الخميس، 10 مايو 2012

شهادة الأستاذ سعيد مولاي حول التعذيب البشع الذي تعرّض له في مقر شرطة شاطوناف 1994


شهادة الأستاذ سعيد مولاي حول التعذيب البشع الذي تعرّض له في مقر شرطة شاطوناف 1994

أضيف في 06 يوليوز 2011
إسمي سعيد مولاي، أنا أستاذ في الرياضيات ومدير معهد الرياضيات بجامعة العلوم و التيكنولوجيا بباب الزوار (الجزائر). تم ترشيحي نائباً في قائمة الجبة الإسلامية للإنقاذ وفزت في الدور الأول في الإنتخابات التشريعية سنة 1991 في ولاية البويرة. اعتُقلت في 19 جوان 1994 في الجزائر العاصمة ثم احتُجزت في مقر الشرطة السياسية في شاطوناف لمدة 30 يوما.

كيفية اعتقالي:

في يوم الأحد 19 جوان 1994، وكان يوم عطلة، خرجت من منزلي على الساعة الواحدة و النصف زوالاً لأداء صلاة الظهر. وقد طلبت من إبنيَّ أن يلتحقا بي بقرب المرآب أين كانت سيارتي متوقفة حتى آخذهما إلى نزهة بعد الصلاة. وعندما انتهيت من الصلاة، ركبت السيارة مع ابنيَ الإثنين، معاذ (أربعة سنوات) و حمزة (تسعة سنوات). ولقد أعلمني الدكتور العفري، فيما بعد، أنه كان في ذلك الوقت مع عدة سيارات من المخابرات العسكرية يترصدون قرب محمكمة الحراش، التي كانت تبعد أمتاراً فقط عن مقر سكناي، ويترقبون سيارتي.

وعند مروري أمام محكمة الحراش، اضطروا العفري إلى الإبلاغ عني، فاقتفوا سيارتي إلى أن وصلنا إلى مستوى مقبرة العالية على الطريق الوطني رقم خمسة المعروف بـ”الموتونيير Moutonnière” وهناك أوقفت، وأمرني أحدهم بأن أتحول إلى المقعد الأيمن.

ثم أخذ شخص آخر مكانا في الخلف مع الولدين وسلاحه في يده. ففهمت أني اختُطفت بدون أن أعرف من طرف من، لأنّ الأشخاص كانوا يرتدون زياًّ مدنياً. فخفت أن يُصاب ولديّ بصدمة نفسية لرؤيتهم الأسلحة. فطلبت أن نتركهم في منزلي أو عند خالتهم التي يبعد منزلها خطوات عن الطريق الذي سلكوه. فقيل لي أنّه ستكون هناك مقابلة لمدة ساعة ثم يمكنني أن أعود إلى منزلي مع أولادي.

عندما دخلنا الطريق السريع على مستوى واد السمار، أُمِرتُ أن أنتقل إلى المقعد الخلفي، وأن أغرس رأسي بين ساقي البوليس، وأمر إبنيّ كذلك بوضع رأسيهما تحت المقعد، وبدأت حينئذ السيارة تنطلق بسرعة فائقة.

ومن حين لآخر كانت السيارة تنتفض بنا بقوة من أثر رجّات الطريق و لكن كان همّي الكبير مُنصبّاً على اِبنيّ المذهولَينِ واللذان حبسا دموعهما بصعوبة. وبعد دقائق، توقفنا عند مكان يترجح أنه مركو القياة و العمليات P.C.O بشاطوناف. فعصبوا عينيّ وغطّوا رأسي بقميصي.

وعند لحظة الفراق مع ابنيّ – اللذان شعرا بخطورة الوضعية – صرخ معاذ «بابا!» فأُمر بعنف أن يلزم الهدوء، وأما حمزة فكان مذهولاً وكان يتنفس بصعوبةٍ.

ومنذ تلك اللحظة فوضت أمري لله في كل ما كنتُ سأتعرض له أنا وعائلتي.

تسلسل التعذيب:
إنّ للتعذيب طابعان: نفسي وجسدي، فكل الوسائل تُستعمل من أجل انتزاع
الإعترافات، التي غالبا ما تكون خيالية من أجل تجنّب شيء من التعذيب.


وفيما يخصّني، فقد احتُجزت وعُزلت في زنزانة لمدة شهر. كانت الزنزانة ذات رطوبة عالية وأرضيتها دائماَ مبللة. وكانت في سردات وفيها مرحاض يصب فيه أنبوبان، واحد من المطبخ المركزي و الثاني من بقية المراحيض. كانت هذه المياه تسيل طوال النهار بصوت مزعج.

في نفس اليوم (19 جوان 1994)، وفور وصولي إلى مركز الشرطة، حُملت إلى زنزانة في الطابق تحت الأرضي و عينيّ معصوبتان. وهناك أحاط بي خمسة أو ستة من عناصر الشرطة. فطلبوا منهم أن أحكي لهم عن حياتي منذ دراستي الجامعية، وماذا كُنت أعمل منذ أن رجعت من فرنسا سنة 1989.

وبعد ذلك طُلب مني أن أذكر لهم اللقاءات و الإجتماعات التي حضرت فيها. فذكرت لهم رابطة الدعوة الإسلامية، و التضامن، و الجمعية الإسلامية للبناء الحضاري ولقاءات مع بعض الشخصيات السياسية مثل أحمد طالب الإبراهيمي (وزير الخارجية الأسبق) وبن يوسف بن خدة (رئيس الحكومة المؤقتة للدولة الجزائرية). لم يكن يهمهم ما ذكرته لهم، غير أنّه لم يكن لديّ ما أقول لهم غير ذلك.

ومن هنا بدأتُ أتعرّض لتعذيب الماء و الخرقة، والمعاملة العنيفة و التعذيب و الكلام الفاحش لشخصي و أسرتي و أمي. لم أستطع التحمّل، وكنت أحسّ أن الموت أقرب منّي، وأُمرتُ أن أُخبرهم عن اللقاءات و الإجتماعات السرّية حسب زعمهم و عن العلاقات مع المجموعات «الإرهابية» حسب ادّاعاءاتهم. ولم يتوقّف عذاب الخرقة إلاّ عندما كنت أحرّك يدي لأشير أنني سأتكلم. وهناك، اضطُررت إلى أن أصطنع سيناريو لأتجنّب التعذيب. ثم أرغمت على أن أحدثهم عن (صالح) جبايلي وآخرين، فاختلفت أنّي أمرت يوسف فعل شيء واصطنعت سيناريو عن لقاء في مسجد حي الجبل.

ثم تركوني في الزنزانة وجسمي منتفخ بالماء، وكنت أحسّ آلاماً فظيعة على مستوى الساقين بسبب الحبل الذي شدّوه بقوة، وعلى مستوى يديّ بسبب الأغلال التي كُبّلت بها وكذا على مستوى الكتف، وقضيت ليلتي الأولى في عذاب أليم دون أكل.

وفي 20 جوان 1994، أي في اليوم التالي، كرّروا لي التعذيب بالماء و الخرقة مرتين في نفس اليوم ولفترات أطول من قبل، ولاقيت الشتم و الكلام الفاحش و اللكمات على الوجه و العينين، ثم هددوني بأن يأتوا بزوجتي و يفعلوا بها الذي لا يمكن تصوّره أمامي إذا لم أذكر اجتماعات أخرى. فاختلقت سيناريو آخر مع لعريبي وتخنوني و عيسات واصطنعت صلة خيالية مع رجّام يوسف ومحمد السّعيد لأنّهم كانوا كل مرة يأمرونني بأن أخبرهم عن لقاء وحدة الفصائل المسلّحة. وبعد معاناة كبيرة فكّوا القيد الذي كان يربطني على المقعد الذي مدّوني عليه، وفكّوا الأغلال التي ربطوا بها يديّ خلف ظهري.

ثم تركوني مطروحاً على الأرض المبللة في الزنزانة وطلبوا مني أن أفكّر بجدية، لأنّهم سيعودون في اليوم القادم و سيمارسون ألواناً أخرى شرسة من التعذيب. قيل لي أنّ التعذيب سيستمر وإن بقي سنة بدون انقطاع إذا استدعى الأمر ذلك.

فتمددت قليلاً على الأرض، ثم قمت بصعوبة لأداء صلوات اليوم قصراً وجمعاً، وبعد لحظات سمعت إخوة يؤذّنون من عدّة زنزانات لصلاة المغرب. ففهمت أني لست وحدي فسألت الله أن يرفع الظلم و التعذيب الذي نتعرّض له باستمرار.

وفي يوم 21 جوان 1994 كُنت غامساً في هُواس التعذيب باستمرار، وكنتُ كلما سمعت ضجّة أو فُتح الباب ظننت أني ذاهب إلى التعذيب. ولكن لم تأت عناصر الشرطة في هذا اليوم، وتُركتُ في حالة انتظار و هاجس مستمر.

وفي يوم 22 جوان 1994، تحدّث معي شرطي من المجموعة كان يظهر عليه الهدوء و نفاذُ الذهن. دام الحديث ساعات طويلة وكان بحضور اثنين أو ثلاثة أشخاص من المجموعة. فشرح لي انحراف الجبهة الإسلامية للإنقاذ و الفراغ السياسي لبرنامجها و “التوسّعية النحسة” للوهّابية التي تتزعهما العربية السعودية، التي حسب رأيه أنتجت فكرة الهجرة و التكفير، وطموح اليهود في السيطرة على العالم أجمع في الميدان السياسي و الاقتصادي…وحسب زعمه فإنّ اليهود وجدوا “أشخاصا أمثالنا” ليحطّموا الإسلام و الدول الإسلامية.

ثم تركوني و طلبوا مني أن أفكر في جيّدا في الأمور التي لم أدل بها بعد.

وفي يوم 23 جوان 1994 كنت لا أزال في هواس التعذيب بما أنني كنتُ أنتظرهم في أية لحظة. لقد كُنت أراجع باستمرار كل الذي اصطنعته لهم أثناء التعذيب حتى أستطيع تكراره خلال “الإعترافات”. لأنني لو أنكرت تلك الأمور أو نسيتها فإنّ عذابا أشدّ كان ينتظرني.

وكان يوم 24 جوان 1994 من أطول الأيام في حياتي بسبب ما تعرّضت له من التعذيب بالماء و الخرقة مع اللكمات في كل موقع من الجسن وخاصة الوجه و العينين.

واسترجعت سيناريو يوسف وصرّحت لهم وهمياً أنني أعطيته أسماء (صالح) جبايلي، عميد الجامعة، ومدرّسين آخرين لهما اتجاه يساري من معهد الرياضيات مثل إدريس بولعراس و عمار خوجى.

واسترجعت كذلك سيناريو لعريبي و بلعيدي وتخنوني وعيسات وزعمت أنّ هؤلاء لهم علاقة وثيقة بيوسف ورجّام ومحمد السعيد. واصطنعت خبراً مفاده أنّ هذا الأخير بعث إليّ برسالة أكّد لي فيها أنّ الحوار مع النظام غير مُجدٍ. وبما أنّهم كلّموني عن اجتماعٍ لإحدى الجماعات، فقد اختلقت لهم أنّ أعضاء هذه الجماعة أكّدوا لي تحضير ذلك الإجتماع غير أنّي لم أكن أعرف أين سيتم.

كلّ ذلك كان غير كافي لإيقاف تعذيبي الذي طال وطال كثيراً. وأُمرتُ أن أذكر كلّ اجتماع. فذكرت لهم اجتماعاً مع علي جدّي عند يوسف بن حليمة. ثم ذكرت لهم اجتماعاً وُدّياً مع بلّحرش و لمجداني بدعوة من بلّحرش داخل فيلا أحد أقربائه. فوجّهت لي تهمة التجسس لصالح الأمريكيين بمأ أنّ تلك الفيلا كانت مجاورة لمؤسسة أمريكية – جزائرية. ثم ذكرت لهم دعوة صديق للقاء عادي جداً في حسين داي. كل ذلك لم يؤدّ إلى توقيف التعذيب. وبعد مدّة أخبروني أنّ أحداً سيأتي ليُكلّمني و عليّ التزام الصمت. إن الشخص المعني كان الدكتور العفري الذي أكّد أنني شاركت في اجتماع عند شرفاوي في 1994 وشاركت معه و (صلاح الدين) سيدهم وحمّي في اجتماعات أخرى من أجل أعمال إرهابية.

ولما خرج العفري، أكّدت لهم أنّ كل ذلك غير صحيح، وفهمت في ذلك الحين أنه منذ البداية كانوا يريدون أن أتحدث عن الإجتماعات التي ذكرها الدكتور العفري. فأنذروني بأن أفكر جيّداً وإلاّ فعليّ أن أستعدّ للتعذيب. ثم تركوني لمدة ربع ساعة أحسست فيها أنني سأهلك فتأوّهت بصمت وتضرّعت إلى الله القدير.

ثم رجعوا إليّ وفكّوا رباطي وتركوني أتألّم في زنزانتي. وأخبروني أن العقيد كان قد حضر تلك الحصة، وأنّهم سيأتون في الغد بطرق أخرى لانتزاع الإعترافات. كان ذلك في المساء، نهاية يوم أحسست فيه أنه طويل و طويل جدًّا!

لقد كان يوما 25 و 26 جوان 1994 يومين للألم و الإنتظار اللاّنهائي. فعند كلّ ضجة كنت أظن أنهم قدموا ليأخذوني إلى أنواع أخرى من التعذيب. إنّ قراءتي للقرآن و الصلاة قد خففتا عنّي المعاناة. وقد لجأت إلى الله الواحد سبحانه و كنتُ أحسّ بالقرب من الله في تلكم اللحظات.

وهناك فكرة راودتني كثيرا: إن شجرة الإسلام لابدّ و أنّ لها جذور عميقة وراسخة. إنّها في الكهوف و القبوات و الطبقات تحت الأرضية، إنّها عبر التضرّع والإبتهال إلى الله بالصلوات و الدعاء الخالص، الدعاء الذي يرتفع من أفواه المؤمنين في سكون الله و ظلامه، إنّها عبر الصيحات المشابهة لـ «أحد! أحد» التي كررها بلال تحت التعذيب، إنّها عبر الدموع و الآلام بشتى أنواعها، وعبر الأنين و الأرواح التي تصعد إلى الله أثناء التعذيب، في نفس الزنزانا التي عُذّب فيها آباؤنا وسلّموا أرواحهم خلال ليالي الإستعمار، عبر هذا كلّه تتوطّد وتقوى جذور شجرة الإسلام.

إنّ ٢٧ جوان 1994 كان يوم تعذيب أطول من يوم 24 جوان 1994. فقد استعملوا هذه المرة مختلف الوسائل، الماء و الخرقة، و اللكمات و الجلد على باطن القدمين. إنّ كل الذي اصطنعته لم يكفهم، ففهمت أنّهم أرادوا منذ بداية التعذيب أن أعترف بالإجتماعات الخيالية التي تكلّم عنها الدكتور العفري.

ثم قيل لي أنني مصاب بحصار نفسي وأنني خائف من النتائج التي ستنجرّ لو تكلمت عن الإجتماعات (الخيالية) التي ذكرها الدكتور العفري. وأمرني الشرطي أن أقرأ آية الكرسي حتى «أتحرر نفسيا.» فقرأتها و تضرّعت إلى الله. كل الأشخاص الذين كانوا حولي تساءلوا عن هذا “الحصار النفسي” و من أجل “تحريري” أوتي بالدكتور العفري من جديد و طُلب منه أن يعطيني التفاصيل عن الإجتماعات (الخيالية) التي كان قد ذكرها.

فقال لي حينئذٍ أني حضرت معه في اجتماع 1994 في منزل الحاج شرفاوي بحضور محمد السعيد و الحاج حمي و مصطفى ابراهمي و آخرين. وقال آيضا أنّه في ذلك الإجتماع المزعوم أخذ محمد السعيد الكلمة وأعلن أن الفصائل المسلّحة ستتحد في قوة واحدة، وكان هذا الإجتماع المزعوم تحضيراً لمؤتمر الوحدة للفصائل المسلّحة. وذكر العفري أنّي حضرت أربعة اجتماعات في عيادته مع الحاج حمي و الدكتور (صلاح الدين) سيدهم لتعيين الشخصيات الثقافية التي يجب اغتيالها مثل (صالح) جبايلي

وهنا أُمر بأن يسكت ولا يذكر أسماء المثقفين الذين تحدّث عنهم من قبل. فأمرت أن أردّ على الدكتور العفري. فقلت له: «لماذا تكذب عليّ و أنت ترى أنني تحت التعذيب؟» فقال لي: «نعم، لقد حضرت عندي، في عيادتي، مع الأشخاص الذين ذكرتهم!» فقلت له: «اتق الله و لا تكذب!» حينئذٍ شددوا عليّ التعذيب لأنني، بالنسبة لهم، كنت أتمادى في الكذب.

فأخرجوا العفري و عذّبوني لمدة أطول حتى يقتلعوا منى اعترافات فيما يخص الإجتماعات الوهمية التي ذكرها الدكتور العفري. لقد كنتُ شبه متأكّد أنني سأسلّم الروح إلى مولاها في تلك اللحظات، فكرّرت ما قاله العفري حتى أتجنّب أهوال المزيد من التعذيب. و لكن ذلك لم يكفهك، فطلبوا المزيد من التفاصيل ثم تركوني أخيرا مكبلاً أعاني الأمرّين لفترة طويلة.

وعلمت فيما بعد من طرف الدكتور العفري أنّهم رجعوا إليه و أمروه بأن يقول الحقيقة و أنّهم لن يؤذوه. وحينئذٍ أكّد لهم أنّه لم يحدث شيء من هذا كلّه و أنّه اصطنع ذلك حتى ينجو من التعذيب. فعادوا إليّ من جديد، وفكّوا رباطي وأخبروني أنّهم سيرجعون غداً. فقضيت الليلة في معاناة كبيرة متضرّعاً إلى الله العليّ القدير.

وفي يوم 28 جوان 1994، أي في اليوم التالي، حدثت مناقشات طويلة بيني و بين اثنين أو ثلاثة من عناصر الشرطة، بدون تعذيب ولكن مع تهديدات من حين لآخر. فوضّحت لهم أنّه فيما يخص الاجتماع الذي وقع عند شرفاوي، فلا شيء من هذا القبيل حدث لأنّ آخر زيارة لي له تعود إلى أكثر من سنة كاملة، وأنّه قد غيّر مقرّ سكناهز وفيما يخُص اللقاءات في عيادة العفري، قلتُ لهم أني لم ألتق بالدكتور سيدهم عند الدكتور العفري.

وفي يوم 29 جوان 1994 تعرّضت لطريقة جديدة من التعذيب طوال اليوم. الجلد بالهراوات و أنابيب مطاطية على الرأس و الظهر العاري والفخذين و الركبتين و الساقين و الذراعين و اليدين. لقد كان وابلا من الضربات القاسية ينزل علي طيلة اليوم بدون شفقة. أحسست أنّي سأسلّم روحي مرّة أخرى. إنّهم كانوا يريدون مني اعترافات عن «الجزأرة» التي أجهلها و المسؤولية الوهمية التي التي أحملها في «هيكلتها». وأمروني بالكلام عن الجمعية الإسلامية للبناء الحضاري و عن تركيبتها و هياكلها و أهدافها.

وفي آخر النهار، قدموا لي فنجان قهوة وشيئاً من الخبز. لقد كنت أبتلع الخبز مع القهوة بصعوبة. ثمّ تُركت مرمياً على الأرض في زنزانتي.

وكان يوم 30 جوان 1994 يشبه سابقه. فقد تعرضت لنفس تقنيات التعذيب طيلة اليوم الذي بدا لي أطول. ولكن هذه المرة بقِيَت آثار الجلد و التعذيب على كامل جسدي، آثار التعذيب التي لم تندمل بعد. و في آخر النهار أوقف التعذيب وأعطوني قطعتين من الخبز وقليل من الجبن، وأخبروني أنّ المرحلة الأولى من التحقيق قد انتهت و بقيت المرحلة الثانية. لم يبق سوى تسليم أمري إلى الله رب العالمين.

مرّ يوم 1 جويلية 1994 دون شيء يذكر. كان قميصي وسروالي الوسخين ينتنان برائحة كريهة من الدم الذي سال من جروحي الكثيرة.

وجاء يوم 2 جويلية 1994، أُخذت إلى الطوابق العُليا من أجل توقيع القسم الأول من المحضر. وأُعطيتُ قميصين لألبسهما وأغسل ثيابي الوسخة. لم يُقدّم إليّ أيّ نوع من العلاج مع أنني طلبت ذلك.

وفي يوم 3 جويلية 1994 كانت هناك مناقشة طويلة في موضوع التجسس بين الروس و الأمريكان؛ إنها طريقة لإعدادي للتحقيق القادم. لقد اتُّهمت في النهاية بالجوسسة و شدَّدوا على أنّ اللقاء الذي تمّ مع الدكتور بلّحرش والدكتور لمجداني في فيلا بالمدنية كان لقاء تجسس لصالح المخابرات الأمريكية C.I.A. و طُلب منّي أن أفكّر من جديد في اللقاءات التي لم أذكرها بعد.

استدراك: نسيت أن أذكر مواجهة مع الأستاذ بن حليمة التي أكّدت خلالها أنّه بريء. كان ذلك في الأسبوع السابق.

وفي يوم 4 جويلية 1994 غسلت قميصي وسروالي بصعوبة كبيرة بقليل من صابو أومو (Omo) الذي سلّمه لي ذلك الشرطي “الهادئ و الظريف”. وطلبت قليلاً من ماء الجافيل لتنقية جروحي فلم أحصل عليه إلّا بعد يومين حين لاحظني أحد الحرّاس في حالة يُرثى لها. أعطاني كمية قليلة. هذا هو “الدواء” الوحيد الذي تحصّلت عليه.

بدأت حالتي العامة تتدهور تدهوراً خطيراً: ضعف في القوى مع آلام كثيرة، وسيلان متقيّح من الأنف، جروح تعفّنت بسبب الصدمات التي أحدثتها الضربات و الجروح، آلام حادة في العينين و انخفاض في الرؤية للعين اليسرى بسبب اللكمات على حجاج العين، دويّ في الأذنين و انخفاض السمع بسبب نفوذ كميات كبيرة من الماء أثناء التعذيب بالخرقة و الماء، تخدّر الظهر و الأيدي بسبب تشديد ربط الأغلال، أرق بسبب الأوجاع المستمرة في العظام و المفاصل جرّاء افتراش أرضية الزنزانة الإسمنتية.

لقد كان أحسن عزاء لي في تلك اللحظات هو ذكر الله رب العالمين الذي شعرت أنه قريب من روحي. إنّ قراءة القرءان شفاء لا مثيل له. سألت الله بكل قواي في حالة تضرّع وبكاء بأن ينتهي الظلم و تصعيد التعذيب تجاهي و تجاه كل المؤمنين.

وفي يوم 5 جويلية 1994، يوم عيد الإستقلال، لم تكن لدينا أية معلومات عما هو جار خارج عالمنا. وحوالي الساعة العاشرة صباحا، أخذ الحراس كل المعتقلين في زنزانات تحت الأرض – بما فيهم المتحدث – إلى الطابق الأعلى فصعدنا مصطفّين الواحد تلو الآخر و العينان معصوبتان. لقد كنّا حوالي عشرة، ووُضعنا في قفص مساحته مترين أو ثلاثة أمتار مربعة ونوافذه مفتوحة حيث يمكن رؤية السماء عبر المباني. ورغم أننا كنّا مكدّسين فقد كنت سعيداً لأني استنشقت جرعات من الهواء النقي.

ورأيت الدكتور العفري الذي عرفته بصعوبة لأنّ ملامحه تغيّرت تماماً. فقال لي: “معذرة يا سعيد، لقد اصطنعت ذلك السيناريو تحت التعذيب فتذكّرت زملائي في الثانوية مثلك ومثل سيدهم، وهكذا ورّطتكما أنتما الإثنين في أعمال إرهابية وهمية.” وأخبرني أنه هو الذي وجّه الفرقة الخاصة، مضطرّاً و مجبوراً، في يوم 19 جوان 1994 قرب منزلي وهكذا اختُطفت أنا وأبنائي على الساعة الثانية بعد الزوال. وأكّد لي أنّه تراجع عدّة مرات فيما بعد عمّا قال ولكن بدون جدوى. وهنا فهمت الضراوة التي كان يُعاملني بها هؤلاء الجلاّدون، الذين أرادوا بأية طريقة أن أؤكد تصريحات العفري، ولكن بما أنني أجهل تلك التصريحات لم يكن لديّ إلاّ اصطناع تصريحات أكثر تلفيقاً حتى أتجنّب التعذيب.

وعرفت صديقاً آخر، هو الدكتور نور الدكتور نور لمجداني، مختص في علم الأوبئة و الذي يشتغل بوزارة الصحة، وكان يُعاني من مرض البواسير ولا يأكل شيئاً ولا يتلقّى علاجاً بطبيعة الحال. وقد حكى لنا مُختصّ في الإعلام الآلي أنّه أمضى ثمانين يوماً من الإحتجاز و التعذيب وأنّه نجا من الموت عدّة مرات. وقال أنه رأى في مكان آخر أناساً يموتون موتة بشعة تحت أنواع من التعذيب لا يتصوّرها إنسان: المنشار، الشفاطة، الخنق، عملية الخرقة. وحكى لنا آخرون تقنيات للتعذيب رهيبة للغاية!

يا إلهي! إنّ كل هذه الجرائم و الإبادة تقع في صمت في الأقبية و الزنزانات تحت الأرض لدى الفرق الخاصة ومخافر الشرطة، إلخ.

وأخيراً وفي ساعة متأخرة من المساء، رجع كلّ منّا إلى زنزانته تحت الأرض حيث العُزلة والروائح الكريهة. لقد صرت أحسّ بها أكثر فأكثر.

في صباح 6 جويلية 1994 أخذوني إلى الطابق الأخير، أو ما قبل الأخير، من أجل إتمام المحضر. وكان يجب عليّ أن أعترف بكلّ شيء وإلاّ فإنّ التعذيب كان سيُستأنف من جديد. وبعد ما رآني أحد الجلاّدين أتألّم بشتّى أنواع الألم، سألني – وكان له صوتً رخيم، وكان هو الذي أعطاني من قبل قليلا من الجبن بعد يوم من التعذيب – قائلا: “إنّ أباك كان شهيداً أليس كذلك؟” فرددت بالإيجاب. فسألني: “لقد عُذّب من طرف الفرنسيين؟”، فقلت بالطبع. فقال: ” من الذي نال أكبر قسط من التعذيب، أنت أم أبوك؟”، فترددت عن الإجابة، لأنّي لم أكن أظنّ أنّ هناك فرقاً كبيراً، ولكن قلت له مع ذلك: “أظنّ أنّ أبي قد عُذّب أكثر.” فردّ:”ترى إذن!” ويقصد أنّ التعذيب الذي يمارسه اليوم النظام الإنقلابي أقلّ شراسة.

ولكن ما هو الفرق عندما يموت الشخص اليوم تحت التعذيب كما مات المجاهدون كذلك تحت التعذيب إبّان حرب التحرير؟ فتذكرت حينئذ عنوان كتاب المحامي جاك فيرجس الذي يُلخّص المأساة: “رسالة إلى أصدقائي الجزائريين الذين أصبحوا جلّادين.”

و في الفترة بين 7 و12 جويلية 1994 كنت محبوساً في زنزانتي ليلاً ونهاراً. لقد كُنتُ مشغولاً بجروحي التي أصبحت تؤلمني أكثر فأكثر. ولقد كنت أتألم خاصة من ضربة قاسية على رأسي، و من عيني اليسرى حيث أنّ بصري ضعف كثيراً من يدي اليُمنى التي أصبحت لا أستطيع طيّها وكذلك من آلام ظهري.

وفي 13 جويلية 1994 صعدنا (أنا وبعض المعتقلين) من أجل إتمام المحاضر. كثير من الإعترافات المقتلعة تحت التعذيب لم تُطرح لي من جديد. فوقّعت المحضر مثل المرّة السابقةن و العينان معصوبتان. وأخبرني المحامي فيما بعد أنّهم أعادوا النقاط السابقة بطريقة مضخمة أكثر.

ولما رآني أحد الحرّاس أتألم من جروحي، نظّف لي الجروح ووضع عليها المركركروم. ثم رجعنا إلى زنزاناتنا.

وفي أيام 14، 15 و16 جويلية 1994، بقيتُ في زنزانتي أتألّم من جروحي ألماً شديداً. وفي مساء يوم ١٥ جويلية أُدخلت (مع مُعتقلين آخرين) عند المصوّر. فأخذوا صورنا مع بصماتنا.

وفي ليلة 16 إلى 17 جويلية 1994، وبينما كُنت أتوقّع أني ذاهب يوم الغد لأمثل أمام قاضي التحقيق، ها هم جاؤوا وأخذوني إلى الطابق العُلوي من أجل المناقشة مع القادة. لقد أنكرت التصريحات التي انتُزعت منّي تحت التعذيب، ولكنّهم أكّدوا بأنني تكلّمت بكلّ حرية. حينئذ، وخوفاً من أن أُرجع إلى التعذيب، كررت لهم ما قلته من قبل ثم أرجعوني إلى زنزانتي.

وبعد لحظات، أي عند منتصف الليل تقريبا، فُتح باب زنزانتي، فاندهشت، كُنتُ أظنُّ أنّهم سيأخذونني إلى مكان آخر للتعذيب. حقاً لقد جمد الدم في عروقي من شدّة الخوف. وضعوني داخل سيارة في المقعد الخلفي و انطلقت بنا. لم أفهم شيئا. وبعد رُبع ساعة نزلت و العينان معصوبتان إلى أن دخلنا عمارة. فتكلّموا عن بطاقة طبية تُعدّ لي ففهمت أنني في قاعة استعجالات من أجل العلاج، و من المُحتمل أن نكون في مستشفى، فتنفستُ بعمق، وارتحت أنني لم أُحمل إلى مكان التعذيب. فجاءت امرأة وأخذت تُعالج يدي اليُسرى و لمّت الجرح بعدّة غرزات طبية لأنّ الجرح كان عميقاً. وفضّلتُ أن تفحص جروح رأسي من طرف أخصّائي في جراحة الأعصاب. ونظراً لتأخر هذا الأخير قيل لي: “لا يسمح الوقت حتى تُجرى لك عملية جراحية لعلاج التمزّقات في رأسك.”

ومن ثمّ ردّني الجلّادون إلى زنزانتي تحت الأرض من جديد.

وفي 17 جويلية، مثُلتُ أمام قاضي التحقيق بالمحكمة الخاصة بالجزائر أين صدرت في حقّي مُذكّرة حبس و اعتُقلت في سجن الحراش.





الجزائر تايمز / قناة الجزائر










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق