الاثنين، 14 مايو 2012

حرمة الربا من الوجهة السلبية


حرمة الربا من الوجهة السلبية
أهم المبررات العقلية للربا:
إن أول ما ينبغي البحث فيه والفراغ من أمره –ونحن بصدد البحث في المسائل المتعلقة بالربا- هو: هل الربا شيء معقول في حقيقة الأمر؟ وهل من حق الإنسان بموجب العقل أن يطالب بالربا على دينه؟ وهلى يقتضي العدل أن من يقترض من غيره شيئاً من المال، فعليه أن يرد إليه هذا المال مع "زيادة" يتفق عليه معه؟
هذا هو السؤال الأول الذي يرد بصدد البحث في مسائل الربا، ونحن إذا انتهينا في بابه إلى شيء قاطع، اتفقنا على أكثر من نصف أجزاء هذا البحث، فإنه إذا ثبت أن الربا شيء معقول لا يبقى عند القائلين بحرمته دليل قوي، ولكن إذا استحال تبرير الربا وإثبات معقوليته، فإن الحاجة تبقى ماسة إلى أن نتفكر: لماذا هذا الإصرار الشديد على التمسك بشيء غير معقول –الربا- والحرص على بقائه في المجتمع البشري؟
المبرر الأول للربا:
فأول دليل نواجهه من الدلائل المبررة للربا هو: أن الذي يقرض غيره، يعرض ماله للخطر، ويؤثر ذلك الغير على نفسه ويسد حاجته، ويسلم إليه ما يستطيع أن ينتفع به بنفسه. فالمدين إذا كان قد اقترض منه هذا المال سداً لحاجة من حاجاته الذاتية فعليه أن يؤدي إليه كراءة كما يؤدي كراء البيت أو الأثاث أو المركب، ليكون عوضاً له عن الخسارة التي تحملها بإقراضه إياه وأجرة له على ماله الذي اكتسبه بجده وجهده ثم أقرضه إياه. هذا إذا كان المدين أخذ منه المال لسد حاجة من حاجاته الشخصية الاستهلاكية، وأما إذا كان قد أخذه لتوظيفه في تجارة أو صناعة مثمرة فإن الدائن أحق بأن يطالب مدينه بالربا على دينه، لأن المدين إذا كان ينتفع بماله، فما له لا يؤدي إليه نصيبه من هذه المنفعة؟
أما الجزء القائل من هذا الدليل بأن الذي يُقرض غيره يعرض ماله للخطر ويؤثر ذلك الغير على نفسه، فلا شك في صحته ووجاهته، ولكن ليت شعرنا كيف يصح بناء عليه أن يكون من حق الدائن أن يجعل هذا الخطر والإيثار وسيلة الكسب وينال قيمته بحساب 5 أو 10% شهرياً أو سنوياً أو نصف سنوي؟
إن الحقوق التي يستحقها هذا الدائن على أساس الخطر –بطريق معقول- لا تعدو أن يرتهن من مدينه شيئاً، أو يقرضه على كفالة شيء أو يطالبه بمن يضمن له سلامة ماله، أو لا يعرض ماله للخطر أصلاً فيأبى أن يقرضه شيئاً أبداً. ولكن ليس "الخطر" سلعة يُساوم في قيمتها ولا منزلاً ولا أثاثاً، ولا مركباً تؤخذ أجرته. أما الإيثار فهو الإيثار ما لم يكن أداة للكسب. فمن أراد الإيثار، فعليه بالاقتناع بما لهذا العمل الخلقي من الفوائد المعنوية. وأما إذا أراد به الكسب والربح، فعليه أن يكف لسانه عن دعوى الإيثار وليقل بكل سراحة "إنما أريد الكسب" ويبين من الأسباب ما يجعله مستحقاً للمبلغ الذي يناله على ماله سنوياً أو شهرياً باسم الربا:
هل هو تعويض عن الضرر؟. الجواب لا. لأن المال الذي أقرضه المدين كان فاضلا عن حاجاته وما كان يستعمله بنفسه، فما وقع له أي ضرر حتى يستحق عليه التعويض.
هل هو أجرة؟.. الجواب لا، لأن الأجرة إنما تكون للأشياء التي بذل الإنسان وقته  وجهده وماله لتهيئتها وتعهدها بالإصلاح للمستأجر، وهي تنقص أو تنكسر أو تقل قيمتها على مر الأيام بالاستعمال. وهذا التعريف للأجرة إنما يصدق على أدوات الاستعمال كالبيت والأثاث والمركب وأجرتها هي التي تكون معقولة. ولكن لا يصح أن يطلق هذا التعريف على أدوات الاستهلاك كالحبوب أو الثمار أو النقد فأي معنى لأجرتها؟
وغاية ما للدائن أن يحتج به في مشروعية رباه: أني أتيح لغيري أن ينتفع بمالي فمن حقي أن أنال نصيبا من منفعته. لا شك أن هذا القول فيه جانب من المعقولية، ولكن قل لي بالله أن الذي قد استقرضك مقداراً من الحبوب ليمسك به رمق أولاده المتضورين جوعاً، أو شيئاً من المال ليعالج به طفله أو زوجه أو أمه المريضة، هل تراه قد انتفع بحبوبك أو مالك منفعة تستحق أن تنال منها نصيبك شهرياً أو سنوياً حسب سعر معين مضمون؟ لا شك أنه قد انتفع بما أعطيته من المال أو الحبوب، ولا شك أنك أنت الذي أتحت له فرصة هذا الانتفاع. ولكن أي شيء من العقل أو العدل أو علم الاقتصاد أو قواعد التجارة يحدد نوعية هذه الفرصة ويجعل من حقك أن تجعل لها قيمة مالية وتغالي فيها على قدر ما تكون مصيبة مدينك المسكين شديدة، ولا تزال ترفعها شهراً فشهراً وسنة فسنة على قدر ما تطول مصيبته وتفدح؟ إن غاية ما يسوغ لك أن تفعله، إن لم تكن واسع القلب ولا تستطيع أن تتصدق بشيء من مالك الفاضل عن حاجاتك على أخيك المنكوب الملهوف، هو أن تقرضه إياه على شيء يضمن لك رجوعه إليك سالماً في مدة معينة. وأما إن كنت لا تستطيع أن تقرضه ولا بالضمان، فمن المعقول كذلك أن تأبى إقراضه أصلاً، ولكن مما ينافي مبادئ التجارة ويخالف أصول العدل والمروءة أن تجعل مصيبة أخيك ونكبته مجالاً لانتفاعك وتكون البطون المتضورة جوعاً، والمرضى المشرفون على الموت موضعاً لاستغلال المال، وازدياد إمكانيات منفعتك على قدر ما تشتد مصائب هؤلاء المساكين.
إذا كانت "إتاحة فرصة الانتفاع" شيئاً ذا قيمة مالية، فإنما هي كذلك إذا كان الذي يأخذ المال يستغله في تجارة أو صناعة أو غيرها من طرق الكسب، ولا شك أن للذي يعطيه هذا المال أن يقول له في مثل هذا الوضع إن من حقي أن أنال نصيباً من المنفعة التي ترجع عليك بفضل ما قد أعطيتك من المال. ولكن الحق أنه إن كان يريد أن يوظف ماله المتكدس في تجارة أو صناعة مثمرة يبتغي منها المنفعة والربح، فإن الطريق المعقول بالنسبة له أن يضارب غيره –بدل أن يعامله معاملة الدَّين- ويشاركه في التجارة أو الصناعة بنسبة يتفق عليها معه في الربح وفي الخسارة معاً. وليس من المعقول له أبداً أن يعطي غيره مقداراً من المال ديناً –دون أن يعامله معاملة المشاركة في الربح والخسارة معاً –ويقول له "بما أنك ستنتفع بمالي، فمن حقي عليك أن تؤدي إليّ ليرة –مثلاً- في كل شهر ما دمت تستغل مالي في التجارة" والسؤال الذي يثور يهذا الصدد هو أنه إن خسر ذلك الرجل في تجارته ولم ينتفع أو كان ربحه أقل من ليرة في كل شهر، فعلى أي أساس يستحق هذا الدائن أن ينال منه ليرة في كل شهر؟ وإذا لم يكن ربحه –كله- إلا ليرة واحدة في كل شهر، فأي نوع من العدل يبيح لهذا الدائن أن لا يدعه ينال شيئاً من ربحه مع أنه هو الذي قد بذل وقته وجهده وكفاءته ورأس ماله طول الشهر؟ وكيف يجوز لهذا الدائن أن يستبد دونه بكل هذا الربح بمجرد أن قد أقرضه ماله؟ يسقي الثور أرض الفلاح طوال النهار، فأقل ما يكون من حقه مساء أن يطالب الفلاح بعلفه، ولكن الويل لهذا التعامل الربوي فإنه يجعل من الإنسان ثوراً عليه أن يعمل لصاحبه طول النهار، إلا أن عليه، كيما ينال علفه، أن يذهب إلى مكان آخر.
وهب أن الربح الذي يناله المدين المحترف للتجارة أو الصناعة أو غيرهما بماله المفترض، هو أكثر من ذلك القدر المحدد الذي يجعله عليه الدائن (كـ (ربا). فلا يجوز –حتى في هذه الصورة- بموجب أي شيء من العقل والعدل ومبادئ التجارة وقانون الاقتصاد، إثبات المعقولية في أن تكون منفعة التجار والصناع والمزارعين ممن هم العاملون الحقيقيون للإنتاج والصارفون للأوقات والباذلون للجهود والمستنفدون لكل ما يملكون من القوى الجسدية والفكرية لإنتاج حاجات المجتمع وتهيئتها، يأبى كل شيء من العقل والعدل أن يكون ربح هؤلاء المساكين غير معين ويكون ربح ذلك المرابي الوادع المستريح الذي إنما أقرض شيئاً من ماله المدخر الفاضل عن حاجاته معيناً يقيناً، وأن يكون هؤلاء جميعاً مهددين بالخطر على الدوام ويكون صاحبهم هذا مضموناً ربحه مهما تكن الظروف والأحوال. وأن ينقص ربحهم ويزيد على حسب ما يجري عليه التعامل التجاري في السوق ويكون هذا المرابي القابع في بيته يحصل لنفسه على ما قد اتفق عليه مع مدينه من مقدار الربح شهرياً أو سنوياً أو نصف سنوي[1].
المبرر الثاني للربا:
ويتضح من هذا النقد أن البراهين التي قد يخيّل إلى من ينظر فيها نظرة عابرة أنها كافية في تبرير الربا، وإثبات معقوليته، إذا دققنا فيها النظر وسبرنا غورها، بدأ يظهر لنا جلياً ما فيها من مكامن الضعف والوهن. أما الدًّين الذي يؤخذ للحاجات الاستهلاكية الشخصية، فلا دليل على مشروعيته البتة، بل قد اعترف محامو الربا والمدافعون عن مشروعيته بالعجز في بابه وقعدوا عن رفع هذه الدعوى الضعيفة. وأما الدّين الذي يؤخذ للأغراض التجارية والصناعية فإن السؤال الذي يواجه محامي الربا في بابه أنه ما هو الشيء الذي يُعَدّ الربا قيمته وما هو الشيء الجوهري (Substantial) الذي يعطيه الدائن مدينه مع رأسماله حتى يستحق عليه أن ينال منه قيمته المالية، بل قيمته المالية القليلة للوفاء شهراً فشهراً وسنة فسنة. لقد لقي محامو الربا عرق القر. في تشخيص هذا الشيء وتعيينه. تقول طائفة منهم "إتاحة فرصة الانتفاع" ولكن "إتاحة الفرصة" هذه –كما عرفت- لا تجعل من حق الدائن أن ينال عليها قيمة معينة يقينية متزايدة. وإنما تجعل من حقه أن ينال ربحاً متناسباً إذا كانت تجارة المدين أو صناعته رابحة في واقع الأمر.
وتقول طائفة أخرى: إن هذا الشيء هو "التأجيل" الذي يناله المدين من الدائن مع رأس ماله، لأن لهذا "التأجيل" في حد نفسه قيمة مالية ترتفع بقدر ما يطول "التأجيل" ويقولون: إن كل ساعة منذ يأخذ المدين المال من الدائن ويوظفه في تجارته أو صناعته إلى أن ينتج البضائع ويأتي بها إلى السوق وينال قيمتها، ذات قيمة للمدين، فإنه إذا لم ينل هذا التأجيل أو استُرد منه المال قبل أن يقضي به حاجته، فلن تسير تجارته وصناعته البته، فإن لا شك أن "الزمن" ذو أهمية وقيمة مالية لمن يقترض المال ويوظفه في التجارة والصناعة، فما له إذن أن لا يعطي نصيباً من ربحه من قد أقرضه المال ومكنه من الانتفاع به؟ ويقولون إن الزمن هو الذي على قدر طوله وقصره تكثر وتقل الإمكانيات لربح المدين، فهل يتعسف الدائن إن كان يُشخّص قيمة ماله على حسب طول الزمان وقصره؟
ولكن يواجهنا في هذا المقام سؤال آخر هو: كيف وبأي طريق يعرف الدائن أن الذي يقترض منه المال ويوظفه في تجارة أو صناعة، لا بد أن تربح تجارته أو صناعته دون أن تلقى نوعاً من الخسارة؟ ثم كيف يعرف أن ربحه سيكون كذا وكذا في المائة فعليه أن يؤدي إليه نصيبه منه بحساب كذا وكذا في المائة؟ ثم بأي وسيلة يعرف أن الزمان الذي يؤجل إليه مدينه، لا بد أن يرجع عليه كذا وكذا من الربح في كل شهر أو كل سنة حتى يقرر قيمته بحساب كذا وكذا من المال لكل شهر أو سنة، فهذه المسائل وأمثالها يعجز محامو الربا عن الجواب عليها بشيء مقنع معقول، والحق –كما قد قلنا من قبل- إنه إذا كان هناك شيء معقول في المعاملات التجارية والصناعية، فإنما هو "المشاركة" بنسبة يتفق عليها الفريقان في الربح والخسارة معاً.
المبرر الثالث للربا:
وتقول طائفة أخرى إن جلب المنفعة صفة ذاتية لازمة لرأس المال، فاستغلال المرء لرأس مال غيره يجعل من حق الدائن عليه أن يطالبه بالربا ويلزمه أن يؤديه إليه كيفما شاء شهراً فشهراً أو سنة فسنة، وأن رأس المال يقدر أن يكون مساعداً على إنتاج الأدوات الاستهلاكية وإعدادها، لأن الإنتاج يكثر بكثرة رأس المال ويقل بقلته، وأنه يمكن بمساعدة رأس المال أن تنتج أحسن البضائع بمقادير وافرة وتوصل إلى الأسواق العالمية الكبيرة، وأن البضائع تكون قليلة ورديئة ولا يمكن إيصالها إلى الأسواق الكبيرة إذا كان رأس المال قليلاً، مما يدل دلالة واضحة على أن طلب الربح صفة لازمة لرأس المال في حد نفسه، فلذلك يصح القول بأن مجرد استغلال رأس المال يجعل من حق صاحبه أن ينال عليه الربا.
ولكن الحقيقة أن الدعوى بأن جلب الربح صفة ذاتية لرأس المال غير صحيحة، لأن هذه الصفة لا تتولد في رأس المال إلا عندما يوظفه الإنسان في تجارة أو صناعة مثمرة، ولا يمكن إلا في مثل هذه الصورة وحدها. لكم أن تقولوا إن المدين عليه أن يؤدي إلى دائنه نصيباً من ربحه لأنه ينتفع من ماله ويوظفه في عمل مثمر، أما الذي يقترض المال ليعالج نفسه أو أهل بيته أو يكفن ميتاً من أقربائه فأي قدر اقتصادي ينشئه رأس المال لهذا المسكين، وأي ربح مالي يجلبه إليه حتى يكون من حق الدائن أن ينال منه نصيبه؟
ثم إن المال الذي يوظف في الفعالات الاقتصادية المثمرة، ليس من شأنه أن يولد قيمة زائدة في كل الأحوال، حتى تصح الدعوى على أساسه بأن جلب الربح صفة ذاتية لرأس المال، فإنه كثيراً ما ينقص إذا وظف بكثرة في التجارة أو الصناعة، بل يرجع بالخسارة على صاحبه. وإن الأزمات (Crisis) التي تنتاب الدنيا بالتجارية بين آونة وأخرى، ليس لها من سبب إلا أن الرأسماليين عندما يوظفون –ولا ينفكون يوظفون- أموالهم في التجارة بصفة متتابعة يكثر عليه الإنتاج ويتضخم، تبدأ أثمان البضائع تنخفض، حتى أن التجار لا يبقى لهم أي رجاء في الربح لكثرة البضائع النازلة في السوق وانخفاض أثمانها. زد على ذلك أنه إذا إذا كان جلب الربح ذاتية لرأس المال، فإنما يتوقف ظهورها بالقوة على عوامل كثيرة أخرى كجهود الذين يستغلونه وكفاءتهم وذكائهم وتجربتهم وبذلهم السعي لحفظه من آفات الزمان فهذه وأمثالها شروط لازمة ليجلب رأس المال الربح، فإذا ما انعدم شرط من هذه الشروط فقد رأس المال هذه الصفة، بل قد تنقلب في أكثر الأحيان إلى جلب الخسارة؛ ولكن الدائن في التعامل الربوي لا يتحمل على عاتقه أي تبعة في توفية هذه الشروط للمدين فلا يكون له أي حق في أخذ الربا من مدينه، بل الذي يدعيه الدائن في التعامل الربوي أن استعمال ماله –في حد ذاته- يُلزم المدين أن يؤدي إليه الربا، سواء أظهرت له منه صفة جلب الربح أم لم تظهر.
وإذا ما قلنا –تسليماً بالجدل- إن رأس المال يجوز في حد ذاته صفة جلب الربح ويستحق عليه الدائن أن ينال نصيباً من هذا الربح، فما هي القاعدة التي يُعرف بها –بصفة قاطعة –أن رأس المال يجلب كذا وكذا من الربح في كذا وكذا من المدة؟ وأنه حتم على الذين يستغلون المال بالاقتراض أن يؤدوا عليه الربا بسعر كذا وكذا شهرياً أو سنوياً؟ وإذا سلمنا بأنه من الممكن معرفة هذا السعر وتعيينه بقاعدة من قواعد الحساب، فإننا عاجزون –على كل حال- عن أن نعرف وجه المعقولية في ما إذا أعطى الرأسمالي ماله سنة 1955م مؤسسة تجارية لعشر سنوات ومؤسسة أخرى لعشرين سنة، بالسعر الرائج في تلك السنة فإنه كيف وبأي وسيلة من الوسائل عرف أن جلب المال للربح سيظل طول السنين العشر أو العشرين الآتية على ما هو عليه اليوم، ولا سيما إذا كان سعر الربا في سنة 1965م مختلفاً عنه في سنة 1955، ولا يزال هذا الاختلاف يتسع حتى سنة 1975م، بموجب أي دليل يكون من حق هذا الرجل الذي أقرض ماله في سنة 1955م مؤسسة تجارية لعشر سنوات ومؤسسة تجارية أخرى لعشرين سنة وحتم عليهما أن تؤديا إليه نصيبه اليقيني المحتوم حسب السعر الرائج في سنة 1955م من الربح الذي قد يرجع وقد لا يرجع به عليهما رأس المال في هذه السنوات المقبلة الطويلة؟
المبرر الرابع للربا:
أما المبرر الرابع للربا، فقد بذل في اختلاقه وتزيينه في أعين الناس ما لم يبذل في المبررات السابقة وهو: أن انسان يؤثر فائدة الحاضر ولذته على فوائد المستقبل البعيد ولذائذه الكثيرة. وأنه على قدر ما يكون المستقبل بعيداً؛ تكون فوائده ولذائذه غير يقينية، وهكذا تنحط قيمتها يوماً فيوماً، وذلك لعدة أسباب:
1- كون المستقبل في الظلام وكون الحياة غير يقينية. فلذلك تكون الفوائد التي تحصل للإنسان في المستقبل غير يقينية، ولا تكون لها صورة في تصوره، وأما الفائدة التي ينالها في الحاضر فهي يقينية وهو يشاهدها بعين رأسه.
2- إن الذي يحتاج إلى شيء اليوم، آثر عنده وأثمن في نظره أن يقضي اليوم حاجته بنيله إياه على أن ينال في المستقبل شيئاً قد يكون في حاجة إليه وقد لا يكون.
3- إن المال الذي يحصل اليوم نافع قابل للاستعمال فعلاً، فهو من هذه الجهة فوق المال الذي سيحصل يوماً في المستقبل.
فلأجل هذه الأسباب إن فائدة الحاضر اليقينية آثر عند الإنسان من فائدة المستقبل غير اليقينية. فالمال الذي يستقرضه المدين اليوم، أثمن قيمة من المال الذي سيرده إلى الدائن غداً، وإن الربا هو "القدر الزائد" الذي ينضم إلى المال عندما يؤديه المدين إلى الدائن ويجعله مساوياً في القيمة لذلك المال الذي أخذه من الدائن عند اقتراضه إياه. وذلك كمثل أن يذهب رجل إلى المرابي ويستقرضه مائة ليرة، فيتفق معه هذا المرابي على أنه يطلب منه 103 ليرة بعد سنة، فكأنهما يتبادلان في هذه الصورة من المعاملة مائة ليرة حاضرة بثلاث ومائة ليرة في المستقبل. وكأن الليرات الثلاث تساوي "الفرق" الذي يوجد بين قيمة المال في الحاضر وقيمته في المستقبل من الوجهة النفسية لا الاقتصادية، فما دامت لا تنضم هذه الليرات الثلاث إلى المائة ليرة بعد سنة، فإن قيمتها لا تساوي قيمة المائة ليرة التي كان قد أخذها المدين من الدائن.
نعم! من الظلم ألا تؤدي القسط اللازم من المدح إلى الدهاء الذي قد لعبت يده في اختلاق هذا المبرر وتزيينه في أعين الناس، ولكن الحقيقة أن الفرق المذكور فيه بين القيمة في الحاضر والمستقبل من الوجهة النفسية، لا يعدو أن يكون مغالطة ليس غير.
هل من الحق في شيء أن الفطرة الإنسانية تعتقد أن الحاضر أثمن قيمة من المستقبل؟ فإن كان الأمر كذلك، فما لأكثر الناس لا ينفقون كل ما يكسبون اليوم من فورهم بل يؤثرون أن يدخروا نصيباً منه لمستقبلهم؟ ولعلك لا تجد واحداً من مائة رجل يستغني عن الفكر في مستقبله ويؤثر أن ينفق كل ما بيده من المال على لذة اليوم ونعيمه، بل الذي عليه 99% من الناس –على الأقل- أنهم يضيقون على أنفسهم ويقللون من حاجاتهم ويريدون أن يدخروا جانباً من مالهم لقضاء حاجاتهم في المستقبل، لأن الحاجات المتوقعة والأحوال المتوقعة والأحوال المخيفة في المستقبل يكون تصورها الذهني في عين الإنسان أكبر وأهم من حقيقة الأحوال الحاضرة التي يجتازها اليوم طوعاً أو كرهاً. ثم ما الذي يبتغيه الإنسان من وراء المساعي والجهود التي يبذلها في الحاضر؟ هل يبتغي بها سوى أن يكون مستقبله باسماً سعيداً؟ أليس الإنسان يستنفد كل ما تنتجه جهوده اليوم من الثمرات كيما يقضي الأيام الآتية من حياته براحة أكثر وطمأنينة أوفر مما يلقاه أيام حياته الحاضرة. وما أمعن في الغباوة والسفاهة ذلك الرجل الذي يؤثر أن يجعل حياته الحاضرة ذات رفاهة وتنعم على أن يكون مستقبله سيئاً أو أسوء من حاضره. أما أن يصدر ذلك من الإنسان على جهل منه أو سفاهة أو لكونه قد غلب على أمره من شهوة موقتة مفاجئة، فلا حجة به، وإلا فمن المستحيل أن يقول بصحة هذا الرأس ومعقوليته رجل يكون قد أوتي حظأ من التفكر والتأمل.
ثم إننا نسلم بدعواهم القائلة بأن الإنسان لا يرى بأساً في أن يتحمل الضرر في المستقبل ليكون رغيد العيش مطمئن البال في الحاضر، ولكن لا يمكن أن يصح –بوجه من الوجوه- الاستدلال الذي يقيمون بناءه على هذه الدعوى. وإذا قلنا أن قيمة 100 ليرة حاضرة في التداين الربوي تساوي 103 ليرة بعد مدة سنة، فماذا ستكون صورة الواقع بعد مضاء هذه السنة أي عندما يذهب المدين إلى الدائن ليرد إليه ماله؟ أو ما تساوي 103 في الحاضرة 200 ليرة في الماشي؟ بل هل لا تكون 106 ليرة في الحاضر مساوية لـ 100 ليرة في الماضي البعيد إن لم يقدر هذا المدين المسكين أداء دينه في العام القاد وأدّاه إليه بعد سنتين؟ فهل هذه هي النسبة بين قيمة الحاضر والماضي؟ وهل يصح في نظركم من حيث المبدأ، أن الماضي كلما مر عليه الزمان وأوغل في القدم، ارتفعت بل ظلت ترتفع قيمته بإزاء الحاضر على مر الأيام وكر السنين والأعوام؟ وهل أن قضاء الحاجات الماضية أجدر بالقدر عندكم من قضاء الحاجات الراهنة حتى ترصوا بأن تبقى قيمة المال الذي كنتم أقرضتموه قبل مدة من الزمن وقد فرغتم من إنفاقه وجعلتموه نسياً منسياً، فهل ترضون أن ترتفع هذه القيمة إزاء المال الحاضر بعد كل ساعة تمر عليه. وهل من الصحيح المعقول في نظركم أن تصبح الـ 200 ليرة التي أنفقتموها قبل سنة مثلاً مساوية لـ 250 ليرة اليوم؟


([1]) لمعترض أن يعترض في هذا المقام ويقول: "فإذن بموجب أي شيء تبيحون كراء الأرض مع أنه لا يختلف عن الربا"؟ الجواب أن هذا الاعتراض إنما يشكل على الذين يبيحون كراء الأرض بالتحديد أي بصورة مبلغ معين كعشرين ديناراً لكل فدان مثلا ويأخذونه سلفاً. أما أنا فلست أقول بمشروعية ذلك بل أعده صورة من صور التعامل الربوي. والذي أذهب إليه في هذا الباب هو أن الصورة الصحيحة للمعاملة بين صاحب الأرض ومزارعه هي اشتراكهما في ما يحصل من الغلات أو الحبوب أو الفواكه بنسبة يتفقان عليها بينهما وهذه الصورة للمعاملة تشبه إلى درجة كبيرة المشاركة في التجارة وهي مشروعية عندي. وقد فصلت القول في الصورة المشروعة لكراء الأرض في كتابي "مسألة ملكية الأرض في الإسلام" وقد تم طبعه في دمشق سنة 1957.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق