الأحد، 13 مايو 2012

قناة الجزيرة... مصداقية الأبواب المغلقة!

قناة الجزيرة... مصداقية الأبواب المغلقة!

كم كان مضحكاً أن تحلّ تسيبي ليفني وزيرة خارجية اسرائيل وزعيمة حزب كاديما ضيفة على قطر في أعمال ندوة دولية حول الديمقراطية في بلد لا يعرف من الديمقراطية إلا أسمها ولا من ممارساتها إلا ما يدندن به كادر قناة الجزيرة ولا يعترف بحزبٍ سياسي أو نقابة أو جمعية حقوقية فضلاً عن أن يوجد به مناخ صحي لحياة برلمانية حقيقية، فلماذا أصاب الخرس فجأة فيصل القاسم قبل استقالته أو أيّاً من أبطال المنابر المشبوهة على تلك القناة؟ أوليست منبر من لا منبر له كما تدّعي؟ أوليست نصيرة الرأي والرأي الآخر؟ أم أنّ الرأي الآخر هنا مشروط بأن لا يقترب من المساس بقدسية سياسات آل ثاني وحرمه وبن جبر نزيل الشواطئ الإسرائيلية؟
من عرف قناة الجزيرة وتغطياتها حق المعرفة لن تنطلي عليه حبائلها وحيلها مرة أخرى. فانتقائيتها في تغطية الأحداث ومحاولة إعادة تركيب الواقع بصورة مغايرة للواقع الفعلي أصبحت مكشوفة للمتابعين والمحللين. أمّا العامة فكما تقول الروائية البريطانية الشهيرة ايديث سيتويل: "العامة تُصدّق أيّ شيء ما دام غير موجود في الحقيقة"، وذلك ما راهنت عليه الجزيرة كثيراً خاصة بعد بدايتها المثيرة والتي أُعتبِرَت تمرّداً على "التابو" الإعلامي العربي وخروجاً من عباءة تقديس السياسات الحاكمة وثقافة تكميم الأفواه والمشي "في ظلّ الحيط" حتى استطاعت في فترة وجيزة من سحب البساط ومَن فوق البساط أيضاً لتكون هي الرقم الأوحد والأكثر جرأة والأعلى مصداقية في عالم الخبر الصحفي والخطاب الإعلامي على الساحة العربية، وكم كانت تلك الأمسيات مثيرة مع فيصل القاسم وأحمد منصور ورفاقهم بمحاورة كل رموز التيارات السياسية المعروفة وغير المعروفة وبتلك المعارك الكلامية الطاحنة والتي سجّلت معدلات مشاهدة خيالية لأننا ببساطة شعوب تعشق "الرغي" وأفلام "الأكشن" وبطولات المنابر والمايكروفونات!
هذه البداية كانت الجزء التأسيسي للعقلية المبتغاة في المشاهد العربي لتهيئته لقبول كل الرسائل المباشرة والمضمّنة بطريقة غير مباشرة من أخبار وتقارير القناة والتي سلكت بها مساراً مُغايراً للبداية، الأمر الذي أصبح واضحاً عندما بدأت تتفلّت بين الفترة والأخرى سقطاتٍ لم يحسب لها القائمون على الجزيرة حساباً، فقد كشف شريط فيديو مسرّب من استوديوهات الجزيرة فضيحة من العيار الثقيل موثقة بالصوت والصورة في لقاء مذيعها علي الظفيري بعضو البرلمان الاسرائيلي السابق عزمي بشارة وهو يوافق على مسارات الحوار المطلوبة مسبقاً، ومن هي الدول التي تُنتقد والدول التي يجب أن لا تذكر، وقد عرض الشريط في موقع اليوتيوب وسحبته الجزيرة بطلب رسمي مرتين! ثم أتت طامة أخرى من خلال تزوير فج لتقريرٍ مصور عن تعذيبٍ للسجناء السياسيين في السجن المركزي بصنعاء اليمن بتاريخ 23 مارس 2011 والذي تبيّن فيما بعد أنه ملفق لتقريرٍ سبق وبثته قناة العربية عن التعذيب في سجون صدام ضمن برنامجها "من العراق" عام 2007!
لن نعدو الصواب عندما نعترف بوجود كميات كبيرة من المصداقية في كثير من برامج الجزيرة ولكن هي مصداقية يعتورها أمران يُسقطان تلك المصداقية عند النظر للصورة الكبيرة، أولهما: هو الإنتقائية في اختيار المواد الإعلامية لتشكيل ردة فعلٍ محددة لدى المتلقي؛ وثانيهما: الخلط المتعمد بين الحقائق والحقيقة. فكما يقول الكاتب الأميركي فرانك لويد رايت: "الحقيقة أكثر أهمية عن الحقائق". فالحقائق هي المواد الخام وقطع "الأحجية" التي يتم تركيبها في نسقٍ منطقي لتشكيل صورة الحقيقة الكاملة، وعندما يتم تجزئة تلك الحقائق الخام أو وضعها في ترتيبٍ مشوّه يكون الناتج حقيقة مشوّهة تُغالط الواقع وتُضلّل المشاهد، وذلك ما أصبحت عليه قناة الجزيرة للأسف في سعيها المحموم لأن تكون رأس الحربة للسياسة القطرية الخارجية وما يكتنفها من أجنداتٍ مشبوهة وتحالفاتٍ مريبة مع الإخوان المسلمين من جهة ومع الحكومة الإسرائيلية من جهة أخرى!
و كما أنّ مثلنا الشعبي يقول: "الله ما يضرب بعصا" فقد أتت القشة التي قصمت ظهر بعير الجزيرة من خلال ما نشرته صحيفة الغارديان البريطانية لوثيقة من وثائق ويكيليكس تقول: "إن الحكومة القطرية تستخدم قناة الجزيرة كورقة مساومة في مفاوضاتها السياسية الخارجية من خلال 'تكييف' التغطية الإخبارية للقناة، حيث يعرض المسؤولون القطريون على زعماء عرب وأجانب إمكانية وقف بث تقارير ومواد إعلامية نقدية تتعلق بهم وببلدانهم مقابل 'تنازلات' سياسية كبيرة "!، وهذه الفضيحة المدويّة كان من الواجب بعد كشفها أن تُحافظ القناة على ما تبقى من كرامتها ومهنيتها-إن وجدت- وتعلن إغلاقها وانسحابها من المشهد الإعلامي للأبد، لكنها تعلم يقيناً أنّ المشاهد العربي لا زال في المجمل عاطفياً، مسامحاً، مُصاب بعُقدة ستوكهولم وهي متلازمة مرضية تجعل الضحية تعشق جلاّدها، فما المشكلة إذن إن صُلِبَتْ المهنية وأخلاقياتها ومبادئها ما دام المتلقي سيُقبّل رأس الجاني وسيعود من جديد للبحث عن "أكشنيات" الجزيرة!
إنّ قناة الجزيرة قد ألقت بكل أخلاقيات الإعلام المنصف خلف ظهرها واختارت أن تعيث فساداً في الوطن العربي المنكوب من كل جهة، شأنها كشأن سياسة حمد وموزة وسعيهما اللاهث ليكونا محركا (أو بوصلة) مستقبل الشعوب العربية، متناسين أنّ أرض الكنانة على سبيل المثال – والتي حصلت على نصيب الأسد من مؤامرات الجزيرة وأسيادها- قد أبهرت العالم بحضارتها قبل أكثر من سبعة آلاف سنة من وجود دولة صغيرة سُكّانها لا يزيدون عن عدد المتفرجين في ستاد القاهرة الدولي، وأن صخور هرم خوفو لو تم فكها وإعادة وضعها على الأرض لشكلت مساحة تفوق مساحة دولة الأمير وحرمه، وكم هو مضحك أن يحاول التلميذ البليد مجاراة أستاذه لا لشيء إلا لأنه يملك محفظةً مليئة بدولارات الغاز المسال وشعوراً بالنقص منذ ذلك الحادث الحدودي مع السعودية في تسعينات القرن الماضي!
الجزيرة والتي لم تترك حجراً في الوطن العربي إلا وبحثت تحته عن فضيحة، ولا إمّعةً لم نسمع به من قبل إلا وقابلته وأسبغت عليه الألقاب الثورية والتحررية الطنانة، ولم تترك شقّاً إلا وزادت مساحته، ولا جُرحاً إلا ونثرت فوقه المزيد من الملح، وهي في كل ذلك تبحث عن أي شيء قادحٍ في هذه الحكومة أو تلك لتُرغي وتزبد حوله لإغواء العامة السُذّج وتأليبهم كما شاءوا فتكرار الكذبة دوماً -كما يقول لينين - يجعلها حقيقة!
لكنّ الجزيرة لم تجرؤ لأن تخرج من باب مبناها في العاصمة القطرية لتجسّ لنا نبض الشارع القطري الحُر، ولم تُحدّثنا عن ذلك الغضب الشعبي ضد بناء أكبر قاعدة عسكرية أميركية في العالم على الأرض القطرية، ولم تُحدّثنا عن مقر قيادة العمليات المركزية في الحرب الأميركية الغاشمة على الشعب الأفغاني الأعزل والشعب العراقي الذي قتله الحصار الدولي أصلاً، ولم تقم بتغطية المظاهرات الشعبية في قطر ضد بناء أكبر كنيسة في الشرق الأوسط بالدوحة، ولم تتحدّث عن حالات التسمم من الادوية والأمصال المستوردة من اسرائيل، ولا عن حفل افتتاح مدرسة عبرية في قطر، ولا عن حفل العشاء الذي أقامته موزة المسند لتسيبي ليفني وزيرة خارجية اسرائيل خلال مجازر غزة، ولا عن حضور سارا نتنياهو زوجة رئيسة الوزراء الاسرائيلي لحفلة أصالة نصري بمهرجان الأغنية بالعاصمة القطرية!
كما أن قناة الرأي والرأي الآخر لم تذكر اطلاقا خبر تجنيس قطر لاربعين ألف عراقي وشامي ومنحهم النسبة لقبائل نجد الشهيرة دون وجه حق، ولم تتحدث عن المجند الأميركي الذي صفع مواطناً قطرياً على أرض قطر، ولم توضّح لنا سرّ عدم حماسها للمظاهرات الايرانية قدر تحمسها للمظاهرات المصرية والليبية واليمنية والسورية، ولا عن عدم تطرّقها لا من بعيدٍ ولا قريب للجزر الإماراتية المحتلة، ولا عن صمتها المطبق عن ايصال صوت العمالة الوافدة المسكينة وهي تجأر بسوء أوضاعها في دولة الامير وحرمه رغم أنها أسهبت ولأسابيع عدّة في التشهير بدبي والكويت بخصوص ذات الموضوع، فأين هو الرأي الآخر وأين هي المصداقية؟ الجواب تنبئ عنه موجة الاستقالات الجماعية لمذيعي ومراسلي القناة والذين أبت أخلاقياتهم أن يكونوا أبواقاً لذلك "المجون" الإعلامي السافر للجزيرة حتى ولو كان الراتب مما يسيل له لُعاب الكثيرين!
إنّ ادّعاء المصداقية والمهنية أمرٌ ليس بالجديد على الوسائل الإعلامية، فالكل يدّعي ذلك ويتقمص أدوار النُسّاك والمُصلحين ولكن بالكاد أن تجد وسيلةً إعلامية تُمارس فعلاً ما تُنادي به ويكون سلوكها وطرحها ومسارها ترجمةً حقيقية للمبادئ التي تنادي بها والمُثُل التي تُنافح عنها وتدافع، وفي حالة قناة الجزيرة القطرية فإن المصداقية ومرتكزات الشرف المهني يبدو أنه قد بيعت في سوق النخاسة من أجل حصولٍ على سبق صحفي أو خبطةٍ إعلامية ثم لا مانع من هدم الهيكل على من فيه، ولا زالت الأسئلة كثيرة عن العديد من تبعات تقاريرها الحصريّة كما تفتخر بذلك، فمن بلّغ المخابرات الأميركية عن مكان وجود قيادي القاعدة رمزي بن الشيبة؟ ألم يتم القبض عليه بعد يومين من مقابلته مع يسري فودة مراسل الجزيرة؟ وكيف قتلت القوات الروسية الرئيس الشيشاني جوهر دوداييف؟ أليس بعد مقابلته عبر الأقمار الصناعية مع قناة الجزيرة ليتم تتبع مكان وجوده وقتله؟
لا نقول أن قناة الجزيرة ومسلكها أصبح مشبوهاً، معاذ الله، فقد تخطت مرحلة الشك إلى اليقين لدى المتتبعين، فمنذ عدّة سنوات وتحديداً عام 2004 لم يتفاجأ من بدأ في مناقشة حيادية القناة ومهنيتها من خبرٍ نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية عن رجل أعمال اسرائيلي يجري مفاوضات لشراء 50% من أسهم قناة الجزيرة، والشخص هو حاييم سبان أحد شركاء روبرت مردوخ والذي يحمل الجنسية الاميركية أيضاً وقد تم التفاوض أمير قطر شخصياً في زيارة بيل كلينتون للدوحة أواخر ذلك العام، ورغم أنّ ذلك الأمر لم ينجح إلا أنّ إلتقاء المسارات يُفسّر الكثير من طرح القناة الإعلامي وكيفية طرحه، وفي قدرتها الفائقة في فهم العقلية العربية وكيفية التأثير فيها بطريقةٍ ناعمة تتصنّع الحريّة وحق الجميع في الحصول على الحقيقة مجرّدة دون تحوير أو تغيير أو تزوير، وكم كان صائباً ما ذكرته صحيفة صحيفة الغارديان منذ بضعة أشهر في تعليقها على دور الإعلام ومنهجيته خلال ثورات الربيع العربي حين قالت: "إن المشكلة ليست من هو الكاذب ومن الصادق، حيث تعمل المؤسسات الإعلامية على إعطاء جزء من الحدث الذي يخدم جدول أعمال 'المموّل'، لذلك فمن الواضح أنّه لا يتم عرض سوى جزء من الحقيقة في حين 'دفن' الجزء الآخر"!
قناةٌ دأبت على اختلاق الصراعات ووضع عدسةٍ مُكبرة على كل مشكلة في دول "الأجندة القطرية" وعلى محاولة تأليب الرأي العام في تلك البلدان على حكوماتها وسواء كانت صالحةً تلك الحكومات أم طالحة، في حين تتعامى عمداً عن الكثير المشابه في بلدانٍ تغض عنها الطرف أجندة آل ثاني، وتتعامى كلياً عن ثوبها الداخلي كثير الشقوق ولا تجرؤ أن تذكر كلمة واحدة عنه، لهي قناة جديرة بأن تُلفض وتُلقى في غياهب النسيان وأن يُستعاض عنها بقنوات لم تبع مصداقيتها ولا شرفها المهني ولا ضميرها الإنساني من أجل تمرير نزق بعض السياسيين الذين يريدون أن يظهروا على المشهد الإقليمي كأرقام صعبة رغم أنّ التاريخ لن يضعهم شاءوا أم أبوا إلا في خانة الأصفار التي لن يكونوا أول المندرجين تحتها ولا آخرهم لكنهم حتما سيجدون قناتهم وكوادرها المستأجرة قد سبقوهم لذات الخانة المنسيّة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق