. إلا إن حرمة الربا لا تقوم على هذه الأسباب السلبية فحسب، بل السبب الحقيقي فيها أن الربا شيء ضار قطعاً، وإن مضرته بالإنسانية شديدة جداً من وجوه إيجابية عديدة. ففيما يلي نستعرض استعراضاً تفصيليا ما للربا من المضار بالإنسانية، حتى لا يبقى عند كل ذي عقل مجال للريب في حرمة هذا الشيء الخبيث.
مضار الربا من الناحية الأخلاقية والروحية:
علينا أن نتناول هذا البحث أولا من الناحية الأخلاقية والروحية، فإن الأخلاق والروح هما جوهر الإنسانية وملاك أمرها. فكل شيء إذا كان يضرنا في صميم هذا الجوهر، جدير بالرفض ولا يصلح لأن نأخذ به أبداً ولو كانت فيه منافع كثيرة من أي ناحية أخرى، فإذا نظرنا في الربا وجزأناه تجزئة نفسية تبين لنا لأول وهلة أن الربا لا يبدأ فيه العمل الذهني كله –من رغبة الإنسان في جمع المال إلى مختلف مراحل حياته الاقتصادية –إلا منطبعاً بتأثير الأثرة والبخل وضيق الصدر وتحجر القلب والعبودية للمال والتكالب على المادة وما إليها من الصفات الرذيلة الأخرى، ثم لا ينفك يجري هذا العمل تحت مثل هذه الصفات ويؤصلها في الإنسان على قدر ما يتقدم ويقطع من مراحل النجاح في تجاربه الربوية –ولكن- بالعكس من ذلك- إذا نظرت في الشؤون المالية القائمة على الزكاة والصدقات، وجدت العمل الذهني كله- منذ أن ينوي الإنسان أداء الزكاة والصدقة إلى أن يؤديها فعلاً –لا يحصل إلا منطبعاً بصفات الكرم والسخاء والإيثار والمواساة والمناصحة وسعة القلب ورحابة الصدر وعلو الهمة وما إليها من الصفات الشريعة الأخرى، ثم لا تزال تنشأ وتتأصل هذه الصفات في الإنسان ما سلك هذا الطريق في حياته. وهل في الدنيا رجل لا يشهد له قلبه أن الأولى من هاتين المجموعتين شر مجموعة للصفات الخلقية وأن الأخرى خيرها؟
مضار الربا من الناحية المدنية والاجتماعية:
وعلينا أن ننظر الآن في هذه المسألة من الناحية المدنية والاجتماعية لا يكاد يختلف اثنان في أن المجتمع الذي يتعامل أفراده فيما بينهم بالأثرة، ولا يساعد فيه أحد غيره إلا أن يرجو منه فائدة "راجعة" على نفسه، ويكون فيه عوز واحد ما وضيقه وفقره فرصة يغتنمها غيره للتمول والاستثمار، وتكون مصلحة الطبقات الغنية الموسرة فيه مناقضة لمصلحة الطبقات المعدمة، لا يمكن أن يقوم ويظل قائماً مثل هذا المجتمع على قواعد محكمة أبداً، ولا بد أن تبقى أجزائه ماثلة إلى التفكك والتشتت في كل حين من الأحيان. ثم إذا عاونت على هذه الوضعية الأسباب الأخرى أيضاً، لا تلبث هذه الأجزاء تتحارب وتتشابك فيها بينها. ولكن بالعكس من ذلك؛ إن المجتمع الذي يقوم بناؤه على التعاون والتناصح والتكافل ويتعامل أعضاؤه فيما بينهم بالكرم والسخاء، ولا يكاد يحس فيه أحدا أن أحداً من إخوانه في حاجة إلى مساعدته، إلا سارع إلى الأخذ بيده، وعامل فيه الأغنياء إخوانهم الفقراء بالإعانة متطوعين أو بالتعاون العادل على الأقل، لا بد أن تنشأ وتنمو صعداً عواطف التحاب والتناصح والتناصر في قلوب أفراد مثل هذا المجتمع وتبقى أجزاؤه متكافلة متساندة فيما بينها ولا تتطرق إليه عوامل التنازع والتصادم الداخلي أبداً، وأن يكون أسرع كذلك إلى الرقي والكمال والازدهار من المجتمع الأول.
وقس على ذلك ما تتصل به مختلف أمم الأرض وشعوبها من العلائق الدولية فيما بينها، فإنه من المستحيل إذا عاملت أمة أمة مجاورة لها بالعطف والكرم وسعة القلب والمواساة وكلما نزلت بها نازلة من الدهر، أن تلقى منها الجواب على بِرّها بها، بشيء غير الشكر والحب والإخلاص. ولكن إذا عاملت هذه الأمة جاراتها بالأثرة والقسوة وضيق القلب واستغلت مصائبها وشدائدها، فقد تنال بذلك منفعة مادية كبيرة بصورة المال، ولكن لا يمكن بحال أن يبقى لها في قلب جاراتها شيء من عواطف الحب والصداقة والإخلاص. وهل أتاك حديث انكلترا إذا طلبت من أميركا بعد الحرب العالمية الأخيرة أن تعقد معها اتفاقية دين كبير يعرف باتفاقية برتين وود، ويبان ذلك أن انكلترا كانت تريد من أميركا –وقد كانت حليفتها في الحرب- أن تمن عليها بالقرض بدون شيء من الربا، ولكن أميركا ما رضيت بذلك، وأبت أن تقرضها إلا بالرباء، واضطرت انكلترا لمشاكلها العديدة أن ترضى كرهاً بأداء الربا، واضطرات انكلترا لمشاكلها العديدة أن ترضى كرهاً بأداء الربا. وأما الأثر الذي تركه ذلك في الشعب الانكليزي فلك أن تعرف مداه من الكتابات والخطب التي أملتها أقلام الساسة والصحفيين الكبار من الانكليز في ذلك الزمان. فإن مما قاله اللورد كينز الراحل وهو يلقي خطبته في دار الشيوخ بعد رجوعه من أميركا بعد عقد هذه الاتفاقية –باعتباره ممثلا لللشعب الانكليزي- "لا أستطيع أن أنسى أبد الدهر ذلك الحزن الشديد والألم المرير الذي قد لحق بي من معاملة أميركا إيانا في هذه الاتفاقية، فإنها أبت أن تقرضنا شيئاً إلا بالربا" وكان مما قاله المستر تشرشل وهو ممن لا يخفي حبهم لأميركا وميلهم إليها "إني لأتوجس خلال هذا السلوك العجيب المبني على الأثرة وحب المال الذي عاملتنا به أميركا، ضروباً من الأخطار. والحق أن هذه الاتفاقية قد تركت أثراً شيئاً جداُ فيما بيننا وبين أميركا من العلاقة" وقال الدكتور دالتن وزير المالية في ذلك الزمان وهو يعرض هذه الاتفاقية على البرلمان لنيل مصادقته عليها: "إن هذا العبء الثقيل الذي نخرج من الحرب وهو على ظهورنا، جائزة عجيبة جداً نلناها على ما عانينا في الحرب من الشدائد والمشاق والتصحيات لأجل الغاية المشتركة، وندع للمؤرخين في المستقبل أن يروا رأيهم في هذه الجائزة الفذة في نوعها، التمسنا من أميركا أن تقرضنا قرضاً حسناً. ولكنها قالت لنا جواباً على هذا: ما هذه بسياسة عملية".
فهذا هو الأثر الفطري للربا وما يعقبه من رد الفعل النفسي الذي لا بد أن يظهر على كل حال، سواء أتعاملت به الأمم أو الأفراد فيما بينهم. ما كان أهل انكلترا ليعترفوا –ولا هم يعترفون اليوم- بأن المراباة شيء مستقبح في المعاملات الشخصية وإذا أردت أن تستقرض من رجل منهم بدن الربا، ضحك منك ورماك بالسفه قائلا "ليس هذا من طرق التجارة العملية" ولكن لما لقيت بلاده من أمة صديقة لها معاملة "طريق التجارة العملي"، صاح ورفع صوته بالعويل وشهد أمام الدنيا أن الربا شيء يشق القلوب ويسيء إلى ما بين الناس من الروابط والعلائق.
مضار الربا من الناحية الاقتصادية:
وعلينا أن ننظر الآن في هذه المسألة من الناحية الاقتصادية.
إن الربا إنما يتعلق من نواحي الحياة الاجتماعية بما يجري فيه التداين بين الناس على مختلف صوره وأشكاله. والقروض على أنواع:
قروض يأخذها الأفراد المحتاجون لقضاء حاجاتهم الذاتية. وقروض يأخذها التجار والصناع وملاك الأراضي لاستغلالها في شؤونهم المثمرة.
وقروض تأخذها الحكومات من أهالي البلاد، وهي على نوعين: نوع يكون لأغراض غير مثمرة كالقروض الحربية ونوع يكون لأغراض مثمرة كالقروض التي تؤخذ للقيام بمشاريع الترع والسكك الحديدية والكهرباء المائية وما إليها.
وقروض تأخذها الحكومات من أسواق المال في البلاد الأخرى لقضاء حاجاتها.
فلننظر في كل نوع من هذه الأنواع على حدة، ونتبين مدى الضرر فيه إذا جرى فيه العمل بالربا.
1- قروض ذي الحاجة:
والذي تحصل فيه المراباة على أوسع نطاق من الشؤون الاقتصادية هو المسمى بمهنة المرابي (Money –Lending Business) وهذه آفة عالمية ما سلم من شرها أي قطر من أقطار العالم، لأن هذه الأقطار ما بذلت اهتماماً لتهيئة الظروف التي ينال فيها الفقراء والمتوسطون القرض بسهولة عند الشدائد والطوارئ، أو ينالونه بالسعر التجاري على الأقل إن كانوا لا ينالونه بدون الربا. وذلك أمر تعتبره كل حكومة خارجاً من دائرة واجباتها ولا يكاد المجتمع الإنساني يشعر بهذه الحاجة الملحة، ولا تقوم المصارف إلا بمعاملات كبيرة للقرض تعود عليها بأموال وافرة ومنافع واسعة، على أنه لو كانت أبواب المصارف مفتوحة للفقراء والمنكوبين، لما كان من الممكن لرجل قليل المعاش أن يتوجه إلى المصرف لحاجة موقتة مفاجئة ويقضي منه حاجته. فمن أجل ذلك تجد الفلاحين والعمال والتجار الصغار والموظفين ذوي الرواتب القليلة وعامة الفقراء في كل قطر من أقطار العالم مضطرين إلى أن يستقرضوا عند الشدة من المرابين الذين يجدونهم يحلقون كالنسور في جو كل مدينة أو قرية يبحثون عمن يقع في مخالبهم. ولا تسل عن فداحة السعر الربوي الرائج في هذا  النوع من القروض، فكل من وقع في شرك المرابي مرة، لا يكاد يتخلص منه طول حياته بل لا يزاال الأبناء والأحفاد يتوارثون على ظهورهم ربا هذا الدين عن آبائهم وأجدادهم، ولا تزال صخرته جاثمة على صدورهم، وقد لا يتخلصون منه بعد ما يؤدون عليه من الربا ما يكون أكبر من رأس المال بمرات عديدة، وقد شوهد مراراً أن المدين إذا كان لا يستطيع أداء الدين مدة من الزمان جمع الدائن بين ما له على مدينه من رأس المال والربا وأقرضه هذا المدين نفسه بسعر أكبر ليسترد منه ماله مع رباه وذلك ما يجعل المسكين أسوأ حالاً منه من ذي قبل. وسعر الربا المشروع الرائج في انكلترا لمهنة المرابي هو 48% سنوياً على الأقل حيث يجوز للدائن أن يتقاضاه المدين بالمحاكمة. وأما السعر العام الذي تجري عليه المعاملات الاقتصادية فيها فعلا، فهو يتراوح بين 250 و400% سنوياً، وقد تمت فيها بعض المعاملات الربوية بسعر 1200% أو 1300% سنوياً. وإن سعر الربا المسموح به رسمياً للمرابي في أميركا، هو بين 30 و60% سنوياً، ولكن المعاملات الربوية إنما تجري فيها عامة بسعر 100-260% سنوياً بل قد يرتفع هذا السعر أحياناً إلى 480%. وما أحلم وأكرم المرابي الذي يقرض مدينه بسعر 48% سنوياً في بلادنا الهندية، وإلا فإن السعر الذي تجري به المعاملات هو 75% قد يرتفع إلى 150% سنوياً، بل قد تمت فيها بعض المعاملات الربوية بسعر 300 و350% سنوياً بعض الأحيان.
فهذه هي الآفة الشاملة التي ترزح تحتها اليوم الأغلبية العظمى من الطبقات الفقيرة والمتوسطة في كل قطر من أقطار العالم، وهي تمكن الرأسمالي من الجزء العظيم من دخل العمال القليلي المعاش وتجعله مستبداً به دونهم، حتى أنهم لا يكادون يجدون من رواتبهم ومشاهراتهم التي ينالونها بعرق جبينهم ووصل ليلهم بنهارهم ما يقيمون به أود حياتهم، لأن المرابي يضع يده على معظمها قبل، وذلك مما لا يفسد أخلاقهم وينجرف بهم إلى ركوب الدنايا واقتراف الجرائم فحسب، ولا يحط من مستوى معيشتهم ومستوى التعليم والتربية لأولادهم فحسب، بل من نتائجه أيضاً أن الهموم والأحزان لا تزال تهجهم على العمال وتؤثر في كفاءتهم ونشاطهم الذهني والبدني فلا يكادون ينشرحون صدراً بأعمالهم ويقومون بها في نشاط كامل. فمن هذه الوجهة ليس هذا النوع من التعامل الربوي بظلم فحسب، بل فيه أعظم ما يكون من الضرر على الاقتصاد الاجتماعي. إن الجماعة تسلط العلق على الذين هم العاملون الحقيقيون لإنتاجها ولا تنتج الثروة التي عليها مدار رفاهتها الاجتماعية إلا  بجهودهم! تقولون إن الملاريا تخسركم كذا وكذا من إنتاجكم الاقتصادي، ومن ثم تنقضون على البعوض المسكين وتستنفدون جهودكم لإبادته وقطع شأفته، ولكن ما لكم لا تقدرون إلى أي حد يقلق مرابوكم العمال في مصانعكم ومعاملكم وينغصون عليهم صفو حياتهم ويكسرون قلوبهم ويهنون عزائمهم ويقتلون فيهم عاطفة الجد والنشاط في عملهم، وأي أثر سيء يتركه ذلك كله في إنتاجكم الاقتصادي؟ بل لقد بلغت حماقتكم وانعكست عقليتكم في هذا الباب أنكم بدل أن تستعملوا شيئاً من استئصاال شأفة هؤلاء المرابين، لا تأخذون إلا المدينين، وتعصر محاكمكم من أجسادهم ما لا يقدر المرابي أن يعصره بنفسه من دماء أجسادهم؟
والمضرة الاقتصادية الثانية لهذا النوع الربوي أن المرابي يسلب به آخر ما يبقى عند الطبقة الفقيرة من قوة الشراء.
لقد كانت بطالة مئات الألوف من البشر، والدخل الزهيد لملايين منهم، عادت منذ ذي قبل عرقلة شديدة في سبيل ترقية تجارة البلاد وصناعتها، ولكنكم على كل ذلك وجهتهم أصحاب الدخل الوافر إلى طريق عدم الانفاق وادخار أكثر ما يقدرون على ادخاره من أموالهم وثرواتهم، فذلك ما زاد الطين بلة وضاعف المضرة على تجارة البلاد وصناعتها. وأضف إلى ذلك أنه إذا حصلت بعض قوة شرائية عند هؤلاء الملايين من الفقراء بدخلهم القليل وأجورهم غير الكافية، فإنهم لا يستطيعون أن يشتروا بها أدوات الحاجة ومرافق الحياة اللازمة، فإن المرابي يسلبهم معظمها ثم لا يستهلكها في اشتراء البضائع والخدمات ولكن ليزيد على المجتمع قروضاً تجلب مزيداً من الربا إلى خزانته. تفكروا قليلاً وقدروا أنه إذا كان في الدنيا كلها خمسون مليون رجل ممن ساقهم القدر إلى الوقوع في مخالب المرابين يؤدي كل واحد منهم جنيهاً فقط في كل شهر، فمعناه أن الدنيا يبقى فيها في كل شهر من البضائع ما قيمته خمسون مليوناً من الجنيهات دونما استهلاك، وينصرف هذا القدر من المال في كل شهر في خلق قروض ربوية جديدة بدل أن يرجع إلى إنتاج البلاد الاقتصادي[1].
ب- قروض التجار والصناع:
وانظر الآن ما هي المضار التي تبهظ الاقتصاد الإنساني لإباحة الربا على القروض التي يأخذها التجار والصناع وأصحاب الحرف الأخرى لاستغلالها في شؤونهم المثمرة. فمما تقتضيه مصلحة التجارة والصناعة والزراعة وما إليها من الأعمال الاقتصادية الأخرى، أن الذين يشتركون فيها من أي وجه من الوجوه ينبغي أن تكون مصالحهم وأغراضهم وميولهم متحدة متجهة إلى ترقيتها والارتفاع بها، وأن تكون خسارتها خسارتهم جميعاً حتى يسعوا مجتمعين للسلامة من خطرها وإنقاذ أنفسهم من الوقوع فيه، وأن يكون ربحها ربحهم جميعاً ليستفيدوا جهودهم في ترقيتها. فكان مما توجبه المصلحة الاقتصادية من هذه الناحية أن الذين يشتركون في التجارة أو الصناعة أو الزراعة لا بقواهم الذهنية أو البدنية ولكن برؤوس أموالهم فقط، ينبغي أن تكون مشاركتهم أيضاً من هذا النوع نفسه حتى يكونوا على اتصال بها كغيرهم ويسعوا معهم في ترقيتها وإنقاذها من الوقوع في الخسارة. ولكن لما أباح القانون الربا، انفتح على وجوه أصحاب الأموال أن يستغلوا أموالهم في التجارة والصناعة لا من حيث هم شركاء فيها بل على أن يكون منهم ديناً فيها، وألا يزالوا يحصلون كذلك من التجارة أو الصناعة على ربحهم حسب سعر معين سنة فسنة أو شهراً فشهراً. فأنت ترى أنه يشترك هكذا في عمل المجتمع الاقتصادي عامل غير فطري لا يهمه قليلاً ولا كثيراً ربح هذا العمل أو خسارته مثل ما يهم سائر المشتركين فيه. على أن هذا العمل إذا باء بالخسارة ولم يربح، يصيب الخطر جميع العاملين المشتركين فيه إلا هذا العامل غير الفطري، فإنه مضمون بربحه على كل حال: يبذل الجميع مساعيهم ويستنفدون كل ما في وسعهم لإنقاذ أنفسهم من خطر الخسارة، إلا هذا المرابي، فإنه لن يضطرب ما دام لا يحس أن العمل الاقتصادي المشترك قد صدر إلى حد الإفلاس. ولا يقف الأمر عند عدم بذله السعي في إنقاذه من الخطر ومساعدته عند الخسارة حتى عند ساعة الإفلاس، بل تراه –على العكس من ذلك- يسعى سعيه في استرداد ماله عنه نظراً إلى مصلحته المالية الذاتية. وكذلك لا تهمه –على وجه مباشر- ترقية العمل لزيادة النتاج الاقتصادي لأن ربحه معين على كل حال، فلأي شيء يجهد نفسه ويعمل فكره عبثاً في ترقية هذا العمل وازدهاره وإنجاحه؟ فهكذا لا يزال هذا العامل الاقتصادي العجيب يعطي ماله لتجارة البلاد وصناعتها "بالكراء" وينال منهما كراءه المعين، دونما خوف أو خطر أو خسارة مع اعتزاله عنها اعتزالاً كلياً.
وهذا الطريق الخاطئ قد أقام العلاقة ما بين رأس المال والتجارة على الأثرة والعداوة لا على التعاون والتساند. فالذين بأيديهم الوسائل لجمع المال واستغلاله في أعمال الإنتاج الاقتصادي لا يستغلونه في التجارة أو الصناعة بأنفسهم ولا يشاركون به غيرهم بل الذي يتمنونه ويسعون له دوماً أن ينصرف رأس مالهم في تجارة غيرهم أو صناعتهم أو زراعتهم بصورة الدين حتى يُضمن لهم ربح مالي معين على تقلبات الأحوال وحدوث الكوارث، ويودون أن يكون هذا الربح المالي المعين على أرفع ما يكون من السعر السنوي أو الشهري مما له مضار فادحة عديدة نشير إلى بعضها في ما يلي:
1- لا يزال معظم رأس المال، بل كله أكثر الأحيان، مدخراً مرتكزاً في موضع واحد دون أن يتقلب في شأن نافع مثمر لا لشيء إلا لأن الرأسماليين يرجون ارتفاع سعر الربا في السوق. نعم، تكون في الدنيا وسائل كافية قابلة للانتاج، وكذلك يكون في الدنيا عدد غير يسير من طلاب المعاش يهيمون على وجوههم ملتمسين العمل المرتزق لأنفسهم، وكذلك يكون الطلب على أدوات الحاجة ومرافق الحياة موجوداً في الناس، ولكن على كل ذلك لا تكون في الدنيا وسائل الإنتاج ولا يجد العاطلون عملاً يرتزقون منه ولا تستهلك البضائع في الأسواق حسب الطلب الحقيقي. وما كل ذلك إلا لأن الرأسمالي لا يعطي ماله لتجاره أو لصناعة ما دام لا يرجو أن يعود عليه ماله بذلك السعر المرتفع الذي يود أن يناله بماله.
2- إن الطمع في السعر المرتفع شيء يجعل الرأسمالي يمسك ماله عن جريانه إلى تجارة البلاد وصناعتها وزراعتها، أو لا يفتحه لها إلا وفق مصلحته الشخصية، لا وفق حاجة البلاد، ومضرة ذلك على البلاد كمضرة من لا يفتح ماء ترعته، أو لا يفتحه إلا وفق ما تقتضيه مصلحته الذاتية لا وفق ما تقتضيه حاجة المزارع والبساتين. يستعد لفتح الماء بسعر رخيص على أوسع قدر إذا كانت المزارع والبساتين لا تحتاج إليه، ويرفع سعره على قدر ما تشتد إليه حاجة المزارع والبساتين، ولا يزال يرفعه ويرفعه حتى لا تعود لأصحاب المزارع والبساتين منفعة ما في إرواء أراضيهم بمائه بهذا السعر.
3- إن الربا وسعره هو الشيء الذي لأجله يصاب نظام التجارة والصناعة بداء "الدوران التجاري" (Trade Cycle) الذي تنتابه فيه نوبات الكساد والبوار، بدل أن يسير هذا النظام سوياً على طريق مستقيم. وقد فصلنا القول في ذلك في كتابنا "أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة" فلا حاجة بنا إلى إعادتها ههنا.
4- ثم إن من كرامات "الربا" أن رأس المال لا يرضى أن يتجه إلى أعمال نافعة تشتد إليها الحاجة للمصلحة العامة ما دامت لا ترد على صاحبه بالربح حسب سعر الربا في السوق، ويجري –على العكس من ذلك- متدفقاً إلى أعمال لا تحتاج إليها المصلحة العامة ما دامت تعود على صاحبها بربح مغدق. وبالجانب الآخر أن الربا هو الذي يحمل التجار والصناع ويدفعهم إلى الاستعانة بكل ما تصل إليه أيديهم من الطرق المشروعة وغير المشروعة ليكسبوا أكثر من سعر الربا. وقد سبق لنا القول المفصل في هذه المضرة في كتابنا: "أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة" فلا داعي أيضاً إلى إعادتها ههنا.
5- يأبى الرأسماليون أن يقرضوا العمال والصناع أموالهم لأجل طويل لأنهم يريدون، في جانب؛ ألا تخلوا أيديهم أبداً من مقدار كبير من المال قابل للاستغلال في القمار، ويرتؤون، في الجانب الآخر، أنه إذا ارتفع سعر الربا في السوق فيما بعد فإنهم سيخسرون بما يكونون أقرضوا من أموالهم لأجل طويل من قبل. فينتج من كل ذلك أن أصحاب الصناعة والحرف الأخرى يُرغمون طبعاً على سلوك طريق ضيق النظر، وعلى عدم الجرأة في أعمالهم، فلا يأخذون من هؤلاء الرأسماليين إلا ديوناً قصيرة الأجل ويكتفون بأعمال موقتة محدودة النطاق مكان أن يعملوا شيئاً للمصلحة العامة الدائمة والتوسيع في نطاقها. ففي مثل هذا الوضع يستعصي عليهم أن يصرفوا ثروة عظيمة في اشتراء الآلات والماكينات المستحدثة، بل لا يجدون لأنفسهم بداً أن يظلوا يستخدمون ما بأيديهم من الآلات والماكينات القديمة المستعملة وألا يوردوا إلى السوق إلا منتجات رديئة، حتى يتمكنوا من الوفاء بما عليهم من الدين ورباه ويولدوا مع ذلك –شيئاً من الربح لأنفسهم. ثم إن من كرامات هذه الديون قصيرة الأجل نفسها أن أصحاب المصانع يقللون من إنتاج البضائع في مصانعهم بمجرد ما يحسون بقلة الطلب عليها من السوق، ولا يجدون من أنفسهم جرأة –ولو إلى مدة قصيرة- على أن يبقوا ينتجون البضائع في مصانعهم على ذلك النطاق نفسه الذي كانوا ينتجونها عليه من قبل، لأنهم يجدون أنفسهم مهددين بالخطر الداهم قائمين على شفا حفرة من الإفلاس إذا انخفضت قيمة بضائعهم في السوق.
6- إن المال الذي يستقرضه التجار والصناع لمشاريعهم التجارية والصناعية لأجل طويل، يسبب أخذ الربا عليه منهم حسب سعر معين كثيراً من المفاسد. فمثل هذه الديون تؤخذ عامة لعشرة أعوام أو عشرين أو ثلاثين عاماً ويتفق فيها الفريقان على سعر مخصوص يوفيه المدين إلى الدائن سنوياً، ولا يراعى فيها ولا يمكن أن يراعى ما دام لا يرى الفريقان من ظهر الغيب، ما سيتقلب على أثمان البضائع من تطورات الارتفاع أو الانخفاض وأنه إلى أي حد سوف تزيد أو تقل أو تنعدم بتاتاً فرصح الربح للمدين خلال مدة العشر سنين أو العشرين أو الثلاثين سنة الآتية وهب أن رجلا يستقرض اليوم مقداراً عظيما من المال لعشرين سنة بسعر 7% سنوياً ثم ينشئ على أساسه عملاً كبيراً مهماً، فهو مضطر بطبيعة الحال ألا يزال يؤدي إلى الدائن سنة فسنة إلى سنة 1978م قسطاً من أقساط دينه وما عليه من الربا. ولكن إذا انخفضت الأثمان في السوق في سنة 1960م إلى شطر ما هي عليه اليوم مثلا، فمعناه أن هذا المدين ما دام لا يبيع في تلك السنين القادمة أضعاف ما يبيعه اليوم من بضائع، فإنه لن يستطيع أن يؤدي إلى الدائن قسطه من الدين ولا من الربا وستكون النتيجة اللازمة لذلك أن يفلس أكثر مدينين هذا الدائن أو يأتوا بحيل غير مشروعة مخلة بنظام بلادهم الاقتصادي لينقذوا أنفسهم من الإفلاس. ومما لا يكاد يقوم فيه أدنى ارتياب عند كل رجل عاقل أن الرأسمالي الذي يقرض التجار والصناع بين الأثمان المرتفعة والمنخفضة في مختلف الأزمان. ليس ربحه الذي لا يتبدل مع انخفاض الأثمان وارتفاعها في شيء من العدل والإنصاف ولا يمكن إثبات تمشيه مع مبادئ الاقتصاد، ومساعدته على الرفاهية الاجتماعية. أو قد سمعتم في الدنيا بمقاول إذا كان يعاهد زبائنه على أن يهيء لهم شيئاً من أدوات حاجتهم، يقطع معهم أن لن يهيء لهم هذا الشيء في العشرين سنة القادمة إلا بهذا السعر الذي يهيئه لهم به الآن. فإن كان هذا الوضع الغريب لا يمكن في نوع من أنواع البيع الطويلة الأجل في الدنيا. فما للرأسمالي المرابي وحده دون غيره يتفق مع مدينه على قيمة مخصوصة لدينه، ثم لا يزال يتقاضاه إياهم إلى مدة غير قصيرة من السنين!
ج- قروض الحكومات من أهالي بلادها:
ولنتناول الآن بالبحث تلك القروض التي تأخذها الحكومات من أهالي بلادها فهي على نوعين: نوع يكون لأغراض غير مثمرة ونوع يكون لأغراض مثمرة.
(أ) أما النوع الأول فإن الربا عليه لا يختلف في شكله من الربا الذي يتقاضاه المرابون من مدينيهم الأفراد، بل هو شر منه وأكثر قذراً وبشاعة لأنه ليس معنى هذا النوع من الربا إلا أن ثمة رجلاً قد كفله المجتمع ورباه وأخذ بيده حتى أصبح قادراً على الكسب ودافع عنه الأخطار وحماه من المضار والخسائر، وقام نظامه المدني والسياسي والاقتصادي بجميع الخدمات التي تيسر له أن يكسب معاشه وهو آمن وداع فأصبح يأبى أن يقرض مجتمعه شيئاً من ماله بغير الربا، حتى ولا عند الحاجات التي ليس من شأنها أن ترجع بشيء من الربح المالي، والتي تتوقف على تحققها مصلحته نفسه مع مصلحة غيره من أبناء المجتمع. تراه يقول لمجتمعه الذي كفله ورباه: لا بد لي أن أتقاضاك أجرتي سنوياً على ما تقترض مني من المال، سواء أكسبت منه ربحاً أم لم تكسب.
أقذر بهذا الوضع من المعاملة وأبشع عندما تتعرض البلاد لحرب، ويمسي نفس هذا المرابي وماله وعرضه مع نفوس غيره من أفراد المجتمع وأموالهم وأعراضهم عرضة للخطر. ومن المعلوم أن كل شيء في الخزانة القومية ينفق في مثل هذه الحالات، وأنه لا ينفق في غرض مثمر بل ليكون رماداً في نار الحرب المشبوبة، وإنما ينفق لغرض ينحصر في نجاحه أو إخفاقه موت هذا المرابي وحياته أيضاً مع موت سائر أفراد المجتمع وحياتهم. ومن أجل ذلك يكون جميع أفراد المجتمع يضحون فيه بمهجهم وأرواحهم وأوقاتهم وجهودهم ولا يتساءل أحد منهم عما سينال من الربح سنوياً على ما يبذل من روحه وأوقاته وجهوده للدفاع عن البلاد، إلا هذا المرابي فإنه يرفع رأسه من جمعهم ولا يرضى بإقراض شيء من ماله إلا على شرط أن ينال الربح على ماله بحساب كذا وكذا في المائة سنوياً، وألا يزال يناله ما دامت الأمة بجميع أفرادها لا تصفية حسابه وتؤدي إليه آخر قرش من رأس ماله ولو طالت هذه المدة إلى قرن كامل بل إلى عدة قرون، ويصر على أن ينهال هذا الربح على خزنته حتى من جيوب أولئك الذين يجرحون للدفاع القومي في أيديهم وأرجلهم ورؤوسهم، ويصابون في أولادهم وإخوانهم وأزواجهم عبثاً فهل تستحق مثل هذه الفئة أن يكفلها المجتمع ويسمنها بإيكالها الربا، أم حقها أن يقتلها ويفنيها بإيكالها الحبوب السمية التي تستعمل لقتل الكلاب؟
(ب) أما النوع الثاني من القروض التي تأخذها الحكومات من أهالي بلادها فلا يختلف عن القروض التي يأخذها عامة الأفراد والمؤسسات لأغراضها التجارية فترد عليه أيضاً جميع الاعتراضات التي قد أوردناها قبل على قروض التجار والصناع، إن القروض التي تأخذها الحكومات لأغراضها المثمرة، تأخذها عامة لآجال طويلة، ولكن لا تكون أي حكومة، عندما تأخذ هذه القروض بسعر سنوي معين. على علم بما سيطرأ على أحوال بلادها الداخلية والشؤون الدولية الخارجية من التطورات والحوادث خلال العشرين والثلاثين سنة الآتية، ولا تدري هل ستعود عليها هذه الأغراض التي تأخذ لها هذه القروض بشيء من الربح أم لا؟ وكثيراً ما تخطئ هذه الحكومات في مقاييسها وقلما تعود عليها مشاريعها وأعمالها بالربح على حسب سعر الربا فضلاً عن أن تعود عليها بربح أكثر منه. فكل هذا من الأسباب الهامة والعوامل الأساسية التي تصيب الحكومات بأزمات مالية شديدة يستعصي عليها معها إيفاء رأس مال الديون السالفة وأقساط الربا فضلا عن أن تنفق مزيداً من المال على مشاريع مثمرة جديدة.
وتعرض هنا أيضا تلك الصورة نفسها التي قد أشرنا إليها سابقا، أي أن سعر الربا في السوق يقرر حدا للربح من المال، لا تستعد أي حكومة أن تنفق أموالها في عمل يرجع عليها بربح دونه ولو كان ذلك العمل في منتهى الإفادة والنفع بالنسبة بالنسبة للجمهور في البلاد، فعمارة البقاع غير العامرة وإصلاح الأراضي القاحلة، وتهيئة الماء للري في البقاع الجدبة، وإنشاء الشوارع في القرى وحفظ صحة سكانها، وتهيئة الكهرباء لهم، وبناء البيوت المريحة الصحية للموظفين الأدنين، وما إلى هذا من الأعمال النافعة الأخرى بالنسبة للبلاد وعامة سكانها، فمهما تكن بالغة في أهميتها في حد ذاتها ومهما يلحق بالبلاد من الضرر بعدم وجودها، فإن أي حكومة لا تكاد تنفق فيها شيئاً من مالها ما دامت لا ترجو منها ربحاً مساوياً لسعر الربا في السوق أو أكثر منه.
ثم إن الحقيقة في باب مثل هذه الأعمال والمشاريع التي تستقرض الحكومة المال بالربا للانفاق فيها أن الحكومة إنما تلقي وزر رباها على عامة أهالي البلاد وتستجلبه من جيب كل واحد منهم بفرض الضرائب والمكوس عليهم ولا تزال تؤدي إلى الرأسماليين إلى مدة مديدة من الزمن آلافاً مؤلفة من الليرات في كل سنة. فإذا كانت الحكومة تشرع اليوم مثلاً في مشروع كبير للري، وتنفق فيه خمسين مليون ليرة باستقراضها بسعر 6%، فعليها –بحكم هذا الحساب- أن تؤدي في كل سنة ثلاثة ملايين من الليرات إلى الرأسماليين. ومن الظاهر أن ليس بيد الحكومة ينبوع ينفجر لها بمثل هذا القدر الكبير من المال فهي تلقي وزره على الفلاحين الذين ينتفعون من هذا المشروع، ولا بد –على هذا- أن يكون هناك في كل ما يؤدي هؤلاء الفلاحون إلى الحكومة من المال، جزء لأداء هذا الربا. كما أن الظاهر كذلك أن هؤلاء الفلاحين لا يؤدون هذا الربا من جيوب أنفسهم، بل يلقون وزره على قيمة حاصل أراضيهم، كأن هذا الربا يؤخذ، على وجه غير مباشر، من كل من يشتري الغلة من السوق ليعد منه الخبز في بيته من أهالي البلاد. فكسر قطعة من رغيف كل فقير معدم تملأ –بانضمامها إلى القطة الأخرى- بطون الرأسماليين الذين كانوا أقرضوا الحكومة مالهم بسعر ثلاثين مليون من الليرات سنوياً. وأما إذا عجزت الحكومة مثلاً، عن تسديد هذا الدين إلى خمسين سنة، فإنها لن تنفك إلى نصف قرن تقوم بواجب جمع "الاكتتاب" من الفقراء وتساعد به الأغنياء في بلادها، ولن تكون منزلتها في هذا الشأن مختلفة عن منزلة كاتب لحسابات المرابي فكل هذا مما يجعل الثروة في الاقتصاد الاجتماعي تجري من الفقراء إلى الأغنياء، مع أن الذي يقتضيه فلاح الجماعة ومصلحتها هو أن يكون جريان الثروة من الأغنياء إلى الفقراء. وهذه المضار والمفاسد لا توجد في الربا الذي تؤديه الحكومة على قروض تأخذها لأغراضها المثمرة فحسب، بل هي توجد أيضاً في جميع المعاملات الربوية التي يتعامل بها أصحاب التجارة والصناعة والحرف الأخرى، لأن من الظاهر أن كل تاجر أو صنع أو زارع لا يؤدي الربا إلى المرابي من جيبه، بل يلقي وزره على أثمان بضائعه ومنتجاته وحاصلات أرضه ويجمعه فلساً فلساً من جيوب عامة الأهالي "اكتتاباً" منهم لمساعدة أصحاب الملايين وعشرات الملايين.
الحق أن أكثر من يستحق المساعدة في هذا النظام المنعكس الغاشم هو أغنى من في البلاد من أصحاب الثراء والأموال، وأن أكثر من يجب عليه أن يساعد هذا "المسكين" هو من لا يكسب بعرق جبينه ووصله سواد ليله ببياض نهاره إلى ليرة أو بعض لبيرة حيث الحرام عليه أن يشتري بها رغيفاً يمسك به رمق حياته وحياة أهله وأولاده المتضورين جوعاً قبل أن يخرج من هذا الرغيف حق ذلك "المسكين" المتمول الذي يستحق المرحمة والمعونة أكثر من غيره.
د- قروض الحكومات من الخارج:
وآخر نوع من هذه القروض تلك التي تأخذها الحكومات من المرابين في خارج بلادها. إن مثل هذه القروض تكون عامة لمبالغ عظيمة من المال قد تبلغ أحياناً آلاف الملايين من الليرات. والحكومات عامة تأخذ هذه القروض في أحوال تهجم فيها على بلادها أزمات غير عادية لا تكاد تكفي وسائل البلاد المالية لتقوم في وجهها وتكشف غمتها، فتتجه إذن إلى الاستقراض من الخارج طمعاً في ترقية وسائلها بمزيد من السرعة إذا أنفقت مقداراً عظيماً من المال في مشاريعها وأعمالها الإنشائية. ثم إن هذه القروض تؤخذ عامة بسعر يتراوح بين 6-7 و9-10% سنوياً، كان الربا عليها كثيراً ما يبلغ مئات الملايين من الليرات سنوياً. إن المتمولين والمرابين في سوق المال الدولية يقرضون مثل هذه الحكومات أموالهم بتوسيط حكوماتهم بينهم وبينها ويرتهنون منها إحدى وسائل دخلها المهمة كالجمرك أو التنبول أو السكر أو الملح، ضماناً منها بوفاء قروضها إليهم.
إن هذا النوع من القروض الربوية يحمل في نفسه جميع المفاسد والسيئات والمضار التي سلف لنا فيها القول آنفاً إن قروض الأفراد لحاجتهم الشخصية وقروض الحكومات من أهالي بلادها لا تحمل في نفسها مضرة أو سيئة أو مفسدة لا تحملها القروض التي تأخذها الحكومات من المرابين في السوق الدولية، فلا حاجة بنا إذن إلى إعادة ذكر هذه المفاسد مرة أخرى في هذا المقام: ولكن بالإضافة إلى جميع هذه المفاسد والمضار يحمل هذا النوع في نفسه مفسدة هي أشد خطراً وأكثر مضرة على الإنسانية من سائرها، هي أن الأمم –بجميع ما تشتمل عليه من الأفراد والطوائف- تختل ماليتها وحالتها الاقتصادية لأجل هذا النوع من الفروض، مما يؤثر تأثيراً غير محمود في الوضع الاقتصادي للدنيا كلها، ويغرس بذور العداوة والبغضاء بين أمم الأرض وشعوبها، وليس إلا من فضل هذه القروض أن شباب الأمم البائسة عندما تتكسر قلوبهم في آخر الأمر يبدأون بالإقبال على فلسفات سياسية واجتماعية واقتصادية متطرفة والبحث عن الحل لمصائبهم وكوارثهم القومية بطريق ثورات دامية وحروب ضارية.
من الظاهر أن كل حكومة إذا لم تكن وسائلها المالية كافية في رفع مصائبها وقضاء حاجاتها، فإن لها أن تؤدي كل سنة ربا مقداره عشرات ومئات الملايين من الليرات مع أدائها قسطاً من أقساط دينه، ولا سيما إذا كان دائنها ارتهن منها وسيلة كبيرة من وسائلها المالية وضيق نطاق دخلها عما كان عليه من قبل. ومن ثم إن حكومة تستقرض مبلغاً عظيماً من المال بهذا الطريق، قلما تزول مصائبها في معظم الأحيان، لأنها كثيراً ما تلتجئ لتصفية أقساط قروضها ورباها إلى فرض الضرائب الفادحة على رؤوس سكان بلادها والإقلال من نفقاتها، مما يزيد من قلق الأهالي ويسعر نار اضطرابهم في جانب لأنهم لا يستعيضون عما ينفقون من المال مالاً يعادله، وفي الجانب الآخر يستعصي على الحكومة أن تبقى مؤدية أقساد القروض والربا في المبعاد على ما تكلف به الجمهور وفوق طاقتهم في أداء الضرائب. ثم إذا بدأ التقصير عن البلاد في أداء قروضها، بدأ قارضوها يرمونها بقلة الأمانة وأكل مال الغير بالحرام وبدأت جرائدهم القومية، بإيماء منهم، تطعن فيها، حتى يؤول الأمر إلى أن تتوسط حكومتهم بينهم وبينها ولا تقتصر على الضغط والإرهاب السياسي عليها لمصلحة رأسماليها فقط، بل تستغل مصائبها ونكباتها لمصالحها السياسية أيضاً. فتحاول حكومة البلاد المدينة النجاة من هذه الأزمة بالزيادة من ضرائبها على سكان بلادها وتقل من نفقاتها ولكن ذلك يؤثر تأثيراً لا تحمد عواقبه في أهاليها ويحدث في طبيعتهم النزق والطيش لأجل ما يتقبلون فيه بصفة دائمة من الأوزار المالية والأزمات الاقتصادية المتصاعدة، فيزيدهم طعن المقرضين في الخارج وضغطهم السياسي غضباً وزمجرة، مما يفضي بهم أخيراً إلى عدم الثقة بالمدبرين المعتدلين في بلادهم ويستعر في صدوهم نار الغضب والحنق ويجعلهم يتبعون المتطرفين الذين يتبرؤون عن كل ما يكون عليهم من الديون بحركة واحدة من شفاههم أو يبرزون إلى الميدان يتحدون أصحاب تلك الديون يقولون: أنزلونا عن مطالبكم واستردوا منا أموالكم إن كنتم على ذلك من القادرين.
وهنا يبلغ شر الربا وفتنته منتهاها. فهل لرجل من ذوي الفهم والتعقل بعد كل هذا، أن يشك في فداحة شرور الربا ومفاسده وويلاته على المجتمع، ويتردد في الاعتراف بأن الربا سيئة يجب تحريمها بتاتاً؟ وهل لرجل بعد أن شاهد مضار الربا ونتائجه، على ما بيناها آنفاً، أن يرتاب في صدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الربا سبعون جزءاً أيسرها أن ينكح الرجل أمه" (ابن ماجة والبيهقي).


([1]) مما يناسب ذكره في هذا المقام أن قدر عن الهند قبل التقسيم –سنة 1945- أن قروض المرابين فيها بالغة ألف مليون روبية على الأقل. فإذا كان هذا عن قطر واحد فقط، فلك أن تقدر به ما يكون قد بلغته قروض المرابين في الدنيا كلها وما يناله هؤلاء المرابون كل شهر من الربا باعتبار سعرها الذي يجري عليه التعامل، كما بينا آنفاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق