الأحد، 13 مايو 2012

يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون.محمود مشّوح


محمود مشّوح
لحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسـلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، أما بعد :
 لقد فرغنا بحمد الله تعالى من قول أهم ما يمكن أن يقال حول نهي الله جلّ شأنه عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة ، وبقي علينا أن نتابع سياق الآيات الكريمة .. فالله جلّ وعلا يقول ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ، وأطيعوا الله والرسول لعلكم تُرحمون ، واتقوا النار التي أعدت للكافرين ) ثم يقول بعد ذلك ( وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ، وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، الذين يُنفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ، والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) واضح لكم أن أول أمرٍ تركّز عليه الآيات الكريمة وجوب طاعة الله تعالى ووجوب طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا أمر مفهوم بالنسبة لأمةٍ يقوم أساس بنائها على تنفيذ ما يأمر به الله جلّ وعلا وما يبيّنه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما هو أمر مفهوم بالنسبة لدعوةٍ هي دين الله جلّ وعلا ، مقام الناس فيه مقام التلقي والتنفيذ ، فليس هو من مبتكرات العقول ولا هو من مستحدثات الأذهان ، وإنما هو صنع الله الذي أتقن كل شيء .
 ولما كان الأمر بهذا الشكل وكان المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم جملةً من الأوامر الإلهية كانت طاعة الله جلّ وعلا وطاعة رسوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم رأس الأمر كله وملاكه ، فتصوّروا على سبيل الفرض مسلماً مؤمناً يتبجح بدعوى الإيمان والإسلام ثم هو لا يرجو لله وقاراً ولا يطيع له أمراً ولا تقوم في نفسه عوامل الاحترام والتبعية للرسول الله صلى الله عليه وسلم .. هذا لا يكون . وفي حياة الدنيوية ومما تعارف الناس عليه فالكبير يطلب الطاعة من الصغير ، والزوج يطلب الطاعة من الزوجة والأولاد ، والأمير يطلب الطاعة من جماهير الناس ، هذا مع أن كل هؤلاء لا يملك بعضهم لبعض ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً . فكيف لا تكون الطاعة واجبةً للذي بيده مقادير الأمور ، هـو يحي ويميت وله اختلاف الليل والنهار وبيده مفاتيح خزائن السـماوات والأرض وهو يُطعِم ولا يُطعَم ، فهذا الإله واجب الطاعة ، والذي يفكر بمعصية الله جلّ وعلا فإنما يخاطر بآخرته ، لأن الله جلّ وعلا يقول ( وأُزلفت الجنة للمتقين ) وأسـاس التقوى طـاعة الله تبارك وتعالى ، ويقول ( وبُرّزت الجحيم للغاوين ) ودافع الغواية عصيان الله جلّ وعلا .
 فالذين يحملون راية الإسلام ويسيرون على منهاجه ويحاولون تطبيق أوامر الله جلّ وعلا لا بد لهم أن يطيعوا الله وأن يطيعوا الرسول ، أما طاعة الله فمعلومة ، وأما طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي لِما أنه الشارح لمراد الله جلّ وعلا من كتابه ، فلولا بيان النبي صلى الله عليه وسلم ما عرف الناس كثيراً مما أراد الله تبارك وتعالى في محكم آياته ، ثم هو صلى الله عليه وسلم المرجع في ذلك كله ، لأن شريعة الله جلّ وعلا لا يعلمها حق العلم إلا الذي أنزلها تبارك وتعالى ، وإلا الذي كُلّف بإبلاغها وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم إنه ما من عبد مسلمٍ على وجه الخصوص إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم في عنقه منة وعليه فضل ، فلولاه عليه الصلاة والسلام ولولا صبره الطويل ولولا جهاده المتصل ولولا إخلاصه المنقطع النظير ما عبَدَ الناس الله تبارك وتعالى ولا اهتدوا إلى الطريق الموصل إلى رضوانه والمؤدي إلى جنته .
 فلما كان الأمر كذلك كانت طاعة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة ، بل لقد سمعتم الآن أخانا جميلاً يتلو عليكم بعضاً من آيات الله جلّ وعلا ، وسمعتم أن الله يُوجب لنبيه صلى الله عليه وسلم فوق الطاعة شيئاً خاصاً هو التوقير والاحترام ، ووجوب أن يكون الإنسان على حذرٍ كاملٍ حين يتحدث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) أتعرفون معنى ( لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) معنى ذلك : لا تقولوا حتى يقول الله ويقول رسوله ، ولا تفعلوا حتى يأذن الله ويأذن رسوله صلى الله عليه وسلم . أي أن الله جلّ وعلا يوجب على المسلم أن يكون قوله موافقاً وتابعاً لقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن يكون عمله موافقاً لعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، معنى ذلك أن ينطبق سلوك المسلم على مراد الله جلّ وعلا وعلى سلوك النبي صلى الله عليه وسلم .
 والنبي عليه الصلاة والسلام ـ كما أوجب الله ـ لا ينبغي أن يُخاطَب كما يخاطب بقية الناس ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم لبعض ) فنحن ينادي بعضنا بعضاً بالاسم ، ولكن أدب الأصحاب مع نبيهم عليه الصلاة والسلام أنهم كانوا يتحاشون ذكر اسمه الشريف ، فيقولون : يا رسول الله صلى الله عليك إن الأمر كذا وكذا . فما يجوز أن يكون خطاب النبي عليه السلام كخطاب المؤمنين بعضهم لبعض ، وإنما ينبغي أن يكون هناك توقير واحترام وزيادة مزية على ما يكون بين الناس .
 وأيضاً فإن الله جلّ وعلا من الآداب التي أوجبها على المؤمنين أن المسلم إذا أراد أن يتحدث مع النبي عليه الصلاة والسلام فإن عليه أن لا يرفع من صوته ، قال الله تعالى ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ) وسبب ذلك أن ناساً من بني تميم من أعراب البادية جاؤوا وافدين إلى المدينة ، فنادوا من الطريق على النبي صلى الله عليه وسـلم بأعلى أصواتهم : يا محمد اخرج إلينا . فأنزل الله تأديباً للمؤمنين ولهؤلاء الأعراب ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ) وقال الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضعكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) وقال أيضاً ( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ) هذا الكلام كله وهذه التوجيهات كانت مطبقة ومرعية الإجراء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم .
 الآن مات النبي عليه الصلاة السلام ، هل سقطت هذه التوجيهات وسقطت هذه الأوامر أم هي ماثلة وواجبة الرعاية والتنفيذ ؟ نقول هي واجبة الرعاية والتنفيذ ، كيف ؟ لئن مات النبي عليه الصلاة والسلام ولئن غاب شخصه الكريم إن سنته العطرة المطهرة قائمة وحية بين الناس ، ووجوب الاحترام لشخصه الكريم انتقل بعد وفاته إلى وجوب احترام سنته المطهرة ، مثلاً حينما تجلس مجلساً يُقرأ فيه كلام النبي عليه الصلاة والسلام فإن عليك أن تغض من صوتك وأن تخفض من طرفك وأن تطامن من كبريائك وأن تخفض من رأسك وأن تظهر كل معاني الإجلال والاحترام لهذا الذي يُتلى عليك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم . فإذا سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يأمر بالأمر أو ينهى عن الأمر فواجب الاحترام للنبي عليه الصلاة والسلام إنما هو بالامتثال والطاعة ، قال الله تعالى ( وما أرسلنا من رسولٍ إلا ليُطاع بإذن الله ) فإذا سمعت شيئاً من توجيهات نبيك عليه الصلاة والسلام فلا تضرب لها الأمثال ولا تحاول التفلت منها ولا تضربها بمقاييس العقول ونتاج الأذهان ، فإن توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام مؤيدة بالله ومسددة من قبل الله جلّ وعلا وناطقة عن مراده تبارك وتعالى وناطقة أيضاً عن حكمته السـامية التي لا تبلغها حكمة ، قال الله تعالى ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) .
 الأمة إذاً حينما تريد أن تنهض بأعباء الدعوة وتنهض أيضاً لملاقات أعداء الله جلّ وعلا فإن عليها أن تتسلح بتقوى الله جلّ وعلا ، وتقوى الله إنما هي بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ( وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ) ثم يقول الله جل وعلا بعد ذلك ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين ) مَن هؤلاء المتقون ؟ ( الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) التوجيه بكلمة ( سارعوا ) إشارة من الله جلّ وعلا رحيمة إلى ضرورة المبادرة في الطاعات والإسراع بفعل الخيرات ، وقد قلنا قبل اليوم : إن من توجّه عليه فعل أمر من الأمور الصالحة فعليه أن لا يمهل ذلك ، فالإنسان الصحيح يمرض والحي يموت والفارغ يُشغل ، فيكون بالإبطاء والتأخير قد فوّت على نفسه أجراً عظيماً وفضلاً كبيراً . فالله جلّ وعلا ينادي عباده المؤمنين ( وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنةٍ عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين ) وعد الله بمغفرة وجنة عرضها السماوات والأرض ، وهذا الوعد للمتقين ، ثم فصل الله جلّ وعلا شأن المتقين ليكون في يد كل مسلم ميزان يرجع إليه حين تلتبس الأمور وتختلط العواقب والنوازع ، هذا الميزان صادق لا يكذب ولا يطيش ، ليس من موازين أهل الدنيا أبداً وإنما هو ميزان الله .
 مَن هم المتقون قال ( الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ، والذين إذا فعلوا فاحشةً ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ، أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين ) لنقف الآن عند هذه الأمور الأربعة التي أشارت إليها الآيات لنعلم مدى اتصالها بصلاح النفس وصلاح الجماعة ، ومدى صلتها بإعداد الأمة كمجموع ، لكي تكون قادرةً على الوقوف في وجه أعداء الله جلّ وعلا .
 ( الذين ينفقون في السراء والضراء ) وذُكر الإنسان في السراء والضراء ، وُذكر أصحابه في زمرة المتقين المحسنين ، وذكرهم في جملة الذين وعدهم الله مغفرةً من عنده وجنةً عرضها السموات والأرض مقابل بماذا ؟ مقابل بما سبق أن ذكرت الآيات الكريمة من شأن أكل الربا أضعافاً مضاعفة . فالله جلّ وعلا في أوائل هذا المقطع نفّر المؤمنين من أن يأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة ، وبيّن لهم أن ذلك قرين الكفر والشرك ، وأوجب عليهم كما طهروا نفوسهم من الشرك أن يطهروها من الربا ، وكما طردوا الوثنية والكفر من مجتمعهم عليهم أن يطردوا الربا من هذا المجتمع . ثم قابل ذلك بأن افتتح ذكر المتقين المحسنين الموعودين بالمغفرة وبجنةٍ عرضها السموات والأرض .. افتتح أوصافهم بأخصها وأشدها لصوقاً بهم ولزوماً لهم في هذا الموقف وهي ( الذين ينفقون في السراء والضراء ) .
 ها هنا في الأول نفسٌ سوداء خبيثة ملوثة هي نفس آكل الربا ، وها هنا نفسٌ بيضاء نظيفة طاهرة هي نفس الذي ينفق في السراء والضراء . والسرّاء هي حالة اليسر وحالة الوجد ، والضراء هي حالة العدم وحالة العسر .. واضح أن الإنسان إذا كان يجد المال الكثير ويجد الخير العميم ويجد الرزق الواسع فإن عليه أن ينفق لا ريب ، لأن الشيء زائد ، فإذا أنفق منه ما أنفق فذلك لن ينقص من ثرائه شيئاً يُذكر . أما الإنفاق في الضراء على الضيق وعلى القلة وعلى عدم الإيجاد ، فأي معنى له ؟ يا إخوة أحب أن أقول لكم : إن صاحب المائة ألف لو حمل من هذه المائة خمسين ألفاً فأنفقها في سبيل الله فإنه يبقى في حد الثراء الفاحش ولا يهتز مكانه المالي اهتزازاً يُذكر ، لكن الذي يملك في جيبه ليرةً واحدة لو أنفق نصفها في سبيل الله فإنها ستزيده تقريباً من الحاجة والمسكنة والفقر .
 إنفاق نصف ليرة ممن يملك ليرة أدل على طاعة الله وأدل على سماحة النفس وأدل على كرم الصفات وأدل على طيب العنصر من إنفاق خمسين ألفاً ممن يملك مائة ألف . الإنفاق على الضراء وعلى القلة إذاً دليل على إيمانٍ كاملٍ لا يتزحزح ، لأنه آية تصديقٍ لوعد الله جلّ وعلا ( وما أنفقتم من شيءٍ فإن الله يخلفه وهو خير الرازقين ) هذا الإنسان الذي ينفق ما يجد دون أن يتساءل عما يخبئه له الغد .. هل يجد فيه فطوراً أم غداءً أم عشاءً ؟ واثق لوعد الله جلّ وعلا ، وواثق بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ، فهو مع التقوى ومع الإحسان وحقيق بمغفرة الله جلّ وعلا كما هو حقيق بهذه الجنة التي عرضها كعرض السماوات والأرض والتي وعد الله بها المتقين .
 كذلك لا بد أن نلفت نظركم إلى توجيه لعله يغيب عن فهم معظم الناس في هذه الأيام ، ولكنه توجيه من توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم ، من التوجيهات التي كان يعمل بها الصحابة ومن كنوز العرش أيضاً : الناس اليوم حينما تضيق يد الإنسان يقعد ولا يفكر في الإنفاق على فقير ولا بإخراجٍ شيء في سبيل الله ، كذلك كان أصحاب محمد عليه السلام ؟ لا ، كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول لهم ـ لاحظوا معنى الكلام ـ : إذا أملقتم ـ يعني إذا افتقرتم ـ فتاجروا مع الله ـ يعني اشتغلوا بالتجارة مع الله ـ الله غير موجود الآن على ظهر الأرض خطاً يتراءى وعنده بضاعة تشتري منه وتبيع له ، معنى المتاجرة مع الله الإنفاق في سبيل الله ، حينما تقعون في الفقر أنفقوا في سبيل الله جلّ وعلا ، ولهذا كان المسلمون وكان أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام يُنفقون في السراء وينفقون في الضراء ويخرجون في ساعة العسرة عن كل ما تملكه أيديهم من مالٍ وما ِأشبه ذلك ثقةً منهم بأن هذا هو الطريق إلى رضوان الله جلّ وعلا ، وهذا هو جواز المرور إلى جنة الله تبارك وتعالى ، وهذا هو الدليل على طاعة الله وتقوى الله جميعاً . فالناس إذن عليهم إذا شعروا بالفقر والحاجة ألا يمسكون عن الإنفاق ، بل عليهم أن يتاجروا مع الله ، عليهم أن يشتغلوا في التجارة مع الله ، أنفقْ ثم أنفق ثم أنفق ولا تسأل نفسك : هل يأتيني مثل الذي أنفقت أم لا ؟ أؤكد لكم أيها الإخوة أن الإنسان حين يثق بموعود الله فإنه يجد بركة هذه الثقة يقيناً ، كثيرٌ من الناس تردهم واردات فوق حاجتهم تفيض عنها ، تراهم أكفهم يابسة أشحةً على الخير ، لا ينفقون إلا وهم كارهون ، ولا ينفقون إلا هم يراؤون وينافقون ، ثم تعال إلى بيوتهم ، ترى أولادهم يعيشون في حالٍ من سوء التغذية تدعو إلى الشفقة والرثاء ، حتى نفقتهم في بيوتهم ليست كما يجب ، مع أن الإسلام أوجب عليك إذا وسّع الله عليك أن توسع ، وأن تبدأ بأهل بيتك ، إذا أوسع الله عليك فأوسع على عيالك . ثم ليفض خيرك إلى من حولك . والنبي عليه الصلاة والسلام يوصي وصايا عديدة في هذا المجال ، يوصي أنك إذا طبخت فلا تجعل جارك يشم رائحة بذرك ، فإذا شم رائحة طعامك فعليك أن تغرف له منه ، ثم على خيرك أن يفيض إلى ما هو أوسـع وهكذا ... حتى تكون عنصر خيرٍ وبركةٍ ونماء في المجتمع الذي تعيشـه .
 هذا الكلام الذي جاء ( الذين ينفقون في السراء والضراء ) جاء في معرض كلامٍ عن إعداد واستعداد لغزوة هامة ومعركة عظيمة من معارك الإسلام هي معركة أحد ، الإنفاق على البيت والإنفاق على الجار والإنفاق على المحتاج والإنفاق في سبيل الله في سوح المعركة كل أولئك دلائل على صدق اليقين بالله والتوكل على الله جلّ وعلا ، وهو آية على أن الإنسان بلغ التقوى وبلغ منزلة الإحسان . ( الذين ينفقون في السراء والضراء ) ثم ( والكاظمين الغيظ ) وكظم الغيظ هو عدم السماح لعوامل الغضب والاستثارة أن تخرج من فمك أو من يدك أو من عينك أو حتى من قلبك . الإنسان في الطريق في بيته في عمله يرى ويسمع أموراً لا تسرّه ، هل معنى ذلك أنه يكون عرضةً للاندفاعات عند كل كلامٍ يثور وعند كل عملٍ يثور ، وإذا ثار خرج من فمه كلام لا يليق ولا يسر ، وخرجت من يده أفاعيل لا ينبغي أن تخرج منها ، لا ، أين ذهبت إرادة الإنسان وأين ذهبت سيطرة الإنسان على عواطفه وأين ذهبت مغالبة الشيطان لهذه الاندفاعات ؟ على الإنسان إذن أن يكظم غيظ وعليه أن يصبر على هذه المظاهر التي لا تسر ، لأي سبب ؟ أولاً لكي يتأدب الإنسان بهذا الأدب الذي هو باب الصبر ومفتاحه ، ما لم يتعود الإنسان على سماع الكلام الغليظ وعلى الثبات أمام التصرفات السيئة المسيئة فإنه لن يتعلم الصبر ، كان كثيرٌ من الصالحين يُحاول أن يسمع الأذى وأن يرى المكروه ليمتحن صبره وليتعود على طولة البال ، هذا بالنسبة إلى تأديب الإنسان لنفسه .
 أما بالنسبة إلى ما هو بعد ذلك ، فهذا الإنسان إن لم يكن بهذا الشكل فلن يصلح ليكون أداة خيرٍ وسلامٍ ووئامٍ ومحبة في المجتمع الذي يعيش فيه ، كذلك فهو لن يصلح ليكون أداة دفاعٍ عن دعوته وعن أمته وعن بني قومه ، ما لم يكن صبوراً كاظماً لغيظه فلا يمكن أن يكون إنساناً نافعاً . كظم الغيظ أمر مطلوب ، ولو أن كل واحدٍ منكم نظر لوجد أن معظم المشاكل التي تحدث : سببها أن إنساناً ضعيف الإرادة سمع ما لا يسره فثاره ، فلما ثار اندفع ، فلما اندفع تورط فيما لا ينبغي ، فنظر أخوه ونظر أبوه ونظر قريبه فإذا هو مضطر بحكم العلاقات الجاهلية القبلية أن يركض وراء هذا الإنسان المخذول ، فإذا المشاكل تقع وإذا الأمور تنشب بين الناس على غير وجه الذي يرضي الله جلّ وعلا . الإنسان لو أنه يحاول الكياسة في مبدأ الأمر ويدرب نفسه على الصبر لَما حصلٍ أي مشكلٍ بين الناس . فالله جلّ وعلا حينما يوصي بكظم الغيظ يلحظ هذين الأمرين اللذين ذكرناهما ، تعويد الإنسان على الصبر في وجه الزعازع والنكبات ، وتعويد الإنسان على أن لا يندفع ، لأن هذا الاندفاع من شأنه أن يمزق العلاقات بين الناس ، هل لهذا صلة بحكاية غزوة أحد ؟ نعم ، قلنا إن الأمة التي تحارب ينبغي أن تحارب بجبهةٍ موحدة ، فإذا كان بينها عداوات وأحقاد وبغضاء فلا يمكن لها أن تنجح في حروبها ولا أن تكسب المعارك التي تخوضها ، فالوصاة بكظم الغيظ حرص من الله جلّ وعلا على أن يكون المؤمنون في ذوات أنفسهم مستعدين وفي واقع مجتمعهم متحدين .
 ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ) افترضْ أن هذا الإنسان ثار ، لم يستطع أن يكظم غيظه ، فجاء إليك فوجّه إليك كلاماً شديداً ، هل تخرّبت السماوات والأرض لو تحملتَ أخاك ؟ إن واجبك حينما تبدو بعض الاندفاعات من بعض إخوانك أن تلوذ بواجب العفو عن الآخرين ، العفو تفانٍ وارتفاع على كل نزوات النفس الهابطة ، العفو تكليل لهذه الإنسانية ، والعفو شيمة غرسها الله جلّ وعلا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فلقد كان يسمع من قوله ما يسمع ويرى ما يرى ويلقى ما يلقى فلا يزيد على أن يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون . هذا الكلام ألسنا مخاطبين بالتمثل به والاتباع له ؟ بلى ، قال الله تعالى ( لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة ) وإذاً فالعافون عن الناس أناسٌ جعلهم الله تعالى مكمَّلين همهم في هذه الحياة الدنيا أن يرتقوا الفتق ولا يمزق الخرق وأن يشدوا الجماعة إلى بعضها ولا يفرقوها ولا يمزقوها ، فهم رسل من رسل الله جلّ وعلا جاؤوا لزرع الوئام والصفاء والأُخوّة بين الناس .
 ( والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) لَمّا ذكر الله جلّ وعلا ذلك بيّن بقوله ( والله يحب المحسنين ) أن هذه الخصائل من خصائل الإحسان ، والإحسان أعلى درجة من الدرجات التي يبلغها الإنسان ، النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الإسلام فقال كذا وكذا ، وسُئل عن الإيمان فقال أن تؤمن بالله وملائكته وإلى آخره ، وسُئل عن الإحسان فقال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك . فالمحسن هو الذي يعبد الله كأنه يرى الله أمام عينيك ، لا تختلف سريرته عن علانيته ، ولا يختلف قلبه عن لسانه . هذه الأوصاف إذاً هي أوصاف المحسنين . ومما يُذكر في هذا المجال كأدبٍ ظاهر من أداب الصحابة : أن أمير المؤمنين علياً كرم الله وجهه أمر إحدى جواريه بأن تصب له وضوءً فحملت الإبريق لكي تسكب له الوضوء ، فسقط الإبريق من يدها وانكسر ، فنظر إليها رضي الله عنها مغضباً ، فأدركت الجارية ذلك وقالت : يا أمير المؤمنين إن الله يقول ( والكاظمين الغيظ ) قال: قد كظمت غيظي ، قالت : يا أمير المؤمنين ويقول ( والعافين عن الناس ) قال : لقد عفوت عنك ، قالت : والله يقول ( والله يحب المحسنين ) قال : اذهبي فأنت حرةٌ لوجه الله تعالى . كذلك كان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يتمثلون بالآداب الإسلامية ، لأنهم يعلمون أن هذا الكلام الذي يُتلى أوامر موجهة إليهم لكي يتمثّلوا بها ويمثلوها .
 ( والذين إذا فعلوا فاحشةً ) والفاحشة هي الشيء الخطير ، نقول : وقع في هذا المكان ماء فاحش ، يعني الكثير ، والفاحشة هي الفعل السيء الذي يتسامع به الناس ويظهر أثره لكثرته . ( أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبكم ) ظلم النفس بماذا يكون ؟ بمخالفة الله جلّ وعلا ، بالكفر فما دون الكفر ، كل ذلك ظلم للنفس ، كل إنسان يعصي الله فقد ظلم نفسه ، لأنه سيلاقي يوم القيامة عاقبة هذا الظلم ( أو فعلوا فاحشةً ) والفاحشة كل المنكرات التي نهى الله جلّ وعلا ، هؤلاء مع أنهم ظلموا أنفسهم ومع أنهم تورطوا في الفواحش ، ما دليل الحيوية عندهم ؟ ما دليل وجود الإيمان في نفوسهم ؟ كونهم لم يقنطوا ، القنوط ينافي الإيمان ( إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) طالما هم مؤمنون فليعلموا أن الإنسان باعتباره إنساناً يخطئ ويصب ، يطيع ويعصي ، والإنسان بما هو إنسان مفطوم على ذلك ، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا اليأس ؟ الإنسان طالما هو مجبول على الخطأ والمعصية ، فالله جل وعلا قد فتح له باب التوبة والرحمة والمغفرة .
 والنبي عليه الصلاة والسلام يروي عن ربه جلّ وعلا يقول : والذي نفسي بيده ـ هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام ـ لو لم تخطئوا لذهب الله بكم فجاء بقومٍ يخطئون فيستغفرونه فيغفر الله لهم . فالله جلّ وعلا جبل الإنسان على أن يخطئ ، لكنه إذا أخطأ فعليه أن يستغفر ويتوب وينيب إلى الله جلّ وعلا . والله جلّ وعلا يقول في الحديث القدسي : يا عبدي لو أنك جئتني بقراب الأرض خطايا ـ قراب الأرض يعني ملأ الأرض خطايا ـ ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لجئتك بقرابها مغفرةً ـ يعني بملأ الأرض مغفرةً ـ وغفرت لك على ما كان منك ولا أبالي . فطالما أن الأمر كذلك فواجب الإنسان المؤمن إذا شذ أو زل أو وقع في معصية أن لا يلقي بيده وأن لا يقنط وأن لا ييأس من روح الله ورحمة الله ، بل يتوب من قريب ويستغفر ( والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله ) علموا أن لهم رباً يغفر الذنب ( فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ) لا داعي للجوء إلى قبر ولا للجوء إلى ولي ولا للجوء إلى صنم ولا للجوء إلى أبٍ ولا إلى جد ، فاستغفر الله ، قل : أستغفر الله وكفى ، قلها من قلبٍ نظيف طاهر فستجد أن أبواب السماء تفتح لك ( فاستغفروا الله لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يُصرّوا على ما فعلوا ) لأن الإصرار ينافي التوبة ( ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ، أولئك جزاؤهم مغفرةٌ من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين ) .
 اسألوا أنفسكم عن هذا المجتمع الذي يكون أفراده بهذا الشكل ، هل يُستغرب أن يتنزل عليه نصر الله والفتح تنزلاً من السماء ؟ هذا مجتمع لا أنظف ولا أطهر منه ، هذا مجتمع لا أتقى ولا أعبد منه ، إن لم يكن هذا المجتمع خليقاً بنصر الله فأي مجتمع هو خليق بذلك ؟ فالله جلّ وعلا كشف للمؤمنين بهذه المقدمة عن القاعدة التي يجب أن تُمهّد وأن تهيّء عند كل إرادة قتالٍ وصراعٍ مع أعداء الله من الكافرين والباغين والمتكبرين . وسوف نرى غداً إن شاء الله تعالى مع استكمال بقية الآيات أن ثمة شرائط أخرى ينبغي أن تستكمل ، فأسأل الله جلّ وعلا أن يعين على ذلك وأن يهدي قلوبنا وقلوبكم وصلى الله تعالى عل سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق